मसीह का जीवन
حياة المسيح: في التاريخ وكشوف العصر الحديث
शैलियों
مقدمة
الشجرة المباركة
الباب الأول: كشوف وادي القمران وتفسيرات من فلسفة التاريخ
في وادي القمران
تفسيرات من فلسفة التاريخ
رد وتعقيب
الباب الثاني: المسيح في التاريخ
المسيح
النبوة بين بني إسرائيل
الطوائف اليهودية في عصر الميلاد
अज्ञात पृष्ठ
الحالة السياسية والاجتماعية في عصر الميلاد
الحياة الدينية في العالم في عصر الميلاد
الحياة الفكرية في عصر الميلاد
الباب الثالث: تاريخ الميلاد
أرض الجليل
متى ولد المسيح؟
صورة وصفية
الباب الرابع: الدعوة
دعوة المسيحية
اختيار القبلة
अज्ञात पृष्ठ
تجارب الدعوة
الشريعة
شريعة الحب
آداب حياة
ملكوت السماوات
الباب الخامس: أدوات الدعوة
قدرة المعلم
إخلاص التلاميذ
الباب السادس: الأناجيل
الإنجيل
अज्ञात पृष्ठ
شراح الأناجيل
في الختام
مقدمة
الشجرة المباركة
الباب الأول: كشوف وادي القمران وتفسيرات من فلسفة التاريخ
في وادي القمران
تفسيرات من فلسفة التاريخ
رد وتعقيب
الباب الثاني: المسيح في التاريخ
المسيح
अज्ञात पृष्ठ
النبوة بين بني إسرائيل
الطوائف اليهودية في عصر الميلاد
الحالة السياسية والاجتماعية في عصر الميلاد
الحياة الدينية في العالم في عصر الميلاد
الحياة الفكرية في عصر الميلاد
الباب الثالث: تاريخ الميلاد
أرض الجليل
متى ولد المسيح؟
صورة وصفية
الباب الرابع: الدعوة
अज्ञात पृष्ठ
دعوة المسيحية
اختيار القبلة
تجارب الدعوة
الشريعة
شريعة الحب
آداب حياة
ملكوت السماوات
الباب الخامس: أدوات الدعوة
قدرة المعلم
إخلاص التلاميذ
अज्ञात पृष्ठ
الباب السادس: الأناجيل
الإنجيل
شراح الأناجيل
في الختام
حياة المسيح
حياة المسيح
في التاريخ وكشوف العصر الحديث
تأليف
عباس محمود العقاد
مقدمة
अज्ञात पृष्ठ
من رغباتي التي كنت أرددها في نفسي كلما راجعت أسماء الكتب التي أترقب الفراغ لتأليفها، أن أدرس تاريخ الدعوة الدينية كما تجلت في رسالات أكبر دعاتها في العالم الإنساني: إبراهيم الخليل وأبنائه، والكليم، والمسيح، ومحمد - عليهم السلام.
هذه الظاهرة الإلهية - دعوة النبوة - ظاهرة فريدة في العالم الإنساني لم تظهر بين الأمم في غير السلالة السامية، ولا بد لها من سبب تكشف عنه دراسة النبوات في هذه الأمم.
وسببها من جانبها التاريخي فيما ظهر لنا من المقارنة الطويلة بين الديانات، أن النبوات الكبيرة كانت ترتبط بمدن القوافل؛ لأنها بيئة وسطى بين الحضارة والبداوة ، وكذلك كانت أور، وبعلبك، وبيت المقدس، ومكة، ويثرب، ومدين، ومحلات الطريق في جنوب فلسطين وشمال الحجاز، وهي بيئات لا إلى حضارة المدن التي تعول في تشريع الحقوق على نظام الدولة، ولا إلى بداوة الصحراء التي تعول في تشريع الحقوق على سنة الثأر والغلبة، ولكنها - مدن القوافل - وسط بين الجانبين، مع حاجتها إلى تقرير الحقوق في كل لحظة، لدوام المعاملات واشتباكها، ولكثرة الطارقين ذهابا وإيابا، ممن يجدون المال، ويبحثون عن المتعة العارضة، ويحاول كل منهم أن يغلب صاحبه في سوق الأخذ والعطاء، وحلبة الخداع والادعاء.
