मसीह का जीवन
حياة المسيح: في التاريخ وكشوف العصر الحديث
शैलियों
إلا أن هذا الرسول الوديع الرحيم كان يعرف الغضب حيث تضيع الوداعة والرحمة، وكانت شيمته في رسالته شيمة الرسل جميعا حين تعلو عندهم أواصر الروح على أواصر اللحم والدم، وتتقدم حقوق الهداية على حقوق الآباء والأمهات، «من هي أمي ومن هم إخوتي؟ من يصنع مشيئة أبي في السماوات هو أخي وأختي وأمي»، «من ليس معي فهو علي، ومن لا يجمع معي فهو يفرق»، «وإن كان أحد يأتي إلي ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته، حتى نفسه، فما هو بقادر أن يكون لي تلميذا.»
وهذه وأشباهها من الشروط الصارمة التي كان يفرضها على مريديه، هي الشروط التي لا غنى عنها لكل دعوة مستبسلة أمام السيطرة والجبروت، ومهما يكن فيها من أساليب المجاز والكناية، فالقول الصراح الذي لا خلاف عليه أن التجرد من أواصر المنافع والشهوات أول الآداب التي يتأدب بها الجنود في كل ملحمة: جنود الحرب في ميادين الصراع على فتوح الحكم والسياسة، فما بالنا بجنود الحرب في فتوح الروح ومطالب الكمال.
ولقد كان - عليه السلام - يأمرهم أن يقدموا على المخاطر في سبيل الحق والهداية، ولكنه كان يقيم لهم حدود المخاطرة حيث يجب الإقدام على الموت وجوبا لا مثوية فيه، فالخطر على الروح إذا كان موت الروح في الحسبان، فإن لم يكن خطر على الجسد ولا على الروح فلا خير في المخاطرة، وكونوا بسطاء كالحمائم، وحكماء كالحيات.
وفي إنجيل مرقس أن السيد المسيح نجا بنفسه إلى جانب البحر حين علم أن الفريسيين والهيروديين يأتمرون به لإهلاكه، وفي سائر الأناجيل أنه كان يشكو حزنه وبثه حين أحدق به الخطر، وأنه كان يدعو الله أن يجنبه الكأس التي هو وشيك أن يتجرعها، وأنه كان يقول لتلاميذه: «نفسي جد حزينة. امكثوا ها هنا واسهروا.» وأنه كان يعتب عليهم حين يراهم نياما على مقربة منه، وهو يعاني برحاءه وأشجانه، ويقول لهم: ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة؟ ثم قال لهم آخر الأمر وقد حم القضاء: الآن ناموا واستريحوا!
فليس الإقدام على الجهاد أن تتجرد النفس من طبيعتها في وجه المخاوف والمتالف، وليس محظورا على النفس في سبيل ذلك الجهاد أن تأخذ بالحيطة، أو تلوذ بمن تحب، وتستمد العون من عواطف المحبين، وإنما المحظور عليها أن تخشى الخطر على الجسد حيث تجب الخشية على الروح، وفي غير ذلك لا خشية ولا مخاطرة ولا ملام.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن السيد المسيح خلق على فطرة أمثاله من أصحاب الرسالات الكبرى الذين لا ينقطعون لحظة عن الرياضة الروحية، وهذه الرياضة الروحية هي التي تجعلهم منذ صباهم عرضة للقلق، والتنقيب في أعماق ضمائرهم، لعلهم يعرفون مداهم من الاقتراب أو الابتعاد عن طريقهم إلى الله، فهم يشرفون على النور حينا، ويحتجبون عنه حينا، ويعودون إلى طواياهم في كل حين يحاسبونها على إشراقه أو احتجابه، ويستبشرون تارة؛ لأنهم يلمحون معالم الطريق، وينحون على أنفسهم باللائمة تارة؛ لأنهم يتهمونها بالزيغ عن الجادة والانحراف عن السواء، وفيما بين هذا القلق وتلك البشارة تنمو النفس على الرياضة، وتتهيأ للثبات والاستقرار، وتتخذ العدة لليقين والإيمان.
لا ريب أن هذه الرياضة هي التي عناها كتاب الأناجيل بفترة التجربة في البرية حيث تعيش الشياطين، وما للشياطين هنا من وساوس غير وساوس القلق وصراع الفتنة وغواية الطمع بين الإقدام والإحجام، حيث تطمئن النفس ساعة، ثم تمتحن هذه الطمأنينة بالتجربة ساعة أخرى، ثم تعاف التجربة؛ لأنها تسليم بالشك حيث ينبغي التسليم بالثقة؛ لأن رسالة الله حقيقة بكل فداء، وأهل لكل ثمن وكل جزاء، ولكن من لك أيها الضمير؟! إنك أنت المختار لرسالة الله. أوتطلب البرهان؟! فمن أين لك أن تجمع بين طلب البرهان، وبين صدق الإيمان؟!
وقد تغلب المسيح على هذه المحنة كما تغلب عليها الأنبياء المرسلون بعد قلق وجهاد وصبر أليم، ونحسبه بعد ذلك كان يعالج القلق من هذا القبيل بالتسليم للواقع، وكان يستلهم الحوادث إرادة الغيب حيث تحتجب عنه هذه الإرادة، فيترك الحوادث تمضي ويمضي معها، وينتظر ما تحكم به المقادير، وفي هذه المواقف يخيفه أن يحجم ويتهم ضميره بالإحجام مخافة العواقب، فذاك مسعاه إلى بيت المقدس في أخريات رسالته مرتين: مرة وهو يدخلها بين الترحيب والتهليل، ومرة وهو يدخلها بين النذر والشباك، وخيانة الأصحاب، ودسيسة الأصدقاء.
كانت هذه الخطوات من خطوات التسليم الذي ينطوي فيه حب الاستلهام والاستطلاع خيرا من طلب البرهان، وخيرا من النكوص، ما لم يكن هنالك برهان، وما قال قائل في أمثال تلك المواقف: «ليفعل الله ما يشاء» إلا وهو يترك للمقادير أن تظهر من مجرى الحوادث حيث تجري بها مشيئة الله.
في لحظات كهذه اللحظات يغوص الإنسان كله في أعماق ضميره، ولعل لحظة من تلك اللحظات هي التي قال فيها الناظرون إليه إنه غائب عن نفسه، أو هي التي صمت فيها لا يحير جوابا؛ لأنه هو يترقب جواب الغيب المنظور مما عسى أن يكون عما قريب، أو هي التي أقدم فيها لا يبالي بسلامته وعاقبة أمره، ولم يكن فكره قاصرا عن استطلاع العواقب جميعا في موقف من تلك المواقف الحاسمة، ولكن المشكلة الكبرى كلها في استطلاع العواقب، فهل تراه لا يقدم على العواقب إلا بضمان من البرهان؟
अज्ञात पृष्ठ