فاستهل أيسر الضررين، وتسامح في اخف الاعتراضين، ورأى إن يأخذ من هذه الأجناس إذا عدمت آيها تيسر له، بالقدر الذي يتبين له بعد هذا.
فأما إن كانت كلها موجودة فينبغي له حينئذ إن يتثبت ويتخير منها ما لم يكن في أخذه كبير اعتراض على فعل فاعل، وذلك مثل لحوم الفواكه التي قد تناهت في الطيب، وصلح ما فيها لتوليد البزر على الشرط التحفظ على ذلك البزر، بان لا يأكله ولا يفسده ولا يلقيه في موضع لا يصلح للنبات، مثل الصفاة والسبخة ونحوهما.
فان تعذر عليه وجود مثل هذه الثمرات ذات الطعم الغاذي، كالتفاح والكمثرى والأجاص ونحوها، كان له عند ذلك إن يأكل آما الثمرات التي لا يغذو منها إلا نفس البزر، كالجوز والقسطل، واما من البقول التي لم تصل بعد حد كمالها.
والشرط عليه في هذين لأن يقصد أكثرها وجودًا وأقواها توليدًا، وان لا يستأصل أصولها ولا يفني بزرها.
فان عدم هذه، فله أن يأخذ من الحيوان آو من بيضه، والشرط عليه من الحيوان إن يأخذ من أكثره وجودًا، ويستأصل منه نوعًا بأسره.
هذا ما رأى في جنس ما يتغذى به.
واما المقدر فرأى أن يكون بحسب ما يسد خلة الجوع ولا يزيد عليها.
واما الزمان الذي بين كل عودتين، فرأى انه إذا اخذ حاجته من الغذاء، أن يقيم عليه ولا يتعرض لسواه، حتى يلحقه ضعف يقطع به بعض الأعمال التي تجب عليه في التشبه الثاني، وهي التي يأتي ذكرها بعد هذا.
فأما ما تدعو إليه الضرورة في بقاء الروح الحيواني مما يقيه من خارج، فكان الخطب فيه يسيرًا: إذ كان مكتسيًا بالجلود، وقد كان له مسكن يقيه مما يرد عليه من خارج، فاكتفى بذلك ولم يرى الاشتغال به، والتزم في غذائه القوانين التي رسمها لنفسه، وهي التي تقدم شرحها.
ثم اخذ في العمل الثاني، وهو التشبه بالأجسام السماوية والاقتداء بها، والتقبل أوصافها، فانحصرت عنده في ثلاثة أضرب: الضرب الأول: أوصاف لها بالإضافة إلى ما تحتها من عالم الكون والفساد، وهي ما تعطيه إياه من التسخين بالذات، آو التبريد بالعرض، والإضاءة والتلطيف والتكثيف، إلى سائر ما تفعل فيه من الأمور التي بها يستعد لفيضان الصور الروحانية عليه من عند الفاعل الواجب الوجود.
والضرب الثاني: أوصاف لها في ذاتها، مثل كونها شفافة وناصعة وطاهرة منزهة عن الكدر وضروب الرجس، ومتحركة بالاستدارة بعضها على مركز نفسها، وبعضها على مركز غيرها.
والضرب الثالث: أوصاف لها بالإضافة إلى الموجود الواجب الوجود، مثل كونها تشاهد مشاهدة دائمة، وتعرض عنه، وتتشوق إليه، وتتصرف بحكمه، وتتسخر في تتميم إرادته، ولا تتحرك إلا بمشيئته وفي قبضته.
فجعل يتشبه بها جهده في كل من هذه الاضرب الثلاثة.
آما الضرب الأول: فكان تشبه بها فيه: إن ألزم نفسه إن لا يرى ذا حاجة آو عاهة آو مضرة، أو ذا عائق من الحيوان أو النبات، وهو يقدر على أزالتها عنه إلا ويزيلها.
فمتى وقع بصره على نبات قد حجبه عن الشمس حاجب آو تعلق به نبات آخر يؤذيه، أو عطش عطشًا يكاد يفسده، أزال عنه ذلك الحاجب إن كان ما يزال، وفصل بينه وبين ذلك المؤذي بفاصل لا يضر المؤذي، وتهده بالسقي ما أمكنه.
ومتى وقع بصره على حيوان قد أرهقه سبع آو نشب به ناشب، آو تعلق به شوك، آو سقط على عينيه آو آذنيه شيء يؤذيه، آو مسه ظمأ آو جوع، تكفل بإزالة ذلك كله عنه جهده واطعمه وسقاه.
ومتى وقع بصره على ماء يسيل إلى سقي نبات أو حيوان وقد عاقه عن ممره ذلك عائق، من حجر سقط فيه، آو جرف انهار عليه، ازال ذلك كله عنه.
وما زال يمعن في هذا النوع من ضروب التشبه حتى بلغ فيه الغاية.
واما الضرب الثاني: فكان تشبهه بها فيه إن الزم نفسه دوام الطهارة وإزالة الدنس والرجس عن جسمه والاغتسال بالماء في اكثر الأوقات، وتنظيف ما كان من أظافره واسنانه ومغابن بدنه، وتطيبها بما أمكن من طيبات النبات وصنوف الدهون العطرة، وتعهد لباسه بالتنظيف والتطييب حتى كان يتلألأ حسنًا وجمالًا ونظافة وطيبًا.
والتزم مع ذلك ضروب الحركة على الاستدارة: فتارةً كان يطوف بالجزيرة، ويدور على ساحلها ويسيح باكنافها، وتارةً كان يطوف ببيته، او ببعض الكدى أدوارا معدوده: آما مشيًا، آما هرولة؛ وتارة يدور على نفسه حتى يغشه عليه.
1 / 21