كان الذباب الأزرق الكبير يهاجم السلم ويستقر بلهفة على الأغطية السلكية التي نحكم بها تغطية اللحم. وقد اعتاد الناس على أن يقولوا: «تبا للذباب!» لكن الذباب كان قدرنا، وبخلاف أغطية اللحم والورق اللاصق والقاتل للذباب، لم يكن باستطاعتك فعل شيء للتخلص منه. قلت منذ قليل إن أول ما أتذكره هو رائحة قش العنبريس، ولكن رائحة القمامة هي أيضا من أولى الروائح التي تأتي إلى ذاكرتي. عندما أتذكر مطبخ أمي بأرضيته الحجرية ومصائد الخنافس والسياج الصلب والموقد الأسود، أكاد أسمع دائما طنين الذباب الأزرق وأشم رائحة القمامة، وكذلك نايلير الذي كانت له رائحة قوية كبقية الكلاب. وثمة روائح وأصوات أسوأ بكثير . ترى أيها ستسمعه أولا؛ طنين الذباب الأزرق، أم أزيز طائرة قاذفة للقنابل؟
3
بدأ جو في الذهاب إلى مدرسة وولتن للقواعد اللغوية قبلي بعامين، ولم يذهب أي منا إليها إلا في عمر التاسعة؛ فقد كان الذهاب إلى المدرسة يعني السير بالدراجات مسافة أربعة أميال صباحا ومساء، وكانت أمي تخاف أن تسمح لنا بالذهاب وسط الزحام، الذي كان في ذلك الوقت يعني عددا قليلا للغاية من السيارات.
ذهبنا لعدة سنوات إلى مدرسة في منزل السيدة العجوز هاوليت، التي كان يذهب إليها معظم أبناء أصحاب المتاجر لتقيهم عار الذهاب إلى المدارس الابتدائية المؤسسة بأموال الضرائب، على الرغم من أن الجميع كان يعرف أن الأم هاوليت كانت نصابة عجوزا ومعلمة سيئة. كانت تتجاوز السبعين، وكانت لا تسمع جيدا على الإطلاق، وكانت بالكاد ترى وهي مرتدية نظارتها، ولم يكن لديها من الأدوات سوى عصا وسبورة وبضعة كتب مهترئة لقواعد اللغة والعديد من ألواح الكتابة الأردوازية ذات الرائحة الكريهة. وكانت بالكاد تسيطر على الفتيات، أما الأولاد فقد كانوا يضحكون عليها ويتغيبون عن الحضور كما يشاءون. حدثت ذات مرة فضيحة مرعبة في المدرسة؛ إذ وضع أحد الأولاد يده تحت ثوب فتاة، ولكني لم أكن أفهم الخطأ الذي ارتكبه الولد في ذلك الوقت، ونجحت الأم هاوليت في التكتم على الأمر.
وعندما كنت تفعل شيئا سيئا، كانت تقول: «سوف أخبر والدك.» ولكنها نادرا جدا ما كانت تخبر الآباء بالفعل. وكنا أذكياء بما يكفي لمعرفة أنها لا تجرؤ على فعل ذلك كثيرا، وحتى عندما كانت تضربنا بالعصا، كان كبر سنها وعدم لياقتها يجعلان من السهل علينا تفادي الضربات.
