قال: وقد دهش العالم الغربي من ثورة تركيا وتمام هذا الانقلاب الخطير من غير سفك دم، وقال: إن كثيرا من الأوربيين نقموا على هذا الانقلاب لسببين: فبعضهم كرهه لأنه كان يعد الأتراك في ملبسهم وعاداتهم وتقاليدهم متحفا يستمتع به ويذكره بالقرون الوسطى، وكثير منهم كرهه لأنه سلبه الامتيازات التي كان يتمتع بها في العهد السابق.
سألته: هل يعتقد أن تركيا ستستمر في سيرها في طريقها نهضتها؟ فقال: إن كل الظواهر تدل على ذلك، فالجيل الجديد يؤيد الحركة ويحافظ عليها، والناس جميعا أسعد حالا في ظل هذا العهد منهم قبله.
وانتقلنا من هذه الأحاديث الاجتماعية إلى أحاديث شخصية فسألته: هل لا يزال يحن إلى مصر؟ فقال: إن حنينه شديد، ولكنه يفضل الإقامة في تركيا، فقد جرب وفاء الأصدقاء فرأى في مصر ما آلمه، وخير له أن يكون بعيدا فيقاطعوه من أن يكون قريبا منهم ويقاطعوه. قال: وقد فضلت تركيا لأنه إسلامي مستقل، وفيه الصدر الرحب الشرقي، والأوربي - على العموم - متقدم في المدنية ويفوقنا في كثير من الأمور ولكن فيه جانبا وحشيا - وقد عشت في إنجلترا وفرنسا وألمانيا فلم أجد هذا الصدر الرحب الحنون الذي أشعر به في إقامتي في تركيا، وإذا كنت في الآستانة فموطني الحي الشرقي منها وأكلي في مطعم شرقي، ولا أذهب إلى الحي الأوربي إلا نادرا، ويسرني أن أكون في حي مملوء بالمآذن.
سألته: هل هو راض عن خطته التي اختطها في امتناعه عن الزواج؟ فقال: إنه آسف على هذه الخطة، ويود لو عاد إلى الشباب فتزوج، فالزواج هو الذي يبعث الأمل في الحياة، وأنا الآن - من غير زواج - في شيخوخة بائسة تنتظر الوفاة.
وانتقل الحديث إلى الأدب التركي، فقال: حبذا لو تعلمتم التركية لا لأن أدبها واسع وأرقى من الآداب الأخرى الشرقية، ولكن لتروا كيف استخدم الأتراك لغتهم وأدبهم في إصلاح شئونهم الاجتماعية والعقلية والنفسية - لا أمل في إصلاح مصر ما دام هناك لغة للعلم ولغة للكلام، فإما أن ترقى لغة الكلام وإما أن تنحط لغة العلم حتى تتحدا، وحينئذ فقط يكون التفكير الصحيح واللغة التي تستمد روحها من الحياة الواقعية.
الخميس 5 يوليو
قضينا الصباح في المكتبة السليمانية، وبعد الظهر زرنا فؤاد بك كوبرلي تلبية لدعوته في منزله قرب مسجد السلطان أحمد.
بيت قديم عظيم يظهر أنه بيت الأسرة، في غاية النظافة والنظام، فرشت سلالمه بالسجاد الفاخر، ووصلنا إلى حجرة كبيرة صففت في جوانبها دواليب الكتب على أجمل وضع، ووضعت في وسطها مائدة كبيرة للمطالعة.
استقبلنا فيها فؤاد بك وهو شاب في نحو الثلاثين من عمره مملوء نشاطا وأدبا، يلمع في عينه الذكاء، وقد كان يحضر موضوعا لمؤتمر المستشرقين. تحدثنا في جامعتنا وجامعتهم والنشرات والكتب التي تنشرها الجماعتان، ثم تكلمنا عن المستشرقين وما يؤدونه من خدمة للعلم لولا لعب السياسة بعقول بعضهم، وانتقلنا إلى الفرق الإسلامية وصعوبة الوصول فيها إلى حقيقة، لأن الذين يكتبون فيها إما مؤيد غال، أو معارض غال وسألني: هل الإسلام شجع الصوفية أو ناهضها؟ وكان من رأيي أنه شجعها.
وكنت أعلم أن فؤاد بك أحد دعاة الإصلاح الديني والاجتماعي القائم الآن في تركيا، فأثرت هذا الموضوع مرتين لأعلم ما عنده وعند أصحابه من قواعد يبنون عليها إصلاحهم، فكان في كل مرة يغلق هذا الباب في مهارة، وينقل الحديث إلى موضوع آخر.
अज्ञात पृष्ठ