تعبت المرأة من الوقوف فجلست فوق المقعد، من وراء الباب كان يرقبها من شق المفتاح، ربما تكون الورقة قد هضمت تماما، أو ربما الكلمات ذابت مع ذوبان الحبر، رآها تضغط بيدها فوق أحشائها، كأنما تثبت الحروف فوق الورقة، تحميها من الزوال، ألهذا الحد يكون الحب؟!
سمعها تدندن بصوت مرتفع، بدأت تغني أغنية كانت تغنيها في الطفولة، ترفع صوتها فتغرق الأصوات الأخرى في الصمت، من وراء الباب يتسرب غناؤها، لقد أنقذت الورقة وما عليها من حروف، وطرأت لها فكرة وهي جالسة، ستكون ليلة العيد أفضل وقت للهرب؛ فالرجل يذهب إلى الحفل، إنها دعوة صاحب الجلالة، ولا يمكن أن يتخلف، يرتدون الثياب اللامعة والأحذية الجديدة، يجلسون الساعة وراء الساعة والأبواب مغلقة، لا يمكن أن يخرج وإن جاءه مغص، يتلوى في مقعده الساعة وراء الساعة، وقد يفلت منه البول قبل وصول صاحب الجلالة، يتحسس الواحد منهم المقعد من تحته، ثم يقرب أصبعه من أنفه خلسة، تتسع عيناه في فزع، ليست هي رائحة البول، فوق أصبعه يرى طبقة سوداء، لا هي بالسائل ولا هي بالصلب، ولها رائحة النفط، لكن أحدا لا يستطيع النطق، يمسح كل منهم أصبعه في سرواله خلسة ويبقى في مقعده جالسا ينتظر فتح الأبواب. - ربما يجتاز الحدود قبل عودته من الحفل.
كان الرجل ثابتا وراء الشق في الباب، لم يعرف تماما متى يمكنه الانقضاض، بدت له المرأة نائمة وهي جالسة، رأسها يتدلى فوق صدرها، وعيناها مغلقتان، كان يفكر أيهما أكثر خطورة، أن تكون رسالة حب أم عقد زواج، ربما كان بمقدوره أن يكشف عن الخطرين معا، إذا كان الرجلان واحدا.
في تلك اللحظة هبت العاصفة فانسد الشق من الباب، بدا الطريق أمامه مسدودا تماما، ولا شيء يراه إلا الظلمة، سمع المرأة كأنما تضحك من وراء الباب، أتكون هناك علاقة بين الحب والنفط؟ أصابته الفكرة بالرعب، وتراجع إلى الوراء خطوة، فإذا به ينقلب فوق ظهره.
لم تره المرأة حين انقلب، تصورت أنه لا يزال وراء الباب، كان الألم يمزق أحشاءها، وأنفاسها تتلاحق كأنما تشهق، لم يكن هو الضحك أو النشيج المتقطع، كانت تحاول الصراخ طالبة النجدة، لولا أنها تذكرت أنه وراء الباب ويمكن أن ينقض لسماع الصوت. - كيف تشد السيفون بلا صوت؟!
لم يكن هناك ماء بطبيعة الحال، ولا شيء تزيل به الأثر، لم تشأ أن تفتح الباب وتخرج بوجه بريء، أكثر ما كان يقلقها هو الرائحة، مزيج من العرق والنفط وبقايا السردين والمخلل، أكانت رائحة منفردة؟! بالطبع لا، كانت شديدة الألفة تحس نحوها بالحب، لكن الرجل وضع يده فوق أنفه وصرخ فيها يشبه النجدة، فانتهزت الفرصة ووثبت خارج الباب.
