الجزء الأول
الجزء الثاني
الجزء الثالث
الجزء الرابع
الجزء الأول
الجزء الثاني
الجزء الثالث
الجزء الرابع
هدنة لالتقاط الأنفاس
هدنة لالتقاط الأنفاس
अज्ञात पृष्ठ
تأليف
جورج أورويل
ترجمة
ياسمين العربي
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
الجزء الأول
1
خطرت الفكرة على ذهني، في الواقع، في اليوم الذي حصلت فيه على طقم أسناني الجديد.
أتذكر ذلك الصباح جيدا؛ فقرابة الساعة الثامنة إلا الربع قفزت من على السرير ودخلت الحمام مسرعا، مباشرة قبل أن يتمكن الطفلان من الدخول. كان صباحا موحشا من صباحات شهر يناير، بسمائه المعكرة الرمادية، الضاربة إلى الصفرة. بالأسفل، من المربع الصغير لنافذة الحمام، تمكنت من رؤية المساحة العشبية التي تبلغ عشر ياردات طولا، وخمس ياردات عرضا، بسياجها من الشجيرات والرقعة الفارغة في المنتصف، التي نسميها الحديقة الخلفية. كانت تلك الحديقة الخلفية، بالسياج نفسه والعشب نفسه، خلف كل منزل من منازل شارع إلزمير. الفارق الوحيد الذي قد يميز منزلا عن الآخر هو أنه عندما لا يكون ثمة أطفال في المنزل لا تكون في الحديقة تلك البقعة الفارغة في المنتصف.
अज्ञात पृष्ठ
كنت أحاول حلاقة ذقني بشفرة حلاقة كليلة بعض الشيء، بينما كانت المياه تنساب في حوض الاستحمام. نظر إلي وجهي في المرآة، وأسفلها في كأس المياه الموضوعة على الرف الصغير فوق حوض الغسيل، كانت توجد الأسنان الخاصة بذلك الوجه. كان ذلك طقم الأسنان المؤقت الذي أعطاه لي طبيب الأسنان خاصتي وورنر لأستخدمه حتى يصنع لي طقما جديدا. إن وجهي ليس بذلك القبح في الواقع؛ فهو وجه من تلك الوجوه ذات اللون البني المائل إلى الحمرة التي دائما ما يصاحبها شعر سمني اللون وعينان ذاتا لون أزرق فاتح. لم يصبني الشيب أو الصلع قط، حمدا لله، وعندما أركب طقم أسناني لا يبدو علي على الأرجح عمري الحقيقي، الذي هو الخامسة والأربعون.
ذكرت نفسي بضرورة شراء شفرات حلاقة جديدة، ودخلت إلى حوض الاستحمام وبدأت أغسل جسمي بالصابون. غسلت ذراعي (لدي ذراعان قصيرتان وسمينتان مبقعتان بالنمش حتى المرفقين) ثم أخذت فرشاة الظهر وغسلت بها كتفي من الخلف، اللذين لا أتمكن من الوصول إليهما بيدي. إنه لأمر مزعج، ولكن ثمة أجزاء عدة في جسمي لا يمكنني الوصول إليها هذه الأيام. الحقيقة هي أن جسمي يميل قليلا إلى البدانة. لا أعني أنني أصبحت كالأشخاص الضخام الذين يظهرون في استعراضات المهرجانات؛ فوزني لا يتعدى تسعين كيلوجراما، وفي آخر مرة أخذت قياس خصري كان ثمانية وأربعين أو تسعة وأربعين، لا أتذكر بالتحديد. ولست كذلك ممن يعرفون بالبدناء «المقززين»؛ فليس لدي ذلك البطن المتدلي إلى الركبتين. كل ما هنالك أنني عريض الوركين وممتلئ الأرداف بعض الشيء حتى أكاد آخذ شكل البرميل. هل تعرف ذلك النوع من الرجال البدناء الودودين والمتسمين بالنشاط، ذلك النوع الرياضي الضخم الذي يطلق عليه الناس اسم البدين أو المكتنز، الذي دائما ما يكون روح الجمع وفاكهته؟ أنا من هذا النوع. «البدين»، هذا هو الاسم الذي يطلقونه علي عادة. بولينج البدين؛ فاسمي هو جورج بولينج.
ولكن في تلك اللحظة لم أكن أشعر بأنني روح الجمع وفاكهته. وقد هالني أنني في تلك الأيام كان ينتابني على نحو شبه دائم شعور بالكآبة في الصباح الباكر، على الرغم من أنني أنام جيدا وأن هضمي للطعام على ما يرام. كنت أعلم سبب هذا الشعور بالطبع؛ إنه تلك الأسنان المؤقتة اللعينة، التي كانت تبدو كبيرة بفعل المياه في الكأس، وكانت تبتسم لي كأسنان في جمجمة. لقد كان ينتج عن التقائها باللثة شعور بغيض؛ لذعة وقشعريرة شديدة كما لو كنت قد قضمت تفاحة حامضة. إلى جانب ذلك، ولتعتقد ما تشاء، فإن طقم الأسنان يمثل نقطة تحول في حياة المرء؛ ففي الوقت الذي تخسر فيه آخر سنة طبيعية في فمك، لن يعود باستطاعتك بالتأكيد أن تمزح متخيلا نفسك أحد أبطال هوليوود الجذابين. وقد كنت بدينا بالإضافة إلى كوني في الخامسة والأربعين. وعندما وقفت لأغسل نصفي الأسفل ألقيت نظرة على شكلي. إن ما يشاع عن أن الرجال البدناء لا يمكنهم رؤية أقدامهم مجرد هراء، ولكن في الحقيقة عندما أقف على قدمي منتصب الظهر لا يمكنني أن أرى إلا النصفين الأماميين منهما. وقد خطر ببالي وأنا أغسل بطني بالصابون أنه لا يمكن لامرأة أن تنجذب إلي، إلا إذا كانت تتقاضى أجرا على ذلك. لا يعني ذلك أنني كنت أريد أن تنجذب امرأة إلي في تلك اللحظة.
لكن ما أدهشني أنه في ذلك الصباح كانت ثمة أسباب من المفترض أن تجعلني في مزاج أفضل؛ أهمها: أنني لم أكن ذاهبا إلى العمل ذلك اليوم. إن السيارة القديمة، التي «أغطي» بها منطقتي (نسيت أن أخبرك أنني أعمل في مجال التأمين في شركة فلاينج سلامندر للتأمين على الحياة، والتأمين ضد الحرائق، والسطو على المنازل، وإنجاب التوائم، وغرق السفن، وتحطمها ... وكل شيء.) كانت في الجراج قيد الإصلاح؛ وعلى الرغم من أنه كان علي أن أمر على مكتب لندن لتسليم بعض الأوراق، فقد أخذت ذلك اليوم إجازة كي أذهب للحصول على طقم أسناني الجديد. إلى جانب ذلك، كان ثمة أمر آخر يشغل ذهني من وقت لآخر في الفترة السابقة؛ إذ كان لدي سبعة عشر جنيها لم يعلم أحد عنها شيئا؛ أعني أحدا من العائلة. وقد جرى الأمر على النحو التالي. وجد زميل معنا في الشركة، يدعى ميلورز، كتابا بعنوان «علم التنجيم وسباقات الخيل»، الذي أثبت أن الأمر برمته يعتمد على تأثير النجوم على ألوان الملابس التي يرتديها الفرسان. حسنا، في أحد السباقات كانت تشارك فرس تدعى عروس القرصان، وكان حظها ضئيلا في الفوز، ولكن فارسها كان يرتدي اللون الأخضر، الذي بدا أنه لون النجوم الطالعة. كان ميلورز المهووس بأمور التنجيم يراهن بالعديد من الجنيهات على الفرس وترجاني أن أفعل مثله. في النهاية، ولإسكاته في المقام الأول، خاطرت بعشرة شلنات على الرغم من أنني لا أمارس الرهانات في العادة. وكما هو متوقع، وصلت عروس القرصان إلى خط النهاية دون مجهود يذكر. أنا لا أتذكر التفاصيل على وجه الدقة، ولكن نصيبي كان سبعة عشر جنيها. وبدافع فطري - غريب على الأحرى، وربما يشير إلى علامة فارقة أخرى في حياتي - اكتفيت بوضع النقود في البنك ولم أخبر أحدا بالأمر . لم يسبق أن فعلت شيئا كهذا من قبل؛ فالزوج والأب الصالح كان سينفقها في شراء فستان لهيلدا (زوجتي) وحذاءين للطفلين، ولكنني كنت زوجا وأبا صالحا لمدة خمسة عشر عاما، وكنت قد بدأت أضيق ذرعا بالأمر.
بعدما وضعت الصابون على جسمي بالكامل، شعرت بالتحسن وتمددت في حوض الاستحمام للتفكير في شأن الجنيهات السبعة عشر وفيم أنفقها. بدا أن الاختيارين المتاحين أمامي هما إما أن أقضي عطلة نهاية الأسبوع مع امرأة وإما أن أصرفها شيئا فشيئا على النثريات؛ كالسيجار وكئوس الويسكي المضاعفة. فتحت الصنبور للحصول على المزيد من الماء الساخن، وكنت أفكر في النساء والسيجار؛ وعندئذ سمعت ضوضاء كما لو أن قطيعا من الجاموس ينزل الدرجتين اللتين تقودان إلى الحمام. كانا الطفلين بالطبع. إن وجود طفلين في منزل بحجم منزلنا لهو أمر أشبه بكمية كبيرة من الجعة في قدح صغير. كان ثمة قرع مسعور في الخارج ثم صرخة ألم. «أبي! أريد الدخول!» «لا يمكنك ذلك. انصرف!» «لكن أبي! أريد الدخول إلى مكان ما!» «إذن ادخل مكانا آخر. انصرف. فأنا أستحم.» «أبي! أريد الدخول!»
لا فائدة من الأمر! أعرف أن هذه إشارة خطر قادم. المرحاض في غرفة الاستحمام، وبالطبع هو كذلك في منزل كمنزلنا. أخرجت السدادة من حوض الاستحمام ونشفت جسمي جزئيا بأقصى ما تمكنت من سرعة. وفي اللحظة التي فتحت فيها الباب، اندفع بيلي الصغير - ابني الأصغر البالغ من العمر سبعة أعوام - وتخطاني متفاديا ضربة على رأسه كنت أخطط لها. فقط عندما اقتربت من إنهاء ارتدائي لملابسي وبحثت عن رابطة عنق، اكتشفت أن عنقي ما زال عليه بعض الصابون.
من البغيض أن يكون عنقك زلقا بالصابون. إنه شعور لزج ومقزز؛ والغريب في الأمر أنه مهما حرصت على إزالة الصابون عنه بالإسفنجة، فبمجرد أن تكتشف أنه زلق يصاحبك هذا الشعور اللزج طوال اليوم. نزلت الدرج بمزاج سيئ وعلى استعداد أن أكون سيئ الطبع.
غرفة الطعام في منزلنا، مثل غرف الطعام الأخرى في منازل شارع إلزمير، هي مكان صغير وضيق، تبلغ مساحته أربع عشرة قدما طولا، واثنتي عشرة قدما عرضا، أو ربما اثنتي عشرة قدما طولا وعشر أقدام عرضا؛ والخوان المصنوع من خشب البلوط ذو الطراز الياباني، بدورقي الخمر الفارغين وحامل البيض الفضي الذي أعطته والدة هيلدا لنا هدية في زفافنا، كان يضيق المكان. كانت العجوز هيلدا عابسة خلف إبريق الشاي، في حالتها المعتادة من الذعر والرعب بسبب إعلان صحيفة «نيوز كرونيكال» عن ارتفاع سعر الزبد، أو شيء من هذا القبيل. لم تكن قد أوقدت مدفأة الغاز؛ وعلى الرغم من أن النوافذ كانت مغلقة، فقد كان المنزل باردا برودة موحشة. انحنيت للأسفل وأشعلت المدفأة بعود ثقاب، وأخذت أتنفس بصوت عال من أنفي (فالانحناء يجعلني دائما ألهث بشدة) في نوع من التلميح لهيلدا. نظرت إلي نظرة خاطفة بطرف عينيها كما كانت تنظرها إلي دائما عندما تعتقد أنني أفعل شيئا متهورا.
إن هيلدا في التاسعة والثلاثين من عمرها، وعندما قابلتها أول مرة كانت تبدو تماما كالأرنبة البرية. وهي لا تزال كذلك بعض الشيء، ولكنها أصبحت شديدة النحافة ويشوبها بعض الذبول، مع كآبة دائمة ونظرة قلقة في عينيها، وعندما يزيد انزعاجها عن المعتاد تحدب كتفيها وتشبك ذراعيها أمام صدرها كامرأة غجرية عجوز تجلس أمام موقدها. إنها من هؤلاء الأشخاص الذين يستمدون متعتهم الأساسية في الحياة من توقع الكوارث؛ الكوارث التافهة فقط بالطبع. أما الحروب والزلازل والأوبئة والمجاعات والثورات، فلا تأبه لها. زيادة سعر الزبد وتضخم فاتورة الغاز وتلف أحذية الطفلين وقسط الراديو؛ هذا ما تهتم به هيلدا كل يوم. إنها تدرك ما اكتشفت مؤخرا أنه متعة فعلية والمتمثل في أن تتحرك ذهابا وإيابا وذراعاها أمام صدرها، بينما تعبس في وجهي قائلة: «ولكن يا جورج الأمر في غاية الخطورة! ولا أعلم ماذا سنفعل! فلا أعلم من أين سيأتي المال! لا يبدو أنك مدرك لخطورة الأمر»، وهكذا دواليك. إنه من الراسخ بثبات في عقلها أننا سينتهي بنا الحال في ملجأ للفقراء. الغريب في الأمر هو أننا إذا حدث في يوم وذهبنا إلى أحد ملاجئ الفقراء، فلن يكون لدى هيلدا حرج قيد أنملة بقدر ما يكون لدي؛ بل إنها في الواقع قد تستمتع كثيرا بشعور الأمن هناك.
كان الطفلان قد سبقاني بالفعل إلى الدور الأرضي، وقد اغتسلا وارتديا ملابسهما في سرعة البرق كما يفعلان دائما عندما لا تكون أمامهما فرصة لإبعاد أي شخص آخر عن الحمام. وعندما جلست إلى طاولة الإفطار، كانا يخوضان جدالا وصل إلى مرحلة «لقد فعلت ذلك!» «لا، لم أفعل!» «بل فعلت!» «لا، لم أفعل!» وبدا لو أنهما سيظلان هكذا طوال النهار حتى أمرتهما أن يتوقفا. ليس لدي أطفال سواهما؛ بيلي الذي يبلغ من العمر سبعة أعوام ولورنا التي تبلغ أحد عشر عاما. ينتابني شعور غريب تجاه الطفلين؛ فمعظم الوقت لا أكاد أطيق النظر إليهما، ناهيك عن محادثاتهما التي لا تحتمل. إنهما في تلك السن المملة الطامحة لاحتياجات العيش البسيطة؛ حيث يدور تفكير الطفل حول أشياء مثل المساطر والمقالم ومن حصل على أعلى درجة في مادة اللغة الفرنسية. في أحيان أخرى، خاصة عندما يكونان نائمين، أشعر بشيء مختلف تماما؛ إذ أقف في بعض الأحيان أمام سريريهما في ليالي الصيف المضيئة وأشاهدهما وهما نائمان، بوجهيهما المستديرين وشعرهما الكتاني اللون الأفتح من لون شعري بعدة درجات، ويعطيني هذا ذلك الشعور الذي تحس به حين تقرأ قول الإنجيل إن أحشاءك قد حنت؛ ففي تلك الأحيان أشعر أنني مجرد غلاف حبوب جاف لا يساوي شيئا، وأن قيمتي الوحيدة هي في أن أجيء بهذين الكائنين إلى الحياة وأطعمهما حتى يكبرا. ولكن ذلك الشعور لا يستمر إلا للحظات، بينما أغلب الوقت يكون وجودي المنفصل عنهما مهما للغاية لي، وأشعر أنه ما زالت أمام كلب عجوز مثلي حياة طويلة ومزيد من الأوقات الجيدة، وفكرة أن أكون وديعا كالبقرة الحلوب التي تطعم الزوجة والأطفال لا تروق لي.
अज्ञात पृष्ठ
لم نتحدث كثيرا في ساعة الإفطار. وقد كانت هيلدا في ذلك المزاج «لا أعلم ماذا سنفعل!» من ناحية بسبب سعر الزبد، ومن ناحية أخرى بسبب قرب انتهاء إجازات الكريسماس وكان لا يزال علينا دفع خمسة جنيهات مصاريف للمدرسة عن الفصل الدراسي الأخير. أكلت بيضتي المسلوقة وفردت بعضا من مربى جولدن كراون على قطعة من الخبز. تصر هيلدا على شراء هذا الشيء. إن سعره خمسة بنسات ونصف البنس، ومكتوب على الملصق خاصته بأصغر خط يسمح به القانون: إنه يحتوي على «نسبة معينة من عصير الفاكهة متعادل الحموضة». استفزني ذلك فتحدثت، بالطريقة الغاضبة التي أتحدث بها في بعض الأحيان، عن أشجار الفاكهة متعادلة الحموضة متسائلا عن شكلها والبلدان التي تنمو فيها حتى أثرت في النهاية غضب هيلدا. لم يكن ذلك لأنها تمانع من سخريتي منها، ولكن لأنها على نحو غامض تظن أنه من الكريه أن نسخر من أي شيء نوفر فيه بعض المال.
ألقيت نظرة على الصحيفة، ولكن لم تكن ثمة أخبار تذكر. في الجنوب في إسبانيا وفي الجانب الآخر في الصين كان الناس يتقاتلون كعادتهم؛ وعثر على ساقي امرأة في غرفة انتظار بمحطة للسكك الحديدية؛ وكان زفاف الملك زوجو على كف عفريت. وفي النهاية، في حوالي الساعة العاشرة، وقبل ما كنت أتوقع، خرجت إلى البلدة. ذهب الطفلان للعب في الحدائق العامة. كان صباحا باردا برودة موحشة. وبمجرد أن تخطيت عتبة الباب، هبت ريح كريهة التصقت بالصابون المتبقي على عنقي، وجعلتني أشعر فجأة بأن ملابسي لم تعد صالحة للخروج وأن كل ما في لزج.
2
هل تعرف الشارع الذي أسكن فيه، شارع إلزمير بمنطقة غرب بلتشلي؟ حتى إذا لم تكن تعرفه، فبالتأكيد تعرف خمسين شارعا آخر يشبهه تماما.
تعرف كيف تنتشر هذه الشوارع في جميع الضواحي الداخلية والخارجية. وهي تتشابه دائما. إنها طويلة، بصفوف طويلة من منازل صغيرة نصف مستقلة - إن أرقامها في شارع إلزمير تصل إلى 212، ومنزلنا هو المنزل رقم 191 - تشبه منازل الإيجار المملوكة للبلدية، بل هي أكثر قبحا عادة؛ حيث الواجهات المكسوة بالجص، والبوابات المطلية بزيت القطران، وسياج الشجيرات، والأبواب الأمامية الخضراء. ومن سكانها آل لوريل وميرتل وهوثورن ومون إبري ومون ريبوس، وبيل فيو. ربما في منزل واحد من كل خمسين منزلا يوجد شخص غير اجتماعي ممن قد ينتهي بهم الحال في ملجأ للفقراء، والذي قد طلي بابه الأمامي باللون الأزرق وليس الأخضر.
هذا الإحساس اللزج حول عنقي قد أكسبني مزاجا أشعر فيه بالإحباط. من الغريب أن تشعر بالكآبة بسبب عنق زلق؛ إذ يبدو أنه يسلبك كل نشاطك، مثلما تكتشف فجأة في مكان عام أن نعل أحد زوجي حذائك قد انخلع. لم تكن لدي أي أوهام عن نفسي في ذلك الصباح، ولكن الأمر كان كما لو كنت أقف على مسافة وأشاهد نفسي أنزل إلى الشارع بوجهي الأحمر البدين وطقم أسناني وملابسي القديمة. إن رجلا مثلي لا يقدر على أن يبدو كالوجهاء. وحتى إذا رأيتني على مسافة مائتي ياردة، فستعلم على الفور أنه ليس بالضرورة أنني أعمل في مجال التأمين، بل بائع متجول أو مندوب مبيعات؛ فالملابس التي كنت أرتديها كانت في الواقع الزي الرسمي لمن يعملون في مثل مهنتي. لقد كنت أرتدي بدلة رمادية بخطوط متعرجة كانت في حالة سيئة بعض الشيء، ومعطفا أزرق قيمته خمسون شلنا، وقبعة مستديرة، ولا أرتدي قفازا. ويبدو علي ذلك المظهر المميز لهؤلاء الذين يبيعون أشياء بعمولة، وقد كان مظهرا غليظا وفظا. في أفضل أوقاتي، عندما أشتري بدلة جديدة أو عندما أدخن السيجار، قد أبدو مثل وكيل مراهنات بسباقات الخيل أو صاحب حانة، وعندما أكون في أسوأ حالاتي، قد أبدو مثل بائعي المكانس الكهربائية؛ أما في الأوقات العادية، فقد يمكنك جيدا معرفة أي نوع من الرجال أنا. «لا بد أنه يتقاضى من خمسة إلى عشرة جنيهات في الأسبوع.» هكذا ستقول لنفسك بمجرد أن تراني. من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، أعد في المستوى المتوسط لسكان شارع إلزمير.
أصبح الشارع لي وحدي تقريبا؛ فقد هرع الرجال للحاق بقطار الثامنة وإحدى وعشرين دقيقة، وكان النساء يجلسن أمام مواقد الغاز. عندما يكون لديك الوقت للنظر حولك، وعندما يتصادف أن تكون في مزاج جيد، فثمة شيء يجعلك تضحك بينك وبين نفسك عند السير في هذه الشوارع في الضواحي الداخلية والخارجية، والتفكير في هؤلاء الذين يعيشون فيها؛ لأنه، في نهاية المطاف ، ما ظنك بهذا الشارع الذي يسمى شارع إلزمير؟! إنه مجرد سجن بزنزانات مصطفة؛ صف من غرف التعذيب شبه المنفصلة، حيث يرتجف ويرتعش هؤلاء الفقراء المصابون بالهزال الذي يحصلون في الأسبوع على خمسة جنيهات إلى عشرة جنيهات، وكل واحد منهم لديه مدير في عمله ينغص عليه حياته، وزوجة تستبد به كالكابوس، وأطفال يمتصون دمه كالعلقات. ثمة الكثير من الهراء مما يقال عن معاناة الطبقة العاملة، ولكنني لست شديد الأسف على هؤلاء الكادحين. هل عرفت يوما عامل حفر يظل مستيقظا بالليل يفكر في طرده من العمل؟ يعاني أبناء الطبقة العاملة بدنيا، ولكنهم يضحون رجالا أحرارا عندما لا يعملون. ولكن في كل صندوق من تلك الصناديق الصغيرة المكسوة بالجص يسكن وغد مسكين لا يتحرر قط إلا عندما ينام بعمق ويحلم بأنه يلقي بمديره في قعر بئر ثم يلقي عليه قطعا من الفحم المتقد.
في واقع الأمر، إن المشكلة الأساسية لدى أشخاص مثلنا، بحسب تصوري، هي أننا جميعا نتخيل أن لدينا شيئا قد نخسره. بادئ ذي بدء، فإن تسعة أعشار سكان شارع إلزمير يتصورون أنهم يملكون منازلهم، ولكن شارع إلزمير والحي بأكمله الذي يحيط به حتى تصل إلى هاي إستريت هو جزء من مشروع احتيالي ضخم باسم عقارات هيسبيريدز، وهو ملك لجمعية البناء تشيرفول كريديت. تكاد تكون جمعيات البناء النصاب الأذكى في العصر الحديث. إن مجال التأمين الذي أعمل فيه يمارس خداعا أيضا، أشهد على ذلك، ولكنه خداع صريح مكشوفة أوراقه، بينما ما يميز خداع جمعيات البناء هو أن ضحاياها يعتقدون أنها تعمل لمنفعتهم؛ إنها تضربهم بعنف ويقبلون هم يدها. إنني أعتقد في بعض الأحيان أن عقارات هيسبيريدز يجب أن تكرم بتمثال ضخم يمثل إله جمعيات البناء، الذي سيكون تمثالا غريب الأطوار، ومن بين أمور أخرى، سيكون ثنائي الجنس. سيمثل الجزء الأعلى من التمثال مديرا عاما، بينما يمثل الجزء الأسفل زوجة بشكلها العائلي. وفي إحدى يديه سيحمل مفتاحا ضخما - مفتاح ملجأ الفقراء بالطبع - وفي اليد الأخرى سيحمل ذلك الشيء الأشبه بالبوق الفرنسي الذي تخرج منه الهدايا، الذي يطلقون عليه قرن الوفرة، والذي ستخرج منه أجهزة راديو محمولة ووثائق تأمين على الحياة وأطقم أسنان وأقراص أسبرين وواقيات ذكرية ومداحل حدائق إسمنتية.
في حقيقة الأمر إننا في شارع إلزمير لا نملك منازلنا، حتى عندما ننتهي من دفع أقساطها؛ فهي ليست حيازة عقارية خالصة، بل هي فقط حيازة على سبيل الإيجار. وهي قيمتها خمسمائة وخمسون جنيها تدفع على مدة ستين عاما؛ وهي من ذلك النوع من المنازل التي إذا دفعت سعرها نقدا دفعة واحدة، فسيكون سعرها ثلاثمائة وثمانين تقريبا. ذلك يمثل فائدة قدرها مائة وسبعون لصالح شركة تشيرفول كريديت، ومن نافلة القول أن تشيرفول كريديت تتحصل على أكثر من ذلك من هذه العملية؛ حيث تشمل الجنيهات الثلاثمائة والثمانين ربح المقاول، ولكن تشيرفول كريديت، تحت اسم ويلسون آند بلوم، تبني المنازل بنفسها وتستولي على ربح المقاول، وكل ما تضطر إلى دفعه هو تكلفة مواد البناء، ولكنها تتحصل كذلك على مكسب من مواد البناء؛ إذ تبيع لنفسها تحت اسم بروكس آند سكاتربي الطوب والبلاط والأبواب وإطارات النوافذ والرمل والإسمنت، والزجاج على ما أظن. ولم أستغرب على الإطلاق عندما علمت أنهم تحت اسم مستعار آخر يبيعون لأنفسهم الأخشاب لصناعة الأبواب وإطارات النوافذ. وكذلك - وهو شيء متوقع جدا - فعلى الرغم من أننا قد صدمنا جميعا عندما اكتشفنا الأمر، فإن تشيرفول كريديت لا تلتزم دائما بتعهداتها. عندما بنيت المنازل في شارع إلزمير كان من المفترض أن تكون محاطة ببعض المساحات المفتوحة، التي لم تكن لتكون مذهلة للغاية، ولكن جيدة كي يلعب فيها الأطفال، وقد أطلقوا عليها اسم مروج بلات. لم يكن أي من ذلك موثقا بالمستندات، ولكنه كان دائما معروفا لدينا أن مروج بلات لن تقام أبدا. ولكن غرب بلتشلي كانت ضاحية متنامية، وافتتح مصنع مربى روثويل في عام 1928 ومصنع أنجلو أمريكي للدراجات المصنوعة من الصلب في عام 1933، وكان عدد السكان في تزايد وارتفعت قيمة الإيجارات. لم أر قط السير هربرت كروم أو أيا من أصحاب الصيت في شركة تشيرفول كريديت وجها لوجه، ولكن يمكنني تخيلهم ولعابهم يسيل جشعا؛ لذا، وصل عمال البناء فجأة وبدأ إنشاء المنازل على أرض مروج بلات. وبدأت صيحات الغضب تتصاعد من سكان هيسبيريدز، وأسسوا جمعية للدفاع عن حقوقهم، لكن بلا فائدة. لقد قضى علينا محامي كروم في خمس دقائق، وتم البناء على أرض مروج بلات. ولكن الخدعة الأكثر مكرا حقا، تلك التي جعلتني أشعر أن العجوز كروم يستحق لقب البارون الذي كان يملكه، هي الخدعة الذهنية؛ فبفضل الوهم وحده الذي لدينا بأننا نملك منازلنا، وأن لنا ما يسمى «قدما في المكان»، تحولنا نحن الساذجين المساكين من سكان هيسبيريدز وغيرها من الأماكن المماثلة إلى عبيد كروم مخلصين للأبد. نحن جميعا أصحاب المنازل المحترمين، أو بالتحديد المحافظين (المؤيدين والمتملقين)، لم نجرؤ على أن نقتل الإوزة التي تبيض البيض الذهبي! وحقيقة أننا لم نكن بالفعل أصحاب منازل؛ لأننا ما زلنا نسدد أثمانها والرعب المميت من أن شيئا قد يحدث قبل أن نتمكن من سداد آخر قسط ينخر في عظامنا، زادت ببساطة من تأثير الأمر علينا. جميعا اشترينا، والأدهى من ذلك أننا اشترينا بمالنا الخاص. كل فرد من هؤلاء الأوغاد المدوسين بالأقدام المساكين يعمل ويعرق كي يدفع ضعف السعر الحقيقي لمنزل من الطوب يدعى على نحو زائف «بيل فيو»، الذي يعني المنظر الجميل، ولكنه عكس ذلك تماما. وكل شخص من هؤلاء الضائعين المساكين على استعداد للموت في ميدان الحرب دفاعا عن بلده ضد البلشفية.
