انتفض مندوب البوليس فوق الكرسي، دار به حول نفسه عدة دورات كالمروحة، تصلبت أصابعه فوق الآلة الكاتبة وهو يدق كلمة «عضو الرجل»، توقف عن الكتابة واستدار بحركة سريعة. - المسألة تبدو خطيرة! - أجل ولي عدة مؤلفات في هذا المرض؛ فالمرأة منذ طفولتها تبحث عن هذا «العضو» دون جدوى، ومع اليأس تتحول هذه الرغبة إلى رغبة أخرى. - رغبة أخرى! مثل ماذا؟ - مثل النظر إلى نفسها في المرآة، كنوع من الحب المهووس للذات. - أعوذ بالله! - وتميل المرأة إلى العزلة والصمت وأحيانا الرغبة في السرقة. - السرقة؟ - سرقة التحف النادرة والتماثيل القديمة، وخاصة تماثيل الإلهات الإناث، فهي تنجذب إلى بنات جنسها دون الجنس الآخر. - أعوذ بالله! - وتراودها في الوقت ذاته رغبة ملحة في الاختفاء. - الاختفاء؟! - بمعنى آخر انجذاب شديد نحو الانتحار أو الموت. - يا حفيظ! - واقع الأمر إن النساء الباحثات عن الحفريات يشعرن بلذة شديدة حين يحفرن الأرض، وينجذبن إلى رأس الإزميل أكثر مما تجذبهن رأس الإلهة نفرتيتي، ومهما كانت محاولتهن فإنهن تعجزن عن تحويل عيونهن عن رأس الإزميل كأنما هو العضو المنشود. - كفى! كفى!
بلغ التوتر بمندوب البوليس أقصاه، كف تماما عن التنفس، ثم بدأت أنفاسه تلهث، والكرسي يدور به دون توقف. ثبت الكرسي، وأمسك زجاجة «الكوريكتر» وبدأ يمسح كلمة «العضو» من جميع الأوراق، لكن الخبر تسرب إلى الصحف رغم اللمبة الحمراء، بدأ الصحفيون يكتبون عن الموضوع بلا حياء، وكادت أخبار المرأة المختفية تحجب الأنظار عن الاحتفالات بعيد صاحب الجلالة.
في اليوم التالي صدر الأمر الملكي: تحريم الإجازات على النسوة، وإذا خرجت المرأة في إجازة محظور إيواؤها أو التستر عليها. •••
ذلك الصباح من شهر سبتمبر هبطت امرأة في ربيع الشباب إلى المركب، كانت تلف شعرها الأسود الغزير في ضفيرتين طويلتين، تدوران ثلاث مرات حول رأسها وتلتقيان فوق جبينها في عقدة كبيرة، جسمها طويل نحيف داخل ثوب واسع إلى ما تحت الركبتين، يطل من تحته سروال واسع طويل ينتهي برباط مشدود أعلى القدمين، من فوق كتفها تتدلى حقيبة لها حزام جلدي طويل، تشد بيدها فوق الحزام، وتمضي في طريقها بخطوات واسعة، عيناها إلى أعلى، تبدو كالموشكة على الانطلاق نحو مراكب الشمس. رمقها ناظر المحطة بفضول طبيعي، عند البوابة رآها تمد يدها للحارس بتذكرة السفر، حملق فيها لحظة، ثم ردها إليها، وكانت هي قد انطلقت خارج المحطة، لم يكن في حركتها شيء يثير الريبة، إلا ذلك الحماس غير المألوف بين النساء، وهي تتطلع نحو الشمس، بعينيها العاريتين من أي غطاء، وشيء يطل من حقيبتها يشبه رأس إزميل.
أمام المحطة كانت المركبات واقفة كالعادة في انتظار الركاب، وانطلقت المرأة نحو واحدة منها، ركبت بخطوات غير مترددة، واحتلت مقعدا في المؤخرة.
بقيت المرأة في المركبة حتى النهاية، حين هبط منها جميع الركاب هبطت هي الأخرى، وسارت على قدميها، بدت معالم الطبيعة مزيجا من الألوان الغريبة، متنافرة ومتداخلة، خضرة العشب، صفرة الصحراء، حمرة الصخور، زرقة السماء، بياض السحب.
واصلت السير بخطواتها الواسعة، تشد بيدها فوق الحزام المعلق فوق كتفها، كأنما تمضي بإرادتها أو بغير إرادتها نحو هدف معين.
ولم تعد هناك قرى أو مساحات من الأرض المزروعة، حقول متناثرة وأشجار شوكية، ثم تغيرت التربة فأصبحت صحراوية نوعا ما، ترابها أسود ناعم تشوبه حمرة داكنة، كأنما غرق في الدم ثم جف تحت الشمس، علق بقدميها وهي تمشي، بين الحين والحين راحت كتل من أشجار النخيل أو البلح تلقي بظلالها على الأرض، وظهرت وسط الرمال كأنما بطريق الصدفة بقعة محددة سوداء.
تحت ظل جدار توقفت المرأة ربما للمرة الأولى منذ هبطت من المركبة، مسحت وجهها بكم ثوبها لتجفف العرق، راحت تحدق فيما حولها، خلعت عن كتفها الحزام الجلدي، وفتحت الحقيبة، أمسكت بالإزميل في يدها اليمنى، والحقيبة في يدها اليسرى ثم شرعت في السير من جديد، نافضة عن قدميها التراب، خبطت كعبيها في الأرض عدة خبطات، ولاحت من بعيد مساحة كبيرة من الماء الأسود تشبه البحيرة الراكدة.
ثم اتسع الأفق وراء جبل منخفض، ظهرت قرية صغيرة بيوتها سوداء من الطين أو مادة أخرى تشبه الطين، متلاصقة في كتلة واحدة فوق السطح أكوام كالتلال السوداء وبراميل مقلوبة، الأزقة ضيقة مسدودة، بعض البيوت على هيئة أكواخ من الخشب أو الصفيح، ومساحة كبيرة من الأرض العراء.
अज्ञात पृष्ठ