ثمن الكتابة
الحب في زمن النفط
ثمن الكتابة
الحب في زمن النفط
الحب في زمن النفط
الحب في زمن النفط
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
अज्ञात पृष्ठ
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
अज्ञात पृष्ठ
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
الحب في زمن النفط
अज्ञात पृष्ठ
ذلك اليوم في سبتمبر ظهر الخبر في الصحف.
نصف سطر أخرجته المطابع متآكل الحروف: «خرجت امرأة في إجازة ولم تعد.»
كان اختفاء الناس أمرا طبيعيا، كل يوم تطلع الشمس بمثل ما تطلع الصحف، في الصفحة الداخلية ركن لأخبار الناس، كلمة «الناس» يمكن حذفها أو استبدالها بكلمة أخرى، دون أن يتغير شيء في الكون، الناس، الشعب، الأمة، الجماهير؛ كلمات تعني الكل ولا شيئا في آن واحد.
في الصفحة الأولى كانت هناك صورة ملونة لصاحب الجلالة، بالحجم الطبيعي، وعنوان كبير: «الاحتفال بالعيد الميلادي الملكي.»
فرك الناس عيونهم، زوايا الجفون متآكلة، قلبوا الصفحة وراء الصفحة، تثاءبوا حتى طقطقت عظام الفكين، وظهر الخبر في الصفحة الداخلية، لا يكاد يرى بالعين المجردة: «خرجت امرأة في إجازة ولم تعد.»
لم تكن النساء تخرجن في إجازة، وإن خرجت واحدة فهي تخرج لقضاء حاجة ضرورية، قبل الخروج لا بد من تصريح مكتوب من زوجها، أو مختوم من رئيسها في العمل.
لم يحدث أن خرجت امرأة ولم تعد، كان يمكن للرجل أن يخرج ولا يعود سبع سنين، ومن بعدها يحق للزوجة أن تتحرر منه.
نشط رجال البوليس في البحث عنها، خرجت منشورات وإعلانات في الصحف تطلب العثور عليها حية أو ميتة، ومكافأة سخية من صاحب الجلالة الملك. «ما علاقة صاحب الجلالة باختفاء امرأة من عامة الناس؟!»
كان معروفا أن لا شيء يمكن أن يحدث في العالم دون أمر من صاحب الجلالة، مكتوب أو غير مكتوب، لم يكن جلالته يعرف القراءة والكتابة، وكان ذلك نوعا من الامتياز، فما جدوى القراءة والكتابة ؟! كان الأنبياء لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، فهل يمكن للملك أن يكون أفضل من الأنبياء؟!
وكان هناك أيضا الآلة الكاتبة: وهي تدور بقوة الكهرباء.
अज्ञात पृष्ठ
وآلة كاتبة جديدة تدور بقوة النفط، وتكتب بجميع اللغات، وراء الآلة الكاتبة كان هناك كرسي من الجلد يدور، من فوقه جلس مندوب البوليس، فوق رأسه تتدلى من الجدار صورة مكبرة لصاحب الجلالة، داخل إطار من الذهب، حواشيه محلاة بحروف مقدسة. - هل حدث أن خرجت زوجتك في إجازة من قبل؟
أطبق زوجها شفتيه في صمت، اتسعت عيناه كمن يصحو من النوم فجأة، كان مرتديا منامة وعضلات وجهه متهدلة، فرك عينيه بطرف أصبعه وتثاءب، كان جالسا فوق كرسي من الخشب ثابت في الأرض. - لا. - هل حدث بينكما شجار؟ - لا. - هل خرجت عن طاعتك في يوم من الأيام؟ - لا.
كان التحقيق يدور في غرفة مغلقة، لمبة حمراء معلقة فوق الباب، لا يخرج شيء إلى الصحف، تحفظ التقارير داخل ملف سري له غلاف أسود، كتب عليه: «امرأة تخرج في إجازة.»
مندوب البوليس كان جالسا فوق الكرسي المتحرك، يدور به فيصبح ظهره ناحية الجدار، وصورة صاحب الجلالة في مواجهته، كان الكرسي الآخر ثابتا في الأرض، من فوقه جلس رجل آخر، ليس زوجها وإنما رئيسها في العمل. - هل كانت من النساء المشاغبات أو المتمردات على النظام؟
رئيسها في العمل كان واضعا ساقا فوق ساق، بين شفتيه غليون أسود يلتوي إلى الأمام مثل قرن البقرة، عيناه شاخصتان إلى أعلى. - لا، كانت امرأة مطيعة تماما. - هل يمكن أن تكون قد اختطفت أو اغتصبت؟ - لا، كانت امرأة عادية لا تثير الرغبة في اغتصابها. - ما معنى ذلك؟ - أعني كانت امرأة مستسلمة لا تثير شهية أحد.
هز مندوب البوليس رأسه علامة الفهم، استدار بالكرسي فأصبح ظهره ناحية رئيسها، دق بأصابعه فوق الآلة الكاتبة، تسربت رائحة غريبة تشبه الجاز المحروق، مد ذراعه وأدار المروحة، ثم استدار بالكرسي. - أتعتقد أنها هربت؟ - ولماذا تهرب؟!
لم يكن أحد يعرف لماذا يمكن لامرأة أن تهرب؟ وإذا هربت فإلى أين تذهب؟ وهل يمكن أن تهرب وحدها؟ - أتظن أنها هربت مع رجل آخر؟ - رجل آخر؟! - نعم. - لا يمكن. كانت امرأة شريفة تماما، ولا شيء يشغلها إلا العمل والبحث. - البحث؟ - كانت تعمل في البحوث بإدارة الحفريات. - الحفريات! ما معنى هذا؟ - الحفريات هي الآثار المكتشفة من حفر الأرض. - مثل ماذا. - تماثيل قديمة للآلهة القدامى مثل آمون، وإخناتون، أو الإلهات القديمات مثل نفرتيتي وسخمت. - سخمط! ما هذا؟ - إلهة الموت القديمة. - أعوذ بالله!
وجاء خبر من ناظر إحدى المحطات النائية، شوهدت امرأة تهبط إلى المركب، من فوق كتفيها تتدلى حقيبة جلدية بحزام طويل، تشبه الطالبات أو الباحثات في الجامعة، كانت امرأة وحيدة تماما بلا رجل، شيء يطل من حقيبتها له رأس حديدي مدبب يشبه الإزميل.
أصبح مندوب البوليس متوترا، ظهرت حبات العرق فوق جبينه، ضغط فوق زر أسود فازدادت سرعة المروحة، كان لها عنق يدور حول نفسه، وهواء الغرفة شبه مخنوق. - أكانت امرأة طبيعية؟!
فوق الكرسي الخشبي الثابت جلس رجل من علماء النفس، كان فمه يميل إلى الاعوجاج ناحية اليسار، والغليون ذو القرن الملتوي يميل ناحية اليمين، عيناه شاخصتان إلى أعلى قليلا فوق الجدار، كانت الصورة داخل الإطار المذهب، نفث الدخان كثيفا في وجه صاحب الجلالة، ثم انتبه في توجس، وأدار رأسه إلى الناحية الأخرى حيث المروحة وأسدل جفنيه. - لا أظن أنها كانت امرأة طبيعية. - أتعني انشغالها بهذا البحث؟ - نعم، غالبا ما يشير انشغال المرأة بأمور خارج البيت إلى مرض نفسي. - ماذا تعني؟ - امرأة شابة تنطلق في عمل بلا جدوى مثل جمع تماثيل قديمة؟! أليس ذلك دليلا على المرض أو على الأقل الانحراف؟ - انحراف؟ - هذا الإزميل يكشف كل شيء. - كيف؟ - المرأة كي تعوض عن رغباتها التي لم يتم إشباعها تستمتع بغرس رأس الإزميل في الأرض وكأنه عضو الرجل.
अज्ञात पृष्ठ
انتفض مندوب البوليس فوق الكرسي، دار به حول نفسه عدة دورات كالمروحة، تصلبت أصابعه فوق الآلة الكاتبة وهو يدق كلمة «عضو الرجل»، توقف عن الكتابة واستدار بحركة سريعة. - المسألة تبدو خطيرة! - أجل ولي عدة مؤلفات في هذا المرض؛ فالمرأة منذ طفولتها تبحث عن هذا «العضو» دون جدوى، ومع اليأس تتحول هذه الرغبة إلى رغبة أخرى. - رغبة أخرى! مثل ماذا؟ - مثل النظر إلى نفسها في المرآة، كنوع من الحب المهووس للذات. - أعوذ بالله! - وتميل المرأة إلى العزلة والصمت وأحيانا الرغبة في السرقة. - السرقة؟ - سرقة التحف النادرة والتماثيل القديمة، وخاصة تماثيل الإلهات الإناث، فهي تنجذب إلى بنات جنسها دون الجنس الآخر. - أعوذ بالله! - وتراودها في الوقت ذاته رغبة ملحة في الاختفاء. - الاختفاء؟! - بمعنى آخر انجذاب شديد نحو الانتحار أو الموت. - يا حفيظ! - واقع الأمر إن النساء الباحثات عن الحفريات يشعرن بلذة شديدة حين يحفرن الأرض، وينجذبن إلى رأس الإزميل أكثر مما تجذبهن رأس الإلهة نفرتيتي، ومهما كانت محاولتهن فإنهن تعجزن عن تحويل عيونهن عن رأس الإزميل كأنما هو العضو المنشود. - كفى! كفى!