انعطفت إلى شارع وولبول ثم إلى هاي إستريت، حيث القطار الذاهب إلى لندن في العاشرة وأربع عشرة دقيقة. كنت أمر للتو على متجر لبيع الأشياء الرخيصة وتذكرت حينها الملاحظة التي وضعتها في ذهني هذا الصباح لأشتري مجموعة من شفرات الحلاقة. وعندما وصلت إلى مكان بيع الصابون، كان مدير الفرع - أو أيا كان مسماه الوظيفي - يسب الفتاة المسئولة هناك. بوجه عام، لم يكن ثمة العديد من الناس في المكان في تلك الساعة من الصباح. في بعض الأحيان إذا ذهبت إلى هناك بعد وقت الفتح مباشرة، فسترى جميع البائعات مصطفات لسماع سبابهن الصباحي؛ لا لشيء إلا كي يستقمن في العمل خلال اليوم. يقال إن سلاسل المتاجر الكبيرة هذه بها رجال لديهم قدرة خاصة على السخرية اللاذعة والإيذاء، الذين يرسلون من فرع إلى آخر ليوبخوا الفتيات كي يعملن جيدا. كان مدير الطابق شيطانا قبيحا ضئيل الحجم، أصغر من الحجم العادي، بكتفين مربعتين تماما وشارب رمادي شائك. وقد عنف لتوه الفتاة بشأن شيء ما، من الواضح أنه خطأ ما ارتكبته يتعلق بحساب الباقي من إحدى عمليات الشراء، وكان يلومها بصوت يشبه صوت المنشار الدائري، قائلا: «أيتها الغبية! بالطبع لم تحسبيها جيدا! بالطبع لم تفعلي. ستنالين عقابا شديدا، سترين. أيتها الغبية!»
अज्ञात पृष्ठ
وقبل أن أمنع نفسي من النظر إليهما، لمحت عيناي الفتاة. لم يكن من اللطيف أن ينظر إليها رجل بدين مثلي في منتصف العمر بوجهه الأحمر بينما تتلقى السباب. صرفت وجهي بأسرع ما تمكنت وتظاهرت بالاهتمام بالأشياء الموضوعة على طاولة البيع المجاورة؛ حلقات الستائر أو غيرها من الأشياء. انتبه لها مرة أخرى، وقد كان أحد هؤلاء الذين ينصرفون ثم يعودون إليك فجأة مندفعين كاليعسوب.
وقال لها: «بالطبع لم تحسبيها جيدا! فلا يهمك إن خسرنا شلنين. لا يهمك على الإطلاق. ما قيمة الشلنين بالنسبة لك؟ إنك لا تكلفين نفسك عناء حسابها جيدا. أيتها الغبية! لا يهمك سوى مصلحتك. لا تفكرين في الآخرين، أليس كذلك؟»
استمر هذا الصراخ لمدة خمس دقائق تقريبا بصوت يصل إلى منتصف المتجر. وتابع الانصراف عنها ليجعلها تظن أنه انتهى من توبيخها، ثم العودة إليها فجأة مندفعا ليخوض جولة تعنيف أخرى. وأثناء ابتعادي شيئا فشيئا قليلا ألقيت نظرة خاطفة عليهما. كانت الفتاة صغيرة في الثامنة عشرة من عمرها تقريبا، ممتلئة قليلا بوجه غير مبال بعض الشيء، من ذلك النوع الذي لا يحسن حساب الباقي بأي حال. تحول لونها إلى الوردي الباهت وكانت تتلوى، في الواقع كانت تتلوى من الألم؛ فقد كان الأمر تماما كما لو أنه كان يمزقها بالسوط. وكانت الفتيات عند طاولات البيع الأخرى يتظاهرن بعدم سماع شيء. كان شيطانا ضئيل الحجم قوي البنية قبيحا، من ذلك النوع المشاكس من الرجال الذين يفردون صدورهم ويضعون أيديهم أسفل أطراف معاطفهم؛ ذلك النوع الذي يصلح أن يكون في رتبة رقيب أول، ولكنه ليس طويلا بما يكفي. هل تلاحظون كثرة الرجال الضئيلي البنية في الأعمال القائمة على التنمر؟ كان ملتصقا بها بوجهه وشاربه وجميع جسمه تقريبا؛ كي يصرخ في وجهها مباشرة، بينما الفتاة بالكامل تتورد خجلا وتتلوى.
وأخيرا، قرر أنه قد قال ما فيه الكفاية، وانصرف مختالا كأميرال على سطح مؤخرة سفينة، واقتربت من طاولة البيع لأشتري الشفرات. لقد علم أنني سمعت كل كلمة، كما علمت هي كذلك، وكلاهما كان يعلم أنني أعلم أنهما يعلمان. ولكن الأسوأ في الأمر أنه لمصلحتي عليها أن تتظاهر بأن شيئا لم يحدث وتتصرف بذلك السلوك المتحفظ من الحفاظ على المساحة بيننا، التي يجب على البائعات أن يحافظن عليها بينهن وبين الزبائن من الرجال. كان عليها تمثيل دور الشابة الناضجة لنصف دقيقة بعد أن رأيتها تسب كالخادمات. كان وجهها لا يزال متوردا وكانت يداها ترتجفان. طلبت منها شفرات رخيصة وبدأت تبحث عنها في صينية الشفرات التي بقيمة ثلاثة بنسات. ثم استدار الشيطان الضئيل مدير الفرع نحونا، وللحظة ظن كلانا أنه كان قادما ليعيد الكرة. جفلت الفتاة ككلب رأى سوطا، ولكنها كانت تنظر إلي بطرف عينيها. يمكنني أن أرى أنها كانت تكرهني كرهها للشيطان لأنني قد رأيتها وهي تسب. يا له من أمر غريب!
انصرفت ومعي شفرات الحلاقة. وأخذت أسال نفسي: لماذا يتحملن ذلك؟ إنه الخوف بالتأكيد؛ فإن نبسن ببنت شفة ردا على الإهانة، فسيطردن. وكذلك الأمر في كل مكان. فكرت في أمر الشاب الذي يخدمني في بعض الأحيان في متجر البقالة الذي نتعامل معه والذي ينتمي لسلسلة متاجر تحمل نفس الاسم. إنه فتى ضخم للغاية في عمر العشرين، بوجنتين كالوردتين وساعدين ضخمين؛ ومن الأرجح أن يعمل في الحدادة. وها هو في سترته البيضاء منحنيا على طاولة البيع فاركا يديه ومرددا: «نعم سيدي! صحيح جدا يا سيدي! طقس لطيف بالنسبة لهذا الوقت من العام يا سيدي! كيف يمكنني أن أتشرف بمساعدتك اليوم يا سيدي؟» وهو في الواقع يطلب منك أن تهينه، وأن تعطيه الأوامر بالطبع، والزبون دائما على حق. الشيء الذي يمكنك أن تراه على وجهه هو الفزع المميت من أن تبلغ عن أنه غير صبور ومن ثم يطرد من عمله. إلى جانب ذلك، كيف له أن يعرف أنك لست أحد الجواسيس الذين ترسلهم الشركة لمراقبة سير العمل؟ الخوف! نحن نسبح فيه. إنه العنصر الأساسي للحياة التي نعيشها؛ فكل من لا يرعبه فقدان عمله يرتعب من الحرب أو الفاشية أو الشيوعية أو من شيء ما. يتصبب اليهود عرقا عندما يتذكرون هتلر. خطر في ذهني أن ذلك الوغد الضئيل ذا الشارب الشائك ربما كان في ذلك المشهد اللعين أكثر خوفا على عمله مما كانت الفتاة؛ فلربما كانت لديه عائلة يعولها، وربما هو في المنزل، رجل حليم ولطيف يزرع الخيار في حديقته الخلفية، ويدع زوجته تجلس على حجره وأولاده يشدون شاربه، من يعلم. وعلى المنوال نفسه قد لا تكون قد سمعت عن قاض في محاكم التفتيش الإسبانية أو أحد من كبار المسئولين في الشرطة السرية للاتحاد السوفييتي دون أن تسمع أنه في حياته الخاصة كان رجلا جيدا وطيبا، وزوجا وأبا صالحا، ويرعى طائر الكناري الأليف الذي يربيه، وما إلى ذلك.
كانت الفتاة الواقفة إلى طاولة بيع الصابون تنظر إلي وأنا أخرج من الباب، وكادت لتقتلني إن كان باستطاعتها. عجبا، لقد كرهتني بشدة لأنني رأيتها! كرهتني أكثر مما كرهت مديرها.
3
كانت ثمة طائرة قاذفة للقنابل تطير على ارتفاع منخفض فوق القطار الذي كنت أركب فيه. ولمدة دقيقة أو دقيقتين بدت متزامنة في حركتها مع القطار. وكان يجلس أمامي رجلان سوقيان يرتديان معطفين رثين، وكان من الواضح أنهما مروجان من نوع متدن؛ فلربما كانا مروجي جرائد. كان أحدهما يقرأ صحيفة «ديلي ميل»، والآخر كان يقرأ صحيفة «ديلي إكسبريس». ويمكنني أن أستشف من سلوكهما أنهما يظناني مثلهما. أما في الجهة الأخرى من العربة ، فقد كان يجلس كاتبا محام بحقيبتين سوداوين ويتبادلان أطراف حديث مليء بالهراء القانوني الذي يعنى به إبهارنا وإعلان أنهما لا ينتميان للقطيع من العامة.
كنت أشاهد الأجزاء الخلفية للمنازل التي نمر عليها. وكان القطار بعد غرب بلتشلي يمر أغلب الوقت على أحياء فقيرة، ولكن ثمة شعورا بالسلام يأتيك من النظر إلى الساحات الخلفية الصغيرة ببعض الأزهار الموجودة في صناديق والأسطح المستوية؛ حيث تنشر النساء الملابس وأقفاص الطيور المعلقة على الجدران. تمايلت الطائرة القاذفة للقنابل السوداء الكبيرة قليلا، وارتفعت في الهواء حتى إنني لم أعد أستطيع رؤيتها. كنت أجلس وظهري إلى المحرك. وكان أحد المروجين الجالسين أمامي قد نظر إلى الطائرة بانتباه لمدة ثانية واحدة فقط. أعلم ما كان يفكر فيه؛ لأنه كان ما يفكر فيه أي أحد. لا يتطلب الأمر أن تكون رفيع الثقافة كي تفكر في هذه الأمور في أيامنا هذه. في غضون سنتين أو سنة، ما الذي سيكون علينا فعله عندما نرى مثل هذه الأشياء؟ هل سنختبئ في السراديب ونبلل سراويلنا من الخوف؟
وضع المروج صحيفة «ديلي ميل» خاصته، وقال: «لقد تحدد الفائز بسباق تيمبلجيت.»
अज्ञात पृष्ठ
كان كاتبا المحامي يقولان بعض الهراء المتخصص عن الملكية التامة المطلقة والمقابل الاسمي. تحسس المروج الآخر جيب صدريته وأخرج سيجارة ملتوية من ماركة وودباين. وتحسس الجيب الآخر ثم مال نحوي، وقال: «هل معك أعواد ثقاب أيها البدين؟»
بحثت عن أعواد الثقاب. «البدين»، ألاحظت ما قال؟ إنه أمر مثير للاهتمام حقا. لمدة دقيقتين تقريبا توقفت عن التفكير في القنابل، وبدأت أفكر في شكلي كما كنت أتفحصه في الحمام هذا الصباح.
صحيح للغاية أنني بدين؛ وفي الواقع فإن الجزء العلوي من جسمي يشبه كثيرا حوض الاستحمام، ولكن المثير للاهتمام، على ما أظن، هو أنه فقط لأنه تصادف وكنت ممتلئا بعض الشيء، فإن كل شخص تقريبا وحتى الغرباء عنك تماما سيعطون الحق لأنفسهم أن ينعتوك بهذا اللقب المهين؛ تعليقا على مظهرك. افترض أن رجلا كان أحدب أو لديه حولا في عينيه أو شفة أرنبية، فهل ستناديه بصفة تذكره بذلك؟ ولكن كل رجل بدين يطلق عليه الناس الألقاب كأمر واقع. أنا من ذلك النوع الذي يضربه الناس على ظهره ويلكمونه في صدره بشكل تلقائي، وكلهم تقريبا يظنون أنني أحب ذلك. إنني لا أدخل في أي وقت من الأوقات إلى حانة كراون في بودلي (حيث أذهب إلى هناك مرة في الأسبوع من أجل العمل) دون أن يهمزني في ضلوعي هذا الأحمق ووترز، الذي يعمل مندوب مبيعات متجولا لشركة سيفوم للصابون، ولكنه دائم الوجود تقريبا في حانة كراون، ويغني قائلا: «هنا، يرقد البدين المسكين توم بولينج!» وهي المزحة التي لا يمل منها أبدا الحمقى اللعناء في الحانة. لووترز إصبع يشبه قضيبا من الحديد. يظنون جميعا أن الرجل البدين ليست لديه أي مشاعر.
أخذ المروج عود ثقاب آخر مني كي يسلك أسنانه به ورمى لي بالعلبة. أطلق القطار صفارته على جسر حديدي؛ وقد ألقيت نظرة بالأسفل حيث لمحت عربة بضائع لأحد المخابز وسلسلة طويلة من العربات المحملة بالإسمنت. الغريب في الأمر، حسبما كنت أظن، أنهم نوعا ما على حق بخصوص الرجال البدناء؛ فالرجال البدناء في الحقيقة، وخاصة هؤلاء الذين ولدوا على هذه الحال - أي كانوا بدناء منذ الطفولة بعبارة أخرى - ليسوا كباقي الرجال. إذ تأخذ حياتهم بأكملها منحنى آخر يميل للكوميديا الخفيفة؛ ولكن في حالة ذوي البنية الضخمة كمن يجلبونهم في استعراضات المهرجانات أو في الواقع أي أحد يزيد وزنه على مائة وخمسة وعشرين كيلوجراما، لا تكون حياتهم كوميديا خفيفة بقدر ما تكون مسرحية هزلية رخيصة. شهدت البدانة والنحافة في حياتي، وأعرف الفرق الذي تحدثه السمنة في مظهر المرء. إنها تحرمك نوعا ما من التأثر الشديد بالأشياء. أشك في أن رجلا عاش حياته كلها بدينا، رجلا نعت بالبدين منذ نعومة أظفاره، أشك في أنه قد شعر يوما بأي مشاعر عميقة حقيقية. إذ كيف له أن يشعر بتلك الأمور؟ إنه ليس له أي خبرة فيها؛ فلا يمكنه حتى أن يلعب دورا تراجيديا في أحد المشاهد؛ لأن المشهد الذي يوجد فيه رجل بدين لا يكون تراجيديا بل كوميديا. فلتتخيل رجلا بدينا في دور هاملت، على سبيل المثال! أو ممثلا كأوليفار هاردي في دور روميو. وجدت الأمر كوميديا للغاية عندما كنت أفكر فيه قبل بضعة أيام وأنا أقرأ رواية اشتريتها من مكتبة بوتس، وكان اسمها «الحب الضائع». اكتشف البطل في الرواية أن حبيبته قد فضلت عليه رجلا آخر. وهو رجل من هؤلاء الذين تقرأ عنهم في الروايات من ذوي الوجوه المرهفة الشاحبة والشعر الداكن والدخل الخاص. أتذكر تقريبا ما جرى في ذلك الجزء من الرواية:
جال ديفيد في الغرفة ذهابا وإيابا ضاغطا بيديه على جبينه، وبدا أن الخبر قد أحدث له صدمة، ولوقت طويل لم يستطع تصديق الأمر. شيلا خانته! هذا مستحيل! وفجأة باغته الإدراك، ورأى الحقيقة العارية بكل رعبها. كانت ثقيلة عليه للغاية؛ فانهار في نوبة مفاجئة من البكاء.
على أي حال، كان شيئا من هذا القبيل. وجعلني ذلك أفكر في الأمر، وقد بدا لي كالآتي. هكذا من المتوقع أن يتصرف كل الناس أو بعضهم؛ ولكن ماذا عن رجل مثلي؟ لنفترض أن هيلدا ذهبت لقضاء إحدى عطلات نهاية الأسبوع مع شخص آخر - لا أعني أن الأمر سيهمني في شيء، بل في الواقع سيسعدني أن أكتشف أنها لا تزال تملك هذا القدر من الحيوية - ولكن لنفترض أن الأمر يهمني، فهل سأنهار في نوبة مفاجئة من البكاء؟ هل سيتوقع أحد أن أفعل ذلك؟ لا يمكنك توقع ذلك من شخص بمثل حجمي؛ سيبدو الأمر شائنا تماما.
كان القطار يسير على جسر. وأسفلنا على مسافة غير بعيدة يمكن رؤية أسقف المنازل التي تمتد بلا توقف؛ تلك الأسقف الحمراء الصغيرة، التي ستسقط عليها القنابل، والتي كانت مضاءة قليلا في هذه اللحظة؛ لأن شعاعا من أشعة الشمس كان ساقطا عليها. من الطريف أننا لا نتوقف عن التفكير في أمر القنابل. بالطبع لا شك في أنه سيحدث قريبا؛ إذ يمكنك أن تعرف مدى قربه من نبرة التفاؤل التي يتحدثون بها عنه في الصحف. كنت أقرأ مقالا في صحيفة «نيوز كرونيكال» منذ بضعة أيام، وجاء به أن الطيارات القاذفة للقنابل لا يمكنها أن تتسبب في أي ضرر هذه الأيام؛ فالمدافع المضادة للطائرات قد تطورت كثيرا لدرجة أن الطائرة القاذفة للقنابل يجب أن تبقى على ارتفاع عشرين ألف قدم. يعتقد الكاتب، كما لاحظت، أنه إذا كانت الطائرة على ارتفاع بعيد فلن تصل القنابل إلى الأرض، أو الاحتمال الأكبر أن ما يعنيه في الواقع هو أنها لن تدرك ترسانة أسلحة وولويتش وستضرب فقط أماكن مثل شارع إلزمير.
ولكن إجمالا أعتقد أن الأمر ليس بذلك السوء أن يكون المرء بدينا. من الأشياء المميزة للرجل البدين أنه دائما مشهور؛ فليس هناك في الواقع أي صحبة، من وكلاء المراهنات إلى الأساقفة، لا يجد الرجل البدين له بينهم مكانا ويشعر بالارتياح وسطهم. أما عن النساء، فالرجل البدين محظوظ بينهن أكثر مما يعتقد الناس؛ من الهراء أن تتخيل، كما يفعل بعض الناس، أن المرأة تنظر إلى الرجل البدين على أنه مجرد مزحة. إن الحقيقة هي أن المرأة لا تنظر إلى أي رجل كمزحة إذا استطاع أن يخدعها بزعمه أنه يحبها.
يجب أن تعرف أني لم أكن بدينا طوال حياتي، ولكني اكتسبت وزنا زائدا منذ ثماني سنوات أو تسع، وأظن أنني قد اكتسبت فيها أغلب صفات الرجل البدين. ولكن في الواقع كذلك أني لست بدينا من الداخل، أي من الناحية الذهنية. لا! لا تسئ فهمي. لا أحاول أن أبدو لك وديعا كزهرة ناعمة، أو أن أبدو من هؤلاء الذين يبتسمون لك بينما هم يعانون ويتألمون، وما إلى ذلك؛ فلا يمكن لأحد أن يعمل في مجال التأمين إذا كان لديه أي من هذه الصفات. أنا فظ متبلد الإحساس وأتكيف مع بيئتي. ما دامت الأشياء في أي مكان في العالم تباع بالعمولة، ويحصل الناس على سبل معيشتهم بوقاحة تامة وغياب للمشاعر النبيلة؛ فإن رجلا مثلي سيسلك ذلك المسلك. في كل الأحوال تقريبا أستطيع كسب العيش، الذي يكون دائما بحد الكفاف ولم يمثل ثروة قط، وحتى في أثناء الحرب والثورة والوباء والمجاعة يمكنني أن أدعم نفسي للبقاء على قيد الحياة أكثر من معظم الناس. أنا من ذلك النوع من الرجال، ولكن لدي شيء آخر في داخلي، في الأغلب أثر متخلف من الماضي، وسأخبركم به لاحقا. أنا بدين ولكني نحيف من داخلي. ألم يخطر ببالك من قبل أن ثمة رجلا نحيفا داخل كل رجل بدين، تماما كما يقولون إن هناك تمثالا كامنا في كل قالب من الحجر؟
الرجل الذي استعار أعواد ثقابي كان يخلل أسنانه جيدا وهو يقرأ صحيفة «ديلي إكسبريس».
अज्ञात पृष्ठ
قال: «لا يبدو أنهم قد أحرزوا تقدما كبيرا في قضية الساقين.»
قال الآخر: «لن يتمكنوا من حلها أبدا؛ إذ كيف يمكن معرفة شيء من زوج من السيقان؛ فكل السيقان متشابهة، أليس كذلك؟»
قال الأول: «قد يتعقبون الجاني من خلال قطعة الورق التي لفهما بها.»
في الأسفل يمكنك رؤية أسقف المنازل تمتد بلا توقف، وتلتف في كل اتجاه مع التفاف الشوارع، ولكنها تمتد بلا توقف كما لو كنا نمر فوق سهل ضخم. أيا كان الطريق الذي تأخذه إلى لندن، فستمر على عشرين ميلا تقريبا من المنازل الممتدة دون توقف. يا إلهي! كيف للطائرات القاذفة للقنابل ألا تضربنا عندما تأتي؟ فنحن رقعة كبيرة وواضحة في مركز الهدف. ستصيبنا دون سابق إنذار على الأرجح؛ إذ من ذا الذي سيكون بذلك الحمق حتى يعلن عن الحرب قبلها في هذه الأيام؟ لو كنت مكان هتلر، لأرسلت الطائرات القاذفة للقنابل في أثناء مؤتمر لنزع السلاح. يوما ما في صباح هادئ وفي أثناء تدفق الموظفين على جسر لندن، وبينما تغرد طيور الكناري وتنشر النساء العجائز السراويل النسائية على الحبال، سنسمع أزيز المدافع وأصوات قذف القنابل. ستتطاير حينئذ المنازل في الهواء، وتنغمر السراويل النسائية بالدماء، وتغرد طيور الكناري على الجثث.
أعتقد أنه أمر مثير للشفقة على نحو ما. نظرت إلى الأسطح الممتدة بلا توقف كالبحر الكبير، فرأيت أميالا وأميالا من الشوارع، ومتاجر الأسماك المقلية، والكنائس الصغيرة، وصالات السينما، والأزقة الممتلئة بالمطابع الصغيرة، والمصانع، والعمارات السكنية، والمشروعات الصغيرة، ومعامل الألبان ، ومحطات الوقود، وغيرها الكثير. إنه لمكان هائل! ويا لها من سكينة تامة تلك التي تغشاه! إنه كبرية كبيرة بلا وحوش؛ بلا إطلاق نار أو قذف بالقنابل اليدوية أو ضرب بالعصي المطاطية. إذا فكرت في الأمر، ففي إنجلترا بأكملها في هذه اللحظة ليس ثمة نافذة واحدة في غرفة نوم يطلق من خلالها أحد النار بمدفع رشاش.
ولكن ماذا بعد خمسة أعوام من الآن؟ أو عامين؟ أو عام واحد؟
4
سلمت أوراقي في مكتب لندن. كان وورنر أحد أطباء الأسنان الأمريكان الذين تمتاز أسعار خدماتهم بأنها منخفضة، وكانت غرفة الفحص لديه، أو «الردهة» كما يحب أن يسميها، في منتصف مبنى كبير من المكاتب، بين مكتب مصور ومكتب تاجر جملة للواقيات الذكرية. وصلت مبكرا عن موعدي، ولذا كان ثمة وقت لتناول بعض الطعام. لا أعلم ما الذي جعلني أذهب إلى حانة للوجبات السريعة من منتجات الألبان وغيرها، رغم أنني أتجنب تلك الأماكن عادة. نحن الذين نتحصل على خمسة إلى عشرة جنيهات أسبوعيا لا يمكننا الاستفادة كثيرا من أماكن تناول الطعام في لندن. إذا كنت ترى أن المبلغ الذي يجب أن ينفقه المرء في وجبة هو شلن وثلاثة بنسات، فأمامك إما ليون أو إكسبريس ديري أو إيه بي سي؛ وإلا فستأكل وجبة خفيفة كئيبة في إحدى الحانات؛ نصف لتر من الجعة المرة وشريحة فطيرة باردة، تكون شديدة البرودة حتى إنها تكون أكثر برودة من الجعة. خارج حانة منتجات الألبان، كان الأولاد يروجون للطبعات الأولى للصحف المسائية.
وخلف طاولة البيع الحمراء البراقة، كانت تقف فتاة بقبعة بيضاء طويلة أمام ثلاجة، وفي مكان ما في الخلف كان الراديو يصدر صوتا عاليا ومزعجا. ما الذي جاء بي إلى هنا بحق الجحيم؟ سألت نفسي هذا السؤال عندما دخلت. ثمة أجواء في تلك الأماكن تصيبني بالإحباط. كل شيء هناك أملس وبراق وانسيابي؛ فتوجد مرايا وطلاء مينا وألواح كروم، أينما نظرت، وكل الاهتمام بالديكور وليس بالطعام. لا يوجد هنا طعام حقيقي على الإطلاق، وإنما هي أشياء بأسماء أمريكية، وهي كأشياء وهمية لا يمكنك تذوقها، ويصعب التصديق في وجودها. كل شيء يأتي من كرتونة أو علبة من الصفيح أو يخرج من الثلاجة أو ينبعث من صنبور أو ينضغط من أنبوب. ولا توجد راحة أو خصوصية؛ فالمكان كله مجهز بتلك الكراسي المرتفعة التي لا ظهر لها، الموضوعة إلى مكان ضيق لتتناول الطعام عليه، والمرايا في كل مكان حولك. هناك نوع من الدعاية يطفو على الأرجاء مختلطا بضجيج الراديو، ما يشعر بأن الطعام لا يهم، وكذلك الراحة، وكذلك أي شيء عدا أن يكون كل شيء أملس ولامعا وانسيابيا. كل شيء انسيابي في هذه الأيام، حتى الرصاصة التي يحتفظ بها هتلر ليطلقها عليك. طلبت فنجان قهوة كبيرا وقطعتين من نقانق الفرانكفورتر. وضعت الفتاة ذات القبعة البيضاء الطعام أمامي بالفتور نفسه الذي تلقي به بيض النمل لسمكة زينة.