ولهذا تترقب مدن القوافل مصدرا للهداية غير مصدر الشريعة الحكومية، وغير مصدر النقمة والتغلب بين الغاصب والمغصوب، والعادي والمعتدى عليه؛ وذلك هو مصدر الهداية النبوية في بيئة وسطى، تهيأت لها حماسة النفوس في البادية، وشعور النفوس بقيمة العهد ورباط الأمانة في كل علاقة واسعة، كالعلاقة التي ترتبط بالقوافل المترددة على مسافات بعيدة.
ومما وفقت إليه، مغتبطا بهذا التوفيق، أنني اهتديت إلى حكمة هذه الظاهرة في سيرة الخليل إبراهيم، وسيرة محمد، والمسيح - عليهم السلام، وكل هذه السير ظهر في حينه، فظهر من استقبال العالم له، أنه لم يكن رغبة من رغباتي القوية وحسب، بل كان على التعميم رغبة قوية لقراء العربية في مختلف الآراء والنحل، لا نحسبها برزت في استقبال كتاب حديث، كما برزت في استقبال هذه الكتب الثلاثة، مما ألفناه خلال السنوات الأخيرة.
وكان من الواجب أن تظهر هذه الطبعة من هذا الكتاب قبل الآن، لولا أن الفترة الأخيرة قد ازدحمت بالمؤلفات والكشوف الأثرية، التي تستمهل كل مؤرخ للسيد المسيح ولعصر الدعوة المسيحية، أملا في الوقوف على جديد يضاف إلى تاريخ الداعي أو تاريخ الدعوة، أو توقعا لتوكيد شيء من القديم يحتاج إلى توكيد أو إلى تعقيب.
الشجرة المباركة
الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم (سورة النور: 35)
وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (سورة الأنعام: 141)
هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون * ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون (سورة النحل: 10-11)
अज्ञात पृष्ठ
والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين (سورة التين: 1-3)
فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنا صببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض شقا * فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا * وحدائق غلبا (سورة عبس: 24-30)
هذه هي الشجرة المباركة في التنزيل: شجرة الزيتون، شجرة البحر الخالد، شجرة الحوض الذي نبتت عليه حضارة الإنسان ودارت حوله، ولا تزال تدور، عالية تعلو خمس قامات وتزداد، باقية تبقى خمسة قرون ثم لا تصير إلى نفاد، كريمة تؤتي من ثمراتها ما تشتهيه الأنفس وتشتهي به طيب الطعام، سعيدة تؤتي من عصيرها النور والطب ومسوح الإهاب وجبائر العظام، ومن خشبها صور المحاريب وأعواد المنابر، ومن ورقها أكاليل الأبطال وتحيات البشائر، وتتشابه بركتها على الأبطال الأقدمين فيتمسحون بطيبها طلبا لقوة النفس وقوة الجسد وهم يقبلون على الصراع ويتناضلون، وتتشابه بركتها عليهم كرة أخرى فهم يعلنون السلم، ويرفعون غصن الزيتون!
بوركت في وحي المعابد والضمائر، وبوركت في رموز القرائح والخواطر، فلم يعرف الناس أمنية لا يرمزون لها بسماتها وأسمائها، ولم يذكروا نعمة لا يذكرونها بنعمائها: رمزوا بها إلى الضياء، ورمزوا بها إلى السلام، ورمزوا بها إلى الخير والرخاء، وتزودوا منها في البادية والحاضرة، وادخروها للدنيا والآخرة، واتخذوها للمصابيح في محاريب الصلاة والتسبيح، ورجعوا إليها باسم من أقدس الأسماء، وهو اسم «السيد المسيح».
لأمر ما نبتت في فلسطين، وانتشرت منها في منابت العالمين، وعلى نحو من هذا وهبت مسحتها للرسول الأمين، فطافت رسالته حيث طافت، من عليين إلى غايتها من البلاغ المبين.
ولو لم تكن «للزيتونة» إلا أن هذا الاسم المبارك مردود إلى مسحتها وبركتها، لاستحقت به الخلد المصون، خضراء على مدى السنين والقرون.