بلغ التوتر بمندوب البوليس أقصاه، كف تماما عن التنفس، ثم بدأت أنفاسه تلهث، والكرسي يدور به دون توقف. ثبت الكرسي، وأمسك زجاجة «الكوريكتر» وبدأ يمسح كلمة «العضو» من جميع الأوراق، لكن الخبر تسرب إلى الصحف رغم اللمبة الحمراء، بدأ الصحفيون يكتبون عن الموضوع بلا حياء، وكادت أخبار المرأة المختفية تحجب الأنظار عن الاحتفالات بعيد صاحب الجلالة.
في اليوم التالي صدر الأمر الملكي: تحريم الإجازات على النسوة، وإذا خرجت المرأة في إجازة محظور إيواؤها أو التستر عليها. •••
ذلك الصباح من شهر سبتمبر هبطت امرأة في ربيع الشباب إلى المركب، كانت تلف شعرها الأسود الغزير في ضفيرتين طويلتين، تدوران ثلاث مرات حول رأسها وتلتقيان فوق جبينها في عقدة كبيرة، جسمها طويل نحيف داخل ثوب واسع إلى ما تحت الركبتين، يطل من تحته سروال واسع طويل ينتهي برباط مشدود أعلى القدمين، من فوق كتفها تتدلى حقيبة لها حزام جلدي طويل، تشد بيدها فوق الحزام، وتمضي في طريقها بخطوات واسعة، عيناها إلى أعلى، تبدو كالموشكة على الانطلاق نحو مراكب الشمس. رمقها ناظر المحطة بفضول طبيعي، عند البوابة رآها تمد يدها للحارس بتذكرة السفر، حملق فيها لحظة، ثم ردها إليها، وكانت هي قد انطلقت خارج المحطة، لم يكن في حركتها شيء يثير الريبة، إلا ذلك الحماس غير المألوف بين النساء، وهي تتطلع نحو الشمس، بعينيها العاريتين من أي غطاء، وشيء يطل من حقيبتها يشبه رأس إزميل.
أمام المحطة كانت المركبات واقفة كالعادة في انتظار الركاب، وانطلقت المرأة نحو واحدة منها، ركبت بخطوات غير مترددة، واحتلت مقعدا في المؤخرة.
بقيت المرأة في المركبة حتى النهاية، حين هبط منها جميع الركاب هبطت هي الأخرى، وسارت على قدميها، بدت معالم الطبيعة مزيجا من الألوان الغريبة، متنافرة ومتداخلة، خضرة العشب، صفرة الصحراء، حمرة الصخور، زرقة السماء، بياض السحب.
واصلت السير بخطواتها الواسعة، تشد بيدها فوق الحزام المعلق فوق كتفها، كأنما تمضي بإرادتها أو بغير إرادتها نحو هدف معين.
ولم تعد هناك قرى أو مساحات من الأرض المزروعة، حقول متناثرة وأشجار شوكية، ثم تغيرت التربة فأصبحت صحراوية نوعا ما، ترابها أسود ناعم تشوبه حمرة داكنة، كأنما غرق في الدم ثم جف تحت الشمس، علق بقدميها وهي تمشي، بين الحين والحين راحت كتل من أشجار النخيل أو البلح تلقي بظلالها على الأرض، وظهرت وسط الرمال كأنما بطريق الصدفة بقعة محددة سوداء.
تحت ظل جدار توقفت المرأة ربما للمرة الأولى منذ هبطت من المركبة، مسحت وجهها بكم ثوبها لتجفف العرق، راحت تحدق فيما حولها، خلعت عن كتفها الحزام الجلدي، وفتحت الحقيبة، أمسكت بالإزميل في يدها اليمنى، والحقيبة في يدها اليسرى ثم شرعت في السير من جديد، نافضة عن قدميها التراب، خبطت كعبيها في الأرض عدة خبطات، ولاحت من بعيد مساحة كبيرة من الماء الأسود تشبه البحيرة الراكدة.
ثم اتسع الأفق وراء جبل منخفض، ظهرت قرية صغيرة بيوتها سوداء من الطين أو مادة أخرى تشبه الطين، متلاصقة في كتلة واحدة فوق السطح أكوام كالتلال السوداء وبراميل مقلوبة، الأزقة ضيقة مسدودة، بعض البيوت على هيئة أكواخ من الخشب أو الصفيح، ومساحة كبيرة من الأرض العراء.
अज्ञात पृष्ठ
في الأفق كانت هناك قمة جبل، ومن تحتها تمتد القرية تخترقها مواسير ضخمة كالأنابيب، غارقة فيما يشبه المياه السوداء ، وآبار لها فوهات واسعة يتدفق منها سائل يشبه الزئبق له رائحة الجاز، امتزجت به رائحة البشر، وشيء أشبه بالسردين المملح أو الفسيخ، وكلاب ميتة في الطريق صدمتها المركبات المسرعة في الليل.
انحدر الطريق ومعه المرأة، كانت تسير بخطواتها السريعة متجهة نحو هدفها، حقيبتها معلقة بالحزام فوق كتفها، أطفال القرية يلعبون في البركة أمام الجامع، رجال عجائز جلسوا القرفصاء على الأرض العراء، عكفوا على النظر إلى أصابع أقدامهم، ومن حين إلى حين يرفعون عيونهم إلى السماء ويحدقون في اللاشيء، طابور طويل من النسوة المختفيات تحت العباءات السوداء يسرن بخطوة بطيئة، فوق رءوسهن البراميل.
كفت النسوة عن الحركة، وهن يرقبن المرأة، لمعت عيونهن من خلال الثقوب الصغيرة، لكن المرأة مضت في طريقها، الإزميل في يدها ولا شيء يعنيها إلا البحث، توفقت لحظة تمسح العرق بكم ثوبها وتحملق حولها، كانت الأنابيب تلتوي وتمتد بلا نهاية، والطريق ينحدر إلى البركة، أخرجت من حقيبتها خريطة صغيرة نظرت فيها طويلا ثم رفعت إلى السماء عينين شبه غائمتين، في تلك اللحظة مرت بها طفلة من القرية، كانت ترتدي العباءة السوداء ولا شيء يظهر منها إلا عينان صغيرتان، سألتها عن الطريق لكن الطفلة انتفضت وابتعدت مسرعة.
بدت الحيرة على وجهها، ونوع من الاضطراب، كان الأفق يتسع وبعض طيور تحلق في الجو، حركة الأجنحة ومن خلفها زرقة السماء أعادت إلى نفسها بعض الثقة، الطريق يبدو أمامها مأمونا، لكن الأرض تزداد بلولة وتلين تحت قدميها، والقرية بدت كأنما تغوص إلى أغوار البركة.
من مكانها حيث وقفت حملقت حولها، أي قرية هذي؟ حركت قدميها لتواصل السير لكن عاصفة هبت فجأة كادت تقتلعها من الأرض، لولا أنها ثبتت قدميها، وأمسكت في جدار راح يهتز تحت ثقل جسمها.
أفاقت على أصوات تشبه الغمغمة، رأت الطفلة واقفة من بعيد تتحدث إلى طفلة أخرى، تقرب كل منهما رأسها ثم تنظران ناحيتها، أرادت أن تنادي عليهما وتسألهما عن اسم القرية، زعقت بأعلى صوتها، رأتهما تستديران، وأدركت من ظهرهما المقوس أنهما امرأتان عجوزتان.
نظرت إلى الساعة في يدها، كانت السابعة وعشرين دقيقة، ضربت الأرض بالإزميل، وخطر لها سؤال، أيمكن حقا أن تعيش الإلهات تحت سطح الأرض؟ ألا يكون ذلك مجرد خدعة بقصد استدراجها إلى هذا المكان؟
أغمضت عينيها فيما يشبه النوم، رأت الغرفة المربعة الأركان العارية من الأثاث، والسرير من الخشب يتسع لاثنين يعلوه غطاء أصفر باهت، بقعة دم قديمة فوق الغطاء، رف عليه بعض كتب عن الحفريات، وتمثال صغير من الحجر للإله ذي الثدي الواحد، وصورة الإله إخناتون له ثديان بارزان وردفان كبيران.