خارج الباب صاح بائع صحف: «ستار، نيوز، إستاندرد!» رأيت العنوان يرفرف أمام ركبتيه: «الساقان. اكتشافات جديدة.» هل لاحظت أنهم كتبوا كلمة «الساقان» فقط. إنها اختصرت إلى هذا. منذ يومين، وجدوا ساقي امرأة في غرفة انتظار بمحطة للسكك الحديدية، وكانت الساقان ملفوفتين بقطعة من الورق البني؛ ومع انتشار الخبر في طبعات الصحف المتتالية، كان من المفترض أن يهتم الشعب كله ويتعاطف مع صاحبة هاتين الساقين المدمرتين، لدرجة أنهم لا يحتاجون إلى مزيد من المقدمات الصحفية. وكانت الساقان الوحيدتان في الأخبار في ذلك الوقت. فكرت وأنا أتناول قطعة من الخبز، إنه لغريب أمر هؤلاء القتلة الكسالى اليوم؛ فبعد كل هذا التقطيع لأجسام الناس، يترك المجرم أجزاء منها في أنحاء القرى. أين ذلك من الدراما القديمة لتسميم أفراد العائلة، مثل قضايا كريبين وسيدون والسيدة مايبريك؟ الحقيقة على ما أعتقد أنه لا يمكنك ارتكاب جريمة قتل جيدة إلا إذا كنت تعتقد أنك ستشوى في الجحيم على إثرها.
अज्ञात पृष्ठ
في هذه اللحظة، أخذت قضمة من إحدى قطعتي النقانق خاصتي، ثم يا إلهي!
حقيقة لم أتوقع أن يكون لهذا الشيء مذاق جيد؛ فقد توقعت ألا يكون له مذاق، مثل قطعة الخبز، ولكن هذه كانت تجربة لا تنسى. دعني أحاول أن أصفها لك.
لنقانق الفرانكفورتر جلد مطاطي، بالطبع، وطقم أسناني لم يكن متناسبا بشكل جيد معها؛ فكان علي أن أحركه كالمنشار قبل أن أتمكن من غرس أسناني في جلد النقانق، وفجأة! انفجر ذلك الشيء في فمي كالكمثرى الفاسدة؛ إذ كان شيئا لينا فظيعا يتسرب في جميع أرجاء لساني. أما عن المذاق، فلبرهة لم أستطع تصديق الأمر، فلففت لساني حوله مرة أخرى وجربته ثانية. لقد كان عبارة عن سمك! نقانق، شيء يسمونه فرانكفورتر، محشو بالسمك! نهضت وخرجت على الفور دون أن أمس قهوتي. الرب أعلم ماذا قد أرادوا أن يكون مذاق هذا الشيء.
بالخارج، لوح بائع الصحف بصحيفة «إستاندرد» في وجهي وصاح: «الساقان! اكتشافات رهيبة! وأسماء كل الفائزين في سباق الخيل! الساقان! الساقان!» كنت لا أزال أدحرج ذلك الشيء حول لساني، وأبحث عن مكان أستطيع أن أبصقه فيه. تذكرت شيئا كنت قد قرأته في صحيفة ما عن مصانع الأطعمة تلك في ألمانيا حيث يصنع كل شيء من شيء آخر تماما، ويسمون ذلك بالطعام الاصطناعي. تذكرت كذلك أني قرأت أنهم كانوا يصنعون النقانق من السمك، ويصنعون السمك بلا شك من شيء آخر مختلف. جعلني ذلك أشعر أنني قد أخذت قضمة من العالم الحديث واكتشفت أصوله الحقيقية. هذه هي الطريقة التي تسير بها الأمور اليوم؛ كل شيء براق وانسيابي، كل شيء مصنع من شيء آخر. السليوليد والمطاط وفولاذ الكروم في كل مكان، والمصابيح القوسية متوهجة طوال الليل، والأسقف الزجاجية فوق رءوسنا، وأجهزة الراديو تصدح كلها بالنغمة نفسها، والغطاء النباتي يتضاءل، والإسمنت يغطي كل شيء، والسلاحف المزيفة ترعى أسفل أشجار الفاكهة المتعادلة الحموضة. ولكن عندما يتعلق الأمر بضروريات الحياة وتغرس أسنانك في شيء صلب، مثل النقانق، فهذا ما ستحصل عليه؛ سمك فاسد في جلد مطاطي، انفجار شيء قبيح في فمك.
عندما وضعت طقم أسناني الجديد، شعرت بتحسن كبير. إنه يتلاءم جيدا وبسلاسة مع اللثة، وعلى الرغم من أنه قد يبدو من السخف أن أقول إن طقم الأسنان من شأنه أن يشعرك بأنك أصغر سنا، فهذه حقيقة. جربت أن أبتسم لنفسي في نافذة أحد المتاجر، ولم يكن الأمر سيئا كما ظننت؛ فعلى الرغم من أن وورنر خدمته رخيصة الثمن، فهو فنان جدا ولا يريدك أن تبدو كمن يظهرون في إعلانات معاجين الأسنان. وهو لديه خزانة كبيرة مليئة بأطقم الأسنان - التي أراني إياها ذات مرة - كلها مرتبة حسب الحجم واللون، وهو يختار منها كصائغ يختار أحجارا كريمة لعقد. كان سيظن تسعة أشخاص من بين كل عشرة أشخاص أن أسناني طبيعية.
ألقيت نظرة على نفسي بالحجم الكامل في نافذة أخرى كنت أمر أمامها، وقد هالني أنني وجدت نفسي في الواقع لست بذلك السوء. أعترف أنني بدين بعض الشيء، ولكن الأمر ليس مثيرا للاشمئزاز؛ فقط ما يقول عنه الخياطون «جسم ممتلئ»، كما أن بعض النساء يحببن الرجل ذا الوجه الأحمر. أعتقد أنني ما زلت أتمتع بالحيوية. تذكرت الجنيهات السبعة عشر، وعزمت بلا أدنى شك على أن أنفقها على امرأة. كان لدي ثمة وقت لتناول الجعة قبل أن تغلق الحانات، فقط لتطهير الأسنان؛ وقد شعرت بالغنى لامتلاكي سبعة عشر جنيها، فتوقفت أمام متجر السجائر واشتريت سيجارا بستة بنسات من النوع الذي أحبه كثيرا. يبلغ طول السيجار الواحد من ذلك النوع ثماني بوصات، وهو مصنوع بالكامل من أوراق نقية من هافانا. أظن أن الملفوف ينمو في هافانا كنموه في أي مكان آخر.
عندما خرجت من الحانة، شعرت باختلاف نوعا ما.
شربت كأسين من الجعة أمداني بدفء داخلي، وكان دخان السيجار يتسرب حول أسناني الجديدة، ويعطيني شعورا بالانتعاش والنظافة والسلام الداخلي. شعرت فجأة أنني أقرب إلى أن أكون مفكرا أو فيلسوفا. كان جزء من ذلك يرجع إلى أنه لم يكن لدي عمل أؤديه، ورجع ذهني إلى التفكير في الحرب كما فعلت في صباح هذا اليوم عندما كانت الطائرة القاذفة للقنابل تطير فوق القطار. شعرت بنوع من الإحساس التنبئي، ذلك الإحساس الذي يجعلك تتوقع نهاية العالم ويشعرك بنوع خاص من المتعة.
كنت أسير غربا إلى شارع إستراند، ورغم برودة الجو بعض الشيء، سرت ببطء للاستمتاع بالسيجار. كان الازدحام المعتاد الذي تشق طريقك فيه بصعوبة واصلا للرصيف، وكان على وجوه الجميع ذلك التعبير الأبله الثابت الذي يعتلي وجوه الناس في شوارع لندن، وكان هناك الازدحام المروري المعتاد بالحافلات الحمراء الكبيرة التي تتحسس طريقها بين السيارات وزئير المحركات وصفير أبواق السيارات. أظن أن تلك الضوضاء كافية لإيقاظ الموتى، ولكنها ليست كافية لإيقاظ هؤلاء القوم. شعرت كما لو أنني الشخص الوحيد المستفيق في مدينة من السائرين نياما. هذا وهم بالتأكيد؛ فعندما تسير وسط حشد من الغرباء، يكاد يكون من المستحيل ألا تتخيل أنهم جميعا تماثيل شمعية، لكنهم أيضا يرونك كما تراهم على الأرجح. وهذه الحالة التنبئية التي تنتابني هذه الأيام، ذلك الشعور بأن الحرب على الأبواب وأن الحرب هي نهاية كل شيء، لا تنتابني وحدي؛ فكلنا يشعر بالأمر، بشكل أو بآخر. أعتقد حتى أنه بين الأشخاص الذين يعبرون الطريق في هذه اللحظة لا بد أن ثمة رجلا قد ارتسمت في ذهنه صور تجمع بين انفجارات القذائف والوحل. أيا كانت الفكرة التي تفكر فيها، فهناك ملايين الأشخاص الذين يفكرون في الأمر نفسه في اللحظة نفسها. ولكن هذا ما كنت أشعر به: جميعنا على ظهر مركب واحد يحترق، ولا يعلم أحد بالأمر إلا أنا. نظرت إلى الوجوه التي تتسم بالغباء التي مرت أمامي، ورأيتهم كالديوك الرومية في شهر نوفمبر حيث نأكلها في عيد الشكر؛ فلم يكن لديهم أدنى فكرة عما سيحدث لهم. كان الأمر كما لو أنني منحت تقنية الأشعة السينية في عيني، ويمكنني أن أرى هياكل عظمية سائرة أمامي.
تخيلت المستقبل بعد بضع سنوات، ورأيت هذا الشارع - لنقل - بعد خمس سنوات أو ثلاث (إذ كان من المتوقع أن تندلع الحرب في عام 1941) بعد بدء القتال.
अज्ञात पृष्ठ
لا، لم يتحطم كل شيء، فقط حدثت بعض التغييرات المتمثلة في بعض الشظايا والقذارة، وأصبحت نوافذ المتاجر فارغة تقريبا ومليئة بالغبار حتى إنه لا يمكنك النظر خلالها. وفي شارع جانبي، ثمة حفرة ضخمة خلفتها القنابل ومجموعة من المباني المحترقة التي بدت كالسن المجوفة. لا بد أن ذلك بفعل مركب الثرميت. كل شيء هادئ هدوءا غريبا، والجميع شديدو النحافة. تأتي فصيلة من الجنود مسرعة، جميعهم في نحافة جرافة العشب، ويجرون أقدامهم. وللقائد شارب لولبي، ويقف كمدك البندقية، ولكنه نحيف أيضا ويسعل بشدة على نحو يكاد يمزق أحشاءه. ويتخلل سعاله محاولاته للصياح في الجنود بذلك الأسلوب القديم الذي يستخدمونه في ساحات تدريب الجنود؛ «أنت يا جونز! ارفع رأسك! علام تنظر في الأرض؟ كل أعقاب السجائر قد التقطت منذ سنوات.» وفجأة تداهمه نوبة من السعال يحاول إيقافها، لكنه لا يستطيع، فينحني بشدة لأسفل ويكاد يلفظ أحشاءه، ثم يتحول وجهه إلى اللون الوردي والأرجواني، ويرتخي شاربه، وتدمع عيناه.
يمكنني سماع دوي صفارات إنذار الغارات الجوية وأصوات مكبرات الصوت تصدح عاليا بأن قواتنا المجيدة قد احتجزت مائة ألف أسير. وأرى مؤخرة غرفة في دور علوي في برمنجهام حيث يبكي صبي عمره خمس سنوات ويصرخ طالبا قطعة خبز، وأمه لم تعد يمكنها التحمل، فتصيح فيه فجأة قائلة: «اخرس أيها الوغد الصغير!» ثم تخلعه ثوبه وتضربه بشدة على مؤخرته؛ لأنه ليس ثمة أي خبز ولن يكون. أرى كل ذلك. أرى الملصقات والطوابير على الطعام وزيت الخروع والهراوات المطاطية والمدافع الرشاشة التي تطلق النيران بغزارة من نوافذ غرف النوم.
هل سيحدث ذلك؟ لا أحد يعلم. في بعض الأيام يستحيل تصديق أن هذا سيحدث. وفي أيام أخرى أقول لنفسي إنه خوف نابع مما نقرؤه في الصحف. وفي أيام أخرى أعلم حتى النخاع أن الأمر آت لا محالة.
عندما وصلت بالقرب من تقاطع تشارينج كروس، كان الأولاد ينادون على طبعة تالية من الصحف المسائية؛ حيث المزيد من الهراء حول الجريمة. «الساقان: بيان جراح شهير.» ثم جذب انتباهي عنوان آخر: «تأجيل حفل زفاف الملك زوجو» الملك زوجو! اسم عجيب! يكاد يكون من المستحيل أن تصدق أن رجلا باسم كهذا ليس زنجيا شديد السواد كالفحم.
ولكن في هذه اللحظة حدث شيء غريب؛ فاسم الملك زوجو - الذي أظن أنه اختلط بصوت ما في حركة المرور أو رائحة روث الخيول أو شيء من هذا القبيل؛ لأنني رأيته عدة مرات ذلك اليوم - قد أيقظ شيئا في ذاكرتي.
إن الماضي لشيء غريب. إنه يرافقك باستمرار. أعتقد أنه لا تمر ساعة على الإطلاق دون أن تفكر في أشياء حدثت منذ عشر سنين أو عشرين سنة، وعلى الرغم من ذلك فهي معظم الوقت لا وجود لها؛ فهي مجرد مجموعة من الحقائق التي تعلمناها كغيرها من العديد من الأشياء في كتب التاريخ. ثم يأتي منظر أو صوت أو رائحة بالصدفة، وخاصة الرائحة، لتحفز ذكرياتك؛ ولا يأتي الماضي لك فحسب، بل تصبح فعليا في الماضي. كان هذا ما حدث لي في هذه اللحظة.
وجدت نفسي في الكنيسة الرعوية ببلدة لوير بينفيلد، وقد عدت ثمانية وثلاثين عاما إلى الوراء. بالحديث عن المظهر الخارجي، أعتقد أنني كنت لا أزال أسير في شارع إستراند وأنا بدين وفي الخامسة والأربعين من عمري وبطقم أسنان وقبعة مستديرة، ولكن في داخلي كنت جورج بولينج البالغ من العمر سبع سنوات، وأحد الأبناء الصغار لصامويل بولينج، تاجر الذرة والحبوب القاطن في 57 هاي إستريت بلوير بينفيلد. كنا في صباح يوم الأحد، ويمكنني أن أشم رائحة الكنيسة. كيف يمكنني أن أشم رائحتها؟! تعلم الرائحة التي تكون في الكنائس، تلك الرائحة الخاصة المألوفة التي تنم عن أن المكان به رطوبة شديدة وأتربة وتعفن. وثمة نفحة من شحم الشموع، وربما دخان بخور، ورائحة بعض الفئران؛ وفي صباح يوم الأحد تمتزج بتلك الرائحة قليلا رائحة الصابون الأصفر وصوف الملابس، ولكن الرائحة السائدة هي رائحة الأتربة والعفن المألوفة، التي تشبه رائحة الموت والحياة ممتزجين معا. إنها كرائحة غبار الجثث في الواقع.
في تلك الأيام كان طولي حوالي أربع أقدام. وكنت أقف على وسادة الركوع كي أتمكن من الرؤية عبر المقاعد الخشبية أمامي، وكان يمكنني الشعور بملمس رداء أمي الأسود المصنوع من الصوف في يدي. وكنت أشعر كذلك بجوربي المرفوع فوق ركبتي - فقد كنا نرتديها بهذا الشكل في تلك الأيام - وحافة الياقة العريضة البيضاء التي كانوا يأزرونني بها في صباح يوم الأحد. يمكنني كذلك سماع أزيز آلة الأرغن وصوتين قويين يصدعان بالمزامير؛ ففي كنيستنا كان ثمة رجلان يقودان الغناء، وفي الواقع كانا يغطيان على الآخرين فلا يسمع لأحد غيرهما صوت. كان أحدهما يدعى شوتير، وكان سماكا، وكان الآخر العجوز ويثرال، وكان نجارا وحانوتيا. وكانا قد اعتادا الجلوس كل منهما أمام الآخر على كلا جانبي صحن الكنيسة على المقعدين الخشبيين الأقرب للمنبر. كان شوتير رجلا قصيرا وبدينا بوجه أملس شديد الحمرة وأنف كبير وشارب متدل ولحية تبعد كثيرا عن فمه. أما ويثرال فقد كان مختلفا تماما؛ فقد كان شيطانا عجوزا في نحو الستين من عمره، نحيفا وطويلا وقويا، وذا وجه كالجمجمة وشعر رمادي متيبس يبلغ طوله نصف بوصة في جميع أنحاء رأسه. لم أر قط رجلا على قيد الحياة يبدو تماما كالهيكل العظمي مثله؛ إذ يمكنك رؤية كل خط في الجمجمة في وجهه، كما أن جلده كان كالرق، وكان فكه الكبير الأشبه بالمصباح مليئا بالأسنان الصفراء التي تصعد وتهبط كفك هيكل عظمي في أحد متاحف التشريح. ولكن مع كل هذا الضعف بدا قويا كالحديد؛ كما لو أنه سيعيش مائة عام وسيصنع توابيت كل فرد في تلك الكنيسة قبل أن يموت. كان صوتاهما مختلفين كذلك؛ فقد كان في صوت شوتير نوع من الصخب اليائس والمعذب، كشخص في عنقه سكين يصرخ بآخر كلماته طلبا للمساعدة. أما ويثرال فقد كان ذا صوت كضوضاء قصف الرعد المروعة والمضطربة المتولدة من أعماقه، كصوت دحرجة براميل ضخمة ذهابا وإيابا تحت الأرض. وعلى الرغم من مقدار الضوضاء التي يصدرها، تعلم دائما أن لديه المزيد منها الذي لم يصدره بعد. أطلق عليه الأطفال اسم رامبيل تامي (أي قرقرة البطن).
وقد اعتادا الترتيل كما لو أن كلا منهما يرد على الآخر، وخاصة عند تلاوة المزامير، وكان ويثرال من ينطق دائما بالجزء الأخير. أعتقد حقا أنهما كانا صديقين في حياتهما الخاصة، ولكن عندما كنت طفلا كنت أتخيلهما عدوين لدودين يحاول كل منهما إخراس الآخر. عندما كان يصيح شوتير: «الرب راعي»، كان ويثرال يرد: «فلا يعوزني شيء» فيغطي بصوته عليه تماما. كان يمكنك دائما معرفة القائد من بينهما. اعتدت أن أنتظر بشغف على وجه خاص المزمور الذي يتحدث عن سيحون ملك الأموريين وعوج ملك باشان (وهذا ما ذكرني به اسم الملك زوجو). كان شوتير يستهل الترنيم قائلا: سيحون ملك الأموريين
Sihon king of the Amorites ، ثم لنصف ثانية تقريبا كنت تسمع باقي المصلين يتغنون بكلمة و
अज्ञात पृष्ठ
and ، ثم كان جهير ويثرال يصدح بنغمة كموجة عاتية ويغطي على صوت الجميع في عبارة عوج ملك باشان
Og the king of Bashan . أتمنى لو أن بإمكاني أن أسمعك ضوضاءه التي تشبه صوت البراميل المتدحرجة والمدمدمة تحت الأرض عندما يصل لكلمة
Og ؛ حتى إنه اعتاد على إدغام آخر حرف في كلمة
and
في الكلمة التي تليها، ما جعلني وأنا صغير جدا أظن أن الآية تقول: دوج ملك باشان
Dog the king of Bashan . ولكن بعد ذلك، عندما تعلمت الأسماء الصحيحة، رسمت صورة في ذهني لسيحون وعوج، فرأيتهما كتمثالين من تلك التماثيل المصرية القديمة التي رأيت صورا لها في موسوعة بيني، تلك التماثيل الحجرية الضخمة التي يبلغ ارتفاعها ثلاثين قدما والجالسة على عروشها الواحد أمام الآخر، وأيديهم على ركبهم، وتعلو وجوههم ابتسامة غامضة وباهتة.
كيف لي أن أتذكر كل ذلك؟! هذا الشعور الغريب - كان مجرد شعور؛ إذ لا يمكنك وصفه بأنه أحد الأنشطة - الذي اعتدنا أن نسميه «الكنيسة»؛ ورائحة الجثث المألوفة تلك، وحفيف ملابس يوم الأحد، وأزيز الأرغن، والأصوات الجهورية، وبقعة الضوء من الفتحة في النافذة التي تتسلل ببطء أعلى صحن الكنيسة. بطريقة أو بأخرى كان البالغون قادرين على إقناع الأطفال بأن هذا الأداء الغريب كان ضروريا. وكنت تصدق ذلك تماما كما تصدق الإنجيل، الذي كنت تتعرض له بجرعات كبيرة في تلك الأيام؛ فقد كانت نصوصه على كل حائط، وكنت تحفظ أجزاء كاملة من العهد القديم عن ظهر قلب. وحتى الآن فإن رأسي مملوء ببعض آياته: «وفعل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب»، «وأشير أقام على ساحل البحر، وفي فرضه سكن»، «واتبعهم من دان إلى بئر سبع »، «ضربه هناك في بطنه فمات». لم تفهم معناها قط، ولم تحاول أو ترد الفهم؛ فقد كانت مجرد نوع من الأدوية، شيئا ذا مذاق غريب عليك أن تبتلعه، وأن تعلم أنه ضروري بشكل أو بآخر. إنه هراء أسطوري حول أشخاص بأسماء مثل شمعي ونبوخذ نصر وأخيتوفيل وحشبدانة؛ هؤلاء الأشخاص الذين يرتدون أثوابا كثيفة وطويلة ولهم لحى آشورية، ويركبون الجمال بين المعابد وأشجار الأرز ويفعلون المعجزات؛ يقدمون عطايا محرقة، ويهيمون على وجوههم في أتانين النار المتقدة، ويثبتون بالمسامير على الصلبان، وتبتلعهم الحيتان. وكل ذلك ممزوج برائحة المقابر المألوفة والملابس الصوفية وأزيز الأرغن.
كان ذلك هو العالم الذي رجعت إليه عندما رأيت الخبر في الصحيفة عن الملك زوجو. لبرهة لم أتذكر ذلك العالم فحسب، بل دخلت فيه. بالطبع لا تدوم مثل هذه الانطباعات لأكثر من ثوان معدودة؛ بعد ذلك بقليل، كان الأمر كما لو أنني قد فتحت عيني مرة أخرى، ووجدت نفسي في الخامسة والأربعين وسط الزحام المروري في شارع إستراند. لكن ذلك ترك نوعا من الأثر علي؛ ففي بعض الأحيان عندما تخرج من قطار أفكارك، تشعر كأنك تصعد لأعلى بعد أن كنت غاطسا في مياه عميقة، ولكن هذه المرة حدث العكس تماما؛ فقد شعرت كما لو أنني عندما رجعت إلى عام 1900 كنت أتنفس هواء حقيقيا. حتى الآن وأنا أفتح عيني، إن جاز القول، فإن كل هؤلاء الحمقى الذين يمشون في عجلة من أمرهم ذهابا وإيابا والملصقات ورائحة البنزين الكريهة وزئير المحركات، كل ذلك بدا لي غير حقيقي مقارنة بصباح الأحد في لوير بينفيلد منذ ثمانية وثلاثين عاما مضت.
رميت السيجار وأكملت سيري ببطء. كان يمكنني أن أشم رائحة الجثث، كما يمكنني أن أشمها الآن؛ فقد رجعت إلى لوير بينفيلد وأنا الآن في عام 1900. بجوار معلف الخيول في السوق، كان حصان الحمال يحمل مخلاته في فمه. وفي متجر الحلوى بأحد الأركان كانت الأم ويلر تزن كرات البراندي بقيمة نصف بنس. وكانت عربة السيدة رامبلينج تمر بالنمر الجالس في الخلف في بنطاله القصير المبيض وذراعاه مطويتان. وعمي إيزيكيال كان يسب جو تشامبرلين. وكان رقيب التجنيد يرتدي سترته القرمزية، وأفروله الأزرق الضيق، وقبعته الصغيرة المستديرة، وكان يتبختر جيئة وذهابا ويلف شاربه. وكان السكارى يتقيئون في الفناء خلف حانة جورج. كانت الملكة فيكتوريا في وندسور، والله في السماء، والمسيح على الصليب، ويونان في بطن الحوت، وشدرخ وميشخ وعبدنغو في أتون النار المتقدة، وسيحون ملك الأموريين وعوج ملك باشان يجلسان على عرشيهما ناظرا كل منهما إلى الآخر، لا يفعلان شيئا بالتحديد، فقط موجودين ومحتفظين بمكانيهما كمسندين للحطب المشتعل في موقد أو كالأسد وأحادي القرن رمزي المملكة المتحدة.
هل ولى هذا العالم للأبد؟ لست متأكدا، ولكني أقول لك إنه كان عالما جيدا للعيش فيه، وأنا أنتمي إليه، وأنت أيضا تنتمي إليه.
अज्ञात पृष्ठ
الجزء الثاني
1
العالم الذي تذكرته للحظة عندما رأيت اسم الملك زوجو في إحدى الصحف كان مختلفا تمام الاختلاف عن العالم الذي أعيش فيه الآن، لدرجة أنه قد يصعب عليك تصديق أنني قد انتميت إليه يوما.
أعتقد أنك الآن قد رسمت لي صورة نوعا ما في ذهنك - رجل بدين في منتصف العمر بطقم أسنان ووجه أحمر - ولا بد أنك كنت تتخيل تلقائيا أنني كنت دائما على هذه الحالة حتى منذ أن كنت في المهد. ولكن خمسة وأربعين عاما وقت طويل؛ وعلى الرغم من أن بعض الناس لا يطرأ عليهم التغير أو التطور، فالبعض الآخر تصيبهم تلك الأمور. لقد تغيرت كثيرا، وعشت أوقاتا جيدة وأخرى صعبة؛ لكن كان أغلبها جيدا في الحقيقة. قد يبدو ما أقوله غريبا، ولكن أبي على الأرجح كان سيفخر لو تمكن من رؤيتي الآن؛ فلطالما اعتقد أنه من الرائع أن يمتلك أحد أبنائه سيارة وأن يعيش في منزل به حمام. حتى في وضعي الحالي فأنا متفوق بعض الشيء عن الوضع الذي نشأت فيه، وفي بعض الأوقات، وصلت إلى مستويات لم نكن لنحلم بها في تلك الأيام الخوالي فيما قبل الحرب.
قبل الحرب! يا ترى إلى متى سنظل نردد تلك العبارة؟ إلى متى سنرددها قبل أن تصبح الإجابة «أي حرب؟» بالنسبة لي، فإن الحرب التي تأتي لأذهان الناس عندما يقولون «قبل الحرب» قد تتمثل في الغالب في حرب البوير. لقد ولدت في عام 1893، ويمكنني بالفعل تذكر اندلاع حرب البوير؛ وذلك بسبب المناقشة العظيمة التي دارت بين أبي وعمي إيزيكيال حولها. ولدي ذكريات عديدة أخرى ترجع إلى ما قبل ذلك بعام تقريبا.