الباب الأول
كشوف وادي القمران وتفسيرات من فلسفة التاريخ
في وادي القمران
يقال في بعض التعبيرات المجازية أن حادثا من الحوادث وقع في طالع هذا البرج، أو ذاك من بروج الفلك المشهورة، فإذا جاز لنا أن نستعير هذا التعبير، قلنا: إن السنوات القليلة قبل منتصف القرن العشرين كانت فترة يظللها في أفق الثقافة الروحية برج البحوث والدراسات عن تاريخ السيد المسيح، فإن اللفائف المطوية التي كشفت منذ أوائل سنة 1947م، وما أعقبها من الشروح والمناقشات والردود، تتألف منها مكتبة عامرة بالموسوعات الدينية والتاريخية، وأمامي الساعة ثبت موجز مضموم إلى ذيل كتاب من هذه الكتب يستغرق خمس عشرة صفحة كبيرة، ليس فيه من شيء غير أسماء الكتب والرسائل التي ظهرت في موضوع تلك اللفائف المكشوفة منذ سنة 1947م، وهذا عدا الكتب والرسائل التي ألفها الباحثون عن السيد المسيح بمعزل عن هذا الموضوع، ممن لم يقصدوا إلى التعقيب على تلك الكشوف، ولم يربطوا بينها وبين ما بحثوه من سيرة السيد المسيح.
अज्ञात पृष्ठ
واتفق أن اللفائف كشفت، حيث لا تسمح الأحوال باستمرار البحث فيها والتنقيب عن بقاياها، في مطلع سنة 1947م؛ لأنها كشفت بوادي القمران من شرق الأردن، وتفاقمت يومئذ مشكلة فلسطين، فحالت دون البحث الهادئ، والتنقيب المأمون في ذلك الجوار، ولم يتصل خبر تلك الكشوف الهامة بشيء من التفصيل أو البيان المفهوم، إلا بعد استئناف البحث فيها، والاشتغال بدراستها حوالي السنة التي ألفت فيها كتابي هذا، وهي سنة 1952م.
فلما علمت بنبأ هذه اللفائف في وادي القمران، توقفت عن إعادة طبع الكتاب قبل أن تتهيأ لي فرصة كافية للاطلاع على مضامين اللفائف والاستفادة مما عسى أن تسفر عنه من دفائن التاريخ المجهول. وفيها، كما قيل يومئذ، كتاب كامل من العهد القديم، وتعليقات على كتب أخرى، ودفتر واف بالوصايا والأوامر عن آداب السلوك، بين زمرة دينية تشبه الزمرة المسيحية الأولى في الشعائر والعبادات.
ولم يكن هذا التوقف عن البت في الموضوع المرتهن بنتيجة الاطلاع على لفائف وادي القمران؛ ليثنيني لزاما عن متابعة البحث في أسرار النبوة كما بدأت على عهد الخليل إبراهيم وعهد موسى الكليم، فإن البحث في هذه الأسرار على عهد الخليل، يبتدئ بنا من البداءة الأولى، ويقترب بنا من مطالعها أو ينابيعها التي تقدمت قبل جميع الينابيع، ودراسة النبوة على عهد موسى الكليم تفتتح عهودا من النبوءات بلغ فيها عدد الأنبياء المتلاحقين العشرات بل المئات، ولكن تاريخ موسى الكليم أيضا قد يتصل من كثب بتاريخ اللفائف بوادي القمران، إذا كان منها، كما قيل، لفائف تتضمن كتبا من التوراة، وقطعا من الكتب الخمسة المشهورة باسم الكتب الموسوية، وكان العثور على نسخ من هذه الكتب عند استئناف الكشف عنها أملا يساور العلماء الحفريين واللاهوتيين، ففضلت من أجل هذا أن أرجئ الكتابة عن موسى - عليه السلام - مبتدئا بالكتابة عن الخليل إبراهيم، وسميت كتابي عنه «بأبي الأنبياء»، وانتهيت فعلا من البحث في تفاصيله إلى تقرير العلاقة الحاسمة بين مدن القوافل، والبيئة الصالحة لتلقي الرسالة النبوية، إذ كانت للخليل علاقات متتابعة بكل مدينة من مدن القوافل الكبرى في زمانه، وكان انتقاله من «أور» إلى جوار بعلبك وبيت المقدس، ومدن الطريق بين سيناء والحجاز، سلسلة من الشواهد البارزة، تلفت النظر إلى هذه الحقيقة، وتجلوها على صورها المتقاربة أتم جلاء.