كانت الشمس تنكسر عند المغيب، وفي ضوء الغسق، بدأت تتحسس موضع قدمها على الأرض، عثرت على البقعة المحددة فوق الخريطة، رفعت ذراعها وضربت بالإزميل المرة وراء المرة، وفجأة أحست به يرتطم بشيء صلب، كان تمثالا صغيرا من البرونز، النهد البارز بوضوح لا يقبل الشك، والردفان أيضا يؤكدان أنها امرأة، فوق رأسها تحمل قرص الشمس والقرنان يلتويان إلى الأمام، لا بد أنها الإلهة حتحور، من غيرها؟ كانت في الرأس حفرة، والجلد تآكل بفعل النفط ومياه المجاري في بطن الأرض، لكن الوجه كان مستديرا، والابتسامة فوق الشفتين، والذقن والأنف يتسمان بالرقة، والحزام حول الخصر النحيل، والثعبان الملفوف والمعقود حول الجبين، فوق الصدر لم يكن هناك إلا ثدي واحد، ربما أكل النفط الثدي الآخر، لكن الحروف كانت محفورة فوق الحجر، والاسم داخل برواز، الإله ذو الثدي الواحد ، اتسعت عيناها ودققت النظر، أدركت أن الثدي قد أزيل بفعل فاعل، كانت هناك النية لإزالة الثاني، لكن الوقت لم يكن كافيا لاستكمال الإزالة، كانت هناك محاولة أيضا لمسح الابتسامة، أو رسم خطوط حول الفم ليكتمل العبوس، لكن الجسد ظل كما كان ممتلئ الردفين، والروح ترفرف حول النهد الواحد كأنما هو ثدي الأم. - سيجذب هذا التمثال كثيرا من السياح، ويأتي الفوج بعد الفوج، وتتدفق العملة الصعبة. - ماذا تقول؟ - ألا تفهمين كلامي؟ ماذا حدث لك؟ هل أنت مريضة! - لا، ولكني طلبت إجازة. - ماذا تقولين؟ - مجرد طلب. - هل فقدت عقلك؟!
لم يكن رئيسها في العمل يدرك ما تقول، كانت قد اكتشفت علامات التزييف، وتحويل الإلهات إلى آلهة، لم يكن لها أن تحكي لزوجها عن رئيسها في العمل، لم يكن الزوج يطيق سماع الحديث، ورئيسها لم يكن يطيق سماع زوجها، ولم تكن هي تطيق سماع الرجلين، كل ما كانت تريده هو الورقة، تكتب عليها الطلب، فلم يكن هناك إجازة دون ورقة مكتوبة، يحدد تاريخ المغادرة، وتاريخ العودة، والمكان المقصود، ولا يمكن ترك العودة بلا تاريخ محدد، ويمكن للرجل أن يغيب سبع سنوات، ثم يعود فيجد زوجته بحكم القانون، أما المرأة فلم تكن إجازتها إلا يوم جنازتها، والفرق مجرد حرف واحد فوق الآلة الكاتبة، وينقلب الفرح إلى مأتم.
اختفى الضوء فوق متن كثبان النفط، فضاعت معالم الطريق في الظلمة، توقفت عن السير، كانت الريح تصفر دون أن تسمع شيئا، قناة الأذن انسدت تماما وكانت في حاجة إلى حاسة السمع، أيمكن أن تهرب دون أن تتسمع الأصوات؟ نظرت إلى الساعة في يدها، عقرب الساعات يشير إلى السابعة، وعقرب الدقائق متوقف، وعقرب الثواني تآكل حتى النهاية، لو كان بمقدورها عبور الحدود قبل طلوع النهار؟ لن تسعى إلى التشبث بالنفط مثلما تشبثت بالحب، فالطريق أمامها يبدو منزلقا، الانحدار شديد، والكثبان عالية، ليس هناك فارق بين الصعود أو الهبوط، وهي تترك جسدها يتحرك كما كانت تتركه وهي طفلة، رأسها يرتطم بالظلمة، وقدماها تغوصان لما فوق الركبتين.
حل الليل، وامتد النفط بلا نهاية، أمواج فوق أمواج، ولا أثر لأضواء القرية، ولا البيوت، ولا الجسر، أغمضت عينيها، وتصورت زوجها يصحو من النوم فلا يجدها، سيلوي عنقه ناحية باب المرحاض، إذا كان مغلقا يدرك أنها هناك، وإن كان مفتوحا يظن أنها في الحمام، أو ربما في المطبخ، كان قادرا على تحديد مكانها دون أن يفتح عينيه، وإذا فتح عينيه فلا يمكن رؤيتها إلا من وراء الباب.
अज्ञात पृष्ठ