أول شيء أتذكره هو رائحة قش نبات العنبريس. لقد كنت أصعد الممر الحجري المؤدي من المطبخ إلى المتجر، وكانت رائحة العنبريس تزداد قوة بطول الطريق. وكانت أمي قد ثبتت بوابة خشبية في المدخل كي تمنعني أنا وجو (كان جو أخي الأكبر) من دخول المتجر. ما زلت أتذكر وقوفي هناك ممسكا بالقضبان، ورائحة العنبريس ممتزجة برائحة الجص الرطبة للممر. استغرق الأمر مني سنوات حتى تمكنت على نحو ما من تحطيم البوابة والدخول إلى المتجر عندما لم يكن به أحد. حينها سقط فجأة فأر كان قد دخل أحد صناديق الطحين، وجرى بين قدمي، وقد أصبح أبيض اللون تماما من الطحين. لا بد أن هذا قد حدث عندما كنت في السادسة من عمري تقريبا.
عندما تكون صغيرا جدا، يبدو أنك تعي فجأة أشياء كانت تحت ناظريك لوقت طويل في الماضي. إن الأشياء التي حولك تتكشف لك كل على حدة تماما كما يحدث أثناء استيقاظك من النوم. على سبيل المثال، فقط عندما كان عمري أربع سنوات تقريبا أدركت أن لدينا كلبا. كان اسمه نايلير، وكان عجوزا أبيض اللون من فصيلة الترير الإنجليزية التي لم تعد موجودة هذه الأيام. قابلته أسفل طاولة المطبخ، وبطريقة ما بدا أنني فهمت، ولم أعلم ذلك إلا في تلك اللحظة، أنه كلبنا وأن اسمه كان نايلير. على المنوال نفسه وفي وقت قبل ذلك ليس بالكثير، اكتشفت أن خلف البوابة في نهاية الممر كان ثمة مكان تنبعث منه رائحة العنبريس. والمتجر نفسه بما فيه من موازين ضخمة ومقاييس خشبية وجاروف معدني، والكتابة باللون الأبيض على الجدار، وطائر الدغناش في قفصه - الذي لم يكن يمكنك رؤيته جيدا حتى عند الوقوف على الرصيف؛ لأن النافذة كانت متسخة دائما - كل هذه الأشياء كانت تتضح لذهني الواحد تلو الآخر كقطع أحجية الصور المقطعة.
يمر الوقت، وتصبح خطواتك أكثر ثباتا، وتبدأ في فهم جغرافية المكان شيئا فشيئا. أعتقد أن لوير بينفيلد كانت كأي بلدة بها سوق يسكنها ما يقرب من ألفي شخص. كانت في أكسفوردشير - لاحظ أنني أكرر كلمة «كانت» على الرغم من أن المكان ما زال موجودا - على بعد نحو خمسة أميال من نهر التيمز، وكانت تقع في واد صغير، ويفصلها عن النهر تموج منخفض من التلال، وخلفها تلال أعلى. علت التلال غابة بدت ككتل زرقاء ضبابية يمكن وسطها رؤية منزل أبيض كبير به رواق. كان هذا منزل بينفيلد («القصر» كما كان يسميه الجميع)، وكان أعلى التل يعرف باسم أبر بينفيلد على الرغم من عدم وجود قرية هناك في ذلك الوقت ولا قبل ذلك بمائة سنة أو أكثر. لا بد أنني كنت في السابعة من عمري تقريبا عندما لاحظت وجود منزل بينفيلد؛ فعندما تكون صغيرا جدا لا تنظر إلى مسافات بعيدة، ولكن بحلول ذلك الوقت كنت قد عرفت كل بوصة في البلدة، التي كان شكلها تقريبا كالصليب والسوق في وسطها. كان متجرنا في هاي إستريت قبل دخولك للسوق بقليل، وفي الركن كان متجر السيدة ويلر للحلوى حيث كنت تنفق نصف بنس عندما يكون معك. كانت الأم ويلر عجوزا شمطاء قذرة، وكان الناس يشكون في أنها كانت تمص الحلوى المدورة وتضعها مرة أخرى في الوعاء، ولكن لم يثبت عليها أحد الأمر. بعيدا عن ذلك بكثير كان هناك متجر الحلاقة والسجائر بلافتة إعلان سجائر عبد الله - ذلك الإعلان الذي به الجنود المصريون، ومن الغريب للغاية أنهم يستخدمون الإعلان نفسه حتى يومنا هذا - ورائحة الكحول القوية لعطر ما بعد الحلاقة وتبغ اللاذقية. خلف المنازل كان يمكنك رؤية مداخن مصانع الجعة. وفي وسط السوق كان معلف الخيول الحجري، وأعلى مياهه كانت دائما ثمة طبقة رقيقة من الغبار والتبن.
قبل الحرب، وخاصة قبل حرب البوير ، كان الصيف يمتد طوال العام. أدرك تماما أن هذا وهم، ولكن جل ما أحاول قوله هو الحال التي أتذكر عليها تلك الأيام. إذا أغلقت عيني وفكرت في بلدة لوير بينفيلد في أي وقت قبل أن أبلغ عامي، لنقل، الثامن، فسأتذكرها دائما في فصل الصيف، وهذا سواء أكنت في السوق في وقت الغداء حيث الغبار المغطي لكل شيء وحصان الحمال يغرس أنفه في مخلاته وهو يمضغ الطعام، أو كنت في يوم حار فيما بعد الظهيرة في المروج الغضة الخضراء الرائعة حول البلدة، أو كنت قرب وقت الغسق في الزقاق خلف الحقول الزراعية ورائحة تبغ الغلايين وزهور المنثور التي تنساب عبر السياج النباتي. ومع ذلك أتذكر بالفعل الفصول المختلفة؛ لأن جميع ذكرياتي مرتبطة بأشياء تؤكل، والتي تتنوع حسب فصول العام المختلفة. وأخص بالذكر الأشياء التي كان المرء يجدها عند الأسيجة النباتية. في شهر يوليو كان ينبت التوت الشوكي - ولكنه كان نادرا للغاية - وكان توت العليق الأسود يصبح ناضجا وصالحا للأكل. وفي سبتمبر كنا نجد الخوخ الشوكي والبندق، ولكن أفضل أنواع البندق كانت دائما في الأغصان العالية التي لم نكن ننالها. وفي الشهور التالية كنا نجد جوز أشجار الزان والتفاح البري. كان هناك أيضا بعض الأطعمة الثانوية التي تتناولها عندما لا يكون ثمة شيء أفضل، ومنها الزعرور البري - ولكنه لم يكن مستساغا - وثمر الورد البري، الذي له مذاق قوي لطيف عند تنظيف الشعر الذي يكون عليه. كانت كذلك حشيشة الملاك من النباتات الجيدة في بداية فصل الصيف، خاصة عندما تكون عطشان، وكذلك كان الأمر مع سيقان العديد من النباتات. نأتي بعد ذلك إلى الحماض البستاني، وهو جيد مع الخبز والزبد، وجوز الخنزير، ونوع من النفل الخشبي الذي له مذاق مر. وحتى بذور نبات لسان الحمل تكون أفضل من لا شيء عندما تكون بعيدا جدا عن المنزل وجائعا بشدة.
كان جو أكبر مني بعامين. وفي سنوات طفولتنا المبكرة، كانت أمي معتادة على دفع ثمانية عشر بنسا في الأسبوع لكيتي سيمونز مقابل تمشيتي أنا وأخي في وقت ما بعد الظهيرة. كان والد كيتي يعمل في مصنع الجعة، وكان لديه أربعة عشر طفلا؛ لذلك كانت عائلتها تبحث دائما عن الأعمال الصغيرة المؤقتة. وكانت فقط في الثانية عشرة من عمرها عندما كان جو في السابعة من عمره وكنت أنا في الخامسة، ولم تكن أكثر منا نضجا بكثير. كانت معتادة على سحبي من ذراعي ومناداتي ب «صغيري»، وكانت مكلفة بمنع اصطدامنا بالعربات التي تجرها الكلاب أو مطاردة الثيران لنا، ولكننا لم نكن نخوض أي مناقشة إلا وكنا جميعا على قدم المساواة. وقد اعتدنا المشي لمسافات طويلة للتنزه - وكنا دائما بالطبع نقطف الثمار ونتناولها طوال الطريق - إلى الزقاق خلف الحقول، وعبر مروج روبير، وإلى الطاحونة، حيث البركة التي بها حيوانات سمندل الماء وسمك الشبوط الصغير (حيث كنت أنا وجو نذهب هناك لنصطاد عندما كنا في سن أكبر قليلا)، وكنا نرجع عبر شارع أبر بينفيلد كي نمر على متجر الحلوى في طرف البلدة. كان هذا المتجر في موقع سيئ أدى إلى إفلاس كل من امتلكوه، وعلى حد علمي كان لثلاث مرات متجرا للحلوى ومرة متجرا للبقالة ومرة متجرا لإصلاح الدراجات؛ ولكن كان له سحر خاص على الأطفال. حتى عندما لا يكون لدينا المال، كنا نمر في طريقه كي نلزق أنوفنا بنافذته. ولم تكن كيتي تترفع على الإطلاق عن أن تشاركنا الحلوى التي نشتريها بربع بنس وتتعارك معنا على حصتها فيها. كان يمكنك شراء أشياء بربع بنس في تلك الأيام؛ فمعظم الحلوى كانت الأوقيات الأربع منها ببنس، وكانت ثمة حلوى كذلك اسمها برادايس ميكستشر الست أوقيات منها ببنس، وكانت في الغالب تجميعا للحلوى المكسورة من الأواني الأخرى. كما كانوا يبيعون شيئا آخر اسمه فارذينج إيفرلاستنجس، وكان بطول الياردة ولم نكن نتمكن من إنهاء تناوله في نصف الساعة. أما الحلوى على أشكال الفئران والخنازير فكان كل ثمان منها ببنس، وكذلك كانت حلوى العرقسوس التي كانت تأتي على شكل مسدسات، وكان كيس الفشار الكبير بنصف بنس، وكان كيس الجوائز - الذي يحتوي على عدة أنواع مختلفة من الحلوى وخاتم ذهبي اللون وأحيانا صافرة - ببنس واحد. لا ترى أكياس الجوائز الآن، وكثير جدا من أنواع الحلوى التي كانت في تلك الأيام قد اختفت اليوم. كان ثمة نوع من الحلوى البيضاء المسطحة بشعارات مطبوعة فوقها، ونوع آخر من الحلوى الوردية اللزجة في علبة بيضاوية الشكل من الخشب ومعها ملعقة صغيرة من الصفيح لتأكلها بها، وكان الاثنان بنصف بنس. ولكن اختفى هذان النوعان، واختفت كذلك حلوى الكراوية المجففة، وأصابع الشوكولاتة، وأعواد السكر، وكذلك حبات الحلوى الملونة الصغيرة للغاية، التي كانت بديلا جيدا إذا لم يكن معك سوى ربع بنس. وماذا عن مشروب بيني مونيستير؟ هل يرى أحد مشروب بيني مونيستير اليوم؟ كان في زجاجة كبيرة تسع أكثر من ربع جالون من شراب الليمون الفوار، وكل ذلك ببنس واحد. هذا شيء آخر من الأشياء التي قضت عليها الحرب.
अज्ञात पृष्ठ
أرى الصيف دائما عندما أتذكر الماضي. يمكنني الشعور بالعشب من حولي وهو في طولي نفسه، والإحساس بالحرارة الصاعدة من الأرض، وكذلك رؤية الغبار في الزقاق، والضوء المخضر الدافئ القادم عبر أغصان شجر البندق. أرى ثلاثتنا مصطفين على نحو متتال، نأكل الثمار التي نقطفها من السياج النباتي، وكيتي تسحبني من ذراعي وتقول لي: «هيا يا صغيري!» وفي بعض الأحيان كانت تنادي على جو وتصرخ فيه قائلة: «جو! ارجع هنا حالا! وإلا فستعاقب!» كان جو ولدا ضخم البنية، برأس كبير وثقيل بعض الشيء، وسمانتين ضخمتين؛ وهو من ذلك النوع من الأولاد الذين يفعلون أشياء خطرة دائما. في السابعة من عمره، كان قد ارتدى بالفعل البناطيل القصيرة، والجوارب الثقيلة السوداء التي تصل إلى الركبتين، والأحذية العالية الرقبة التي كان يرتديها الأولاد في تلك الأيام، بينما كنت لا أزال أرتدي نوعا من الأردية الخارجية الطويلة الفضفاضة التي اعتادت أمي على حياكتها لي بيديها. وكانت كيتي ترتدي فساتين رثة سيئة تشبه فساتين الآنسات، التي كانت الأخوات يتوارثنها من جيل إلى جيل في عائلتها. وكانت لديها قبعة كبيرة مضحكة تخرج منها ضفائرها، وتنورة ذات ذيل طويل يجرجر على الأرض، وحذاء بأزرار كعبه مهترئ. كانت صغيرة البنية لا يزيد طولها بكثير عن طول جو، ولكنها لم تكن سيئة في «رعاية» الأطفال؛ ففي عائلة مثل عائلتها، يكاد الطفل «يرعى» أطفالا آخرين بمجرد فطامه. وقد كانت من حين إلى آخر تحاول التصرف كالناضجات والسيدات، وكانت تقطع حديثنا بالأمثال والأقوال المأثورة، التي كانت تعتقد أنها جواب مفحم؛ فإذا قلت: «لا تبالي»، ترد على الفور: «من لا يبالي أجبر على أن يبالي. من لا يبالي علق. من لا يبالي وضع في قدر من الماء المغلي حتى مات.»
أو إذا سببتها كانت ترد قائلة: «الكلمات الحادة لا تكسر العظام.» وعندما تتفاخر تقول لك: «يأتي الفخر قبل السقوط.» وقد تحقق ما قالت بالفعل في أحد الأيام عندما كنت أتبختر متظاهرا أنني جندي فسقطت في روث البقر. لقد كانت عائلتها تعيش في مكان صغير وقذر، أشبه بجحر الجرذان في الحي الفقير خلف مصنع الجعة، وكان المكان مكتظا بالأطفال كالهوام. نجحت العائلة بأكملها في الهروب من الذهاب إلى المدرسة، الأمر الذي كان سهلا بعض الشيء في تلك الأيام، وكان الأطفال يخرجون لقضاء مشاوير للآخرين ولأداء أعمال مؤقتة أخرى بمجرد تمكنهم من المشي. وقد سجن أحد إخوتها الكبار شهرا لسرقته بعض اللفت. توقفت عن تمشيتنا بعد ذلك بعام عندما كان جو في الثامنة من عمره وأصبح صعبا على فتاة التحكم فيه، وقد اكتشف أنه في منزل كيتي ينام كل خمسة من أفراد العائلة في سرير واحد، وكان يتهكم عليها بسبب هذا الأمر.
كم كانت كيتي مسكينة! لقد أنجبت طفلها الأول عندما كانت في الخامسة عشرة من عمرها. لم يكن أحد يعلم والد الطفل، وربما لم تكن كيتي نفسها متيقنة ممن يكون أيضا. وقد اعتقد معظم الناس أنه أحد إخوتها. أخذ الملجأ الطفل، وعملت كيتي خادمة في وولتن. بعد ذلك ببعض الوقت تزوجت سمكريا، وكان حتى بمقاييس عائلتها دون المستوى. وقد كانت آخر مرة أراها فيها في عام 1913. كنت أتنزه بالدراجة عبر وولتن، ومررت ببعض الأكواخ الخشبية المروعة بجوار خط السكة الحديدية، وكان يحيط بكل منها سياج من القطع الخشبية التي تصنع منها البراميل، حيث اعتاد الغجر التخييم في أوقات معينة في العام تسمح لهم الشرطة بها. خرجت امرأة شمطاء، بوجه دخاني مليء بالتجاعيد وشعر منسدل، وتبدو كأنها في عامها الخمسين على أقل تقدير، من أحد هذه الأكواخ وبدأت تنفض حصيرة بالية. كانت هذه المرأة هي كيتي، التي لا بد أنها كانت في ذلك الوقت في السابعة والعشرين من عمرها.
2
كان يوم الخميس هو يوم السوق. كان الرجال بوجوههم الحمراء المستديرة كقرع اليقطين وثياب العمل الواسعة القذرة خاصتهم وأحذيتهم الضخمة الملطخة بروث الأبقار الجاف، الذين يحملون العصي الطويلة من خشب شجر البندق، يقودون حيواناتهم إلى السوق في الصباح الباكر. لعدة ساعات كانت ثمة ضجة هائلة من نباح الكلاب، ونخير الخنازير، والرجال في عربات التجار الذين يريدون أن يشقوا طريقهم وهم يلوحون بسياطهم ويسبون، وكل من له علاقة بالماشية يصرخ ويضرب بالعصي. وكانت الضجة الكبرى دائما عندما يجلبون ثورا إلى السوق. حتى في ذلك العمر، هالني أن معظم الثيران كانت حيوانات غير مؤذية ومطيعة، وأن كل ما تريده هو أن تصل إلى مرابطها بسلام، ولكن الثور لم يكن ليعد ثورا إذا لم تخرج نصف البلدة لملاحقته ومطاردته. وفي بعض الأحيان كانت بعض الحيوانات المرتعبة، والتي عادة ما تكون من العجول الصغيرة، تهرب وتركض إلى أحد الشوارع الجانبية؛ ومن ثم فأي أحد تصادف وجوده في طريقها كان يقف في منتصف الطريق ويلوح بذراعيه للخلف كريش الطاحونة الهوائية، ويصرخ: «ووه! ووه!» كان من المفترض أن لهذا التصرف تأثيرا مهدئا على الحيوان، ولكنه بالتأكيد كان يخيفه.
في منتصف الصباح، كان بعض المزارعين يدخلون المتجر ويفحصون عينات من الحبوب بتمريرها خلال أصابعهم. ولم يكن أبي في الواقع يتعامل كثيرا مع المزارعين؛ لأنه لم يكن لديه عربة لتوصيل البضائع ولا يمكنه تحمل الديون طويلة الأجل، فكانت معظم معاملاته صغيرة الحجم للغاية، كبيع طعام الدواجن والعلف لتجار الخيول وما شابه. وكان العجوز بروير، الذي كان يعمل في الطاحونة، وغدا عجوزا بخيلا بلحية ذقن رمادية، يقف هناك لمدة نصف الساعة يفحص بأصابعه عينات ذرة الدجاج ويجعلها تسقط في جيبه غير مبال، ثم كان بالتأكيد يذهب في النهاية دون شراء أي شيء. كانت الحانات في المساء ممتلئة بالسكارى، وكان نصف اللتر من الجعة في تلك الأيام ببنسين، وكان بها بعض أحشاء الحيوانات على عكس الجعة اليوم. وطوال الوقت في خلال حرب البوير، كان رقيب التجنيد يجلس في حانة جورج الرخيصة كل مساء خميس وسبت، وكان متأنقا في ملبسه وينفق ببذخ. وفي بعض الأحيان في الصباح التالي، كنت تراه يجر صبيا بدينا أحمر الوجه غبيا من صبيان المزرعة الذي قبل أن يجرى تجنيده مقابل حصوله على شلن عندما كان مخمورا للغاية ليجد نفسه في الصباح في حاجة إلى دفع عشرين جنيها ليتخلص من هذه الورطة. اعتاد الناس الوقوف على عتبات بيوتهم والإيماء برءوسهم عندما كانوا يشاهدونهما يمران، تماما كما لو كانوا في جنازة. «عجبا الآن! التجنيد! فلتفكر فقط في الأمر! شاب غض مثل ذلك!» كان الأمر صادما لهم؛ إذ كان الالتحاق بالجيش بالنسبة لهم تماما كهروب بناتهم من المنزل. كان موقفهم من الحرب، ومن الجيش، غريبا للغاية؛ فقد كانت لديهم تلك الفكرة التي كانت لدى الإنجليز القدامى أن من يرتدون الزي العسكري هم حثالة الأرض، وأن أي أحد ينضم للجيش سيموت سكران، ويذهب مباشرة إلى الجحيم؛ ولكنهم في الوقت نفسه كانوا أناسا وطنيين صالحين، يضعون أعلام الاتحاد في نوافذهم، ويؤمنون إيمانا راسخا بأن الإنجليز لم يهزموا قط في أي معركة ولن يهزموا أبدا. وفي ذلك الوقت، كان الجميع، وحتى المنشقين عن الكنيسة، يغنون أغاني حماسية عن معركة الخط الأحمر الرفيع والجندي الشاب الذي مات في ميدان المعركة بعيدا عن بلاده. هؤلاء الجنود الشباب كانوا يموتون دائما «وسط سيل من الرصاص والشظايا»، على ما أتذكر. حيرني الأمر طفلا؛ فقد كان يمكنني تخيل طلقات الرصاص، ولكن ما شكل صورة غريبة في ذهني كان تطاير الشظايا في الهواء. عندما حررت بلدة مافيكنج، هلل الناس بشدة، وأحيانا كانوا يصدقون بغض النظر عن أي شيء الحكايات التي تروج عن البويريين القائلة بأنهم كانوا يرمون الأطفال الرضع في الهواء ويشوونهم على حرابهم كاللحم على الأسياخ. استاء العجوز بروير بشدة من مناداة الأطفال إياه ب«كروجر»، لدرجة أن حلق لحيته قرب نهاية الحرب. كان موقف الناس من الحكومة مماثلا تماما؛ فقد كانوا جميعا إنجليزا أوفياء لأوطانهم، وأقسموا على أن الملكة فيكتوريا كانت أفضل ملكة على الإطلاق، وأن الأجانب أشرار، ولكن في الوقت نفسه لم يفكر أحد قط في دفع الضرائب، حتى رسوم ترخيص كلابهم إن استطاعوا إيجاد أي طريقة لتجنب ذلك.
قبل الحرب وبعدها، كانت لوير بينفيلد دائرة انتخابية لليبراليين. وفي أثناء الحرب عقدت انتخابات فرعية وفاز فيها المحافظون. كنت صغيرا جدا على أن أفهم كل ذلك، وكل ما كنت أعرفه هو أنني كنت محافظا؛ لأنني أحببت أعلامهم الزرقاء أكثر من الأعلام الحمراء، وأتذكر ذلك على وجه التحديد بسبب رجل سكران سقط على أنفه على الرصيف خارج حانة جورج. وكان من الغريب أنه لم يلاحظه أحد، وظل في مكانه لساعات تحت الشمس الحارقة وجسمه ينزف من حوله حتى جف الدم، وتحول إلى اللون الأرجواني. وفي وقت انتخابات عام 1906، كنت كبيرا بما يكفي لفهم ما يحدث، بدرجة أو بأخرى، وأصبحت حينئذ ليبراليا؛ لأن الجميع كانوا كذلك. وقد طاردوا مرشح المحافظين لمسافة نصف ميل، وألقوا به في بركة مليئة بالطحالب. لقد كان الناس يأخذون السياسة في تلك الأيام على محمل الجد؛ فكانوا يشرعون في تخزين البيض الفاسد الذي سيلقون به أعداءهم من المرشحين قبل الانتخابات بأسابيع.
في وقت مبكر للغاية في حياتي عندما اندلعت حرب البوير، أتذكر الشجار الكبير الذي كان بين أبي وعمي إيزيكيال. كان لعمي إيزيكيال متجر صغير لبيع الأحذية في أحد الشوارع المتفرعة من هاي إستريت، وكان يصلح الأحذية كذلك. كان عملا صغيرا وكان يصغر أكثر فأكثر، الأمر الذي لم يكن يهم عمي إيزيكيال كثيرا؛ لأنه لم يكن متزوجا. كان أخا غير شقيق لأبي وكان أكبر منه بكثير؛ إذ كان يكبره بعشرين سنة على الأقل، وفي السنوات الخمس عشرة أو ما يقرب من ذلك التي عرفته فيها، لم يتغير على الإطلاق. كان رجلا عجوزا حسن المظهر، طويلا بعض الشيء، ذا شعر أبيض ولحية بيضاء لم أر لها مثيلا، كانت بيضاء كزغب الزهرة الشائكة. وكان دائما ما يخبط على مئزره الجلدي ويقف باستقامة شديدة - كي يصحح ما فعله الانحناء لساعات طويلة على قالب صنع الأحذية، على ما أعتقد - ثم يدوي بآرائه قاذفا بها مباشرة في وجهك ومنتهيا بما يشبه القوقأة الغامضة. كان عجوزا شديد الإيمان بالليبرالية كليبرالي القرن التاسع عشر، ذلك النوع الذي لا يكتفي بسؤالك عما قاله جلادستون في عام 1878، بل يمكنه أن يجيبك عن سؤاله، وهو أحد القلائل في لوير بينفيلد الذين لم تتغير آراؤهم طوال وقت الحرب. وكان دائم الإدانة لجو تشامبرلين وبعض الأشخاص الذين أسماهم «حثالة بارك لين». يمكنني سماعه الآن في إحدى مناقشاته مع والدي، وهو يقول: «هم وإمبراطوريتهم المترامية الأطراف! لا يمكنهم أن يبعدوا كثيرا عن ناظري. ها ها ها!» ثم أسمع صوت أبي الهادئ القلق حي الضمير يرد عليه بعبء الرجل الأبيض ودوره تجاه السود المساكين الذين عاملهم هؤلاء البوير بطريقة شائنة. لمدة أسبوع أو ما شابه بعد أن أعلن عمي إيزيكيال أنه مؤيد للبوير ومعاد للإمبريالية البريطانية، كادا لا يتحدثان، وتشاجرا مرة أخرى عندما بدآ في تداول روايات الفظائع التي ارتكبها كلا الجانبين. كان أبي قلقا للغاية من الحكايات التي سمعها، وكان يتناقش فيها مع عمي إيزيكيال. وسواء أكان عمي إيزيكيال معاديا للإمبريالية البريطانية أم لا، فبالتأكيد لم يكن يستطيع أن يرى أن ما فعله هؤلاء البوير من إلقاء الأطفال الرضع في الهواء وشيهم لهم على الحراب أمر جيد، حتى إن كانوا مجرد أطفال سود. ولكن عمي إيزيكيال ضحك في وجه أبي ساخرا من كلامه؛ فقد أساء أبي فهم الأمر! فلم يكن البوير هم من يرمون الأطفال الرضع في الهواء، بل الجنود البريطانيون! ظل ممسكا بي ليوضح له ما يحدث - ولا بد أنني كنت في ذلك الحين في الخامسة من عمري تقريبا - قائلا: «إنهم يلقونهم في الهواء ويضعونهم في الأسياخ كالضفادع، أؤكد لك! مثلما قد ألقي بهذا الطفل هنا!» ثم أرجحني في الهواء وكاد أن يلقي بي، وكان يمكنني تخيل نفسي بوضوح وأنا أطير في الهواء وأسقط بقوة على سن حربة.