أما الموضوع الذي توقفت عن المضي فيه ريثما تستقصيني موارده الجديدة، فقد كان يتوقف حوالي سنة 1953م على مصادر ثلاثة: أهمها لفائف وادي القمران، ومنها تراجم العهدين القديم والجديد المنقحة في اللغات الغربية، ومنها سيل لم يكن ينقطع في تلك السنة من مؤلفات المفكرين الدينيين وغير الدينيين عن السيد المسيح من وجهة النظر العصرية بعد الحرب العالمية الثانية.
وقد كنا نقرأ في الصحف والنشرات أن لفائف وادي القمران تشتمل على نسخة كاملة من كتاب أشعيا، ونسخة مقروءة سليمة بعض السلامة من تفسير نبوءات حبقوق التي حققتها الحوادث التالية، وشذرات من تفسير كتاب ميخا، وقصى تسمى قصة الحرب بين أبناء النور وأبناء الظلام، وأناشيد منظومة للدعاء والصلاة، ونسخة آرامية من كتاب غير معتمد بين كتب التوراة، وقصاصات متفرقة من كتب شتى تلحق بكتب العهد القديم، ونسخة مفصلة لآداب السلوك المرعية بين جماعة النساك الذين أقاموا زمنا بصومعة وادي القمران، وكلها مودعة في جرار كبيرة يوجد الكثير منها في بعض الكهوف المجاورة، ويبدو من أجل ذلك أنها قد تشتمل على ودائع من هذا القبيل، لا تقدر عند العلماء الحفريين وعلماء المقابلة بين الأديان وجمهرة اللاهوتيين على الإجمال.
ولو أن أحدا أراد أن يحيط بأطراف الكتب والرسائل التي تناولت مسائل البحث في تلك اللفائف خلال هذه السنوات الخمس، لما استوعبها جميعا، ولو فرغ لها كل وقته، وحسب القارئ العربي أن يعلم أنها بحثت من كل ناحية تشترك في موضوعاتها الدينية أو اللغوية أو التاريخية أو الحفرية أو الكيماوية أو الصناعية، ولم تخل منها لغة من لغات الحضارة الغربية، فقد تناولت البحوث مسائل الهجاء وقواعد الكتابة، واختلاط اللهجات واللغات، ومواد الورق والجلد والمداد واللصق والتجفيف، كما تناولت أسماء الأعلام، وما إليها من الألقاب والصفات، وما يقترن بها من تواريخ الشعوب والقبائل، ومواقع الأرض، وعوارض الجو والفلك، وأصول العقائد وشعائر العبادات في كل فترة على حسب حظها من الأصالة أو الاستعارة، وعلى حسب المصطلحات التي تلازمها ولا تعهد في غيرها، واتسع نطاق البحث إلى غاية حدوده لتحقيق نماذج البناء، وصناعة الآنية الفخارية، وعادات الأكل والشراب، وأزياء الكساء، ومواد الأطعمة، وثمرات النبات، وتراوحت تقديرات الزمن بين القرن الخامس قبل الميلاد والقرن الأول بعد الميلاد، ولم تستقر بعد كل هذا التوسع وكل هذا الإمعان والتدقيق على قرار وثيق.
ومن البديهي أننا لم نستوعب هذا الطوفان الزاخر من الفروض والنقائض، وعلى كل ما في هذه البحوث من مواضع المراجعة والعدول، ومواضع التشكيك والترجيح، بل نحن لم نشعر بضرورة الاستيعاب والاستقصاء كي نخلص منه إلى القول الجديد في تاريخ السيد المسيح، ولكننا عمدنا إلى نخبة من كتب الثقات التي ألمت برءوس المسائل، ولخصت محور الخلاف ومبلغه من الدلالة في كل مسألة منها، وخرجنا منها بالخلاصة المطلوبة فيما يعنينا، فكانت هذه الخلاصة أن الجديد في الأمر لا يزال من عمل السيد المسيح، أو من فتوحه المبتكرة في عالم الروح، وأن كل مشابهة بينه - عليه السلام - وبين مذاهب الدين قبل عصره، تنتهي عند الظواهر والأشكال، ولا تدل على فضل أسبق من فضله فيما ارتقت إليه عقائد الدين على يديه.
