واما الضرب الثالث: فكان تشبهه بها فيه، إن كان يلازم الفكرة في تلك الموجود الواجب الوجود، ثم يقطع علائق المحسوسات.
ويغمض عينيه، ويسد أذنيه، ويضرب جهده عن تتبع الخيال، ويروم بمبلغ طاقته إن لا يفكر في شيء سواه، ولا يشترك به احدًا ويستعين على ذلك بالاستدارة على نفسه والاستحثاث فيها.
فكان اذا اشتد في الاستدارة، غابت عنه جميع المحسوسات، وضعف الخيال وسائر القوى التي إلى الألأت الجسمانية، وقوي فعل ذاته - التي هي بريئة من الجسم - فكانت في بعض الأوقات فكرته قد تخلص عن الشوب ويشاهد بها الموجود الواجب الوجود، ثم تكر عليه القوى الجسمانية فتفسد عليه حاله، وترده إلى اسفل السافلين.
ويعود من ذي قبل، فان لحقه ضعف يقطع به عن غرضه تناول بعض الأغذية عن الشرائط المذكورة.
ثم انتقل إلى شأنه من التشبه بالأجسام السماوية بالاضرب الثلاثة المذكورة.
ودأب على ذلك مدة وهو يجاهد قواه الجسمانية وتجاهده، وينازعها وتنازعه في الأوقات التي يكون له عليها الظهور، وتتخلص فكرته عن الشوب، يلوح له شيء من أحوال أهل التشبه الثالث.
ثم جعل يطلب التشبه الثالث، ويسعى في تحصيله، فينظر في صفات الموجود الواجب الوجود.
وقد كان تبين له أثناء نظره العلمي قبل الشروع في العمل، إنها على ضربين: آما صفة ثبوت: كالعلم والقدرة والحكمة.
واما صففة سلب: كتنزه عن الجسمانية وعن صفات الأجسام ولواحقها، وما يتعلق بها، ولو على بعد.
وان صفات الثبوت يشترط فيها هذا التنزيه حتى لا يكون فيها شيء من صفات الأجسام التي من جملتها الكثرة، فلا تتكثر ذاته بهذه الصفات الثبوتية، ثم ترجع كلها إلى معنى واحد هي حقيقة ذاته.
فجعل يطلب كيف يتشبه به في كل واحد من هذين الضربين.
آما صفات الاجاب، فلما علم انها كلها راجعة إلى حقيقة ذاته، وانه لا كثرة فيها بوجه من الوجوه، إذ الكثرة من صفات الأجسام؛ وعلم إن علمه بذاته؛ ليس معنى زائدًا على ذاته، بل ذاته هي علمه لذاته؛ وعلمه بذاته هو ذاته، تبين له انه إن أمكنه هو إن يعلم ذاته، فليس ذلك العلم الذي علم به ذاته معنى زائدًا على ذاته، بل هو هو! فرأى إن التشبه به من صفات الاجاب، هو ان يعلمه فقط دون إن يشرك به شيئًا من صفات الأجسام؛ فاخذ نفسه بذلك.
واما صقات السلب، فانها كلها راجعة إلى التنزه عن الجسمية.
فجعل يطرح اوصاف الجسمية عن ذاته.
وكان قد طرح منها كثيرًا في رياضته المتقدمة التي كان ينحو بها بالتشبه بالأجسام السماوية.
إلا انه أبقى منها بقايا كثيرة: كحركة الاستدارة - والحركة من أخص صفات الأجسام - وكل الاعتناء بأمر الحيوان والنبات والرحمة لها، والاهتمام بإزالة عوائقها.
فان هذه أيضًا من صفات الأجسام، إذ لا يراها أولًا إلا بقوة جسمانية، ثم يكدح بأمرها بقوة جسمانية أيضًا.
فاخذ في طرح ذلك كله عن نفسه، إذ هي بجملتها مما لا يليق بهذه الحالة التي يطلبها الآن.
وما زال يقتصر على السكون في قصر مغارته مطرقًا، غاضًا بصره، معرضًا عن جميع المحسوسات والقوى الجسمانية، مجتمع الهم والفكرة في الموجود الواجب الوجود وحده دون شركه؛ فمتى سنح بخياله سانح سواه، طرده عن خياله جهده، ودافعه وراض نفسه على ذلك، ودأب فيه مدة طويلة، بحيث تمر عليه عدة أيام لا يتغذى فيها ولا يتحرك.
وفي خلال شدة مجاهدته هذه ربما كانت تغيب عن ذكره وفكره جميع الأشياء إلا ذاته، فانها كانت لا تغيب عنه في وقت استغراقه بمشاهدة الموجود الأول الحق الواجب الوجود.
فكان يسوءه ذلك، ويعلم انه شوب في المشاهدة المحضة، وشركه في الملاحظة.
ومازال يطلب الفناء عن نفسه والإخلاص في مشاهدة الحق حتى تأتى له ذلك، وغابت عن ذكره وفكره السموات والأرض وما بينهما، وجميع الصور الروحانية والقوى الجسمانية، وجميع القوى المفارقة للمواد، والتي هي الذوات العارفه بالموجود الحق؛ وغابت ذاته في جملة تلك الذوات، وتلاشى الكل واضمحل، وصار هباءً منثورًا، ولم يبقى إلا الواحد الحق الموجود الثابت الوجود.
وهو يقول بقوله الذي ليس معنى زائدًا على ذاته: "بسم الله الرحمن الرحيم" لمن الملك اليوم لله الواحد القهار صدق الله العظيم ففهم كلامه وسمع ندائه ولم يمنعه عن فهمه كونه لا يعرف الكلام، ولا يتكلم.
1 / 22