كان جو في الثامنة من عمره فقط عندما انضم إلى مجموعة مشاكسة من الفتيان، الذين أطلقوا على أنفسهم اسم اليد السوداء. كان قائدهم سيد لوفجروف، الابن الأصغر للسروجي، الذي كان في الثالثة عشرة من عمره تقريبا، وكان ثمة ولدان آخران من أبناء أصحاب المتاجر، وولد يعمل في مصنع الجعة، ومزارعان كانا في بعض الأوقات يتهربان من العمل لمقابلة المجموعة لبضع ساعات. كان المزارعان ضخمي البنية، وكانا يدخلان على المجموعة بقوة وعلى نحو مفاجئ مرتديين بنطالين قصيرين مصنوعين من قماش قطني مضلع، وكانا يتحدثان بلكنة محلية متدنية، وكان بقية الأولاد في المجموعة يعدونهما أقل شأنا منهم، ولكنهم كانوا يتساهلون معهما؛ لأنهما يعلمان عن الحيوانات الكثير مما لا يعلمه الآخرون، حتى إن أحدهما، وكانت كنيته جينجر، كان يصطاد الأرانب بيديه في بعض الأحيان؛ فكان إذا رأى أرنبا على العشب، ينقض عليه كنسر باسطا جناحيه. كان ثمة فارق اجتماعي كبير بين أبناء أصحاب المتاجر وأبناء العمال والمزارعين، ولكن الفتيين المحليين لم يكونا عادة يوليان اهتماما كثيرا للأمر حتى بلغا السادسة عشرة تقريبا. وكان للمجموعة كلمة سر و«اختبار» كان يتضمن جرح أحد الأصابع وتناول دودة أرض، وكانوا يتفاخرون بأنهم عصابة مرعبة. بالتأكيد تمكنوا من تحويل أنفسهم إلى أشخاص مؤذية؛ فقد كانوا يكسرون النوافذ، ويطاردون الأبقار، ويخلعون مقارع الأبواب، ويسرقون كما كبيرا من الفاكهة. في بعض الأحيان في الشتاء، كانوا يجلبون بعض حيوانات ابن مقرض ويذهبون لاصطياد الجرذان عندما يسمح لهم المزارعون بذلك. وكانت لديهم جميعا المراجم والنبال، وكانوا دائما يدخرون المال لشراء مسدس صغير، الذي كان بخمس شلنات في تلك الأيام؛ ولكن مدخراتهم لم تزد قط عن ثلاثة بنسات. أما في الصيف، فقد اعتادوا الذهاب لصيد السمك وسرقة بيض أعشاش الطيور. عندما كان جو في مدرسة السيدة هاوليت، كان يتغيب عن المدرسة مرة في الأسبوع على الأقل، وحتى عندما ذهب إلى مدرسة القواعد اللغوية، كان يتغيب مرة كل أسبوعين تقريبا. كان ثمة فتى في مدرسة القواعد اللغوية، وكان ابن بائع مزادات، يمكنه تقليد خط أي شخص، وكان إذا أعطيته بنسا يزور لك خطابا من أمك يقول إنك كنت مريضا بالأمس. بالطبع كنت فتى مشاغبا وجديرا بالانضمام إلى مجموعة اليد السوداء، ولكن جو كان دائما يمنعني، ويقول إنهم لا يريدون معهم أي أطفال لعينة.
وكان ما يروق لي فيما يفعلون حقا هو صيد السمك. في عمر الثامنة، لم أكن قد صدت السمك بعد إلا بشبكة اشتريتها ببنس واحد يمكنك في بعض الأحيان أن تصطاد بها سمك أبي شوكة. كانت أمي دائمة القلق من تركنا نذهب إلى أي مكان بجوار الماء، وقد «حرمت» صيد السمك كعادة الآباء في ذلك الوقت في «تحريم» كل شيء تقريبا، ولم أكن في ذلك الحين قد فهمت أن البالغين لا يرون إلا مواضع أقدامهم. ولكن فكرة صيد السمك كانت تسحرني وتملؤني بالإثارة، وفي كثير من الأحيان كنت أذهب إلى البركة عند الطاحونة وألقي نظرة على أسماك الشبوط الصغيرة وهي تتشمس على سطح البركة، وفي أحيان أخرى تحت شجرة الصفصاف في الركن، كنت أرى سمك الشبوط الكبير الأشبه بالألماس، الذي كان يبدو لي ضخما - إذ كان طوله ست بوصات على ما أظن - وهو يقفز فجأة إلى السطح ليلتهم اليرقات بسرعة ثم يغطس في الماء مرة أخرى. كنت أقضي ساعات ملصقا أنفي بنافذة متجر والاس في هاي إستريت، حيث تباع عدد صيد السمك والبنادق والدراجات. واعتدت الاستلقاء في السرير مستيقظا في الصباح في الصيف أفكر في الحكايات التي أخبرني بها جو عن صيد السمك، وكيف يمزج معجون الخبر، وكيف تهتز فلينة الصنارة وتغطس، وكيف تشعر بتقوس القصبة وبسحب السمكة للخيط. أتعجب من ذلك الإشعاع السحري الذي تلقي به الأسماك وصيدها في أعين الأطفال. يشعر بعض الأطفال بالشيء نفسه تجاه البنادق والرماية، وبعضهم الآخر يشعرون به تجاه الدراجات النارية أو الطيارات أو الخيول. إنه ليس بالشيء الذي يمكنك شرحه أو تبريره؛ إنه سحر بحت. في صباح أحد الأيام - في شهر يونيو ولا بد أنني كنت في الثامنة من عمري - علمت أن جو كان ينوي التغيب عن المدرسة والذهاب لصيد السمك، وقررت أن أتبعه. ولكن بطريقة ما خمن جو ما كنت أفكر فيه، وأخذ يهاجمني ونحن نرتدي ملابسنا قائلا: «حسنا أيها الصغير جورج! لا تظن أنك ستذهب معي للقاء مجموعة أصدقائي اليوم، بل سترجع إلى المنزل.» «لا، أنا لا أظن شيئا. أنا لا أفكر في الأمر.» «بل تفكر! تفكر في الذهاب للقاء المجموعة.» «لا، لا أفكر !» «بل تفكر!» «لا، لا أفكر!» «بل تفكر! ولكنك سترجع إلى المنزل. نحن لا نريد أي أطفال لعينة معنا.»