ولعل أرجح الأقوال التي خلصت إليها أكثر البحوث والمناقشات، أن نساك صومعة القمران كانوا زمرة من «الآسينيين» إحدى الطوائف المتشددة في رعايتها للأحكام الدينية، وانتظارها للخلاص القريب بظهور المسيح الموعود، وهذه هي الطائفة التي ذكرناها في «عبقرية المسيح»، فقلنا عنها ما فحواه أنها أقرب الطوائف الإسرائيلية إلى التطهر من أدران المطامع والشهوات، وأنهم «كانوا ينتظمون في النحلة على ثلاث درجات. وأن أحدهم يقسم مرة واحدة يمين الأمانة والمحافظة على سر الجماعة، ويحرم عليه القسم بالحق أو بالباطل مدى الحياة، وليس بينهم رئاسة ولا سيادة. والمادة عندهم مصدر الشر كله، والسرور بها سرور بالدنس والخباثة. وكانوا يتآخون ويصطبحون اثنين اثنين في رحلاتهم. وهم مؤمنون بالقيامة والبعث ورسالة المسيح المخلص، معتقدون أن الخلاص بعث روحاني يهدي الشعب إلى حياة الاستقامة والصلاح». ثم قلنا عنهم في سياق الكلام على زمرة المتنطسين بمصر
Therapeuts
إن هؤلاء المتنطسين، ربما كانوا أساتذة النساك اليهود المسمين بالآسين أو الآسينيين على قول بعض المؤرخين؛ لأننا رجحنا أن الاسم مأخوذ من كلمة الآسي بمعني الطبيب، وهي تقابل كلمة الثيرابيين اليونانية بمعنى المتنطسين.
अज्ञात पृष्ठ
فإذا صح أن زمرة وادي القمران كانت تنتمي إلى الآسين، وصح أكثر من ذلك أن صومعتهم كانت هي البرية التي كان يلوذ بها السيد المسيح ويوحنا المعمدان؛ فالجديد في هذا الكشف هو توكيد الحاجة إلى رسالة السيد المسيح، أو توكيد فضل الدعوة المسيحية في إصلاح عقائد القوم كما وجدتها على أرقاها وأنقاها بين أتباع النحل اليهودية قبيل عصر الميلاد.
فالكتب الآسينية - أو الآسية - التي وجدت في الصومعة تصف لنا نظم الجماعة وآداب سلوكها، وشدة حرصها على الشعائر الموروثة بين قومها، ولكنها لا تزال مصابة بداء القوم الذي انتهى إلى غاية مداه في تلك الفترة، وهو داء الجمود على النصوص والحروف، والانصراف عن جوهر العقيدة ولباب الإيمان، ولا تزال النحلة الآسينية نفسها أدل على الحاجة إلى الإصلاح من النحل المتهمة أو المحاطة بالشبهات؛ لأن النحلة المتهمة تجد إصلاحها عند الراشدين من أبناء الديانة القائمة، وكل نحلة يهودية زائغة عن سوائها تجد من يقومها من العارفين باستقامتها في نطاق الديانة اليهودية، ولكن الحاجة إلى الإصلاح إنما تثبت كل الثبوت إذا بلغت النحلة أرقى ما تبلغه، واستنفدت كل طاقتها تهذيبا وتطهيرا وإخلاصا وتذكيرا، ولم تزل بعد ذلك قاصرة عن تزويد الروح بما تتعطش به وتفتقر إليه، وكذلك كانت النحلة الآسينية التي كشفت عنها لفائف وادي القمران، أيا كان اسمها، وأية كانت وجهتها، فإنها لم تمهد لرسالة السيد المسيح إلا كما يمهد المريض للعلاج أو يمهد الداء للدواء، ولا شك أن اللفائف المكشوفة ذخيرة نافعة في بابها، ولكنها لا تضيف إلى معلوماتنا عن حقائق الرسالة المسيحية، ولا تخرجنا بشيء جديد في أمر هذه الرسالة، غير أنها تؤكد لنا فضلها ولزومها في أوانها، فمهما يكن من غرض النحلة الآسينية، فهي في أصولها وفروعها بقية محافظة على تراثها متشددة في محافظتها، ناظرة إلى أمسها حتى في التطلع إلى الغد المرجو انتظارا للمخلص الموعود على حسب النبوءات الغابرة، ولهذه الآفة الوبيلة - آفة التشدد في عبادة المراسم والنصوص - كانت الدعوة المسيحية رسالة لازمة تعلم الناس ما هم في حاجة إلى أن يتعلموه، كلما غرقوا في لجة راكدة من الحروف الميتة والأشكال المتحجرة، تعلمهم أن العقيدة مسألة فكرة وضمير، لا مسألة حروف وأشكال. وهذه هي رسالة السيد المسيح في ذلك العصر الموبوء بجموده وريائه على السواء؛ لأن الرياء إنما هو في باطنه جمود على وجهه طلاء.