من وراء دخان الغليون يرمقها رئيسها في العمل، كان يؤمن بأن الإله الذكر يمكن أن يكون له ثدي أو ثديان، لم يكن يؤمن بوجود الإلهات، وإن وجدت واحدة فهي زوجة الإله وليست إلهة حقيقية.
زميلاتها وزملاؤها في القسم كانوا يؤمنون بما يؤمن به رئيسهم، جاءوا إلى قسم الحفريات عن طريق اليأس، يمطون شفاههم حين ينطقون الكلمة، «حفريات»، تجذبهم الموميات أكثر مما تجذبهم الكائنات الحية، عيونهم تتجه إلى أسفل كأنما إلى بطن الأرض، تكاد تكون مشيتهم واحدة، العنق يبدو ملتويا والجفن مسدل فوق العين، عظمة الأنف منكسة، الردفان سمينان متهدلان من طول الجلوس وراء المكتب.
अज्ञात पृष्ठ
رفعت عينيها إلى السماء، رأت النجوم والكواكب ثابتة في مكانها القديم منذ كانت طفلة، خالتها كانت تشير بأصبعها إلى نجم بعيد لا تكاد تراه، هذا هو المريخ، وهذا هو عطارد، والمشترى، زحل، لكن هذه هي ست الكل الزهرة. •••
تعلقت عيناها بالنجمة، وفجأة بدأت الحركة، انطلقت الزهرة من مكانها وعبرت السماء، ذيلها من خلفها رفيع طويل، ثم بدأت النجوم تتباعد بعضها عن البعض، تجري هنا وهناك ولها أشكال الحيوانات، كان هناك نجم يشبه الثور، وآخر يشبه الأسد، والحوت، والعقرب.
الأرض أيضا بدأت تتحرك تحت قدميها، حملقت فيما حولها، كان رجل يمشي من بعيد بظهر منحن، رأسه ملفوف بغطاء أبيض. - أهو زلزال يا عم؟ - لا، إنه الثور يحرك قرنيه، وتنتقل الأرض من قرن إلى قرن.
كان صوت الرجل واضحا كأنما يتحدث مباشرة في أذنيها، ومع ذلك بدا كأنما يأتي من قاع بئر، كان يبتعد في حركة المشي البطيئة، لا ترى منه إلا الظهر المحني، يختفي شيئا فشيئا داخل سحب كالشبورة.
صاحت بأعلى صوتها تنادي عليه، لكن صيحتها كانت تتبدد.
ثم رنت ضحكة مكتومة، إنها الطفلة العجوز واقفة داخل عباءتها، عيناها الصغيرتان تلمعان من داخل الثقبين. - ليس الثور يا أختي. - ما هو؟
استدارت الطفلة واختفت داخل غيمة من الغبار كالدخان، في مكانها وقفت تثبت قدميها في الأرض، أمسكت حزام الحقيبة وراحت تشد عليه، ليس أمامها إلا الثبات في مواجهة هذه الحركة المجنونة.
رفعت عينيها إلى الأفق، كانت المساحات السوداء تمتد أمامها كالصحراء اللانهائية، رمالها متحركة لونها أسود، والهواء شديد الجفاف، سطح لسانها تشقق، وعيناها تبحثان في الظلمة عن قطرة ماء، لمحت شيئا يتحرك، حية صغيرة تشبه الحرباء، عينها تلمع، تزحف فوق بطنها وبشرتها سوداء، حركتها رشيقة، قفزاتها خفيفة مرحة، كأنما تبتهج بقدرتها على تغيير لونها.
تراخت قبضتها حول حزام الحقيبة، ربما لا يكون الثبات هو المطلوب، تركت نفسها للريح، حركة لم يألفها جسمها أول الأمر، بدا ثقيلا، ثم أصبح أقل وزنا، أغمضت عينيها فيما يشبه الاستسلام.
إحساس جديد بدأ يتسرب إليها على استحياء، كان الجو حارا، مع كل خطوة يعلق غبار أسود بحذائها، تتوقف لحظة، تخبط كعبيها أحدهما في الآخر، تفك الضفيرتين من حول رأسها، تنفضهما، تخبط الواحدة بالأخرى، تتطاير من حولها الذرات السوداء، تلتصق بأنفها وجبهتها كأنما تجذبها رائحة العرق.
अज्ञात पृष्ठ
جلست القرفصاء دون أن تلامس مؤخرتها الأرض، ولم تشأ أن تلوث ثوبها، فتحت الحقيبة وأخرجت الإزميل، ضربت الأرض عدة ضربات، لكن الرائحة كانت غير محتملة، وضعت المنديل فوق أنفها، عنقها يلتوي إلى أسفل، في القاع البعيد كانت الأرض تتسع، والظلمة تزداد كثافة، وهي تمشي نحو القاع، من يراها يظن أنها لم تكن تمشي، ارتطمت يدها بجدار من الطين، يشبه جدران البيوت في القرية، سمعت في الداخل أصواتا، كانت واقفة تستند بيدها على الجدار، يدها الثانية تقبض على الإزميل، وأنفاسها تلهث.
انفتح باب في الجدار، أحدث صوتا يشبه صرير الساقية، مفاصل حديدية صدئة أو طقطقة خشب قديم، وظهرت امرأة شابة داخل عباءة سوداء تحمل فوق رأسها برميلا ضخم الحجم، منتفخ البطن يداها مشققتان، قدماها كبيرتان داخل خف جلدي، كعباها يطلان لونهما أسود، تلف رأسها بمنديل أسود مربوط فوق جبينها على شكل عقدة، حاملة فوق رأسها البرميل بشكل مائل، مملوء حتى الحافة يوشك على السقوط، دون أن يسقط، تلوي وتحرك رأسها دون أن تمسكه بيدها، دون أن تسقط منه قطرة واحدة.
كانت المرأة تحملق إلى الإزميل في يدها، لم تر في حياتها امرأة تحمل آلة حادة، تراجعت إلى الوراء خطوة. - إنه إزميل. - ماذا يا أختي؟ - أحفر به الأرض وأبحث عن الإلهات. - ماذا؟ - الإلهة سخمت مثلا. - سخماط؟!
أصاب المرأة اضطراب، بدأ جسدها ينتفض، لكن البرميل كان ثابتا في مكانه، متربعا فوق رأسها رابط الجأش. - قليل من الماء أرجوك. - ماذا؟ - ماء ... ماء ...
راحت تصرخ وهي تردد: ماء ... ماء ... والمرأة واقفة ترمقها بعينين متسعتين من خلال الثقبين، كأنما هي ترى قطعة من الغنم تمأمئ، هبت في تلك اللحظة عاصفة جديدة كادت تقتلعها من الأرض، والمرأة واقفة تهز رأسها والبرميل ثابت متربع فوق رأسها. - من أنت؟
رأت الشك في عيني المرأة، أخرجت من حقيبتها بطاقتها الشخصية، الاسم، والجنس، ولون العينين، والمهنة، باحثة في قسم الحفريات، حسنة السير والسلوك، متزوجة، بدون أطفال، تقاريرها السرية لا غبار عليها، سددت أقساط التأمينات والضرائب، ليس عليها ديون، وليس لها سوابق، لم تصدر ضدها أحكام حتى الآن.
حملقت المرأة في البطاقة كأنما لا تعرف القراءة، تأملت صورتها المشبوكة بدبوس. - لماذا لا تسترين وجهك؟ أليس عندك حياء؟!
أعادت إليها البطاقة واستدارت، مضت بخطوة بطيئة مبتعدة على امتداد المنخفض، تمصمص بشفتيها وتطرقع بالخف الجلدي، كعباها أسودان يحركان الغبار في الجو، فوق ظهرها نتوء يشبه صنم الجمل، من حولها تجمعت النسوة فوق رءوسهن البراميل، تقرب كل منهن رأسها من الأخرى، يدور الهمس بصوت كالغمغمة، نهضت واحدة منهن، بدت من بعيد كالطفلة، عادت بعد لحظة ومن حولها عدد من الرجال، يرتدون الجلاليب الواسعة، فوق رءوسهم أغطية بيضاء.
ظلت أصوات النساء منخفضة لا تزيد عن الهمس، ارتفعت أصوات الرجال، كانوا يتكلمون في نفس واحد، كل منهم يحرك ذراعيه في الهواء، يضرب الأرض بقدميه، غبار كثيف يتصاعد، ثم توقفت الأصوات كلها فجأة، عم الصمت، لم تسمع فيه إلا نباح كلب من بعيد، استدارت لتمضي في طريقها، أسرعت الخطى تشد بيدها فوق الحزام المعلق على كتفها، لكن الأصوات كانت تتبعها، واستوقفها رجل يلف حول عنقه كوفية سوداء، فوق وجهه التصق ذرات سوداء كالنمش. - إنت يا مره!