كان أبي على النقيض التام من عمي إيزيكيال. لا أعلم الكثير عن جدي وجدتي؛ فقد ماتا قبل أن أولد. وكل ما أعرفه هو أن جدي كان إسكافيا، وقد تزوج في عمر كبير من أرملة بائع حبوب، وهكذا حصلنا على المتجر. لم تكن هذه المهنة تناسب أبي في الواقع، لكنه أتقنها جيدا وكان يعمل بلا كلل. وفيما عدا يوم الأحد وفي أحيان نادرة في المساء خلال الأسبوع، أنا لا أتذكره إلا والطحين على ظهر يديه وبين خطوط وجهه وعلى ما تبقى من شعره. تزوج أبي في الثلاثينيات من عمره، ولا بد أنه كان في الأربعين من عمره تقريبا في أول صورة له في ذهني عنه. كان رجلا قصيرا، أشيب بعض الشيء وضئيل البنية للغاية، وكان دائما يرتدي قميصا دون أي شيء فوقه، ومئزرا أبيض، وكان يعلوه غبار الطحين دائما. كان رأسه مستديرا وأنفه غير حاد، وكان بشارب كثيف ونظارة، وكان شعره سمني اللون كشعري؛ ولكنه فقد معظمه وكان دائما يغطيه الطحين. تحسن حال جدي كثيرا بزواجه من أرملة بائع الحبوب؛ وتعلم أبي في مدرسة وولتن للقواعد اللغوية، التي كان المزارعون والتجار ميسورو الحال يرسلون أبناءهم إليها؛ بينما كان عمي إيزيكيال يحب التباهي بأنه لم يدخل مدرسة في حياته وأنه كان يعلم نفسه القراءة على ضوء شمعة بعد ساعات العمل. ولكنه كان سريع البديهة أكثر بكثير من أبي؛ فقد كان بإمكانه مجادلة أي شخص، وكان يردد الكثير من عبارات كارلايل وسبنسر. أما أبي فلم يكن حاضر الذهن مثله، ولم يكن مغرما قط بقراءة الكتب أو ما كان يسميه «التعلم عن طريق القراءة»، ولم تكن لغته الإنجليزية جيدة . في أوقات ما بعد الظهيرة يوم الأحد، حيث الوقت الوحيد الذي كان يستريح فيه، كان يجلس بجانب الموقد في غرفة المعيشة ليستمتع بما كان يطلق عليه «القراءة الجيدة» لصحيفة يوم الأحد. كانت صحيفته المفضلة هي صحيفة «صنداي بيبول»، بينما كانت أمي تفضل صحيفة «نيوز أوف ذا وورلد»؛ لأنها تعرض أخبار جرائم قتل أكثر من وجهة نظرها. يمكنني رؤيتهما الآن في أحد أيام الأحد فيما بعد الظهيرة - وفي فصل الصيف بالطبع؛ فأنا أتذكر الصيف دائما - مع رائحة لحم الخنزير المشوي، والخضاة التي لا تزال تنساب في الهواء، وأمي بجوار المدفأة تشرع في قراءة آخر جريمة قتل، ولكنها يغلبها النعاس وفمها مفتوح؛ وأبي في الجانب الآخر من المدفأة يرتدي خفه ونظارته، ويحاول بصعوبة قراءة السطور العديدة ذات الطباعة المشوشة. كل ذلك مع الشعور اللطيف للصيف الذي يحيط بك من كل مكان، ونبات إبرة الراعي في النافذة، وهديل طائر الزرزور الآتي من مكان ما، وأنا أجلس أسفل الطاولة ومعي مجلة «بي أو بي» متخيلا غطاء المائدة خيمة. بعد ذلك وفي موعد تناول الشاي، كان أبي وهو يقضم الفجل والبصل الأخضر يتحدث متأملا عما قرأه، من الحرائق وغرق السفن، وفضائح المجتمع الراقي، وتلك الآلات الطائرة الجديدة، والرجل (الذي ألاحظ أنه يظهر في صحف أيام الأحد حتى يومنا هذا مرة كل ثلاث سنوات) الذي ابتلعه حوت في البحر الأحمر ولفظه بعدها بثلاثة أيام ليخرج من جوفه حيا ومغطى بعصارته الهضمية البيضاء. كان أبي دائم الشك نوعا ما في هذه القصة، وفي أمر آلات الطيران الجديدة؛ بخلاف ذلك كان يصدق كل شيء يقرؤه. حتى عام 1909 لم يصدق أحد في لوير بينفيلد أن الإنسان قد يتعلم الطيران في يوم من الأيام، وكان المعتقد السائد أنه إن أراد الله أن يجعلنا نطير لأعطانا أجنحة؛ ولكن عمي إيزيكيال كان يرد على ذلك بغضب بأنه إن أراد الله أن نسوق لخلقنا بعجلات، ولكن حتى هو لم يصدق خبر آلات الطيران الجديدة.
لم يكن أبي يعير انتباهه لمثل هذه الأمور إلا فيما بعد ظهيرة يوم الأحد، وربما في المساء الوحيد في الأسبوع الذي يطل فيه سريعا على حانة جورج ليشرب كوبين من الجعة. أما في غير ذلك من الأوقات، فقد كان دائما غارقا في العمل بشكل أو بآخر. لم يكن في الواقع ثمة الكثير مما يمكن القيام به، ولكنه بدا منشغلا دائما؛ إما في العلية خلف الفناء مكافحا لإصلاح جوال أو بالة، أو في مساحة التخزين الصغيرة المليئة بالأتربة خلف طاولة البيع في المتجر، حيث يجمع الأعداد في دفتر ملاحظات بقلم رصاص صغير. كان رجلا شديد الأمانة والكرم، وشديد الحرص على توفير البضاعة الجيدة، ولم يخدع أحدا، الأمر الذي لم يكن حتى في تلك الأيام أفضل الطرق لتحقيق أرباح كبيرة في العمل. كان سيلائمه أكثر لو أنه شغل منصبا رسميا صغيرا، كمدير مكتب البريد على سبيل المثال، أو ناظر محطة في إحدى القرى، ولكنه لم يكن لديه من الجرأة وحب المغامرة ما يدفعه إلى اقتراض بعض المال وتوسيع عمله، ولم يكن لديه من الخيال كذلك ما يجعله يفكر في خطوط بيع جديدة. كان ذلك من طباعه المتأصلة حتى إن أمارة الإبداع الوحيدة التي بينها، وهي اختراع خليط جديد من الحبوب لطيور الأقفاص (خلطة بولينج، هكذا كان اسمه، حيث كانت مشهورة على نطاق ما يقرب من خمسة أميال)، كانت في الواقع بفضل عمي إيزيكيال. كان عمي مولعا بالطيور وكان لديه عدد كبير من طيور الحسون في متجره المظلم الصغير، وكان يعتقد أن طيور الأقفاص تفقد ألوانها بسبب قلة التنوع في غذائها. في الساحة خلف المتجر، كان لأبي قطعة أرض صغيرة جدا يزرع فيها ما يقرب من عشرين نوعا من الحشائش أسفل شبكة سلكية، وكان يجففها ويخلط حبوبها ببذور الكناري العادية. كان من المفترض أن يكون جاكي طائر الدغناش المعلق في نافذة المتجر إعلانا لخلطة بولينج. وبالتأكيد، على خلاف معظم طيور الدغناش في الأقفاص، لم يتحول قط لون جاكي إلى اللون الأسود.
अज्ञात पृष्ठ
أما أمي، فلا أتذكرها إلا وهي سمينة، ولا شك أنني ورثت منها ضعف الغدة النخامية، أو أيا كان سبب بدانتي.
كانت امرأة ضخمة البنية، أطول من أبي بقليل، وكان شعرها أفتح كثيرا من شعره، وكانت تحب ارتداء الفساتين السوداء؛ ولكن فيما عدا يوم الأحد، لا أتذكرها إلا مرتدية مئزرها. قد أكون مبالغا، ولكن ليس كثيرا، عندما أقول إنني لا أتذكرها قط إلا وهي تطبخ. عندما ترجع بذاكرتك لفترة طويلة من الزمن، يبدو أنك ترى الناس دائما في أماكن معينة وفي مواقف مميزة بعينها. ويبدو لك أنهم يفعلون الأشياء نفسها دائما، تماما مثلما أفكر في أبي، فأتذكره دائما خلف طاولة البيع في المتجر وشعره مغطى بالكامل بالطحين، ويجمع الأعداد بقلم رصاص صغير يرطبه بين شفتيه، وتماما كذلك مثلما أتذكر عمي إيزيكيال بلحيته البيضاء وهو يفرد جسمه ويخبط على مئزره الجلدي، وأيضا مثلما أتذكر أمي عند طاولة المطبخ وساعداها مغطيان بالدقيق، وتفرد قطعة من العجين.
أنت تعرف بالتأكيد شكل المطابخ التي كانت في بيوت تلك الأيام، ذلك المكان الضخم المظلم المنخفض بعض الشيء ذو العارضة الخشبية الكبيرة في السقف والأرضية الحجرية والقبو أسفله. كان كل شيء ضخما، أو هكذا بدا لي عندما كنت طفلا. كان ثمة حوض حجري كبير بلا صنبور، ولكن بمضخة من الحديد؛ وخزانة تغطي أحد الجدران ويصل ارتفاعها للسقف، وموقد ضخم يحرق فيه نصف طن من الحطب والفحم كل شهر، وقد مر عليه وقت طويل فغطي بالرصاص الأسود. أرى أمي عند الطاولة تفرد قطعة كبيرة من العجين، وأرى نفسي أزحف حولها وألعب بقطع من حطب الموقد وقطع الفحم ومصائد الخنافس الصفيح (فقد كنا نضعها في كل الزوايا المظلمة، واعتدنا وضع الجعة فيها كطعم)، وكنت من حين إلى آخر أصعد إلى الطاولة لأتذوق وأستجدي قضمات من الطعام. لم تكن أمي توافق على تناول الطعام بين الوجبات، وكانت دائما تجيبني قائلة: «امض إلى حالك الآن! لن أدعك تفسد على نفسك عشاءك. عيناك أكبر من بطنك.» ولكن في أحيان نادرة، كانت تقطع لي شريحة رفيعة من قشر الفواكه المسكرة.
طالما أحببت مشاهدة أمي وهي تصنع المعجنات؛ فثمة سحر في مشاهدة أي أحد وهو يفعل شيئا يفهمه جيدا، وأنا كنت أشاهد امرأة تعرف جيدا كيف تطبخ؛ أعني كيف تلف العجين. كانت ذات هيئة متحفظة ومميزة وتتسم بالهيبة؛ هيئة تدل على الرضا عن النفس، ككاهنة تقيم طقسا مقدسا، وكانت هي في قرارة نفسها ترى نفسها هكذا بالفعل. كان لأمي ساعدان عريضان وقويان وضاربان إلى الحمرة، وكانا عادة ملطخين بالطحين. وعندما كانت تطبخ، كانت حركاتها كلها محكمة وصارمة على نحو عجيب؛ ففي يديها مضرب البيض والمفرمة ومرقاق العجين تقوم بعملها كما هو المفترض منها. وعندما كنت تراها وهي تطبخ كنت تعلم أنها في عالم تنتمي إليه، وبين أشياء تفهم فيها جيدا. وفيما عدا عندما كانت تقرأ صحف يوم الأحد وتتحدث في بعض الأمور المتعلقة بالقيل والقال في بعض الأحيان، لم يكن العالم يعني شيئا لها؛ فعلى الرغم من أنها كانت تقرأ بسهولة أكثر من أبي، واعتادت على خلافه قراءة الروايات القصيرة والصحف، فقد كانت جاهلة بشكل لا يمكن تصوره. كنت مدركا لذلك حتى عندما كنت في العاشرة من عمري. لا يمكنها بالتأكيد إخبارك بما إذا كانت إيرلندا تقع في شرق إنجلترا أم في غربها، وأشك في أنه كان بإمكانها في أي وقت حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى أن تخبرك باسم رئيس الوزراء. إضافة إلى ذلك، لم يكن لديها أدنى رغبة في معرفة مثل تلك الأشياء. عندما قرأت كتبا بعد ذلك عن بلدان الشرق حيث تعدد الزوجات والحرملك السري حيث تحبس النساء ويراقبهن الحراس السود المخصيون، فكرت في مدى صدمة أمي إذا سمعت بهذا الأمر. بإمكاني سماع صوتها وهي تقول: «يا للهول! كيف يحبسون زوجاتهم هكذا؟! هذا غير معقول!» لن تكون صدمتها هنا بسبب معرفتها بأمر الحراس المخصيين، ولكن في الحقيقة لأنها عاشت حياتها في مساحة صغيرة وذات خصوصية كأي حرملك؛ فحتى في بيتنا كانت ثمة أماكن لم تطأها قدماها قط؛ فلم تذهب قط إلى العلية خلف الساحة، وكانت نادرا ما تذهب إلى المتجر. لا أعتقد أنني رأيتها يوما تخدم أحد الزبائن، ولم تكن تعرف مكان أي شيء في المتجر، وربما لم تكن تعرف الفرق بين القمح والشوفان حتى تطحن حبوبهما. ولم عليها أن تعرف الفرق؟ العمل بالمتجر كان يمثل عمل أبي «عمل الرجل»، وحتى فيما يتعلق بأموره المادية، فلم يكن لديها فضول كبير لمعرفتها. أما عملها، «عمل المرأة»، فقد كان الاهتمام بالمنزل وإعداد الطعام وغسل الملابس ورعاية الأطفال. وكانت تستاء كثيرا إذا رأت أبي أو أي رجل يحاول خياطة زر بنفسه.
كما هو الحال في مواعيد الوجبات وفي غيرها من الأشياء، كان منزلنا من تلك المنازل التي يسير فيه كل شيء بانضباط كالساعة. أو لا، ليس كالساعة لأن هذا يوحي بشيء ميكانيكي. لقد كانت الأمور تسير سيرا طبيعيا؛ إذ كنت تعلم أن الإفطار سيكون على الطاولة في صباح الغد، تماما كما تعلم أن الشمس ستشرق في الصباح. وكانت أمي طوال حياتها تذهب إلى الفراش في الساعة التاسعة، وتستيقظ في الخامسة، وكانت على ما يبدو تعتقد أن السهر مفسدة، وأنه للمنحطين والأجانب والأرستقراطيين. وعلى الرغم من أنها لم تمانع في الاستعانة بكيتي سيمونز لتمشيتي أنا وجو، لم تكن لتتقبل قط فكرة أن تساعدها امرأة في أعمالها المنزلية؛ فقد كانت تعتقد اعتقادا راسخا أن الخادمات دائما ما يجرفن الأتربة أسفل خزانة المطبخ. كانت وجباتنا جاهزة دائما في أوقاتها المحددة، وكانت وجبات دسمة؛ لحم البقر المسلوق، مع الدامبلنج، ولحم البقر المشوي مع بودينج يوركشاير، ولحم الضأن المسلوق مع براعم الكبر، ورأس خنزير، وفطيرة التفاح، وبودينج الزبيب، ولفائف بالمربى ... كل ذلك يسبقه ويعقبه صلاة ما قبل الأكل. كانت لا تزال الأفكار القديمة حول تنشئة الأطفال قائمة على الرغم من أنها بدأت تفقد مكانتها بسرعة. نظريا، كان الأطفال لا يزالون يضربون ويذهبون للنوم ولم يتناولوا سوى الخبز والماء، وبالطبع كنت تحرم من تناول الطعام على المائدة إذا أصدرت المزيد من الضوضاء أثناء تناول الطعام، أو أصابتك غصة بسبب الطعام أو الشراب، أو رفضت تناول شيء «جيد لصحتك»، أو «قمت بالرد على الكبار». ولكن عمليا، لم يكن ثمة الكثير من الانضباط في عائلتنا، ومن بين والدي كانت أمي الأكثر حزما. أما أبي، فعلى الرغم من ترديده الدائم لمقولة «إن تركت العصا يفسد الولد»، فلم يكن في واقع الأمر حازما معنا، وخاصة مع جو، الذي كان عنيدا منذ صغره. كان دائما يهدد بأنه سيضرب جو ضربا مبرحا، وكان يروي لنا الحكايات - التي أعتقد الآن أنها كانت كذبا - حول الجلد المرعب الذي كان والده يجلده له بحزام جلدي، ولكننا لم نر أي أثر لذلك. وفي الوقت الذي كان فيه جو في الثانية عشرة من عمره، كان قويا لدرجة أن أمي لم تعد تستطيع أن تثبته أسفل ركبتيها لتضربه، وبعد ذلك لم يكن يصيبه شيء من العقاب.
في ذلك الوقت، كان لا يزال من المقبول من الآباء أن يكرروا الأوامر والنواهي لأبنائهم طوال اليوم، وكنا دائما ما نسمع رجلا يتباهى بأنه «سيقتل ابنه ضربا» إذا رآه يدخن أو يسرق تفاحا أو عشا للطيور. بعض العائلات كانت تعامل أبناءها هكذا بالفعل؛ فقد أمسك السروجي العجوز لوفجروف بولديه ضخمي البنية اللذين كانا في السادسة عشرة والخامسة عشرة وهما يدخنان في سقيفة الحديقة، وأثخنهما ضربا حتى كان بإمكانك سماع صوت ضربه لهما في كل مكان بالبلدة. كان لوفجروف مدخنا شرها. لم يبد أن الضرب كان له أي تأثير على الإطلاق؛ فكل الأولاد كانوا يسرقون التفاح وأعشاش الطيور، ويتعلمون التدخين عاجلا أو آجلا، ولكن الاعتقاد في أن الأطفال يجب أن يعاملوا بقسوة كان لا يزال قائما. كانت تقريبا جميع الأشياء التي تستحق القيام بها ممنوعة، نظريا على الأقل. وفي اعتقاد أمي، كان كل شيء يريد أن يفعله الأولاد «خطرا»؛ فالسباحة خطر، وتسلق الأشجار خطر، وكذلك التزحلق، واللعب بكرات الثلج، والتعلق بالعربات من الخلف، واللعب بالمرجام والنبلة، وحتى الصيد. وكانت كذلك كل الحيوانات خطرة، باستثناء نايلير والقطتين والدغناش جاكي؛ فكل حيوان لديه طرقه الخاصة المعروفة التي يهاجم الأطفال بها: الخيول تعض، والخفاش يعلق بالشعر، وحشرة أبو مقص تدخل إلى الأذن ، والبجع يكسر السيقان بضربة من أحد جناحيه، والثيران تركل، والثعابين «تلدغ». كل الثعابين تلدغ في اعتقاد أمي، وعندما أخبرتها بما قرأت في موسوعة بيني من أنها لا تلدغ بل تعض، لم تقل شيئا سوى أن أمرتني ألا أرد على كلامها. كما كانت تعتقد أن السحالي والديدان البطيئة والعلاجيم والضفادع والسمندلات تلدغ؛ كل الحشرات تلدغ، ما عدا الذباب والخنافس. وكذلك كانت ترى أن جميع أنواع الأطعمة، ما عدا الأطعمة التي نأكلها في وجباتنا بالمنزل، إما سامة أو «مضرة بالصحة»؛ فالبطاطس سامة للغاية، وكذلك الفطر إلا إذا اشتريته من بائع الخضار، وعنب الثعلب يسبب المغص، والتوت يسبب طفحا جلديا. وكان في اعتقادها أيضا أنك إذا استحممت بعد الوجبات، فستموت بسبب تشنج العضلات، وإذا جرحت يدك بين الإبهام والسبابة، فستصاب بالتيتانوس؛ وإذا غسلت يديك في ماء سلق البيض، فستظهر فيها ثآليل. كذلك كل شيء تقريبا في المتجر كان ساما بالنسبة لأمي؛ ولذلك وضعت البوابة عند المدخل. طعام الأبقار سام، وكذلك ذرة الدجاج، وبذور الخردل، وحبوب كارسوود الخاصة بالدواجن. والحلوى أيضا مضرة والأكل بين الوجبات مضر، ولكن من الغريب أنه كانت ثمة أنواع معينة من الأطعمة التي كانت تسمح أمي بتناولها بين الوجبات؛ فعندما كانت تصنع مربى البرقوق، كانت تتركنا نأكل شرابها الذي كانت تزيله من أعلاها، وكنا نأكل منه بنهم حتى نمرض. وعلى الرغم من أن كل شيء تقريبا في العالم كان إما مضرا أو ساما، فقد كانت ثمة أشياء معينة في اعتقاد أمي ذات فائدة غامضة؛ فالبصل كان علاجا لكل شيء تقريبا، وربط جورب حول العنق كان علاجا لاحتقان الحلق، والكبريت في ماء شرب الكلاب يعمل كدواء منعش ومنشط؛ لذلك كان بعض من الكبريت موضوعا في وعاء شرب نايلير القديم خلف الباب الخلفي، وظل كذلك لسنوات دون أن يتغير.
اعتدنا تناول الشاي في الساعة السادسة؛ فقرابة الساعة الرابعة تكون أمي قد انتهت تقريبا من أعمالها المنزلية، وبين الرابعة والسادسة اعتادت تناول كوب من الشاي في هدوء و«قراءة صحيفتها»، كما كانت تطلق على الأمر. في الحقيقة، لم تكن تقرأ عادة الصحيفة إلا يوم الأحد؛ فصحف باقي أيام الأسبوع لم يكن بها إلا الأخبار اليومية، ونادرا ما يكون بها أخبار عن جرائم قتل، ولكن محرري صحف يوم الأحد أدركوا أن الناس لا يهتمون في الواقع بما إذا كانت جريمة القتل حديثة أم لا؛ وعندما لم يكن لديهم جرائم جديدة، كانوا يعيدون نشر جريمة قديمة مع التعديل فيها، وقد ترجع هذه الجرائم في بعض الأحيان إلى عهد الدكتور بالمر والسيدة مانينج. أعتقد أن أمي كانت ترى العالم خارج لوير بينفيلد في الأغلب على أنه مكان لارتكاب جرائم القتل. وكان لجرائم القتل سحر رهيب عليها؛ لأنها - كما كانت تقول عادة - كانت لا تعلم كيف يمكن أن يصبح البشر بهذا الشر؛ بحيث يقطعون أعناق الزوجات، ويدفنون الآباء أسفل الأرضيات الإسمنتية، ويلقون الرضع في الآبار. كيف لأي شخص أن يفعل مثل تلك الأشياء؟! حدثت فظائع جاك السفاح الشهير تقريبا في الوقت الذي كان فيه أبي وأمي متزوجين، والمصاريع الخشبية الكبيرة التي اعتدنا إغلاق نوافذ المتجر بها كل ليلة كانت ترجع إلى تلك الفترة. كان قد انتهى عهد مصاريع نوافذ المتاجر، ولم تعد موجودة في معظم متاجر هاي إستريت، ولكن أمي شعرت بالأمان في وجودها، وكانت دائما تقول إنها كان يراودها شعور مرعب بأن جاك السفاح مختبئ في لوير بينفيلد. كما ضايقتها كثيرا قضية كريبن، ولكن ذلك كان بعد سنوات عديدة عندما شارفت على البلوغ. يمكنني سماع صوتها الآن وهي تقول: «لقد أخرج أحشاء زوجته ودفن جثتها في مخزن الفحم! هذا غير معقول! ترى ماذا كنت سأفعل بذلك الرجل إن أمسكت به!» الغريب في الأمر أنها عندما كانت تفكر في بشاعة ذلك الطبيب الأمريكي الصغير الذي مزق زوجته (وأخفى فعلته بمهارة حيث أخرج كل عظامها من جسمها ورمى برأسها في البحر، على حد تذكري للأحداث)، كانت الدموع تنزل من عينيها.
أما معظم أيام الأسبوع، فكانت تقرأ في الغالب مجلة «هيلداس هوم كومبانيون»، التي كانت في تلك الأيام جزءا من الأثاث المعتاد لأي منزل كمنزلنا، وفي الواقع لا تزال كذلك حتى الآن، على الرغم من أن المجلات النسائية الأكثر بساطة التي ظهرت منذ الحرب قد حلت محلها بعض الشيء. ألقيت نظرة على نسخة منها منذ بضعة أيام. لقد تغيرت ولكن أقل كثيرا مما تغير كل شيء، فهي لا تزال تحتوي على القصص المتسلسلة نفسها التي تستمر ستة أشهر (وجميعها تنتهي بالنهايات السعيدة)، ولا يزال بها النصائح المنزلية نفسها، والإعلانات نفسها لماكينات الخياطة وعلاجات مشاكل السيقان. لم يتغير فيها الكثير سوى الطباعة والرسومات التوضيحية. في الماضي كانت البطلة تبدو كعداد البيض، والآن تبدو كالأسطوانة. كانت أمي تقرأ ببطء وتصر على أخذ الفائدة التي تساوي ثلاثة بنسات ثمن المجلة. وكانت تجلس على الكرسي ذي الذراعين الأصفر القديم بجوار المدفأة، وتضع قدميها على سياجها الحديدي، وتحضر الشاي الثقيل في إبريق صغير تضعه على صفيحة المدفأة؛ وكانت تقرأ صفحات المجلة من أولها لآخرها ببطء: القصة المتسلسلة، والقصتان القصيرتان، والنصائح المنزلية، وإعلانات مرهم زام بوك، والرد على أسئلة المراسلين. كانت عادة تستمر في قراءة المجلة طوال الأسبوع، وفي بعض الأسابيع لم تكن تستطيع حتى إنهاء قراءتها. وأحيانا كانت حرارة النار أو أزيز الذباب الأزرق في فترة ما بعد الظهيرة في فصل الصيف يجعل النعاس يغلب عليها، وفي حوالي الساعة السادسة إلا ربع كانت تهب مستيقظة وتنظر إلى الساعة على رف المدفأة وتقلق؛ لأن موعد الشاي سيتأخر، ولكنه لم يكن يتأخر قط.
في تلك الأيام وحتى عام 1909 بالتحديد، كان أبي لا يزال قادرا على استئجار صبي ليساعده في المتجر، واعتاد على ترك المتجر له لينضم إلينا وقت تناول الشاي وظهر يديه مغطى بالكامل بالطحين. حينها كانت تتوقف أمي عن تقطيع شرائح الخبز لوهلة، وتقول له: «هلا باركت لنا المائدة يا زوجي.» وبينما كنا نحني رءوسنا جميعا إلى صدورنا، كان أبي يتمتم بخشوع: «اجعلنا يا رب شاكرين بحق لما أعددت لنا من طعام، آمين.» بعد ذلك عندما كبر جو قليلا، أصبحت تقول له: «بارك لنا المائدة اليوم يا جو.» وكان جو يتمتم بالصلاة. لم تبارك أمي المائدة قط؛ فقد كان يجب أن يكون المبارك من الذكور.
كان الذباب الأزرق يطن دائما في الصيف في وقت ما بعد الظهيرة. ولم يكن منزلنا صحيا؛ فقط بعض منازل الأغنياء في لوير بينفيلد هي التي كانت كذلك. أظن أنه لا بد أن البلدة كان بها خمسمائة منزل، ولم يكن بالتأكيد منها إلا عشرة منازل فقط بها حمام، أو خمسون فقط بها ما يمكننا وصفه الآن بدورة المياه. في الصيف، كنت أشم دائما رائحة القمامة في ساحتنا الخلفية، وكانت جميع المنازل تعاني من وجود الحشرات بها. كان لدينا خنافس في الألواح الخشبية لجدران المنزل، وصراصير ليل في مكان ما خلف الموقد بالمطبخ، هذا بالطبع بالإضافة إلى ديدان الطحين التي كانت في المتجر. في تلك الأيام، لم تكن حتى ربة المنزل الجيدة كأمي ترى ما يدعو إلى الاعتراض من وجود الخنافس في المنزل؛ فقد كانت جزءا من المطبخ مثلها مثل الخزانة أو مرقاق العجين. ولكن الحشرات كانت في ازدياد، والمنازل في الشارع القذر خلف مصنع الجعة، حيث تعيش كيتي سيمونز، كانت يجتاحها البق. أمي أو أي من زوجات أصحاب المتاجر كانت ستموت خجلا إذا كان في بيتها بق. في الواقع، كان من الأفضل أن يقول المرء إنه لا يعرف حتى شكل البق.
अज्ञात पृष्ठ
كان الذباب الأزرق الكبير يهاجم السلم ويستقر بلهفة على الأغطية السلكية التي نحكم بها تغطية اللحم. وقد اعتاد الناس على أن يقولوا: «تبا للذباب!» لكن الذباب كان قدرنا، وبخلاف أغطية اللحم والورق اللاصق والقاتل للذباب، لم يكن باستطاعتك فعل شيء للتخلص منه. قلت منذ قليل إن أول ما أتذكره هو رائحة قش العنبريس، ولكن رائحة القمامة هي أيضا من أولى الروائح التي تأتي إلى ذاكرتي. عندما أتذكر مطبخ أمي بأرضيته الحجرية ومصائد الخنافس والسياج الصلب والموقد الأسود، أكاد أسمع دائما طنين الذباب الأزرق وأشم رائحة القمامة، وكذلك نايلير الذي كانت له رائحة قوية كبقية الكلاب. وثمة روائح وأصوات أسوأ بكثير . ترى أيها ستسمعه أولا؛ طنين الذباب الأزرق، أم أزيز طائرة قاذفة للقنابل؟
3
بدأ جو في الذهاب إلى مدرسة وولتن للقواعد اللغوية قبلي بعامين، ولم يذهب أي منا إليها إلا في عمر التاسعة؛ فقد كان الذهاب إلى المدرسة يعني السير بالدراجات مسافة أربعة أميال صباحا ومساء، وكانت أمي تخاف أن تسمح لنا بالذهاب وسط الزحام، الذي كان في ذلك الوقت يعني عددا قليلا للغاية من السيارات.