تفسيرات من فلسفة التاريخ
ونستطرد من تلخيص نتيجة اللفائف المكشوفة إلى تلخيص نتيجة المناقشة - أو المناقشات الطويلة - حول الترجمة المنقحة في اللغة الإنجليزية لكتابي العهد القديم والعهد الجديد.
إننا سمعنا بنبأ هذه الترجمة المنقحة بعد سماعنا بنبأ اللفائف المكشوفة، وكدنا نحصر الضجة الكبرى حول فقرة واحدة في كتاب أشعيا في العهد القديم، فاعتقدنا أن المشتغلين بتنقيح الترجمة رجعوا إلى نص جديد في لفائف وادي القمران؛ لأن كتاب أشعيا هو الكتاب الكامل الذي اشتملت عليه تلك اللفائف فيما اشتملت عليه من الآثار المتفرقة، ولكننا تلقينا البيان الوافي عن عمل المنقحين، فلم نجد فيه ما يشير إلى علاقة بين الكشوف الجديدة وبين تنقيح الترجمة المتداولة من كتب العهد القديم على الخصوص؛ لأن الفقرة التي جاءت في كتاب أشعيا وثارت حولها الضجة الكبرى بين أنصار التنقيح ومعارضيه، لم تفاجئ علماء اللاهوت برأي لم يعلموه من قبل، ولم يذهبوا فيه كل مذهب من الطرفين المتقابلين.
ثارت الضجة حول فقرة في الإصحاح السابع مترجمة في اللغة العربية بالكلمات الآتية: «... يعطيكم السيد نفسه آية، ها العذراء تحمل وتلد ابنا، وتدعو اسمه عمانويل.»
فهذه الفقرة تظهر في الترجمة الإنجليزية المنقحة بعبارة «امرأة شابة» في مقابلة كلمة «علامة» العبرية، وكلمة
«بارنثوس» في الترجمة السبعينية، ولا جديد أيضا في هذا الخلاف؛ لأنه خلاف لم ينقطع بين المذاهب الثلاثة التي يدور بحثها على تفسير المقصود ببتولة السيدة مريم أم المسيح - عليه السلام. فمن أصحاب المذاهب المسيحية من يفسرها بالبتولة الدائمة قبل ميلاد المسيح وبعده، ومنهم من يقول بالبتولة قبل ميلاده، ثم ولادة إخوة له بعد ذلك وردت الإشارة إليهم في كتب العهد الجديد، ومنهم من يرجع إلى النصوص العبرية، ولا يذكر كلمة البتول كما تقدم. وجواب القائلين بالبتولة الدائمة على المستشهدين بذكر إخوة السيد المسيح في كتب العهد الجديد أنهم أبناء عمومة أو أنهم إخوة منسوبون إلى يوسف خطيب مريم، إلى آخر ما ورد في هذا الخلاف القديم الجديد.
ولقد كانت أمامنا تفاصيل هذا الخلاف عند كتابة «حياة المسيح» فلم نعرض له، ولم نعرض لبحث من البحوث في هذا الصدد، إلا ما كانت له صلة لا فكاك لها برسالة السيد المسيح في عالم الهداية الروحية، ولهذا لم نذكر معنى كلمة «أخي الرب » التي شفعت باسم «جيمس» المقابل لاسم يعقوب في الترجمة العربية، وقلنا عنه إنه «جيمس قريب السيد المسيح».
وقد خطر لبعض الناقدين أننا سميناه كذلك؛ لأننا لم نطلع على الترجمة العربية لكتب العهد الجديد، وإنه لظن يستسهله من يستسهل النقد بغير روية، ويحسبه بعيدا كبعد المستحيل من يعلم من قراءة «حياة المسيح» أننا على الأقل فتحنا كتب العهدين مائة مرة، لنبحث فيها عما بحثناه، وننقل منها ما نقلناه، فالآن تعرض المناسبة التي نذكر فيها سبب تلك الإشارة على علاتها، دون أن نبدي رأيا في تصحيف كلمة جيمس من كلمة يعقوب، ودون أن نقرر في الإشارة العابرة حكما فاصلا لا موضع له بين هذه التفصيلات.