ارتطمت كلمة «مره» بأذنيها مثل شفرة زجاج، تصلبت عضلات وجهها، كيف يمكن لرجل أن يستوقفها في الطريق ويسبها، أدارت له ظهرها ومضت في طريقها، تبعها وهو يضرب الأرض بقدميه، صوته لا يكف عن ترديد تلك الكلمة النابية.
अज्ञात पृष्ठ
مد ذراعه الطويلة كالعصا الخشبية وأمسك ذراعها، قرب فمه من أذنها وراح يزعق: يا مره! رائحة نفاذة تدفقت من فمه، خليط من اللعاب الأسود يسيل من الزاوية بين الشفتين. - من أنت؟ - أنا باحثة محترمة و... - من أين أتيت؟!
استدارت وأشارت برأسها إلى الطريق الذي جاءت منه، بدا مثل سرداب طويل مظلم، طمسته المياه السوداء كالطوفان، أغمضت عينيها ثم فتحتهما. - خرجت في إجازة و... - لم نسمع هذا من قبل. - يمكنني العودة. - لا يوجد طريق في هذا الوقت. - أيمكنني تأجير غرفة حتى الصباح؟ - أنت وحدك؟
هز الرجل رأسه عدة مرات: لا يمكن، ابتعد عنها يضرب الأرض بقدميه.
فتحت الحقيبة وأخرجت الخريطة، هل أخطأت المكان؟ انحنى جسمها فوق الأرض، بدت لمن يراها من بعيد أنها مقبلة على النوم، لكنها استغرقت طويلا في تحديد المكان، عثرت على بقعة حددتها بالقلم، أمسكت الإزميل وحفرت.
تدلى رأسها وهي تحفر فيما يشبه الإعياء، ربما كان المكان صحيحا وقد تكون واحدة من الإلهات مختفية، لكن الظلمة حالكة والذرات السوداء تتراقص أمام عينيها، أزاحت الطين ولمحت شيئا يشبه قرن بقرة، قبل أن تمتد ذراعها سمعت الأصوات من خلفها؛ طابور من الرجال يطل عليها، يرتدون الجلاليب، رءوسهم ملفوفة بغطاء أبيض، من خلفهم طابور من النسوة داخل العباءات السوداء، أخرجت واحدة من تحت العباءة ثديها العاري، أخذت تشد الحلمة السوداء بين أصبعها حتى اندفع من الثقب خرطوم رفيع أسود اللون، ثم أخرجت من تحت العباءة طفلا صغيرا، قبض بكفيه الصغيرين على الحلمة وراح يرضع بصوت مسموع.
أصوات الرجال بدأت تنخفض كأصوات النسوة، جلسوا القرفصاء على شكل حلقة، في الوسط حجر كبير جلس عليه رئيسهم، في أصبعه الصغير خاتم تلمع من فوق رأسه صورة لصاحب الجلالة، تحوطها اللمبات الملونة، ومكبر للصوت على شكل القمع. - بمناسبة عيد صاحب الجلالة أمرنا بالصرف.
الصوت هو صوت جلالته، شفتاه تتحركان في الصورة، فركوا عيونهم بأصابعهم، زوايا الجفون متآكلة يشوبها الاحمرار، يتبادلون النظرات، يرددون في نفس واحد: «قادر على كل شيء.» ثم يدب الصمت، يدعك كل منهم زاوية عينه، يتأمل الذرات السوداء العالقة بطرف أصبعه، يمسحه في جلبابه، ثم يدعك عينه الثانية.
غمغم صوت صاحب الجلالة من خلال القمع، كلماته متآكلة الحروف، لسانه معوج، ولم يفهم أحد ماذا يقول، هز رئيسهم رأسه علامة الإعجاب، هزوا رءوسهم، ثم توقف رأسه عن الاهتزاز، توقفت رءوسهم، نهض من فوق مقعده، فنهضوا، اختفى في عتمة الليل واختفوا من خلفه، ومن خلفهم النسوة.
لم يبق إلا صورة صاحب الجلالة، معلقة في السماء بلا أعمدة، ومن فوقها البوق، ورجل واحد يكنس الأرض، اقترب منها بخطوات بطيئة، كان هو الرجل ذو النمش، والكوفية السوداء، تمخط بصوت عال. - لا بد من إخلاء المكان. - وأين أبيت؟ - تعالي معي.
قادها إلى الطريق المنحدر، يسبقها بخطوة أو أكثر، كلما أسرعت لتمشي إلى جواره ترمقها عيناه فتبطئ السير لتصبح في المؤخرة، هبط المزلقان يلقي بنصفه الأعلى إلى الأمام، ويده تهرش ظهره.
अज्ञात पृष्ठ
كانت تتبعه فوق كتفها حزام الحقيبة، تمسكه بأصابعها كأنما يحميها من السقوط، في يدها الثانية الإزميل، ينتفض بانتفاضة جسمها ويبدو في الظلمة كأنما هو ينتفض وحده.
انحدر الطريق وازدادت الأرض سيولة، الرائحة النفاذة تشتد، قدماها تغوصان حتى الركبتين، شمر الرجل جلبابه وربطه حول وسطه، ثم قفز داخل مركب، قفزت وراءه فاهتز المركب، كادت تسقط لولا حركة من ذراعها استعادت بها توازنها.
بدا لها المشهد طبيعيا، لولا الرائحة النفاذة، الذرات السوداء المتطايرة تدخل أنفها وأذنيها، وتلتصق بزوايا جفونها، الظلمة تتراكم أمام عينيها كالتلال، والصمت، إلا صوت المجداف يخبط في بحر أسود لا نهائي.
بدأ الرجل يدعك عينيه وهو يغني:
يا واهب الحياة
يا قابض الروح
ارحمنا من الطوفان
يا مفرج الكرب.
عيناه وهو يغني شاخصتان نحو الأفق، يحك زاوية عينه بطرف أصبعه ثم يقرب أصبعه من عينه، يتأمله طويلا قبل أن يمسحه في جلبابه، ثم بدأ يهرش ظهره وتحت الإبط وما بين الفخذين، صوت غنائه يسري في الليل حزينا، إلا في لحظات متقطعة، حين ينتفض كأنما بلذة مفاجئة.
أوقف المركب عند كتلة من الظلام تشبه الجدار، انحنى باتجاه الظلمة، تنحنح بصوت عال معلنا عن مجيئه، لم يسمع إلا نباح كلب، صاح وهو يدق على الباب: «افتح يا أخي.»
अज्ञात पृष्ठ
من وراء الباب جاءت نحنحة رجل آخر، ومن أعماق الظلمة انفتح الباب، اندفعت الرائحة تؤلم غشاء الأنف، ظهرت شعلة صغيرة تهتز في يد كبيرة، وصوت متحشرج يخرج من الحلق: «ادخلي يا مره.»
واقفة في مكانها لا شيء فيها يتحرك إلا عنقها، يلتوي إلى أعلى نحو السماء، تبحث عن الهواء، من فوق كتفها الحزام تشده كأنما تشد ذاكرتها من الظلمة، كيف جاءت إلى هنا؟
ارتفع صوته أكثر: «ألا تسمعين الكلام؟»
حركت قدميها ودخلت، اجتازت عتبة منخفضة مألوفة الشكل، لكن البيت كان يهتز تحت قدميها كأنما هو مركب، انغلق الباب من خلفها فاستدارت، لم يكن الرجل ذو النمش الأسود هناك، وسمعت صوت المجداف يتحرك مبتعدا، انخرط الرجل في سعال متقطع ثم تمخط بصوت عال، تراجعت إلى الوراء خطوة، بدت في فزعها كأنما ترتد إلى الطفولة، وانطلقت من فمها صرخة، والضوء شاحب لا تكاد ترى شيئا، دعكت بطرف أصبعها عينها، الغرفة عارية من الأثاث والمقعد ثابت في الأرض، ساورها الشك، ألم تغادر قط مكانها؟ - اخلعي ملابسك.
لم يعد صوته غريبا على أذنيها، صوت الريح يضرب النافذة، خيوط من السائل الأسود تزحف من تحت عقب الباب، قطرات سوداء كالمطر تتساقط من السقف.
لم تكن في حقيقة الأمر نافذة، مجرد ألواح من الخشب، والأرض لم تكن أرضا، وإنما هي الألواح تئن تحت قدميها مثل القطط المريضة، تند عنها بلولة كالعرق يلتصق بكعب حذائها، أو بطن قدميها إذا خلعت الحذاء. - الرائحة غير محتملة؟
وضعت المنديل فوق أنفها وأغمضت عينيها، صوته متحشرج بعيد، كأنما يأتي من العالم الآخر، جالس فوق مقعده الخشبي، لا ترى منه إلا قدميه وركبتيه داخل المنامة، نصفه الأعلى يختفي وراء الصحيفة، حروف سوداء من الرصاص، السطر وراء السطر، مصبوبة في خطوط أفقية دقيقة. - مطلوب باحثون بقسم الحفريات. •••
دقت الطلب على الآلة الكاتبة، ملأت خانة الاسم والسن، والديانة، وفي خانة الجنس دقت أربعة حروف «أنثى»، رمقها رئيس القسم بعيون متسعة. - هذا القسم لا يقبل إلا الذكور، فالعمل غير ملائم. أعني حفر الأرض. - كانت خالتي تحفر الأرض، وأمي كانت أيضا تحفر الأرض، وتزرع و... - الحفريات شيء آخر، أعني البحث عن الآلهة في بطن الأرض. - الآلهة في السماء، أليس كذلك؟ - لكن هناك آلهة أخرى، ألم تقرئي شيئا عن الحفريات؟!