ذهبنا لعدة سنوات إلى مدرسة في منزل السيدة العجوز هاوليت، التي كان يذهب إليها معظم أبناء أصحاب المتاجر لتقيهم عار الذهاب إلى المدارس الابتدائية المؤسسة بأموال الضرائب، على الرغم من أن الجميع كان يعرف أن الأم هاوليت كانت نصابة عجوزا ومعلمة سيئة. كانت تتجاوز السبعين، وكانت لا تسمع جيدا على الإطلاق، وكانت بالكاد ترى وهي مرتدية نظارتها، ولم يكن لديها من الأدوات سوى عصا وسبورة وبضعة كتب مهترئة لقواعد اللغة والعديد من ألواح الكتابة الأردوازية ذات الرائحة الكريهة. وكانت بالكاد تسيطر على الفتيات، أما الأولاد فقد كانوا يضحكون عليها ويتغيبون عن الحضور كما يشاءون. حدثت ذات مرة فضيحة مرعبة في المدرسة؛ إذ وضع أحد الأولاد يده تحت ثوب فتاة، ولكني لم أكن أفهم الخطأ الذي ارتكبه الولد في ذلك الوقت، ونجحت الأم هاوليت في التكتم على الأمر.
وعندما كنت تفعل شيئا سيئا، كانت تقول: «سوف أخبر والدك.» ولكنها نادرا جدا ما كانت تخبر الآباء بالفعل. وكنا أذكياء بما يكفي لمعرفة أنها لا تجرؤ على فعل ذلك كثيرا، وحتى عندما كانت تضربنا بالعصا، كان كبر سنها وعدم لياقتها يجعلان من السهل علينا تفادي الضربات.
كان جو في الثامنة من عمره فقط عندما انضم إلى مجموعة مشاكسة من الفتيان، الذين أطلقوا على أنفسهم اسم اليد السوداء. كان قائدهم سيد لوفجروف، الابن الأصغر للسروجي، الذي كان في الثالثة عشرة من عمره تقريبا، وكان ثمة ولدان آخران من أبناء أصحاب المتاجر، وولد يعمل في مصنع الجعة، ومزارعان كانا في بعض الأوقات يتهربان من العمل لمقابلة المجموعة لبضع ساعات. كان المزارعان ضخمي البنية، وكانا يدخلان على المجموعة بقوة وعلى نحو مفاجئ مرتديين بنطالين قصيرين مصنوعين من قماش قطني مضلع، وكانا يتحدثان بلكنة محلية متدنية، وكان بقية الأولاد في المجموعة يعدونهما أقل شأنا منهم، ولكنهم كانوا يتساهلون معهما؛ لأنهما يعلمان عن الحيوانات الكثير مما لا يعلمه الآخرون، حتى إن أحدهما، وكانت كنيته جينجر، كان يصطاد الأرانب بيديه في بعض الأحيان؛ فكان إذا رأى أرنبا على العشب، ينقض عليه كنسر باسطا جناحيه. كان ثمة فارق اجتماعي كبير بين أبناء أصحاب المتاجر وأبناء العمال والمزارعين، ولكن الفتيين المحليين لم يكونا عادة يوليان اهتماما كثيرا للأمر حتى بلغا السادسة عشرة تقريبا. وكان للمجموعة كلمة سر و«اختبار» كان يتضمن جرح أحد الأصابع وتناول دودة أرض، وكانوا يتفاخرون بأنهم عصابة مرعبة. بالتأكيد تمكنوا من تحويل أنفسهم إلى أشخاص مؤذية؛ فقد كانوا يكسرون النوافذ، ويطاردون الأبقار، ويخلعون مقارع الأبواب، ويسرقون كما كبيرا من الفاكهة. في بعض الأحيان في الشتاء، كانوا يجلبون بعض حيوانات ابن مقرض ويذهبون لاصطياد الجرذان عندما يسمح لهم المزارعون بذلك. وكانت لديهم جميعا المراجم والنبال، وكانوا دائما يدخرون المال لشراء مسدس صغير، الذي كان بخمس شلنات في تلك الأيام؛ ولكن مدخراتهم لم تزد قط عن ثلاثة بنسات. أما في الصيف، فقد اعتادوا الذهاب لصيد السمك وسرقة بيض أعشاش الطيور. عندما كان جو في مدرسة السيدة هاوليت، كان يتغيب عن المدرسة مرة في الأسبوع على الأقل، وحتى عندما ذهب إلى مدرسة القواعد اللغوية، كان يتغيب مرة كل أسبوعين تقريبا. كان ثمة فتى في مدرسة القواعد اللغوية، وكان ابن بائع مزادات، يمكنه تقليد خط أي شخص، وكان إذا أعطيته بنسا يزور لك خطابا من أمك يقول إنك كنت مريضا بالأمس. بالطبع كنت فتى مشاغبا وجديرا بالانضمام إلى مجموعة اليد السوداء، ولكن جو كان دائما يمنعني، ويقول إنهم لا يريدون معهم أي أطفال لعينة.
وكان ما يروق لي فيما يفعلون حقا هو صيد السمك. في عمر الثامنة، لم أكن قد صدت السمك بعد إلا بشبكة اشتريتها ببنس واحد يمكنك في بعض الأحيان أن تصطاد بها سمك أبي شوكة. كانت أمي دائمة القلق من تركنا نذهب إلى أي مكان بجوار الماء، وقد «حرمت» صيد السمك كعادة الآباء في ذلك الوقت في «تحريم» كل شيء تقريبا، ولم أكن في ذلك الحين قد فهمت أن البالغين لا يرون إلا مواضع أقدامهم. ولكن فكرة صيد السمك كانت تسحرني وتملؤني بالإثارة، وفي كثير من الأحيان كنت أذهب إلى البركة عند الطاحونة وألقي نظرة على أسماك الشبوط الصغيرة وهي تتشمس على سطح البركة، وفي أحيان أخرى تحت شجرة الصفصاف في الركن، كنت أرى سمك الشبوط الكبير الأشبه بالألماس، الذي كان يبدو لي ضخما - إذ كان طوله ست بوصات على ما أظن - وهو يقفز فجأة إلى السطح ليلتهم اليرقات بسرعة ثم يغطس في الماء مرة أخرى. كنت أقضي ساعات ملصقا أنفي بنافذة متجر والاس في هاي إستريت، حيث تباع عدد صيد السمك والبنادق والدراجات. واعتدت الاستلقاء في السرير مستيقظا في الصباح في الصيف أفكر في الحكايات التي أخبرني بها جو عن صيد السمك، وكيف يمزج معجون الخبر، وكيف تهتز فلينة الصنارة وتغطس، وكيف تشعر بتقوس القصبة وبسحب السمكة للخيط. أتعجب من ذلك الإشعاع السحري الذي تلقي به الأسماك وصيدها في أعين الأطفال. يشعر بعض الأطفال بالشيء نفسه تجاه البنادق والرماية، وبعضهم الآخر يشعرون به تجاه الدراجات النارية أو الطيارات أو الخيول. إنه ليس بالشيء الذي يمكنك شرحه أو تبريره؛ إنه سحر بحت. في صباح أحد الأيام - في شهر يونيو ولا بد أنني كنت في الثامنة من عمري - علمت أن جو كان ينوي التغيب عن المدرسة والذهاب لصيد السمك، وقررت أن أتبعه. ولكن بطريقة ما خمن جو ما كنت أفكر فيه، وأخذ يهاجمني ونحن نرتدي ملابسنا قائلا: «حسنا أيها الصغير جورج! لا تظن أنك ستذهب معي للقاء مجموعة أصدقائي اليوم، بل سترجع إلى المنزل.» «لا، أنا لا أظن شيئا. أنا لا أفكر في الأمر.» «بل تفكر! تفكر في الذهاب للقاء المجموعة.» «لا، لا أفكر !» «بل تفكر!» «لا، لا أفكر!» «بل تفكر! ولكنك سترجع إلى المنزل. نحن لا نريد أي أطفال لعينة معنا.»
كان جو قد تعلم لتوه كلمة «لعين»، وكان دائم الاستخدام لها. وقد سمعه أبي مصادفة مرة وهو يقولها، وأقسم إنه سيقتله ضربا، ولكن كعادته لم يفعل شيئا. انطلق جو بعد الإفطار بدراجته ومعه حقيبته وقبعة المدرسة، وكان ذلك مبكرا عن موعده بخمس دقائق كما هي عادته عندما كان ينوي التغيب عن المدرسة؛ وعندما جاء موعد مغادرتي المنزل للذهاب إلى مدرسة الأم هاوليت، تسللت واختبأت في الزقاق خلف الحقول. كنت أعلم أن المجموعة ذاهبة إلى البركة التي عند الطاحونة، وكنت أنوي أن أتبعهم حتى لو قتلوني لفعل ذلك. كنت أعلم أنهم ربما يضربونني وأنني قد لا أتمكن من الرجوع إلى المنزل على الغداء، ومن ثم ستعلم أمي أنني قد تغيبت عن المدرسة وسأضرب مرة أخرى، ولكني لم أكترث لأي من ذلك؛ فقد كنت أتطلع بشدة لصيد السمك مع المجموعة. وكنت ماكرا أيضا. انتظرت حتى ابتعد جو قليلا بدراجته وأخذ الطريق إلى الطاحونة، ثم ذهبت إلى الزقاق ولففت حول المروج في الجانب البعيد للسياج، وذلك حتى أقترب من البركة قبل أن تراني المجموعة. كان صباحا رائعا من صباحات شهر يونيو. وكان عشب الحوذان بزهره الأصفر يصل إلى ركبتي، وكانت ثمة نسمة من الرياح تحرك قمم أشجار الدردار، وكانت أوراق الأشجار كسحب خضراء ناعمة وغالية كالحرير. كانت الساعة التاسعة صباحا، وكنت في الثامنة من عمري، وكل شيء حولي كان يدل على بداية فصل الصيف: السياجات المتشابكة الضخمة حيث الورود البرية لا تزال مزهرة، والقليل من السحب البيضاء الناعمة المتحركة فوق الرءوس، والتلال المنخفضة على مبعدة، والكتل الزرقاء المعتمة للغابة حول أبر بينفيلد. ولكن لم يكن أي من ذلك يعنيني؛ فكل ما كنت أفكر فيه هو البركة الخضراء وأسماك الشبوط والمجموعة ومعهم الخطافات وخيوط الصيد وطعم معجون الخبز. كانوا كما لو أنهم في الجنة وكان علي الانضمام إليهم. سرعان ما تمكنت من التسلسل إليهم، وقد كانوا أربعة: جو وسيد لوفجروف وصبي مصنع الجعة وأحد ابني أصحاب المتاجر، أظن أن اسمه كان هاري بارنز.
استدار جو ورآني؛ فقال: «يا إلهي! إنه الصبي.» وجاء لي كقط ذكر مستعد للشجار، وقال: «حسنا، ها أنت ذا! ماذا قلت لك؟ ارجع إلى المنزل بأقصى سرعة.»
كنت أنا وجو نميل إلى التحدث بلهجة الطبقة العاملة عندما نكون غاضبين. تراجعت من أمامه.
अज्ञात पृष्ठ
وقلت: «لن أرجع إلى المنزل.» «بل ستفعل.»
قال سيد: «اقرص أذنه يا جو؛ فنحن لا نريد أي أطفال معنا.»
قال جو: «هل ستذهب إلى المنزل؟» «لا.» «اذهب إلى المنزل على الفور يا ولد! اذهب إلى المنزل على الفور.»
ثم أخذ يهاجمني، وفي اللحظة التالية كان يطاردني ويمسك بي بين الحين والآخر، ولكني لم أبتعد عن البركة وجريت في دوائر. ولكنه سرعان ما أمسك بي وأطاح بي أرضا، ثم جثا على عضدي وأخذ يلوي أذني، وهو ما كان عقابه المفضل لي الذي لم أكن أتحمله. أخذت أنوح في ذلك الوقت، ولكني لم أستسلم وأعده بالذهاب إلى المنزل؛ فقد كنت أريد البقاء وصيد السمك مع المجموعة. وفجأة، وقف الباقون في صفي وطلبوا من جو النزول عن صدري والسماح لي بالبقاء إن أردت. ومن ثم بقيت في النهاية.
كان معهم خطافات وخيوط صيد وفلينات وقليل من معجون الخبز في خرقة، وصنع كل منا لنفسه عصا من أفرع شجرة الصفصاف التي كانت في زاوية البركة. وكانت المزرعة على بعد مائتي ياردة فقط تقريبا، وكان علينا أن نختبئ جيدا لأن العجوز بروير كان يغضبه بشدة صيد السمك. لم يكن الأمر في الواقع يعنيه في شيء، فلم يكن يستخدم البركة إلا في إمداد ماشيته بالماء، ولكنه كان يكره الأولاد. كان الباقون لا يزالون يشعرون بالغيرة مني، وظلوا يطلبون مني أن أتنحى جانبا ويخبرونني بأنني ما أنا إلا طفل، وأنني لا أعرف شيئا عن الصيد. كما قالوا إنني أتسبب في جلبة ترعب الأسماك فتفر هاربة، على الرغم من أن جلبتي كانت أضعف بكثير من الجلبة التي كان يحدثها أي منهم. وفي النهاية، لم يسمحوا لي بالجلوس بجوارهم وأرسلوني إلى جانب آخر من البركة، حيث كان الماء ضحلا أكثر ولم يكن ثمة الكثير من الظل، وقالوا إن طفلا مثلي بالتأكيد سيظل يرش الماء ويرعب الأسماك فتفر هاربة. كانت رقعة رديئة من البركة حيث لا تأتي أي أسماك عادة. كنت أعلم ذلك، وبدا أنني علمت بشيء من الفطرة أماكن وجود الأسماك. ومع ذلك، كنت أصطاد في النهاية، إذ كنت أجلس على الضفة العشبية وقصبة الصيد في يدي، والذباب يطن من حولي، ورائحة النعناع البري النفاذة تكاد تفقدك الوعي، وكنت أشاهد الفلينة الحمراء تطفو على المياه الخضراء، وكنت فرحا بشدة على الرغم من أن آثار دموعي كانت لا تزال مختلطة بالأتربة وتغطي كامل وجهي.
الرب وحده يعلم كم من الوقت جلسنا في ذلك المكان. وكان الصباح يطول أكثر فأكثر، وتزداد حرارة الشمس على نحو متزايد، ولم يكن أحد منا قد اصطاد سمكة. كان يوما هادئا وحارا وصافيا ما يمكن من الصيد. طفت الفلينات فوق الماء دونما اهتزاز. وكان يمكنك أن ترى أعماق البركة كما لو كنت تنظر عبر زجاج داكن الخضرة. وفي منتصف البركة، كان يمكنك رؤية الأسماك تعوم أسفل السطح مباشرة وتتشمس، وفي بعض الأحيان في العشب المائي بالقرب من الجانب كان يأتي سمندل زاحفا لأعلى ويستقر هناك بأصابعه على العشب وأنفه خارج بعض الشيء من الماء. ولكن الأسماك لم تكن تمسك بالطعم. ظل الآخرون يصرخون بأنهم قد اصطادوا شيئا، ولكن ذلك لم يحدث قط. وامتد وقت جلوسنا أكثر فأكثر وازدادت حرارة الجو، وكاد الذباب يأكلني حيا، وكانت رائحة النعناع البري أسفل الضفة كرائحة متجر حلوى الأم ويلر. واشتد بي الجوع، وما زاد الأمر سوءا أنني لم أكن أعلم على وجه التحديد من أين سيأتيني غدائي، ولكني جلست ساكنا كالفأر ولم أصرف عيني عن الفلينة. أعطاني الآخرون بعضا من الطعم بحجم البلية تقريبا، وأخبروني أنه كاف لي، ولكني لوقت طويل لم أتمكن حتى من وضعه في خطافي؛ ففي كل مرة كنت أسحب فيها الخيط كانوا يسبونني لإحداثي ضجة تخيف السمك على بعد خمسة أميال.
أظن أننا قد مكثنا نحو ساعتين قبل أن تهتز فلينة صنارتي فجأة. وكنت أعلم أنني حصلت على سمكة. لا بد أنها سمكة كانت تمر بالصدفة ورأت طعمي. لا شك في حركة الفلينة عندما تأكل السمكة الطعم؛ فهي تختلف كثيرا عن حركتها عندما تشد الخيط من غير قصد. في اللحظة التالية تمايلت تمايلا حادا وكادت تغطس في الماء. لم أستطع تمالك نفسي أكثر من ذلك، فصرخت على الآخرين قائلا: «لقد اصطدت سمكة!»
صاح سيد لوفجروف على الفور: «تبا!»
ولكن في اللحظة التالية لم يكن ثمة شك في الأمر؛ فقد غطست الفلينة باستقامة أسفل الماء، وكنت ما زلت أستطيع رؤيتها تحت الماء، بلونها الأحمر المعتم، وشعرت بضغط القصبة في يدي. يا إلهي، يا له من شعور رائع! اهتز الخيط واشتد وبه سمكة في طرفه! رأى الآخرون قصبتي تتقوس، وفي اللحظة التالية ألقوا جميعا بقصباتهم واندفعوا ملتفين حولي. سحبت الصنارة سحبة كبيرة، وخرجت السمكة - سمكة فضية اللون كبيرة ورائعة - محلقة في الهواء. وفي هذه اللحظة، صحنا جميعا صيحة خوف. انزلقت السمكة من الخطاف وسقطت على النعناع البري أسفل الضفة، ولكنها سقطت في الماء الضحل حيث لا يمكنها الرجوع للبركة، وربما لثانية ظلت مستلقية هناك على جانبها بلا حول ولا قوة. رمى جو بنفسه في الماء، ورشنا جميعا بالماء، وأمسك بها بكلتا يديه صائحا: «أمسكت بها!» ثم رمى بها على العشب وكنا جميعا جاثمين حولها. يا له من منظر ونحن نحدق فيها بإعجاب! كان الكائن المسكين المحتضر يرفرف لأعلى ولأسفل، وكانت حراشفه تتلألأ بكل ألوان الطيف. كانت سمكة شبوط ضخمة يبلغ طولها سبع بوصات على الأقل، ولا بد أن وزنها كان ربع رطل. عجبا لصريخنا عندما رأيناها! ولكن بعد ذلك ببرهة أحسسنا كما لو أن ظلا قد سقط علينا، فرفعنا رءوسنا لنرى، وقد كان العجوز بروير يقف فوقنا بقبعته اللبادية المستديرة الطويلة - وهي واحدة من تلك القبعات التي اعتاد الناس ارتداءها والتي كانت بين القبعة العالية والقبعة المستديرة - ورباطي ساقيه المصنوعين من جلد البقر وعصاه البندقية اللون السميكة في يديه.
انكمشنا مرتعدين فجأة كما تفعل طيور الحجل عندما يحوم صقر فوق رءوسها. نظر إلينا واحدا تلو الآخر، وكان لديه فم عجوز كريه بلا أسنان، وكان يبدو منذ أن حلق لحية ذقنه كطائر كسار البندق.
अज्ञात पृष्ठ
قال: «ماذا تفعلون هنا أيها الأولاد؟»
لم يكن ثمة الكثير من الشك حول ما كنا نفعله. لم يجبه أحد.
فزأر فجأة: «سأعلمكم كيف تصطادون في بركتي!» ثم انقض علينا ضاربا إيانا في كل اتجاه.
تفرقت مجموعة اليد السوداء وهربت. تركنا كل القصبات خلفنا وكذلك السمكة. وطاردنا العجوز بروير عبر المروج، وكانت ساقاه متيبستين ولم يستطع الحركة بسرعة، ولكنه كان قد ضربنا ضربا عنيفا قبل أن نغيب عن ناظره. تركناه في منتصف الحقل وهو يصرخ فينا بأنه يعلم أسماءنا جميعا وسيخبر آباءنا. كنت في الخلف وتلقيت معظم الضربات؛ فظهرت علي بعض آثار الضرب الحمراء الكريهة في سمانتي ساقي عندما وصلنا إلى الجانب الآخر من السياج.
قضيت ما تبقى من اليوم مع المجموعة. ولم يكونوا قد حسموا أمرهم بشأن ما إذا كنت قد أصبحت عضوا بعد، ولكنهم كانوا يعاملونني جيدا في ذلك الوقت. كان على صبي مصنع الجعة العودة إلى العمل، حيث كان متغيبا عنه في الصباح بحجة كاذبة أو أخرى. أما بقيتنا، فقد ذهبنا للسير طويلا بتسكع وتعال، في ذلك النوع من جولات السير التي يذهب فيها الأولاد عندما يكونون بعيدا عن المنزل ليوم كامل، وخاصة عندما يتغيبون دون إذن. كانت هذه أول جولة سير حقيقية خاصة بالأولاد، وهي مختلفة اختلافا كبيرا عن جولات السير التي كنت أذهب فيها أنا وأخي مع كيتي سيمونز. تناولنا الطعام في أحد خنادق المياه الجافة في طرف البلدة، الذي كان مليئا بالعلب المعدنية الصدئة ونبات الشمر البري. أعطاني الآخرون بعضا من طعامهم، وكان مع سيد لوفجروف بنس، فاشترى أحدهم به مشروب بيني مونيستير الذي تقاسمناه معا.
كان الطقس شديد الحرارة، وكانت رائحة الشمر نفاذة للغاية، والغازات الموجودة في مشروب بيني مونيستير جعلتنا نتجشأ. بعد ذلك قمنا للتجول على الطريق الأبيض المغبر إلى أبر بينفيلد؛ كانت تلك هي المرة الأولى التي أسلك فيها ذلك الطريق، على ما أعتقد، وإلى غابة أشجار الزان المفروشة بأوراق الأشجار الميتة والجذوع الناعمة الضخمة التي تصل إلى السماء فتبدو الطيور على الفروع العلوية متناهية الصغر كالنقاط. كان يمكنك الذهاب إلى أي مكان تريده في الغابة في تلك الأيام. وكان منزل بينفيلد مغلقا، ولم يعد الناس به يربون طيور التدرج، وكان أقصى ما يمكنك أن تراه هناك هو سائق عربة يحمل بعض الأخشاب. كانت ثمة شجرة مقطوعة بالمنشار، وبدت حلقات جذعها كلوح تصويب، وقد صوبنا عليها بالحجارة. ثم صوب بعضنا على الطيور بالمراجم، وأقسم سيد لوفجروف إنه أصاب شرورا، وإنه قد ألصقه بشوكة في الشجرة، ولكن جو قال إنه يكذب، وتجادلا وكادا أن يتشاجرا. ثم نزلنا إلى تجويف طباشيري مليء بطبقات من أوراق الشجر الميتة، وأخذنا نصرخ لنسمع صدى صوتنا. صرخ واحد منا بكلمة بذيئة، فصرخنا جميعا بكل الكلمات البذيئة التي نعرفها، وسخروا مني لأنني لم أكن أعرف سوى ثلاث فقط. قال سيد لوفجروف إنه يعلم كيف يولد الأطفال، وإن الأمر مشابه تماما لما يحدث لدى الأرانب باستثناء أن الطفل يخرج من سرة المرأة. وأخذ هاري بارنز يحفر كلمته على جذع شجرة، ولكنه سئم من الأمر بعد أول حرفين. ثم درنا مقتربين من كوخ في منزل بينفيلد. قيل إنه في مكان ما في هذه الأنحاء كانت ثمة بركة بها أسماك ضخمة، ولكن لم يجرؤ أحد قط على الدخول لأن العجوز هودجز، ساكن الكوخ الذي كان بمنزلة الحارس، كان «يكره» الأولاد. كان يحرث حديقة خضراواته بالقرب من الكوخ عندما مررنا بالمكان. خاطبناه بوقاحة من وراء السور حتى طاردنا وأبعدنا، ثم نزلنا إلى شارع وولتن وخاطبنا سائقي العربات بوقاحة كذلك مع الاستمرار بالسير في الجانب الآخر من السياج حتى لا ينالونا بسياطهم. وبجوار شارع وولتن، كان ثمة مكان كان بالماضي مقلع حجارة ثم مكبا للقمامة، ثم في النهاية غمرته شجيرات توت العليق الأسود. وكانت به أكوام ضخمة من العلب المعدنية القديمة الصدئة، وإطارات الدراجات، والقدور ذات الثقوب، والزجاجات المحطمة، والأعشاب التي تنمو في كل مكان حول كل ذلك، وقد قضينا ما يربو على الساعة واتسخنا من رءوسنا إلى أخمص أقدامنا ونحن نبحث عن أعمدة الأسوار الحديدية؛ لأن هاري بارنز أقسم إن الحداد في لوير بينفيلد سيدفع ستة بنسات لمن يجيء له بقنطار من الحديد الخردة. ثم وجد جو عشا على إحدى شجيرات توت العليق الأسود لطائر سمنة ميت وكان به صغاره غير مكتملي الريش. وبعد مفاوضات طويلة حول ما نفعل بها، أخرجناها من العش وألقيناها بالحجارة، ثم دهسناها بأقدامنا في النهاية. وقد كان عددها أربعا، ودهس كل منا واحدا. كان قد اقترب موعد الشاي، وكنا نعلم أن العجوز بروير سيفي بكلمته وأن آباءنا في انتظارنا ليوسعونا ضربا، ولكننا قد اعتصرنا الجوع فلم نعد نستطيع التغيب عن المنزل أكثر من ذلك. عدنا أدراجنا أخيرا إلى المنزل، مع مشاجرة أخيرة في الطريق؛ حيث رأينا جرذا ونحن نمر على المزارع وطاردناه بالعصي، وأتى خلفنا العجوز بينيت مدير محطة السكك الحديدية - الذي يعمل في مزرعته كل ليلة وكان شديد الفخر بها - وكان في غضب شديد؛ لأننا خضنا بأرجلنا في الأرض التي كان يزرعها بصلا.
مشيت عشرة أميال ولم أتعب، وتبعت المجموعة طوال النهار وحاولت فعل كل شيء يفعلونه، وكانوا ينادونني ب «الطفل» ويوبخونني كلما سنحت الفرصة، ولكنني تمكنت بشكل أو بآخر من أن أفعل ما أردت. كان في داخلي شعور رائع، شعور لا يمكنك معرفة شيء عنه إلا إذا جربته، ولكن إذا كنت رجلا، فستشعر به عاجلا أم آجلا. علمت أنني لم أعد طفلا وأنني أصبحت صبيا. وإنه لمن الرائع أن يغدو المرء صبيا، حيث التجول في أماكن لا يمكن للكبار الإمساك بك فيها، ومطاردة الجرذان، وقتل الطيور، ورمي الحجارة، ومخاطبة سائقي العربات بوقاحة، والصياح بكلمات بذيئة. إنه شعور بالقوة والتفوق، وبمعرفة كل شيء ، والخوف من لا شيء، وكل ذلك مرتبط ارتباطا وثيقا بكسر القواعد وقتل الكائنات الحية. الطرق المغبرة البيضاء، والشعور بالحرارة والعرق على الملابس، ورائحة الشمر والنعناع البري، والكلمات البذيئة، والرائحة الكريهة لمكب القمامة، ومذاق شراب الليمون الفوار الذي يجعل المرء يتجشأ، ودهس الطيور الصغيرة، والشعور بالسمكة وهي تشد الخيط؛ كل ذلك كان جزءا من هذا الشعور. حمدا لله أنني رجل؛ فالنساء لا يشعرن بذلك الشعور.