अज्ञात पृष्ठ
وربما كان اتفاق الوقت بين ضجة الترجمة المنقحة، وضجة اللفائف المستخرجة من وادي القمران، مع تكرار الكلام عن كتاب أشعيا في كلتا الضجتين؛ هو الذي أوحى إلينا أن ننتظر ما وراء ضجة الترجمة كما أوحى إلينا أن ننتظر ما وراء ضجة اللفائف المكشوفة، فقد يكون هنالك من النصوص والأسانيد ما يوجب إعادة النظر في كتابة «حياة المسيح»، ولولا هذا التقدير لما كان الخلاف على تفسير البتولة وحده موجبا للانتظار إلى ما بعد فراغ القول منه، إذ كانت أوجه الخلاف جميعا في هذه المسألة معروفة من زمن قديم، وكانت من المسائل التي كان في وسعنا أن نتتبعها في مصادرها قبل الكتابة عن السيد المسيح.
إلا أننا نسأل الآن بعد خمس سنوات: هل كان مما يريح الضمير أن نمضي في إصدار الكتاب مرة أخرى، قبل أن نطلع على الكتب الجديدة التي كانت تتعاقب في اللغات الغربية، كتابا بعد كتاب عن السيد المسيح ورسالته، ونظرات المحدثين إلى هذه الرسالة في زمانها وفيما أعقبه من الأزمنة؟
إننا تمهلنا قبل خمس سنوات في إصدار الطبعة الحاضرة؛ لأننا اعتقدنا أن تنقيح الترجمة قد يعود إلى أسباب توجب المراجعة وإعادة النظر، ولكننا نسأل اليوم: ترى لو أننا علمنا يومئذ محور الضجة على الترجمة، وعلمنا أنها موضوع معاد في قضية معروفة؛ هل كنا نستخف من أجل ذلك بالفيض المتدفق من الكتب والرسائل التي كتبها أصحابها في موضوع كموضوعنا، ومن وجهة نظر تعنينا، أيا كان شأنها من الموافقة، أو المخالفة لوجهة نظرنا؟
نحسب أن اشتغالنا بالاطلاع على طائفة من تلك الكتب كانت سببا كافيا لتعليق النظر كي نصدر الكتاب على الأقل مطمئنين إلى عاقبة هذه الأناة، فإن غير الاطلاع على الكتب الجديدة آراءنا في موضع من مواضع الكتاب، فتلك فائدة جديرة بالانتظار، وإن اطلعنا على الكتب الجديدة، ولم تتغير نظرتنا، فتلك طمأنينة نحمدها، وما ضيعنا شيئا بهذه الأناة.
وأيسر ما نقوله الآن عن الكتب الجديدة، إن الاطلاع عليها كان متعة من متع القراءة، ترضينا قارئين قبل أن ترضينا مؤلفين، وقد كان فيها السمين والغث، والمتفوق والمتخلف، كما يكون في كل تأليف، ولكننا خلقاء أن نحمد حظنا ما استوفيناه منها؛ لأن الغث منها كان من قبيل المقروءات التي تنكشف غثاثتها للمتصفح بعد الإلمام بسطور هنا وسطور هناك، وأما السمين منها فقد كان كافيا في موضوعه، كما كان مكافئا لما ينفقه القارئ من الوقت والجهد فيه.
ونستطيع أن نسلك هذه الكتب القيمة في بابين واسعين: باب التأمل وما إليه من النظر الفلسفي والخواطر الوجدانية، وباب النقد التاريخي والتحليل العلمي على قواعد المقابلة بين الأديان.