انتبهت إلى شيء يزحف تحت قدمها، أصبع ناعم طويل يشبه ذيل الثعبان، يلتوي وينثني ويحفر لنفسه طريقا هابطا من السقف، سرسوب من السائل الأسود، تجمعت حوله جيوش من النمل والأبراص والسحالي، وصراصير تشبه الخنافس لها أجنحة ترفرف فيما يشبه المرح.
سمعت صوته من وراء الصحيفة، كان يكلم نفسه، أو يقرأ أحد المانشيتات بصوت مسموع، دبت بعض الحركة في الغرفة الغارقة في الظلمة، أشاعت بعض البهجة تلك الأجنحة الصغيرة، ترفرف حول ذؤابة الضوء، مدت ساقيها فوق مقعد منخفض، قدماها متورمتان من طول السير، حقيبتها فوق كتفها تتدلى من الحزام، والإزميل داخل الحقيبة بطبيعة الحال، عيناها تحملقان حولها تستكشف المكان، فوق الجدار الأسود رأتها مرة أخرى، السحلية السوداء أو الحرباء، رمقتها بعينين صغيرتين، أصبحت بينهما ألفة.
अज्ञात पृष्ठ
تنحنح الرجل بصوت مسموع، اختفت السحلية داخل الشق، لم تعرف كيف رآها من خلف الصحيفة، نصفه الأعلى كان مختفيا تماما ، لا يظهر منه إلا قدماه وركبتاه داخل المنامة، ربما هي قرون الاستشعار، يتوجس لأي صداقة قد تنشأ بينها وبين كائن آخر. - جهزي العشاء.
قالها بلهجة من استأجر امرأة للطهي، لم تكن هناك خانة في الطلب الذي دقته على الآلة. في خانة العمل كتبت: باحثة عن الإلهات. - أنا جائع!
صاح بصوت عال، وهي جالسة ممدودة الساقين، قدماها ملتهبتان تسلخ عنهما الجلد، تكسوه طبقة سوداء.
في المطبخ كانت النافذة مسدودة، ألواح خشبية مدقوقة بالمسامير، ورق الصحف مضغوط بين الشقوق، مكوم وراء الباب يمنع دخول السرسوب من تحت العقب، وصنبور الماء مسدود بورق الصحف.
وهي واقفة أمام الحوض أحست بالرجل خلفها، أنفاسه فوق مؤخرة عنقها، لم تعرف كيف تشعل الموقد، ناولها شيئا يشبه المسدس، تضغط عليه بالإبهام فيطرقع والشرارة تنطلق، ضحكت كالطفلة.
أشياء صغيرة كانت تضحكها، تتبدد الظلمة ويلمع في الأفق ضوء، رأته يلوي عنقه إلى أعلى بكبرياء، تابعت بعينيها نظرته حتى السقف، كان السرسوب الأسود يزحف. - ما هذا؟ - ألا تعرفين ما هذا؟ - لا. - إنه النفط. - أيتسرب النفط من السقف؟! - بالطبع، حين يرتفع المنسوب في الأرض أو يهطل من السماء. - أتمطره السماء أيضا؟ - تعطي السماء من تشاء بغير حساب.
في المدرسة وهي طفلة عرفت أن النفط لا يوجد إلا في بطن الأرض، عبر ملايين السنين يتوالد من الأجسام الميتة، تتحلل بسبب الحرارة، وكائنات صغيرة اسمها البكتريا، وذرات التراب والرمل، وغبار المعادن، كل ذلك يتحلل إلى قطرات دقيقة تشرب الماء، تختزن في طبقات كالإسفنج، تنساب إليها الرمال وصخور جبرية متشققة، تحبس بين حبيباتها، وتخزنه في الشقوق داخل طبقات عازلة تحول دون تسربه إلى أعلى، وطبقة من المياه في جوف الأرض، يطفو فوقها، تحول دون تسربه إلى أسفل كالمصيدة، تنغلق عليه الأبواب من جميع الجهات تمنعه من الخروج إلى سطح الأرض، إلا إذا اهتزت بفعل زلزال أو بركان أو قنبلة تسقط في الحرب.
أطبقت شفتيها في صمت، كان عنقه لا يزال ملويا إلى أعلى يخاطب السماء كأنما هي واحدة من الإلهات. رفعت راسها فارتطم به من الخلف، كان واقفا وراءها، يحتك بها دونما حياء، انكمشت داخل جسدها في حرج، لم يكن في عقد العمل خانة لهذه الأشياء، أشاع انكماشها في نفسه الثقة، فالتصق بها أكثر، أنفاسه تلفح عنقها من المؤخرة، ذراعه امتدت ودارت حول صدرها، ثم استقرت يده فوق النهد الأيسر، رأت أظافره سوداء تفوح منها رائحة النفط. - ألا تأخذ حماما أولا؟ - ماذا؟
بدا عليه الغضب، لم يحدث من قبل أن بلغت امرأة هذه الجرأة، كادت يده ترتفع وتسقط فوق وجهها، ربما ارتفعت فعلا، ثم تراجع إلى الخلف، أدركه الإعياء فجأة، أشار إلى زجاجة صغيرة فوق رف خشبي، فتح فمه عن آخره حتى رأت اللهاة الحمراء تنتفض في حلقه. - أربع نقط.
سكبت في حلقه أربع قطرات، أغمض عينيه طويلا، ثم فتحهما، لعق شفته السفلى بطرف لسانه. - أهو ماء؟ - لا، نوع مقطر من النفط يروي أكثر من الماء، ويطهر الأمعاء، افتحي فمك.
अज्ञात पृष्ठ
سكب في فمها القطرة الأولى ثم الثانية، أرادت القطرة الثالثة والرابعة، تشبثت بالزجاجة تقبض عليها بأصابعها الخمسة، لكنه شدها منها وخبأها. - لك نقطتان فقط حسب القانون.
أطرقت برأسها، إرهاق أشبه بالاستغراق، كأنما سمعت عن هذا القانون من قبل، وسقطت في النوم، رأت نفسها تستحم في مياه دافئة، السماء زرقاء صافية، والحقول خضراء، في أنفها رائحة الزرع، تجلس فوق الجسر عند الغروب تنتظر ظهور الأضواء.
فتحت عينيها على شيء يحرق تحت الجفن، كانت الغرفة تغرق في الظلمة، ضوء خافت ينبعث من ذؤابة متهالكة، وهو جالس في مكانه وراء الصحيفة المفتوحة، قدماه حافيتان فوق البلاط.
أخفت حقيبتها تحت إبطها، سارت تجر قدميها إلى المطبخ، عادت وفي يدها كوب من الشاي الأسود، مد ذراعه وأمسك الكوب دون أن ينطق، وراح فيما يشبه النعاس وهو جالس، كانت الصحيفة متكورة فوق الأرض، فتحتها تقلب الصفحة وراء الصفحة. «امرأة خرجت في إجازة ولم تعد، محظور إيواؤها أو التستر عليها حسب القانون.»
علقت الحقيبة فوق كتفها بلا صوت، شدت الباب بحذر وخرجت، صوت الريح يعوي كصوت الذئاب الجائعة، قدماها تغوصان مع كل خطوة، لا تعرف السائل من اليابس، تتسند على الجدران كما كانت تفعل وهي طفلة، قبل أن تتعلم المشي، خالتها تمسك يدها: «تاتا خطي العتبة. هيلا هوب هيلا. يا ستنا الطاهرة.»
وهي طفلة لم تعرف من هي الست الطاهرة، ربما كانت مريم العذراء، في ظلمة الليل كانت روحها ترفرف أحيانا فوق أسطح القرية، فيعود البصر إلى بعض العيون العمياء، وتدب الحركة في بعض السيقان الكسيحة، أو ربما كانت هي السيدة زينب، الوحيدة من الأنبياء القادرة على شفاء خالتها من الوجع. - ماذا تقولين؟ - سأكون نبية؛ لأشفي الناس من الأمراض. - هل فقدت عقلك؟ لا يوجد بين الأنبياء امرأة واحدة!
صوته كان يرن في أذنيها واضحا، يبدد أحلامها، صوت رجل، ربما هو زوجها أو رئيسها في العمل، في امتحان الدخول كان جالسا وراء مكتبه.