بالطبع طاف العجوز بروير على الجميع وأخبرهم بأمرنا. بدا أبي شديد العبوس، وأخذ حزاما من المتجر، وقال إنه «سيقتل جو ضربا»، ولكن جو قاوم وصاح ورفس، وفي النهاية لم يتمكن أبي من أن ينال منه إلا ببعض الضربات. ومع ذلك، ضربه مدير المدرسة بالعصا في اليوم التالي. حاولت المقاومة أيضا، ولكني كنت صغيرا لدرجة مكنت أمي من أن تضعني أسفل ركبتها وضربتني بالحزام. ومن ثم أكون بذلك قد ضربت ثلاث مرات في ذلك اليوم؛ مرة من جو، ومرة من العجوز بروير، ومرة من أمي. قررت المجموعة في اليوم التالي أنني لم أكن قد أصبحت عضوا بالفعل فيها بعد، وأنه يجب علي أن أخوض «الاختبار» (تلك الكلمة التي عرفوها من قصص الهنود الحمر). كانوا صارمين في إصرارهم على أن آخذ قضمة من الدودة قبل أن أبتلعها. علاوة على ذلك، ولأنني كنت الأصغر ولأنهم كانوا يشعرون بالغيرة مني لأنني الوحيد الذي تمكن من صيد شيء؛ فقد قالوا جميعا بعد ذلك إن السمكة التي اصطدتها لم تكن كبيرة. عادة عندما يتحدث الناس عن الأسماك، تبدو أكبر في كل مرة؛ ولكن سمكتي كانت تبدو أصغر فأصغر، حتى سمعتهم يقولون إنهم يخالونها لا تزيد حجما عن سمكة المنوة.
ولكن الأمر لم يعنني؛ فقد ذهبت للصيد، ورأيت الفلينة تغطس في الماء وشعرت بالسمكة تشد الخيط، ومهما قالوا من أكاذيب فلم يتمكنوا من أن يسلبوني ذلك الشعور.
4
अज्ञात पृष्ठ
في السنوات السبع التالية، منذ كنت في الثامنة وحتى أصبحت في الخامسة عشرة، فإن الشيء الأساسي الذي أتذكره هو صيد السمك.
لا أتذكر أنني كنت أفعل شيئا آخر. الأمر وما فيه هو أنك عندما ترجع بذاكرتك لفترة طويلة من الزمن، تبدو أشياء بعينها وكأنها كانت تأخذ الحيز الأكبر من الوقت حتى تغطي على كل شيء آخر. تركت مدرسة الأم هاوليت وذهبت إلى مدرسة القواعد اللغوية بحقيبة جلدية وقبعة سوداء ذات أشرطة صفراء؛ وحصلت على دراجتي الأولى، كما حصلت بعد ذلك بوقت طويل على بنطالي الطويل الأول. كانت دراجتي الأولى بترس ثابت؛ لأن الدراجات ذات الترس الحر كانت باهظة الثمن في ذلك الحين. وعندما كنت تقودها على طريق منحدر، كنت ترفع قدميك لأعلى على المسند الأمامي وتترك الدواستين تدوران مصدرتين أزيزا. كانت هذه من المعالم المميزة لأوائل القرن العشرين؛ ولد ينحدر بدراجته على الطريق، ورأسه للوراء، وقدماه في الهواء. ذهبت إلى مدرسة القواعد اللغوية في خوف وارتجاف من الحكايات المرعبة التي أخبرني بها جو حول المدير العجوز ذي اللحية الكبيرة (كان اسمه ويكسي)، الذي كان بطبيعة الحال رجلا قصيرا ومرعبا بوجه كوجه الذئب، وكان يضع في آخر حجرة الدراسة الكبيرة صندوقا زجاجيا به عصي والتي كان يخرج إحداها في بعض الأحيان ويلوح بها في الهواء بطريقة مرعبة. ولكن المفاجئ في الأمر أنني أبليت بلاء حسنا في المدرسة؛ فلم أتخيل قط أنني سأكون أفضل في الدراسة من جو، الذي كان أكبر مني بسنتين وكان يتنمر علي كلما فتح فاه. في الواقع، كان جو شديد الغباء، وكان يضرب بالعصا مرة تقريبا كل أسبوع، وكان تقريبا ترتيبه متأخرا على مستوى المدرسة حتى بلغ السادسة عشرة من عمره. في الفصل الدراسي الثاني، حصلت على جائزة في الحساب وأخرى في مادة غريبة كنا نتعامل فيها غالبا مع الزهور المضغوطة وكانوا يسمونها مادة العلوم، وعندما كنت في الرابعة عشرة من عمري كان ويكسي يتحدث عن المنح الدراسية وجامعة ريدينج. كان أبي، الذي كان لديه طموح لجو ولي في تلك الأيام، مهتما بشدة بضرورة ذهابي إلى «الجامعة». وكانت ثمة فكرة تحوم في الأرجاء أنني سأصبح معلما في مدرسة، وأن جو سيصبح بائع مزادات.
ولكنني ليست لدي أي ذكريات كثيرة مرتبطة بالمدرسة. وعندما أختلط برجال من الطبقات العليا، كما حدث خلال الحرب، أفاجأ بحقيقة أنهم لم يتعافوا قط من آثار تلك التربية المرعبة التي يتعرض لها الأولاد في المدارس العامة، التي إما أن تسطح عقولهم ليصبحوا أنصاف أذكياء أو يقضوا بقية حياتهم يقاومونها. لكن الأمر لم يكن كذلك مع الأولاد في طبقتي، طبقة أبناء أصحاب المتاجر والمزارعين؛ فقد كنت تذهب إلى مدرسة القواعد اللغوية وتظل فيها حتى تبلغ السادسة عشرة، وذلك فقط لتبين أنك لم تكن من أبناء الطبقة العاملة. ولكن المدرسة كانت في الأساس مكانا تريد الهروب منه، فلم يكن لديك أي شعور بالولاء، ولا ذلك الشعور الأبله بالانتماء إلى الحجارة الرمادية القديمة (وقد كانت قديمة بالفعل بالتأكيد، فقد أسس المدرسة الكاردينال وولزي)، ولم تكن ثمة رابطة عنق للطلاب السابقين ولا حتى أغنية للمدرسة. وكان يمكنك فعل ما تشاء في الأيام التي كانوا يعطون لنا فيها نصف يوم دراسي؛ لأن الألعاب لم تكن إلزامية، وعادة ما كنا لا نمارسها. كنا نلعب كرة القدم مرتدين الحمالات؛ وعلى الرغم من أنه كان يعد من المناسب لعب الكريكيت بالحزام، كنت ترتدي قميصك وبنطالك العاديين. اللعبة الوحيدة التي كنت أهتم بها كانت كريكيت الجذوع، التي كنا نلعبها في الفناء الحصوي في وقت الراحة بمضرب مصنوع من خشب صناديق التعبئة وكرة من مواد متعددة.
ولكنني أتذكر رائحة حجرة الدراسة الكبيرة، حيث رائحة الحبر والغبار والأحذية، وكتلة الحجارة في الفناء التي كانت درجا للصعود وكانت تستخدم لسن السكاكين، ومتجر الخباز الصغير في الجهة الأخرى حيث يباع نوع من الكعك التشيلسي، الذي كان بحجم ضعف حجم الكعك التشيلسي الذي تراه في أيامنا هذه، وكان يسمى لاردي باستيرز، وكان بنصف بنس. فعلت كل ما تفعله في المدرسة. حفرت اسمي على طاولة الدرس وضربت على ذلك، كنت تضرب دائما على ذلك إذا ما شوهدت، ولكن كان من المتعارف عليه بين الأولاد أنه كان ينبغي عليك حفر اسمك. كما لطخت أصابعي بالحبر، وقضمت أظفاري ، وصنعت أسهما من الورق، ولعبت لعبة الكونكرز، ونشرت وسط زملائي نكاتا بذيئة، وتعلمت ممارسة العادة السرية، وخاطبت العجوز بلورز معلم اللغة الإنجليزية بوقاحة، وتنمرت بقسوة على ويلي سيميون القصير، ابن الحانوتي الذي كان معتوها ويصدق كل شيء تخبره به. وكانت خدعتنا المفضلة إرساله إلى المتاجر لشراء أشياء لا وجود لها، وقد انطلت على ويلي المسكين كل الدعابات القديمة؛ فكان المغفل الذي ذهب لشراء طوابع بريد ببنس، والمطرقة المطاطية، ومفك الأعسر، وقدر الطلاء المخطط. وكنا نمارس الألعاب الرياضية في أحد الأيام فيما بعد الظهيرة، ووضعناه في حوض، وطلبنا منه أن يرفع نفسه لأعلى بالمقابض. انتهى الحال به في إحدى المصحات، يا له من مسكين! ولكننا لم نكن نستمتع بالحياة إلا في أيام الإجازات.
ثمة أشياء جيدة كان بإمكاننا أن نفعلها في تلك الأيام. في الشتاء، اعتدنا على استعارة اثنين من حيوان ابن مقرض - لم تكن أمي تسمح قط لي ولجو بالاحتفاظ بهما في المنزل، وقد كانت تقول إنها «أشياء ذات رائحة كريهة» - ونتجول حول المزارع ونطلب من أصحابها السماح لنا بصيد بعض الجرذان. كانوا يسمحون لنا في بعض الأحيان، ولكن في أحيان أخرى كانوا يطردوننا، ويقولون إننا أكثر إزعاجا من الجرذان. وفي أواخر الشتاء، كنا نتبع آلة درس القمح ونساعد في قتل الجرذان في أثناء مهاجمتها لأكوام القمح. في أحد أيام الشتاء، لا بد أن ذلك كان في عام 1908، فاض نهر التيمز ثم تجمد حتى أضحى مناسبا للتزلج لأسابيع؛ وكسر هاري بارنز ترقوته على الجليد. وفي بداية الربيع، كنا نذهب لصيد السناجب باستخدام عصي غليظة، ثم بعدها للعبث بأعشاش الطيور. كان لدينا اعتقاد أن الطيور لا يمكنها العد، وأنه لا بأس إن تركنا لها بيضة واحدة، ولكننا كنا وحوشا صغيرة قاسية، وكنا في بعض الأحيان ندك العش وندوس على البيض أو صغار الطيور. كانت لدينا لعبة أخرى نلعبها عندما كانت الضفادع الصغيرة تخرج من بيضها؛ إذ كنا نمسكها وندس فوهة منفاخ الدراجة في مؤخراتها، فتنتفخ لأعلى حتى تنفجر. هكذا حال الأولاد ، لا أعلم لماذا. أما في الصيف، فكنا نركب الدراجات وندور حول بورفورد وير ونستحم فيها، حيث غرق وولي لوفجروف - قريب سيد - عام 1906 بعدما علق في الأعشاب في القاع، وعندما انتشلوا جثمانه بالخطاف وارتفع إلى السطح، كان وجهه شديد السواد.
ولكن صيد السمك كان أمتع الأشياء. ذهبنا عدة مرات إلى بركة العجوز بروير، واصطدنا سمك شبوط وتنش صغيرا، واصطدنا ذات مرة سمكة أنقليس كبيرة، كما اصطدنا في برك أبقار أخرى، والتي كنا نمشي إليها في يوم السبت بعد الظهيرة. ولكن بعد أن حصلنا على الدراجات، بدأنا في صيد السمك في نهر التيمز عند بورفورد وير. بدا الأمر أكثر نضوجا عن صيد السمك في برك الأبقار، حيث لم يكن هناك مزارعون يطردوننا، وكانت أسماك النهر كبيرة، ولكن على حد علمي لم يتمكن أحد من صيدها.
يا له من شعور غريب، ذلك الشعور الذي أكنه تجاه صيد السمك، الذي لا يزال لدي في الحقيقة. لا يمكنني أن أصف نفسي بالصياد؛ فلم أصطد في حياتي قط سمكة طولها قدمان، ومضت ثلاثون سنة الآن منذ آخر مرة أمسكت فيها قصبة الصيد بيدي. ولكنني عندما أعيد النظر في كل فترة صباي من عمر الثامنة إلى عمر الخامسة عشرة، أجد أن ذكرياتي تتمحور حول تلك الأيام التي كنا نذهب فيها للصيد. كل تفصيلة راسخة بوضوح في ذاكرتي. أتذكر كل يوم على حدة وكل سمكة على حدة، فليس ثمة بركة أبقار أو ماء راكد لا يمكنني تصوره إذا ما أغمضت عيني وفكرت في تلك الأيام. يمكنني تأليف كتاب عن فنيات الصيد. عندما كنا أطفالا، لم يكن لدينا الكثير من الأدوات؛ فقد كانت تتكلف الكثير ومعظم البنسات الثلاثة التي كنا نأخذها في الأسبوع (التي كانت مصروف الجيب المعتاد في تلك الأيام)، كانت تذهب على الحلوى وكعك اللاردي باستيرز.
كان الأطفال الصغار جدا يصطادون عادة بالدبابيس المثنية، التي كانت غير مسنونة بما يكفي لتتمكن من الصيد؛ ولكن كان بإمكانك صنع خطاف جيد جدا (على الرغم من أنه بالطبع لم يكن له شوكة) بثني إبرة على نيران شمعة باستخدام كماشة. يعرف صبية المزارع كيف يضفرون شعر الخيول حتى يصبح كالأحشاء، ويمكنك صيد سمكة صغيرة بضفيرة واحدة من شعر الخيل. في وقت لاحق، استخدمنا القصبات التي كنا نشتريها بشلنين وحتى البكرات التي لا يعتاد استخدامها في الصيد. يا إلهي! ترى كم ساعة قضيتها محدقا في نافذة متجر والاس؟! حتى البنادق عيار 410. والمسدسات الصغيرة لم تثر اهتمامي بقدر ما أثارته أدوات صيد السمك. وأتذكر نسخة كتالوج جاماج التي حصلت عليها من مكان ما - أظن أنه كان صندوق قمامة - ودرستها كما لو كانت الكتاب المقدس. ما زلت قادرا حتى الآن على سرد جميع تفاصيل بدائل الأحشاء والأسلاك وخطافات ليميريك ومضارب الصيد ومفكات الخطافات وبكرات نوتينجهام، وغيرها الكثير من الأدوات والفنيات.
ثم نأتي لأنواع الطعم التي كنا نستخدمها. كان في متجرنا دائما الكثير من دود الطحين، الذي كان جيدا ولكن ليس للغاية؛ فالنغف كان أفضل، وكان علينا التوسل للعجوز جرافيت الجزار ليعطينا إياه، واعتادت المجموعة استخدام القرعة أو لعبة حادي بادي ليقرروا من يذهب ويطلبها منه؛ لأن جرافيت لم يكن عادة يتقبل الأمر. كان شيطانا عجوزا ضخما خشن الوجه ذا صوت كنباح كلب الدرواس، وعندما ينبح - كما كان يفعل عادة عندما يتحدث للأولاد - كانت جميع السكاكين والأدوات المعدنية في مئزره الأزرق تهتز مجلجلة. كنت تذهب إليه بصفيحة دبس سكر فارغة، وتنتظر حتى لا يوجد لديه زبائن، ثم تقول بكل أدب: «إذا سمحت يا سيد جرافيت، ألديك أي نغف اليوم؟»
فيصيح عادة قائلا: «ماذا؟! نغف! نغف في متجري! لم أر شيئا كهذا منذ سنين. أتظن أن لدي نغفا في متجري؟»
अज्ञात पृष्ठ
كان لديه بالتأكيد، وكان في كل مكان. ولكنه كان يقتله بعصا في نهايتها قطعة من الجلد، يمكنه بها الوصول إلى مسافات بعيدة، ويدهسه بها حتى يصبح كالعجينة. كنت تخرج من عنده في بعض الأحيان خالي الوفاض، ولكن جرت العادة على أن يناديك بمجرد مغادرتك المتجر، ويقول: «أنت! اذهب إلى الفناء الخلفي وألق نظرة، فلربما تجد نغفة أو اثنتين إذا ما أمعنت النظر.»
وكنت عادة ما تجدها في مجموعات صغيرة في كل مكان. وكانت رائحة الفناء الخلفي لجرافيت كساحة قتال؛ فلم يكن يملك الجزارون ثلاجات في ذلك الوقت. يعيش النغف أطول إذا احتفظت بها في نشارة الخشب.
يرقات الدبابير جيدة كذلك، ولكن من الصعب جعلها تلتصق في الخطاف إلا لو حمصتها أولا. عندما كان يجد أحد عشا للدبابير، كنا نخرج في الليل ونسكب عليه زيت التربنتين ونسد الحفرة بالطين. وفي اليوم التالي تكون الدبابير كلها قد ماتت، ويمكنك الحفر وإخراجها من العش وأخذ يرقاتها. وذات مرة حدث خطأ في هذه العملية، حيث لم يقع الزيت في الحفرة أو شيء من هذا القبيل، وعندما فتحنا الحفرة خرجت كل الدبابير التي حبست طوال الليل دفعة واحدة وأخذت تطن. لم تكن لسعاتها على أجسامنا مؤلمة للغاية، ولكن كان من المؤسف أنه لم يكن أحد يقف بساعة توقيف؛ لأننا جرينا جميعا بأقصى سرعة. يكاد يكون الجندب أفضل طعم للأسماك، خاصة لسمك الشوب؛ إذ يمكنك أن تثبته في الخطاف دون أي مجهود، فقط تضرب به على سطح الماء جيئة وذهابا، أو كما يسمون تلك الحركة «الوثب على سطح الماء». ولكن لا يمكنك أبدا الحصول على أكثر من اثنين أو ثلاثة منه في المرة الواحدة. هناك كذلك ذباب القارورة الخضراء، الذي كان أيضا صعبا في اصطياده، وهو أفضل طعم لسمك الداس، خاصة في الأيام التي تكون فيها المياه هادئة. وكان عليك وضعه في الخطاف حيا كي يتلوى أمام الأسماك. يلتهم سمك الشوب الدبابير، ولكن وضع دبور حي في الخطاف كان يتطلب مهارة عالية.
يا لها من أعداد كبيرة من الأشياء التي كان بإمكاننا استخدامها كطعوم! هناك معجون الخبز الذي تصنعه بضغط الخبز الأبيض المبلل في خرقة، ومعجون الجبن ومعجون العسل ومعجون اليانسون. وهناك القمح المسلوق كذلك الذي لا بأس به في اصطياد سمك الروش. كما كانت الديدان الحمراء طعما جيدا كذلك لسمك القوبيون، وكنت تجدها في أكوام السماد الشديد القدم. وكان يمكنك كذلك أن تجد نوعا آخر من الديدان كان يسمى دود الأرض، وهو نوع من الديدان مخطط وذو رائحة تشبه رائحة حشرة أبي مقص، وكان طعما جيدا لسمك الفرخ. كانت كذلك ديدان الأرض العادية جيدة لسمك الفرخ، وكان عليك وضعها في أشنة للحفاظ عليها طازجة وحية، لكن إذا حاولت إبقاءها في الأرض فستموت. أيضا ذلك الذباب البني الذي تجده في روث البقر كان جيدا جدا لاصطياد سمك الروش. كان يمكنك أن تصطاد سمك الشوب بحبة كرز - أو هكذا كانوا يقولون - وقد رأيت سمكة روش اصطيدت بزبيبة مأخوذة من كعكة.
في تلك الأيام، من السادس عشر من شهر يونيو (عندما يبدأ موسم صيد الأسماك غير المنتمية لعائلة السلمون) وحتى منتصف الشتاء، لم تكن تراني عادة إلا وفي جيبي علبة صفيح بها ديدان أو نغف. خضت بعض المشاجرات مع أمي حول الأمر، ولكنها استسلمت في النهاية وخرج الصيد من قائمة المحرمات، حتى إن أبي أهداني قصبة صيد بقيمة شلنين في الكريسماس عام 1903. كان جو في الخامسة عشرة من عمره تقريبا عندما بدأ في مطاردة الفتيات، ومنذ ذلك الحين كان نادرا ما يذهب للصيد؛ إذ اعتبره لعبة أطفال. ولكن كان ثمة نحو ستة من الأولاد الآخرين الذين كانوا مهووسين بالصيد مثلي. يا إلهي! ما أجمل أيام الصيد هذه! أتذكر في الأيام الحارة التي تشتد فيها الرطوبة فيما بعد الظهيرة عندما كنت أمدد رجلي تحت طاولتي في حجرة الدراسة، وكان صوت العجوز بلورز يزعجنا بشرح الخبر وصيغ الشرط وصلة الموصول، ولم يكن حينها في ذهني إلا الماء الراكد بجوار بورفورد وير والبركة الخضراء أسفل شجر الصفصاف وسمك الداس الذي يعوم جيئة وذهابا. ثم أتذكر الاندفاع الرهيب على الدراجات بعد تناول الشاي إلى تشامفورد هيل وإلى أسفل النهر لقضاء ساعة في الصيد قبل الغروب. وأتذكر أيضا المساء في أيام الصيف الهادئة وحركة الماء الواهنة في البركة وحلقات المياه التي ترتفع فيها الأسماك، والذباب الصغير الذي يكاد يأكلك حيا، وقطعان سمك الداس التي تحتشد حول خطافك، ولكنها لا تقضم الطعم أبدا. وأتذكر أيضا ذلك النوع من الحماس المرتبط بمشاهدتك لظهور الأسماك السوداء التي تحتشد حولك وأنت تأمل وتصلي (أجل، كنت أصلي بالفعل) أن تغير إحدى الأسماك رأيها وتقضم طعمك قبل أن تظلم السماء بشدة. يأتي دائما حينها وقت عبارة «لنجلس خمس دقائق أكثر»، ثم «فقط خمس دقائق أكثر»؛ حتى تضطر في النهاية إلى السير بجوار دراجتك إلى البلدة لأن تاولر، الشرطي، كان يطوف في الأرجاء وقد يقبض عليك بتهمة القيادة بلا مصباح. أتذكر كذلك تلك الأوقات في إجازات الصيف حيث نذهب لقضاء اليوم بأكمله خارج المنزل ومعنا البيض المسلوق والخبز والزبد وزجاجة من عصير الليمون، ونمارس الصيد، ثم نسبح، ثم نمارس الصيد مرة أخرى، وأحيانا كنا نصطاد شيئا. وفي الليل كنت أرجع إلى المنزل بيدين متسختين، وأكون جائعا للغاية حتى إنني قد آكل ما تبقى من معجون الخبز الذي أعددته للصيد، مع ثلاث أو أربع سمكات داس ذات رائحة كريهة وملفوفة في منديلي. كانت أمي دائما ترفض طبخ السمك الذي أحضره لها؛ فلم تر قط أن أسماك النهر قابلة للأكل، باستثناء التروتة والسلمون، وكانت تقول عنها إنها «أشياء موحلة كريهة». أكثر الأسماك التي أتذكرها جيدا هي تلك التي لم أصطدها، وخاصة السمك الضخم الذي كنت تراه دائما عندما تذهب للسير بمحاذاة مسار جر القوارب بعد ظهيرة يوم الأحد ولا يكون معك قصبة صيد. لم يكن الناس يصطادون في أيام الأحد، حتى إن مجلس حماية نهر التيمز لم يكن يسمح به. وكان عليك في أيام الأحد أن تذهب فيما كان يسمى «نزهة هادئة» ببدلتك السوداء الثقيلة والياقة العريضة البيضاء التي تكاد تنشر رقبتك. وقد كان في يوم الأحد أن رأيت سمكة كراكي طولها ياردة كاملة نائمة في المياه الضحلة بالقرب من الضفة، وكدت أصيبها بحجر. وفي بعض الأحيان في البرك الخضراء على حافة القصب، قد ترى سمكة تروتة التيمز الضخمة تسبح أمامك. تصبح أحجام سمك التروتة ضخمة للغاية في نهر التيمز، ولكن غالبا ما يصعب اصطياده. ويقولون إن أيا من صيادي نهر التيمز الكبار، وهم هؤلاء الرجال كبار السن ذوو الأنوف الكبيرة الأطراف، الذين تراهم في كل مواسم العام متدثرين في معاطفهم وجالسين على الكراسي الصغيرة القابلة للطي ومعهم صناراتهم التي يبلغ طول الواحدة منها عشرين قدما، على استعداد أن يفرغ عاما كاملا من حياته لصيد سمكة تروتة من نهر التيمز. لا أجد ذلك غريبا؛ فأنا أتفهم موقفهم، وكنت أتفهم موقفهم أكثر حينها.
بالطبع كانت تحدث أشياء أخرى في حياتي. لقد كان يزيد طولي ثلاث بوصات في كل عام، وبدأت أرتدي البناطيل الطويلة، وفزت ببعض الجوائز في المدرسة، ودخلت فصولا استعدادا لطقس التأكيد الديني، ورويت نكاتا بذيئة، وبدأت أحب القراءة، وأصبحت مهووسا بالفئران البيضاء والنفش الشبكي وطوابع البريد. ولكنني دائما أتذكر صيد السمك. وأتذكر النهار في الصيف والمروج المنبسطة بجوار النهر، والتلال الزرقاء البعيدة، وشجر الصفصاف أعلى الماء الراكد، والبرك بالأسفل التي تبدو كزجاج شديد الخضرة. كما أتذكر المساء في الصيف والسمك الذي يشق المياه، وطيور السبد التي تحوم حول رأسك، ورائحة زهور المنثور والنبات المستخرج منه تبغ اللاذقية. لا تسئ فهم مقصدي مما أحكيه لك؛ فلست أحاول أن أعرض عليك أيا من تلك الأشعار عن أيام الطفولة؛ لأنني أعلم أن كل ذلك هراء. العجوز بورتيوس (صديقي المدرس المتقاعد، الذي سأحدثك عنه فيما بعد) رائع في نسج أشعار الطفولة، وهو في بعض الأحيان يقرأ علي بعضا منها من الكتب، ككتب ووردزوورث ولوسي جراي، حيث المروج والبساتين وكل تلك الأمور. وغني عن البيان أنه لم يكن لديه أطفال. إن الحقيقة هي أن الأطفال ليسوا شاعريين بأي شكل من الأشكال، فما هم إلا حيوانات صغيرة متوحشة، باستثناء أنه لا يوجد حيوان يملك ربع أنانيتهم. الأولاد لا يهتمون بالمروج والبساتين وما إلى ذلك، ولا ينظرون قط إلى المناظر الطبيعية، ولا يهتمون بالزهور، ولا يستطيعون التفريق بين أنواع النباتات ما لم تؤثر فيهم بشكل ما، كأن تكون طعاما جيدا بالنسبة لهم. إن قتل الكائنات هو أقرب ما ينزل منزلة الشعر لدى الأولاد. وعلى الرغم من ذلك، فإن لديهم في جميع الأوقات تلك الحيوية الغريبة، تلك القوة التي تجعلهم يرغبون في الأشياء التي تزهد فيها عندما تكبر، والشعور بأن الوقت يتمدد أكثر فأكثر أمام أعينهم، وأن أي شيء يفعلونه يمكن أن يستمروا في فعله للأبد.