كان جو قد تعلم لتوه كلمة «لعين»، وكان دائم الاستخدام لها. وقد سمعه أبي مصادفة مرة وهو يقولها، وأقسم إنه سيقتله ضربا، ولكن كعادته لم يفعل شيئا. انطلق جو بعد الإفطار بدراجته ومعه حقيبته وقبعة المدرسة، وكان ذلك مبكرا عن موعده بخمس دقائق كما هي عادته عندما كان ينوي التغيب عن المدرسة؛ وعندما جاء موعد مغادرتي المنزل للذهاب إلى مدرسة الأم هاوليت، تسللت واختبأت في الزقاق خلف الحقول. كنت أعلم أن المجموعة ذاهبة إلى البركة التي عند الطاحونة، وكنت أنوي أن أتبعهم حتى لو قتلوني لفعل ذلك. كنت أعلم أنهم ربما يضربونني وأنني قد لا أتمكن من الرجوع إلى المنزل على الغداء، ومن ثم ستعلم أمي أنني قد تغيبت عن المدرسة وسأضرب مرة أخرى، ولكني لم أكترث لأي من ذلك؛ فقد كنت أتطلع بشدة لصيد السمك مع المجموعة. وكنت ماكرا أيضا. انتظرت حتى ابتعد جو قليلا بدراجته وأخذ الطريق إلى الطاحونة، ثم ذهبت إلى الزقاق ولففت حول المروج في الجانب البعيد للسياج، وذلك حتى أقترب من البركة قبل أن تراني المجموعة. كان صباحا رائعا من صباحات شهر يونيو. وكان عشب الحوذان بزهره الأصفر يصل إلى ركبتي، وكانت ثمة نسمة من الرياح تحرك قمم أشجار الدردار، وكانت أوراق الأشجار كسحب خضراء ناعمة وغالية كالحرير. كانت الساعة التاسعة صباحا، وكنت في الثامنة من عمري، وكل شيء حولي كان يدل على بداية فصل الصيف: السياجات المتشابكة الضخمة حيث الورود البرية لا تزال مزهرة، والقليل من السحب البيضاء الناعمة المتحركة فوق الرءوس، والتلال المنخفضة على مبعدة، والكتل الزرقاء المعتمة للغابة حول أبر بينفيلد. ولكن لم يكن أي من ذلك يعنيني؛ فكل ما كنت أفكر فيه هو البركة الخضراء وأسماك الشبوط والمجموعة ومعهم الخطافات وخيوط الصيد وطعم معجون الخبز. كانوا كما لو أنهم في الجنة وكان علي الانضمام إليهم. سرعان ما تمكنت من التسلسل إليهم، وقد كانوا أربعة: جو وسيد لوفجروف وصبي مصنع الجعة وأحد ابني أصحاب المتاجر، أظن أن اسمه كان هاري بارنز.
استدار جو ورآني؛ فقال: «يا إلهي! إنه الصبي.» وجاء لي كقط ذكر مستعد للشجار، وقال: «حسنا، ها أنت ذا! ماذا قلت لك؟ ارجع إلى المنزل بأقصى سرعة.»
كنت أنا وجو نميل إلى التحدث بلهجة الطبقة العاملة عندما نكون غاضبين. تراجعت من أمامه.
अज्ञात पृष्ठ