بين شفتيه الغليون الأسود يهتز وهو يسألها السؤال وراء السؤال: ماذا تعرفين عن «نمو» إلهة المياه الأولى؟ - نمو؟ - و«إنانا» إلهة الطبيعة والخصب؟ - إنانا؟ - و«سخمت» إلهة الموت؟
لم تكن تعرف أن هناك شيئا اسمه إلهات، الأنبياء جميعهم رجال وليس بينهم امرأة واحدة، كيف إذن يكون بين الآلهة إناث؟! وأيهما أعلى درجة، النبي أو الإله؟ أما إله الموت فقد كان اسمه عزرائيل بالمذكر وليس سخمت بالمؤنث.
تحت ضوء اللمبة كانت تقرأ، وهو جالس في مكانه المعتاد، يختفي نصفه الأعلى وراء الصحيفة. - أتقرئين؟
अज्ञात पृष्ठ
لم يكن يظهر منه إلا القدمان والساقان، ركبتاه بارزتان مدببتان من تحت المنامة، أتكون عيناه في ركبتيه؟ ما إن تفتح الكتاب وتقرأ حتى تراهما تهتزان، تتوجسان! - اتركي الكتاب. - الامتحان غدا ولم أكمل القراءة، و... - أنا جعان.
نظرت للساعة في يدها، التاسعة وعشر دقائق، جهزت له الأكل منذ ساعة واحدة، كيف يجوع بهذه السرعة؟ وإن جاع فالوعاء فوق الموقد، والمطبخ على بعد ثلاث خطوات، رآه جالسا يهز ركبتيه، يحرك قدميه في الهواء، يطرقع أصابعه. - عطشان.
لم يكف عن الطلب، كالطفل، لا يستطيع أن يطعم نفسه، ولا يسقي نفسه، ما إن يراها تفتح الكتاب حتى يصيح، كأنما الكتاب رجل آخر يأخذها منه.
تخفي الكتاب تحت الوسادة، تنتظر حتى ينام، ويغرق في النوم، يتصاعد الشخير بذلك الإيقاع المنتظم، تفتح الكتاب وتقرأ، كانت هناك وصية من الإلهة الأم إلى ابنتها: «لا تنسي أمك. احمليها كما حملتك. حملتك في بطنها طول السنة. أعطتك حياتها وماتت.»
في هدأة الليل يسري الصوت في أذنيها، لم تسمع صوت أمها إلا وهي جنين في الرحم.
تراه يتقلب في نومه كأنما يسمع الصوت، تنتصب شعيراته في توجس، يفتح عينيه فجأة فتخفي الكتاب، ينقلب على الجنب الآخر ويعاود النوم، ترقد في مكانها تنتظر، لا تعرف إن كان نائما أو متظاهرا بالنوم، أنفاسه لم ترتفع بعد، وإيقاع الشخير لم ينتظم. - صاحية؟
تغمض عينيها وتطبق شفتيها، تترك أنفاسها تعلو وتهبط، ثم تسقط في النوم، يتهاوى جسدها إلى أسفل كأنما سقط في بئر. •••
كان كل شيء يغدو مبللا، حتى أغطية الفراش، بلولة سوداء نفاذة الرائحة، رأته يجثو على يديه وقدميه، ثم مد ذراعه نحوها، راح يحدق في وجهها دون أن يغير وضعه، شفتاه منفرجتان على نحو غير طبيعي، يكشف عن الشعر فوق صدره.
أدركت أنه سيمضي قدما في تلك اللعبة، فانقبضت عضلاتها وأحكمت إغلاق جسدها، أطبقت شفتيها وتظاهرت بالنوم.
اشتد تدفق السائل الأسود بصوت كالشلال، ارتفع حتى ركبتيه وهو جالس، نهض بجسد ثقيل يتثاءب، يدعك عينيه، تمخط في الحوض، أحضر من المطبخ مغرفة الأكل، بدأ يغرف من الأرض، ينحني بجذعه إلى أسفل، يملأ المغرفة، يرفعها بذراعيه، ومعها نصفه الأعلى، ويفرغها في البرميل، يملأ البرميل وراء البرميل دون توقف. - المنسوب يرتفع بشكل مفزع! - خير من عند الله. - إني أختنق. - لا تقفي هكذا، اهبطي بركبتيك.
अज्ञात पृष्ठ
جعلها تبرك كالجمل، عصر خرقة بالية، ثم لفها على شكل دائرة، وضعها فوق رأسها، ثبتها بدقات متتابعة، كأنما يدق مسمارا في جدار، انثنى بنصفه الأعلى مثبتا قدميه في الأرض، رفع البرميل بذراعيه الاثنين ثم وضعه فوق رأسها، التوى عنقها تحت الثقل، وكاد البرميل يسقط، هبت الريح فأمالت البرميل إلى جانب، تركته مائلا وحركت قدميها، القدم وراء القدم، حركة السير العادية، الطريق أمامها كأنما مشت فيه من قبل، هذا الطابور من النسوة تعرفه، وهي واحدة من الطابور، يسرن بخطوة بطيئة ثابتة كالزمن، تزداد العاصفة والشلال يهدر، أجسادهن تهتز كالقشة في مهب الريح، كل شيء يهتز، إلا البرميل فوق الرأس، يظل ثابتا في مكانه، رابط الجأش.
كانت تعود بجسد منهك، تتكور فوق الأرض، ركبتاها تحت ذقنها، حقيبتها تحت رأسها، حلقها جاف ولسانها تشقق، تفتح عينيها في الظلمة، تبحث عن الزجاجة، لم تكن في أي مكان، تعود إلى النوم، ثم تصحو على الصوت، كان قد اصطاد حيوانا يشبه الخروف أو الماعزة، ذبحها بالسكين، تدفق الدم كالنافورة، العينان تنظران نحوها، تستنجدان بها، وصوته يزأر. - هيا، اطبخي! - أنا لا آكل اللحم. - ليس من الضروري أن تأكليه، عليك أن تطبخيه! - لن أطبخه!
مد ذراعه الطويل بالسكين، رمقت النصل اللامع، فالتوى عنقها إلى أسفل، انكمشت داخل جسدها تخفي رقبتها بيديها الاثنتين.
جرت جسدا ثقيلا إلى المطبخ، مسحت الدم حول العنق، أشعلت الموقد ووضعت الوعاء، تصاعد البخار حتى السقف، أحست به واقفا خلفها، يتشمم رائحة اللحم، يحتك بها من الوراء، غريزة الأكل عنده كانت تصحو وتوقظ معها الغرائز الأخرى، تركت جسدها له وراحت في النوم، بينما هي نائمة شعرت بألم، يشبه وخز الإبرة، كان ضميرها يؤنبها، كيف أعطيته نفسي مقابل وجبة عشاء؟
في الصباح هب تيار عنيف، تناهى إليها على متن الريح صوت يشبه المجداف، أرهفت السمع وقلبها يدق، سمعت صوت امرأة يشبه صوت خالتها.
تبدد الصوت حين حرك الرجل جفونه، شدها إلى أعلى وظهر النني الأسود محدقا فيها، أمسك خرقة بالية، ربما هي سروالها، أخذ يلويه بين يديه كأنما يعصره، جعله على شكل حزام وضعه فوق رأسها، جعلها تثني جذعها، ثم رفع البرميل بيد واحدة. - إنه ثقيل جدا! سوف يحطم عنقي.
صوتها يرتد إليها، كأنما هي تكلم نفسها، سارت به في الطريق نحو الشركة، كالنائمة في حلم، ربما لهذا السبب كان جسمها قويا، استطاعت أن تحمله دون عناء، بل أحست بنوع من الخفة كما يحدث في الأحلام، لكن قلبها كان ثقيلا، هذا العمل ترفضه بقرة تحترم نفسها، ربما لا يقبله إلا نوع منقرض من الحمير، والبرميل أيضا من النوع المنقرض، له أذنان كبيرتان، وبطن منتفخ بالحبل كالإله ذي الثدي الواحد.
ترددت بعض الأصوات من بعيد، صرخات خافتة ذات إيقاع واحد، أعقبها صوت كالغمغمة، وضحكات مكتومة ثم الصمت.
بدا لها أنها تمشي دون أن تتقدم خطوة واحدة، واقفة حيث كانت، لا يفصلها عن عتبة الدار إلا خطوتان، كان الباب مفتوحا وهو جالس في مقعده وراء الصحيفة. - العاصفة مستمرة. - يمكنك الانتظار. - في هذا الوضع؟! - حين يزحف النفط فلا شيء يقف في طريقه، وعليك التعامل معه نهارا حين تسطع الشمس ويجف. - وهذا البرميل يسخن رأسي! - لا بد من الانتظار، لا بد! - قال: «لا بد» وهو ينظر إلى أعلى، دارت سحابة رمادية عند الخط الفاصل بين السماء والأرض. - النفط يشرب بخار الماء في الجو، وحين تتبدد السحب بواسطة الشمس يحدث الجفاف. - الجفاف؟ - نعم، وينحسر السائل متحولا إلى صلب، ويمكنك السير بسهولة دون أن تغوص قدماك، ويمكن أيضا أن تسير فوقه الدبابات.