كنت صبيا قبيحا بعض الشيء، وكان شعري سمني اللون، وكان يقص دائما قصيرا فيما عدا خصلة في الأمام. لا أحاول القول بأن طفولتي كانت مثالية، وعلى عكس كثير من الأشخاص، ليست لدي أي رغبة في الرجوع إلى أيام الصبا. أغلب الأشياء التي اعتدت الاهتمام بها أشعر تجاهها الآن بلا مبالاة شديدة، فلم يعد يعنيني إن لم أر كرة كريكيت مرة أخرى، ولن أعطيك ثلاثة بنسات للحصول على كم كبير من الحلوى، ولكن ما زال لدي، وكان لدي دائما، ذلك الميل الشديد تجاه صيد السمك. قد تعتقد أنه أمر تافه، بلا شك، لكنني في الواقع أتمنى لو أذهب للصيد الآن، حتى وأنا بهذا الجسم البدين وفي الخامسة والأربعين من عمري ولدي طفلان ومنزل في الضواحي. لماذا؟ لأنني إن جاز القول لدي حنين تجاه طفولتي، ولا أعني تجاه طفولتي بالتحديد، ولكن تجاه الثقافة التي نشأت فيها، والتي هي الآن على ما أعتقد على وشك أن تلفظ أنفاسها الأخيرة. وصيد السمك هو مثال حي بشكل أو بآخر على تلك الثقافة، فبمجرد أن تفكر في صيد السمك تفكر في أشياء لا تنتمي إلى العالم الحديث. إن فكرة الجلوس طوال النهار أسفل شجرة صفصاف بجوار بركة هادئة - وفرصة أن تجد بركة هادئة للجلوس بجوارها - في حد ذاتها تنتمي إلى وقت ما قبل الحرب وأجهزة الراديو والطائرات وهتلر. كان ثمة إحساس بالسكينة حتى في أسماء الأسماك الإنجليزية غير المنتمية إلى عائلة السلمون. الروش، والأرد، والداس، والأبيض، والبربيس، والأبراميس، والقوبيون، والكراكي، والشوب، والشبوط، والتنش. إنها أسماء لطيفة، ومن وضعوها لم يسمعوا قط عن البنادق الآلية، ولم يعيشوا في رعب من الطرد من أعمالهم، أو يقضوا وقتهم في تعاطي الأسبرين، أو الذهاب إلى السينما، أو التفكير في كيفية تجنب دخول معسكرات الاعتقال.
ترى هل يذهب أحد لصيد السمك في يومنا هذا؟ في أي مكان على مسافة مائة ميل من لندن لم تعد ثمة أسماك متبقية لصيدها. ولم تصمد إلا بضعة نوادي صيد كئيبة بمحاذاة ضفاف القنوات، بينما يذهب المليونيرات لصيد سمك التروتة في برك خاصة حول فنادق أسكتلندية، في نوع من اللعب الباذخ الذي يقوم على صيد أسماك داجن بذباب اصطناعي. ولكن من لا يزال يصطاد السمك في مجاري الطواحين أو الخنادق المائية حول الحصون أو برك الأبقار؟ وأين هي الأسماك الإنجليزية غير المنتمية إلى عائلة السلمون اليوم؟ عندما كنت طفلا، كانت الأسماك في كل بركة ومجرى مائي، ولكن اليوم جميع البرك جففت؛ وإن وجدت مجرى مائيا غير مسمم بكيماويات المصانع، تجده مليئا بالعلب المعدنية الصدئة وإطارات الدراجات النارية.
أفضل ذكرياتي عن الصيد هي عن الأسماك التي لم أصطدها قط. أعتقد أن هذا أمر شائع بالقدر الكافي.
عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري تقريبا، ساعد أبي بشكل ما العجوز هودجز حارس منزل بينفيلد، ولكنني نسيت ماذا فعل له؛ ربما أعطاه بعض الدواء لعلاج دواجنه من الديدان أو شيئا من هذا القبيل. كان هودجز شيطانا عجوزا سيئ الطبع، ولكنه لم يكن ينسى المعروف. في أحد الأيام بعد ذلك بفترة وجيزة عندما أتى إلى المتجر لشراء ذرة الدجاج، قابلني عند الباب وأوقفني بطريقته الفظة. كان له وجه يشبه شيئا منحوتا من جذر شجرة، بسنتين فقط في فمه، وكانا باللون البني الداكن وشديدي الطول.
अज्ञात पृष्ठ
وقال لي: «أنت يا ولد! أنت تصطاد السمك، أليس كذلك؟» «بلى.» «كما اعتقدت. حسنا، اسمع: إذا أردت الصيد، يمكنك أن تأتي بصنارتك وتحاول في البركة بالأعلى خلف القصر؛ فهناك الكثير من أسماك الأبراميس والشيم، ولكن لا تخبر أحدا بما قلته لك، ولا تحضر معك أيا من هؤلاء الأوغاد الصغار الآخرين، وإلا فسأسلخ ظهورهم.»
قال ذلك ثم ذهب يعرج حاملا جوال الذرة فوق كتفه، كما لو كان يشعر أنه قد قال الكثير بالفعل. بعد ظهيرة يوم السبت التالي، ذهبت بدراجتي إلى منزل بينفيلد وجيباي مليئان بالديدان والنغف، وبحثت عن العجوز هودجز في كوخه. كان منزل بينفيلد في ذلك الوقت غير مأهول منذ عشر سنوات أو عشرين سنة؛ فالسيد فاريل - المالك - لم يعد يتحمل تكاليف العيش فيه، ولم يستطع أو يرد تركه، فعاش في لندن على دخل إيجار مزارعه وترك المنزل والأراضي خربة. كانت جميع الأسيجة خضراء وبالية، وكانت الحديقة في حالة فوضى ومليئة بنبات القراص، وكان الزرع كالغابة، وحتى الحدائق انحسرت إلى مروج، ولم يتبق سوى بعض شجيرات ورد قديمة كثير العقد شاهدة على حيث كانت الأحواض. لكنه كان منزلا بديع الجمال، ولا سيما إن نظرت إليه من بعد. كان منزلا ضخما أبيض اللون بصف أعمدة في الأمام ونوافذ طويلة، وقد بني على ما أظن في عصر الملكة آن تقريبا على يد شخص سافر إلى إيطاليا. إذا ذهبت إلى هناك الآن، فسأشعر على الأرجح بشعور معين من السعادة لتجولي حول ذلك الخراب العام، والتفكير في الحياة التي كانت في ذلك المكان يوما ما، وفي الناس الذين بنوا مثل تلك الأماكن؛ لأنهم تخيلوا أن الأيام الجميلة ستدوم للأبد. عندما كنت صبيا، لم أكن أفكر في المنزل أو الأراضي، بل كنت أبحث عن العجوز هودجز، الذي كان في ذلك الوقت قد انتهى لتوه من تناول غدائه وكان عابسا بعض الشيء، وطلبت منه أن يريني الطريق إلى البركة، التي كانت على بعد عدة مئات من الياردات خلف المنزل، وكانت مختفية بالكامل وسط غابة أشجار الزان. ولكن حجمها كان جيدا، تكاد تقترب في حجمها من حجم بحيرة؛ إذ كان عرضها يقترب من المائة والخمسين ياردة. كان من المذهل، حتى بالنسبة لي وأنا في مثل هذا العمر، أنه يمكنك الاستمتاع بالعزلة هناك؛ فأنت على بعد اثني عشر ميلا من ريدينج وأقل من خمسين ميلا من لندن. ستشعر في ذلك المكان بعزلة كما لو أنك على ضفاف نهر الأمازون؛ فالبركة كانت محاطة بالكامل بأشجار الزان الضخمة، التي كانت في إحدى البقاع تنزل إلى الحافة، وتنعكس صورتها في الماء. وعلى الجانب الآخر، كانت هناك رقعة من العشب بها تجويف من أحواض النعناع البري؛ وفي الأعلى عند أحد أطراف البركة كان ثمة مصف قوارب خشبي قديم بال وسط عشب البرك.
كانت البركة تعج بأسماك الأبراميس، الصغيرة منها فقط، التي كانت بطول أربع إلى ست بوصات. وبين الحين والآخر، قد ترى إحداها تستدير على جانبها وتومض بلون بني ضارب إلى الحمرة أسفل الماء. كانت ثمة أسماك كراكي أيضا، ولكن لا بد أنها كانت كبيرة. لم أرها قط، ولكن أحيانا كانت تستدير إحداها بينما تتشمس بين العشب، وتغمر المكان برذاذ الماء كما لو أن طوبة قد ألقيت في الماء. لم يكن ثمة طائل من محاولة اصطيادها، ولكنني بالطبع كنت أحاول دائما في كل مرة أذهب فيها إلى هناك. حاولت اصطيادها باستخدام سمك الداس والمنوة الذي اصطدته في نهر التيمز واحتفظت به حيا في برطمان مربى؛ حتى إنني حاولت اصطياده بطعم دوار مصنوع من بعض الصفيح، ولكن السمك كان يأكل بنهم ولا يعض على الصنارة، وعلى أي حال كان سيكسر أيا من أدوات الصيد التي كانت معي. لم أرجع قط من البركة دون اثنتي عشرة سمكة أبراميس صغيرة على الأقل. وفي بعض الأحيان في إجازات الصيف، كنت أذهب إلى هناك وأقضي اليوم بأكمله، ومعي قصبة الصيد ونسخة من صحيفة «تشامز» أو مجلة «يونيون جاك» أو غيرهما، ورغيف من الخبز والجبن لفته لي أمي. وكنت أقضي عدة ساعات في الصيد، ثم أستلقي في التجويف العشبي وأقرأ مجلة «يونيون جاك»، ثم تثيرني مرة أخرى رائحة معجون الخبز وارتطام الأسماك قافزة في الماء، فأرجع إلى البركة في جولة صيد أخرى، وهكذا طوال اليوم في فصل الصيف. أفضل ما في الأمر أن تكون وحدك، وحدك تماما، على الرغم من أن الطريق لم يكن يبعد أكثر من ربع ميل. لقد كنت كبيرا بما يكفي لمعرفة أنه من الجيد أن يختلي المرء بنفسه بين الحين والآخر. وسط الأشجار في كل مكان حولك، بدت البركة كما لو أنها لك وحدك، ولا شيء يتحرك أبدا سوى السمك الذي يطوف في الماء والحمام المار فوق رأسك. على أي حال، في السنتين تقريبا اللتين كنت أذهب فيهما للصيد هناك، ترى كم مرة ذهبت للصيد؟ لا يزيد ذلك على اثنتي عشرة مرة؛ فقد كانت البركة تبعد مسافة ثلاثة أميال بالدراجة عن المنزل، وكان الأمر يستغرق مني فترة ما بعد الظهيرة كلها على أقل تقدير. وفي بعض الأحيان كانت تطرأ بعض الأمور، وأحيانا أخرى كانت تمطر عندما أنوي الذهاب. تعلم بالتأكيد كيف تسير الأمور.
في أحد الأيام بعد الظهيرة، لم تكن الأسماك تلتقط الطعم، وبدأت أستكشف نهاية البركة الأبعد عن منزل بينفيلد، حيث فاض الماء قليلا وأصبحت الأرض سبخية، وواجهت صعوبة في شق طريقي عبر ما يشبه غابة من شجيرات توت العليق الأسود وفروع الأشجار الميتة التي سقطت من الأشجار. تخطيت كل ذلك في عناء لمسافة ما يقرب من خمسين ياردة، ثم فجأة وجدت أرضا مقطوعة الأشجار وبركة أخرى لم أسمع بوجودها من قبل. كانت بركة صغيرة لا يتعدى عرضها عشرين ياردة، وكانت داكنة اللون بعض الشيء بفعل فروع الأشجار التي كانت تتدلى عليها، لكن الماء كان شديد الصفاء والعمق، وكان بإمكاني أن أرى لمسافة عشر أقدام أو خمس عشرة قدما أسفل السطح. تسكعت هناك قليلا، كما يفعل الأولاد، مستمتعا بالنداوة والرائحة السبخية، ثم رأيت شيئا كاد ينتزع روحي من جسدي.
لقد كانت سمكة ضخمة. ولا أبالغ إذ أقول إنها كانت ضخمة؛ فقد كان طولها من طول ذراعي تقريبا. عامت بسلاسة في البركة، ثم غاصت في أعماق المياه، ثم صارت ظلا واختفت في الماء الأكثر دكانة على الجانب الآخر. شعرت كما لو أن سيفا قد اخترق جسدي، فقد كانت أكبر بكثير من أكبر سمكة رأيتها يوما، حية أو ميتة. ووقفت هناك دون أن أتنفس، ثم بعدها ببرهة انسابت سمكة ضخمة وسميكة أخرى في الماء، ثم سمكة أخرى ثم سمكتان أخريان معا؛ كل منهما بالقرب من الأخرى. أصبحت البركة مليئة بالأسماك، وقد كانت على ما ظن أسماك الشبوط، ولربما كانت أبراميس أو تنش، ولكنها على الأرجح أسماك الشبوط؛ لأن أسماك الأبراميس أو التنش ليست بهذا الحجم الضخم. أعلم ما حدث؛ فقد كانت هذه البركة موصولة في وقت ما بالبركة الأخرى، ثم جف المجرى وأحكمت الأشجار الخناق على البركة الصغيرة فنسيت. إنها من الأمور التي تحدث بين الفينة والأخرى؛ تنسى إحدى البرك على نحو ما، فلا يعود أحد يصطاد فيها لسنوات أو لعقود، فتنمو الأسماك إلى أحجام ضخمة. قد يرجع عمر الكائنات التي كنت أشاهدها إلى مئات السنين، ولم يعلم بأمرها أحد غيري في العالم، فأغلب الظن أن أحدا لم ينظر إلى تلك البركة منذ عشرين سنة، وربما حتى العجوز هودجز ووكيل أملاك السيد فاريل قد نسياها.
حسنا، لك أن تتخيل ما شعرت به. بعد وقت ليس بالطويل، لم أستطع تحمل عذاب المشاهدة. فهرولت إلى البركة الأخرى ولملمت أدوات الصيد؛ فلم تكن ثمة فائدة من محاولة صيد تلك المخلوقات الضخمة بالأدوات التي كانت معي، ولربما التقطوها كما لو كانت شعرة، ولم أعد أستطيع أن أرجع لصيد سمك الأبراميس الصغير. ولكن أشعرتني رؤية سمك الشبوط الكبير بألم في بطني كما لو كنت على وشك أن أمرض. ركبت دراجتي وانطلقت أسفل التل ذاهبا إلى المنزل. كان سرا من الرائع أن يحظى به طفل، تلك البركة المظلمة المخفية في الغابة والسمك الضخم الذي يعوم في أرجائها؛ سمك لم يقترب أحد منه بصنارة، وسيلتهم أول طعم تقدمه إليه. كان الأمر يتطلب خيط صيد قويا للغاية للتمكن من صيده. وقد رتبت لكل شيء بالفعل، فقد خططت أن أشتري الأدوات التي يمكنني بها صيده إن سرقت بعض المال من درج النقود. بطريقة ما، لم أكن أعلم كيف، كان علي الحصول على نصف كراون، وشراء خيط صيد حريري طويل مخصص لسمك السلمون وبعض الأحشاء أو الأسلاك السميكة والخطافات رقم خمسة، والذهاب ببعض الجبن والنغف ومعجون الطحين ودود القمح ودود الأرض والجنادب وكل طعم قد يستهوي سمك الشبوط. ونويت أنني بعد ظهيرة يوم السبت التالي مباشرة سأرجع وأحاول صيد تلك الأسماك.
ولكن ما حدث هو أنني لم أرجع إلى هناك قط، فلا يرجع المرء إلى تلك الأماكن أبدا. لم أسرق قط بعض المال من درج النقود، ولم أشتر خيط صيد السلمون، ولم أحاول صيد سمك الشبوط هذا؛ فقد حدث بعد ذلك مباشرة شيء منعني من ذلك، ولكن إن لم يكن قد منعني ذلك الشيء لكان قد منعني شيء آخر؛ فهكذا هي الحياة.
أعلم، بالطبع، أنك تعتقد أنني أبالغ في وصفي لحجم تلك الأسماك، ولربما تعتقد أنها كانت مجرد أسماك متوسطة الحجم (بطول قدم واحدة مثلا)، وأنها كبرت بالتدريج في ذاكرتي. ولكن لم يكن الأمر كذلك؛ فالناس تكذب عند وصف الأسماك التي اصطادوها، ويكذبون أكثر عند الحديث عن الأسماك التي التقطت الطعم وهربت منهم، ولكنني لم أصطد أيا منها أو أحاول حتى أن أصطادها، وليس لدي دافع للكذب. أقول لك بحق إنها كانت ضخمة.
5
الصيد!
अज्ञात पृष्ठ
سأعترف هنا بشيء، أو بالأحرى بشيئين؛ الأول هو أنني عندما أسترجع شريط حياتي، لا يمكنني بصراحة أن أقول إن ثمة شيئا فعلته يوما قد أبهجني كالصيد؛ فكل شيء عداه أصبح مملا بالمقارنة به، حتى النساء. لا أحاول أن أقول إنني من هؤلاء الرجال الذين لا يهمهم النساء، فقد قضيت الكثير من الوقت في مطاردتهن، وسأفعل ذلك مجددا الآن إن أتيحت لي الفرصة. ولكنك إن خيرتني بين أي امرأة، أي امرأة مهما كانت، وبين اصطياد سمكة شبوط تزن عشرة أرطال، فسأختار الشبوط دائما. الاعتراف الثاني هو أنني بعدما أتممت عامي السادس عشر لم أصطد مرة أخرى.
لماذا؟ لأن هذه هي الحياة، ولأننا في هذه الحياة التي نعيشها - لا أعني الحياة البشرية على إطلاقها، بل أعني الحياة في هذا العمر بالأخص، وفي هذا البلد بالتحديد - لا نفعل الأشياء التي نريد أن نفعلها. وذلك ليس لأننا نعمل دائما؛ فحتى عامل المزرعة أو الخياط اليهودي لا يعمل دائما، بل لأن ثمة شيطانا داخلنا يدفعنا في كل حين إلى ارتكاب حماقات أبدية. إن لدينا وقتا لكل شيء، عدا الأشياء التي تستحق أن نعطيها من أوقاتنا. فكر في شيء تهتم به بحق، ثم اجمع الساعات، واحسب الجزء من حياتك الذي قضيته بالفعل في فعل هذا الشيء، ثم احسب الوقت الذي قضيته في أشياء كالحلاقة، أو ركوب الحافلات ذهابا وإيابا، أو انتظار القطار، أو الانتظار في ملتقى الطرق، أو في تبادل النكات البذيئة، أو في قراءة الصحف.
بعد أن أتممت عامي السادس عشر، لم أذهب للصيد مرة أخرى، فلم يبد قط أن لدي وقتا له. كنت أعمل، وأطارد الفتيات، وأرتدي أول حذاء بأزرار وأول ياقة عالية (ولكي ترتدي ياقات عام 1909، تحتاج إلى رقبة كرقبة الزرافة)، وأحضر دورات بالمراسلة في فن البيع والمحاسبة و«تحسين المهارات الذهنية». كان السمك الكبير لا يزال يسبح في أرجاء البركة خلف منزل بينفيلد، ولم يعلم أحد سواي عنه شيئا. وكان قابعا في ذاكرتي؛ فلربما في يوم من الأيام، في عطلة رسمية، أذهب وأصطاده. ولكنني لم أرجع إلى هناك قط. كان لدي وقت لكل شيء ما عدا الصيد. من المثير للدهشة أن الوقت الوحيد في تلك الفترة الذي كدت أذهب فيه للصيد كان في أثناء الحرب.
كان ذلك في خريف عام 1916، مباشرة قبل أن أصاب في الحرب. كنا قد خرجنا من الخنادق إلى قرية خلف خط النار؛ وعلى الرغم من أننا كنا في شهر سبتمبر، فقد كان الوحل يغطينا من رأسنا إلى أخمص أقدامنا. كالعادة، لم نكن نعلم بالتحديد المدة التي سنقضيها هناك، أو أين سنذهب بعد ذلك. ولحسن الحظ، كان قائد السرية في حالة سيئة بعض الشيء، فقد أصيب بالتهاب شعبي أو شيء من هذا القبيل، ولذا لم يكن يهتم بإقامة العروض العسكرية المعتادة، وعمليات التفتيش على الأسلحة، ومباريات كرة القدم، وغيرها من الأمور التي كان من المفترض أن تبقي على الروح المعنوية للجنود عندما لا يكونون في ميدان المعركة. قضينا نهار اليوم الأول في الاستلقاء على أكوام القش في الحظائر التي كنا نبيت فيها، وفي كشط الوحل من على جراميقنا، وفي المساء، بدأ بعض الشباب يصطفون أمام منزل عاهرتين قبيحتين بائستين في أطراف القرية. في الصباح، على الرغم من أنه كان مخالفا للقوانين أن نترك القرية، تمكنت من التسلسل والتجول حول الأطلال المروعة التي كانت حقولا في يوم من الأيام. كان صباحا رطبا وغائما، وفي كل مكان حولنا بالطبع كان روث الحيوانات الكريه وركام الحرب، تلك الفوضى فاحشة القذارة التي هي أسوأ في الحقيقة من ميدان المعركة المليء بالجثث. كان هناك أشجار مقطوعة الأغصان، وحفر قذائف مدفعية قديمة ملئت بعض الشيء مرة أخرى، وعبوات معدنية، وروث، ووحل، وعشب، وأكوام من الأسلاك الشائكة الصدئة والعشب نام خلالها. أنت بالطبع تعرف ذلك الإحساس الذي تشعر به عندما تخرج من خط النار؛ إحساس بالتيبس في كل مفاصلك، وبداخلك نوع من الفراغ؛ إحساس بأنك لن تعود تهتم بأي شيء أبدا في حياتك. كان إلى حد ما لدي شعور بالخوف والإنهاك، ولكنه في الأساس شعور بالضجر. في ذلك الوقت، لم يكن أحد يرى أي سبب لعدم استمرار الحرب إلى الأبد؛ فاليوم أو الغد أو بعد غد كنت ستعود إلى المعركة، وربما في الأسبوع القادم ستفجرك قذيفة فتصبح كاللحم المحفوظ، ولكن ذلك لم يكن سيئا بقدر الشعور المروع بالملل في الحرب التي كانت ستستمر للأبد.
كنت أتجول على جانب سياج عندما قابلت شابا من سريتنا لا أتذكر اسم عائلته، ولكنني أتذكر أن كنيته كانت نوبي. كان أسمر البشرة محدبا وبهيئة غجرية، وحتى في زيه العسكري كان يعطي دائما انطباعا كما لو أنه يحمل زوجا من الأرانب المسروقة. بحكم المهنة، عرفت أنه كان بائعا متجولا وأنه ينتمي حقيقة لأبناء الطبقة العاملة، ولكنه من هؤلاء الذين يتكسبون بعض قوتهم بجمع نبات حشيشة الدينار، وصيد الطيور، والصيد غير المشروع، وسرقة الفاكهة في كنت وإسيكس. وكان ذا خبرة كبيرة في الكلاب، وحيوانات ابن مقرض، وطيور الأقفاص، وديوك القتال، ومثل تلك الأشياء. وبمجرد أن رآني أومأ إلي برأسه، وكانت له طريقة خبيثة وشريرة في الكلام؛ إذ قال : «أنت! يا جورج!» (كان الناس لا يزالون يدعونني جورج فحسب في ذلك الوقت، فلم أكن قد صرت بدينا بعد.)
ثم أضاف: «جورج! هل ترى هذه المجموعة من شجيرات الحور على الجانب الآخر من الحقل؟» «أجل.» «حسنا، ثمة بركة على الجانب الآخر منها، وهي مليئة بالسمك الشديد الضخامة.» «سمك؟! أنت تكذب!» «صدقني إنها مليئة بشدة بالسمك. إنها أسماك الفرخ، وهي أسماك من أفضل ما رأت عيني. تعال وشاهدها بنفسك.»
خضنا في الطين معا، وبالطبع كان نوبي على حق؛ فعلى الجانب الآخر من شجيرات الحور، كانت ثمة بركة قبيحة المنظر بضفاف رملية. وكان من الواضح أنها كانت محجرا في يوم من الأيام، وقد امتلأت بالماء بعد ذلك، وكانت تعج بأسماك الفرخ، التي يمكنك رؤية ظهورها المخططة باللون الأزرق الداكن تسبح في كل مكان أسفل سطح الماء، ولا بد أن بعضها كان وزنه يصل إلى الرطل. أظن أنه طوال عامين من الحرب لم يعكر صفوها شيء وكان لديها الوقت للتكاثر. قد لا تتخيل وقع رؤية تلك الأسماك علي. كان الأمر كما لو أنها قد أرجعتني فجأة إلى الحياة. بالطبع كانت ثمة فكرة واحدة في ذهني وذهن صاحبي، وهي كيف نحصل على قصبة وخيط للصيد.
قلت: «يا إلهي! سنحصل على البعض منها.» «بالتأكيد. هيا نرجع إلى القرية ونحضر بعض أدوات الصيد.» «حسنا. لكن يجب أن نحذر؛ فلو عرف الرقيب، فسنعاقب.» «أوه، اللعنة على الرقيب. فليشنقوني ويسلخوني ويقطعوني إربا إن أرادوا، لكنني سأحصل على بعض من هذا السمك اللعين.»
لا يمكنك أن تتخيل كم كنا متحمسين لصيد هذا السمك! أو ربما يمكنك إن كنت قد ذهبت إلى الحرب يوما، إذ كنت ستعرف ذلك الضجر الجنوني الذي تسببه الحرب، وكيف تنتهز أي فرصة لأي نوع من التسلية. رأيت رجلين يتشاجران بضراوة في أحد المخابئ حول نصف مجلة ثمنها ثلاثة بنسات. ولكن الأمر تخطى ذلك. لقد كنا نريد الهروب، ربما ليوم كامل، بعيدا عن أجواء الحرب، والجلوس أسفل أشجار الحور وصيد الفرخ بعيدا عن السرية وعن الضوضاء والجدال وعن الزي العسكري والضباط والتحيات العسكرية وصوت الرقيب! الصيد عكس الحرب، ولكن لم يكن من المؤكد على الإطلاق أننا سنحظى به. كانت هذه هي الفكرة التي حمستنا. إذا اكتشف الرقيب الأمر، فسيوقفنا بالتأكيد، وكذلك أي من الضباط؛ والأدهى من ذلك أنه لم يكن أحد يعلم كم سنقضي في هذه القرية، فقد نظل هناك أسبوعا، وقد نغادرها في غضون ساعتين. وفي الوقت نفسه، لم يكن لدينا أي أدوات للصيد من أي نوع، ولا حتى دبوس أو أي نوع من الخيوط، فكان علينا أن نعد بعضها بأنفسنا، وكانت البركة تعج بالأسماك! أداة الصيد الأساسية كانت القصبة. وقصبة من خشب الصفصاف هي الأفضل، ولكن بالطبع لم تكن ثمة أشجار صفصاف في أي مكان على مرمى البصر. تسلق نوبي شجرة حور، وقطع غصنا صغيرا لم يكن جيدا في الواقع، ولكنه كان أفضل من لا شيء. ثم شذبه بمطواته حتى تشكل شيء كقصبة الصيد، ثم أخفيناها في العشب بالقرب من الضفة، وتمكنا من التسلسل رجوعا إلى القرية دون أن يرانا أحد.
الأداة الثانية كانت الإبرة لنصنع بها خطافا، ولكن لم يكن مع أحد إبرة. كان ثمة رجل معه إبر رفو، ولكنها كانت سميكة للغاية ولها طرف غير حاد. ولم نكن نجرؤ على أن نعلم أحدا بما نريدها لأجله؛ لخوفنا من أن يسمع الرقيب بالأمر. وفي النهاية، فكرنا في العاهرتين في أطراف القرية، فبالتأكيد كان لديهما إبرة. وعندما ذهبنا إليهما - كان عليك أن تلف للباب الخلفي عبر فناء قذر - وجدنا المنزل مغلقا والعاهرتين نائمتين، فقد كانتا بلا شك تستحقان الراحة. نادينا عليهما وطرقنا الباب حتى خرجت لنا بعد عشر دقائق سيدة قبيحة وبدينة ومتدثرة بدثار، وصرخت في وجهنا بالفرنسية. صرخ نوبي في وجهها، قائلا: «إبرة! إبرة! ألديك إبرة؟»
अज्ञात पृष्ठ