وعبروا الدنيا إلى غيرها
فإنما الدنيا لهم معبر
كنت أجادل بعض أهل العلم في المسجد الأقصى بدمشق، وإنا لكذلك نقرع الحجة بالحجة، ونصدم البرهان بالبرهان، وإذا بصبي يشق صفوفنا حتى وقف بين أيدينا، وسألنا عن رجل يعرف الفارسية، فحول الجمع أبصارهم إلي، ودلوا الفتى علي، فاستدعيته وقربته وسألته عن حاله، فقال: إن شيخا يعالج سكرات الموت، وهو يتكلم الفارسية وليس بين أهله من يفقه قوله، ولعل الشيخ يوصي فتذهب وصاياه هباء جزاء جهل أهله بلسانه. فوقع كلام الفتى من قلبي، وصح عزمي على اصطحابه إلى حيث يكون ذلك الشيخ.
فلما بلغناه وجلست إليه سمعته يقول بالفارسية: «ما أوشكت أن أطمئن وأشعر بلذة الحياة حتى سئمت نفسي البقاء، فكنت كالضيف الجائع إذا جلس إلى المائدة لا يكاد يستقر به المكان حتى يصرفه رب الدار.» فلما فسرت هذا القول لأصحابي من العلماء عجبوا لتعلق الرجل بأهداب الحياة، وهالهم أن يخشى الموت من كان شيخا مثله بعد أن نال من العيش مناه. ولما فرغ الشيخ من قوله سألته عن حاله، أنشد:
ما راح يوم على حي ولا ابتكرا
إلا رأى عبرة فيه إن اعتبرا
ولا أتت ساعة في الدهر فانصرفت
حتى تؤثر في قوم لها أثرا
ثم قال: «كيف تسألني؟ ألست تعلم لشدة ما تعانيه إذا انتزع الطبيب من فيك ضرسا؟» قلت: نعم، قال: «إني أقاسي أضعاف هذا الألم لدى نزع النفس من البدن، والله إنني أريد سفرا بعيدا بغير زاد، وقادم على ملك عادل بغير حجة، وسأسكن قبرا موحشا بغير أنيس، مثل الجواد والإبل.»
سرت يوما وأنا بعذرة الشباب في واد حتى بلغ مني الأين، ونال التعب مني منالا، وفرى المسير جلد قدمي، وكنت بلغت سفح الجبل فاستلقيت منتهكا لا أقدر أن أحرك ساكنا، وإني لكذلك وإذا بشيخ كان مسافرا قد بلغ مكاني، فلما رآني قال: كيف تلقي رحلك بسفح الجبل؟
अज्ञात पृष्ठ