حين قال: «الدبابات» كست عينيه لمعة، تشبه الدموع، ربما أخذوه إلى الحرب، ستصبح مساحته فوق الفراش خالية، وتكف عن الطبخ، شدت عضلات عنقها تحت ثقل البرميل، ضربت الأرض بقدميها.
अज्ञात पृष्ठ
كان الرجل منشغلا بالتطلع إلى الطريق، ظهرت بشائر الموكب الكبير، صف من حملة الطبول يدقون النشيد الوطني، سرب من الدراجات البخارية، والألعاب النارية، موظفو البلاط داخل سيارات سوداء طويلة، من خلفهم الصحفيون، دبابة ضخمة يطل منها صاحب الجلالة يلوح بيديه كأنما للجماهير، إلى جواره رئيس الشركة يرفع القبعة علامة التحية.
كان الطريق خاليا أمامها وهي تسير حين لسعتها العصا الخيزران فوق ردفيها. - انحني بسرعة!
لم تكن تعرف بعد كيف تؤدي التحية، انحنت إلى الأمام وثنت جذعها إلى الخلف، أصبحت مثل جمل يبرك، بدأ الرجل يعلمها الأنشودة، ترددت نغمة صوتية هادئة شبه موسيقية، مع كل مقطع يجفف عرقه بكم جلبابه. - أهي أنشودة وطنية؟ - نعم، فنحن هنا نتبع المبدأ: أنا أحب وطني. - أهو وطنك؟ - أمي دفنت هنا، وحيث تدفن الأم يكون الوطن.
قال: «الوطن» وأطرق إلى الأرض، جعل جفونه تنسدل فوق عينه كأنما يخفي الدموع، لم يكن يذكر أمه إلا حين يتهدده الموت، بين يديه ورقة صغيرة مختومة بوجه صاحب الجلالة، والاستدعاء الفوري.
رقدت مفتوحة العينين ترهف السمع، أحست به يدخل إلى جوارها في الفراش، أعطى وجهه للحائط، مدت ذراعها وربتت على عنقه من الخلف. - لا تذهب، فليس لك إلا مقبرة أمك. - من لا يذهب يقتل. - ومن يذهب يقتل. - لا مفر من الموت. - إذن نموت بإرادتنا.
قالتها بلا صوت وهي تخرج من الفراش، علقت حقيبتها فوق كتفها وأمسكت الإزميل، سارت بخطوة سريعة تطبق عينيها في مواجهة العاصفة، قدماها تغوصان في المياه السوداء حتى الركبتين، بدت الحركة مستحيلة، توقفت تشق بعينيها الظلمة وأذناها مرهفتان، كانت الأصوات خافتة أول الأمر، مثل حفيف الهواء أو هفهفة الجلاليب، تأتي من أسفل المنحدر حيث بيوت القرية، وتعلو بالتدريج، تشبه إيقاع الدفوف ودقات الطبل، رأت امرأة تدور حول نفسها فوق قدم واحدة، من حولها النسوة على شكل دائرة، نافشات شعورهن، أسنانهن تصطك، باسطات أذرعهن، يخبطن الأرض بأقدامهن، يدرن حول أنفسهن مع دورة الأرض، ينشدن في نفس واحد: «يا ستنا الطاهرة. خففي عنا الأثقال.»
المرأة في الوسط طويلة، رأسها مربوط بمنديل أسود، تشبه خالتها، تدب الأرض بقدميها، ترفع عينيها إلى السماء كأنما تناجي الإلهة الأم، ينتفض جسمها مع كل دورة، تزداد حركتها سرعة وخفة، وفي قمة الانتفاضة الأخيرة يخف جسمها كأنما يتلاشى، يتوقف الزمن ويدب الصمت، ثم تشع الحركة من جديد، تفيض نحو المحيط، وأجساد النسوة تنتفض. - يا ستنا الطاهرة. نجينا من الطوفان.
كأنما هي أنشودة قديمة كانت تغنيها البنات في المدرسة، انفرجت شفتاها وبدأت تهمس بالأغنية، لكن الكلمات تجمدت فوق شفتيها، وانشقت الظلمة عن كشافات الضوء، أغمضت عينيها ولم تسمع إلا نباح كلاب، وعجلات من حديد تدق الأرض، اختفت النسوة يخفين شعورهن تحت المناديل السوداء، لم تبق إلا المرأة الطويلة التي كانت في الوسط، حوطها الرجال وحملوها إلى العربة، صرخة واحدة ثم دب الصمت.
لم تعرف كيف عادت إلى الدار، جفونها كانت ملتصقة، تدعك زواياها بطرف أصبعها، ترى الذرات السوداء كالضباب، ومن حولها يتدفق الشلال، الرائحة النفاذة في أنفها تعيدها إلى الواقع، كل شيء يبدو كالحلم، الحركة الوحيدة المؤكدة هي حركة النفط، حركة غريبة كأنما هي النقيض لأي حركة أخرى.
كان الرجل قد عاد من الحرب بذراع واحدة، في الصباح خرج يملأ البراميل، ذراعه حين تدفعها تبدو رفيعة ناحلة، كأنما فقدت نصف وزنها، تهتز تحت الريح، ترتفع وتهبط في حركة لا نهائية، كمن ينزح الماء من البحر. - عبث! عبث!
अज्ञात पृष्ठ
قالها بصوت غير مسموع، وانثنى عنقها تحت الثقل، حركة ذراعه وهو ينزح النفط تشبه حركة عنقها وهي تحمل البرميل، توقفت في مكانها كالحصان الجامح، ثبتت قدميها في الأرض، لكن التوقف بدا مستحيلا، كان النفط يتدفق وله شكل السائل، يمكن للأجسام الخفيفة أن تطفو عليه، إذا خف جسمها يمكنها السباحة، لكنها لم تتعلم كيف تطفو فوق الماء، قبل أن تنزل البحر كان عليها أن تخلع ملابسها، ولم يكن للنسوة أن يخلعن الملابس.
أغمضت عينيها دون أن تعرف الوقت، نظرت إلى الساعة في يدها وجفونها مغلقة، ثم تذكرت أنه لا يمكن أن تعرف الزمن دون أن تفتح عينيها، شدت جفونها فانفتحت نصف عين، كانت الساعة الخامسة وعشر دقائق، في الأفق شعاع خافت لم تعرف إن كان الفجر أو الغروب.
بدأت في النهوض من الفراش، قبل أن تتحرك أرادت أن تتأكد أن الرجل غارق في النوم، راحت تنقل القدم وراء القدم بلا صوت، انقلب الرجل على الجنب الآخر وغاب في النوم، تأملته طويلا، متكور حول نفسه مثل الطفل اليتيم، مستسلم للنوم فيما يشبه اليأس، ثنت جذعها إلى الأمام كأنما ستطبع فوق جبينه قبلة وداع. ماذا يقول عنها حين يصحو فلا يجدها؟ ضميرها لا يزال حيا أو هكذا تصورت، لن تسبب لها قبلة الوداع أي أذى على أي حال.
فتحت الباب وخرجت، تقدمت بضع خطوات وبدأت الأرض تلين، قدماها تغوصان حتى الركبتين ، نجحت في إخراج ساقها اليمنى ثم اليسرى، ثم عادت أدراجها تلهث.
كان الرجل جالسا مطرقا فيما يشبه الحزن، امتلأت عيناها بحنان له شكل الدموع. - حاولت الهرب لكني لا أستطيع الحركة.
ظل الرجل صامتا لا شيء فيه يتحرك. - لن أستطيع البقاء هنا!
تصلبت واقفة وصوتها اختنق، اكتسب صمت الرجل وإطراقة رأسه معنى مخيفا، هل ارتبط مصيرها بمصيره إلى الأبد؟
كانت الشمس قد ارتفعت في السماء، تلتهب أشعتها بلون أحمر، اشتعلت بعض أطراف البركة بالنار، تصاعد الدخان يحجب السماء وقرص الشمس، رفع رأسه وهو يفرك عينيه. - هذا الدخان نعمة من الله؛ فهو يخفف الحرارة.
لم يعد صوته يثير في جسدها موجات الغضب، ارتسم فوق وجهها تعبير يائس، كانت واقفة حافية القدمين، رأسها يتدلى فوق صدرها، عظام جسمها تهدلت في استسلام وحزام الحقيقة يتدلى فوق كتفها. - نعم، المقاومة لا معنى لها.
صوتها متهالك النبرة، تكاد لا تسمعه، ولم يكن للرجل أيضا أن يسمعها، كان مطرقا برأسه، وفي إطراقته شيء إنساني، عاطفة ما تربطها به، ليست هي الحب عن يقين.
अज्ञात पृष्ठ
انزلقت قدمه فجأة وسقط فوق وجهه، ساعدته في النهوض تنفض الغبار عنه، لكنه دفعها بعيدا، وعضلات وجهه تتقلص. - لولا وقوفك هكذا ما وقعت. - قدمك انزلقت. - ليست قدمي! - إذا لم تكن قدمك فماذا تكون؟ - أنت! وقوفك هكذا في طريقي.
كانت واقفة بعيدة عنه، لا يمكن مهما حدث أن تكون سبب وقوعه، لكنه كان عاجزا عن إدراك آخر، كان يؤمن بهذا المبدأ: إذا أصابه شر فهو من المرأة، وإن أصابه خير فمن نفسه.
لم تفتح فمها بكلمة واحدة، أمسكت رأسها بيديها، عليها أن تتظاهر بأن قدمه لم تنزلق، وأنها السبب في وقوعه، وعليها أن تعتذر عن خطئها وتطلب منه المغفرة.
تكورت عند قدميه، عيناها تتطلعان إليه وهو واقف، كفت عن الحركة تماما، تظاهرت بالموت لحظة، ثم أفاقت، كان الشلال يتدفق، يغرق كل شيء، لكن أهل القرية يسيرون في طريقهم كأنما لا يحدث شيء، أصوات باعة الصحف تتصاعد، وهو واقف بلا صوت، الصمت يؤكد أن كل شيء واضح دونما كلام، البرميل أمامها والبركة خلفها ولا شيء آخر.
تهالك جسمها فوق الأرض، ربطت المنديل حول رأسها وأجهشت بالبكاء، انهمرت الدموع تحرق زوايا الجفون الملتهبة، تذوب في الغبار العالق برموشها، تهبط فوق خديها كالخيوط السوداء.
حركت رأسها ناحية الرجل، كان واقفا في مكانه، خلع قميصه وكشف عن صدره، راح يداعب بأصابعه كتل الشعر الملتصق بعضه البعض، في جسده العاري شيء غير إنساني، لم يكن في مقدورها أن تضع رأسها فوق هذا الصدر، مربع عريض ومغلق كالصندوق، لاحت لها فكرة أن تفتحه بالإزميل، لكن يدها لم تتحرك من مكانها، كانت الفكرة خيالا يروح في رأسها ويجيء.
مدت يدها لتمسك الإزميل، في تلك اللحظة أصابها ألم حاد في الصدر، كأنما قطعة متجمدة من النفط دخلت مع الهواء إلى الرئة.
أطلقت الصرخة فوثب فوق قدميه، ظل واقفا مترددا بعض الشيء متهدل الملامح، لم يكن ثمة أمل في قدرته على إزالة الألم، لكنه كان موجودا، في وجوده شيء ما، أو في الحركة التي وثب بها فوق قدميه، أو في ملامحه رغم تهدلها، أو نظرة الفزع في عينيه، كان هناك شيء ما يخفف الألم.
استطاعت أن تحرك قدميها نحوه بضع خطوات، يدها فوق صدرها تدوس على الألم، اقتربت منه فلم يعد بينها وبينه إلا خطوة واحدة، لم يسبق في حياتها أن شاهدت وجه رجل بمثل هذا اليأس.
رفعت عينيها إلى السماء، كانت الشمس تغرب، والضوء انطفأ، أتت بحركة انحناء مفاجئة كأنما ستنام، التوى عنقها بزاوية حادة إلى الأمام، أفزعتها الحركة فانتفضت واقفة، أمسكت الحزام الجلدي فوق كتفها وشدته بقوة، انزلقت الحقيبة من فوق كتفها وسقطت إلى الأرض، انطلق الإزميل خارجا منها بحركة مباغتة.
अज्ञात पृष्ठ
هبت نسمة هواء طرية، فتحت أزرار ثوبها تتلقى الطراوة فوق بشرتها العارية، كان للهواء ملمس منعش، أعاد إليها شيئا من سعادتها الطفولية، لم تكن كل طفولتها أحزانا، كانت هناك بعض لحظات سعادة، حين كانت تجلس فوق الجسر، عند الغروب، رأته ينظر إليها، يركز النظر إلى صدرها العاري، لم يكن بها أي رغبة لإغوائه، كانت تريد الهواء فحسب، يرطب بشرتها الملتهبة، ويجفف العرق.
كان عريها طبيعيا تحت وطأة الحر، لكنه ظل يحملق في صدرها كأنما كشفته عمدا، مدت ذراعها لتغلق الثوب فلم تمتد ذراعها، أغمضت عينيها في إعياء، أجل يمكن لها أن تهرب، ألم تهرب من قبل مرة؟ ألم تصنع ثغرة في الجدار تسلك منها وخرجت في إجازة؟
تلفتت حولها، لم تكن هناك جدران أربعة تحوطها، مجرد مساحات ممدودة من السائل، بركة أو بحيرة أمواجها سوداء، يمكن العثور على قارب، أو تصنع لنفسها مركبا من الجريد، في طفولتها صنعت سفينة صغيرة من زعف النخيل، وصنعت أيضا طائرة بجناحين من ورق الشجر.
بدأت تشد جسمها وتنهض، حركت قدميها في الاتجاه الآخر بعيدا عن الرجل.
ابتعدت بضع خطوات، رأته عن بعد أكثر إنسانية، ينظر إليها بعينين أكثر رقة، عيناها تنجذبان نحوه، يمكنه أن ينادي عليها لو أراد، لكنه صامت، وفي صمته شيء غير مستقيم.
لم تسر إلا بضع خطوات وعادت، كان الرجل قد دخل إلى الدار، رأته مستلقيا فوق ظهره يقطر في فمه من الزجاجة، بطرف لسانه مسح قطرة سقطت فوق شفته العليا، تطلع حوله كأنما لم يتوقع مجيئها. - أنت أناني، أليس كذلك؟ - نعم، ولكني أفضل من رجال كثيرين. - هذا أكيد. - غدا سأعطيك نصيبك، حين يصرفون المنحة. - غدا لن أكون هنا. - ماذا تقولين؟ - أرجوك، ساعدني لأعود، فهناك زوجي ينتظرني، قد تساوره الشكوك، وأيضا رئيسي في العمل لا يقل عن زوجي تشككا، وقد خرجت في إجازة، وهذا أمر يثير الشكوك، ولكن لم يكن يشغلني شيء، إلا البحث عن الإلهات، ولعلك سمعت عن الإلهة سخمت. - سخمط؟!
مط شفتيه إلى الأمام، وهو ينطق الكلمة، انقلبت شفته السفلى إلى الخارج، وقلب حرف التاء إلى الطاء. - ألا تعرف شيئا عن الحفريات؟ - في عيد صاحب الجلالة يأمرون بالصرف. - صرف ماذا؟ - الزجاجات. - لم أعد أريد شيئا! - ما المشكلة إذن؟ - لا أفهم لماذا لا تطلق سراحي؟ - سراحك؟ - نعم، فأنا مثلك إنسانة ولي حقوق. - ماذا؟ - حقوق المرأة! ألا تعرفها؟! - هذا شيء لم نسمع به، وعندنا قانون حقوق الإنسان فقط.
نكست عينيها، تنهدت بلا صوت، تهاوت ملامحها وتهدلت كتفاها، لم تبذل محاولة للرد، بدا لو كان الكلام بلا معنى.
غاب هو الآخر في صمت طويل، أطرق برأسه كأنما يتطلع إلى قدميه، أو ربما سقط في النعاس، ثم رفع رأسه، عيناه تنظران إليها. - لماذا لا تريدين البقاء هنا؟ - ولماذا تريد اللقاء هنا؟ - عملي هنا. - أتسمي هذه السخرة عملا؟ - هناك طابور طويل ينتظر بلهفة أن يخلو مكاني.
رفع ذراعه وأشار إلى خط أسود في الأفق، تابعت عيناها حركة أصبعه، كان الخط على شكل قوس منحن، يختفي وراء سحابة قاتمة، تتبدد قليلا تحت ضوء الشمس، يبدو الخط متحركا، على شكل نقط سوداء، آلاف النقط، تظهر على شكل رءوس متلاصقة، منحنية إلى أسفل، يسيرون بحركة بطيئة تشبه الزحف، يجرون أقدامهم جرا، يتقدمون خطوة وراء خطوة بظهور محنية، رجال لهم شوارب مفتولة، ونساء رءوسهن مربوطة بلا وجوه، تهب العاصفة وسحابة جديدة تظهر، يختفون تماما عن الأعين، لا يبدو لهم أثر، إلا ذلك الخط الأسود يتبدى في الأفق على شكل القوس.
अज्ञात पृष्ठ