ويلذ القارئ ولا ريب أن يعلم رأي الفيلسوف العصري في المقابلة بين تعاليم المسيح وتعاليم نيتشه في العصر الحاضر، أو يعلم رأيه في المقابلة بين تعاليم المسيح وتعاليم كارل ماركس وأصحابه الماديين، أو يعلم وجوه المشابهة ووجوه المناقضة بين خطة المسيح في الإصلاح الإنساني وخطط الساسة ودعاة الاجتماع في القرون الحديثة، أو يعلم بلاغة الكلمات المسيحية حين تقترن بكلمات البلغاء من أصحاب الكلم الجامع والحكمة المأثورة، فهذه وأشباهها هي مدار القول في كثير من تلك الكتب العصرية، يتفق أحيانا أن تدل عناوينها على أغراضها، ولكننا لا نعتقد أنها مما يقتضينا البحث في كتابنا هذا أن نبسطها أو نطويها موجزين، وقصارى ما نقوله عنها أنها أشبه بالصور المتعددة للوجه الواحد في لوحات كثيرة، ليست محل تلخيص ولكنها محل استزادة لمن شاء.
أما الكتب التي نسلكها في باب النقد التاريخي والتحليل العلمي، ففيها حقا ما يهتم به الباحث في تاريخ الرسالة المسيحية وفيها - ولا مراء - بحوث جديرة بطول التأمل، وإنعام النظر، ومواجهة الموضوع كله في نطاقه الواسع من جميع جهاته، وليس في استطاعة أحد أن يواجه هذا الأفق الواسع ما لم يكن على استعداد له بكل عدته من المراجع والأسانيد.
ومن الإطالة على غير طائل أن نسرد هنا أسماء المؤلفات والمؤلفين في هذه البحوث النقدية، فإننا - بعد ما وقفنا عليه منها - نرى أن القارئ لا يفوته شيء من جوهرها إذا اطلع منها على كتابين اثنين يحويان جملة المناقضات والأقاويل التي تتعرض للقبول أو الرفض في هذه البحوث، ونعني بها كتاب
1 «الجانب الآخر من القصة» تأليف روبرت فيرنو، وكتاب
अज्ञात पृष्ठ
2 «إنجيل الناصري يعاد» تأليف روبرت جريفس وجوشيا بردو، وكلا الكتابين مؤلف باللغة الإنجليزية.
وندع التخمينات الملفقة التي تتخلل الكتابين، وينبغي أن نذكر - بداءة - أنها تخمينات كثيرة، وأنها في بعض الأحايين تخمينات معتسفة يعترف المؤلفون باضطرارهم إليها؛ لإتمام الحلقات المفقودة في السلسة التي سبكوها من بقايا الأسانيد المختلفة منذ القرن الأول للميلاد، ومن صنع خيالهم في مواقع النقص المعترضة في فجوات تلك الأسانيد. ولا ننسى أن أحد المؤلفين - روبرت جريفس - قصاص يعتمد على التصور الفني في التوفيق بين الأخبار وتنسيق الملامح وملاحظة التناسب بين ألوان الشخصيات، وله قصة في الموضوع نفسه سماها «عيسى الملك» يشرح فيها بالأسلوب الروائي نظريته التاريخية عن سيرة السيد المسيح، وزبدتها أن السيد المسيح قد نشأ برعاية هيئة باطنية كانت تعمل لتعجل الخلاص على يد الملك «المسيح» الذي يأتي من ذرية داود لإنقاذ شعب الله المختار، وأن يوحنا المعمدان هو الذي وكل إليه اختيار المسيح المنتظر على حسب العلامات المحفوظة في النبوءات، فاختاره وعاهده وبايعه «ملكا» مسيحا أي ممسوحا بالزيت المقدس على سنة الملوك المختارين من الأقدمين، وأن زعماء الهيكل لم يكونوا جميعا من المطلعين على سر هذه المبايعة التي جمعت بين يمين الإيمان ويمين الطاعة، وتولاها المشرفون على تنفيذها وهم حذرون من سلطان رومة ومن سلطان الهيكل في وقت واحد، ثم جرت الحوادث مجراها الذي نعلمه من الأناجيل، مزيدا عليها هنا وهناك حلقات تربط الصلة بين التاريخ الظاهر والتاريخ الباطن كما جمعه المؤلف من أسانيده ومن وحي خياله أو تنسيق فنه وتقدير ظنه، وربما زاد الجانب المضاف هنا وهناك على الجانب الأصيل.
ونحن ندع هذه التخمينات، ونجتهد في حذفها كما اجتهد المؤلف الروائي في إضافتها، ولكننا لا نريد أن نحذفها، حيث تترك الفراغ بعدها أدعى إلى الحيرة والتردد من الإثبات.
وصفوة ما يبقى بعد حذف هذه التخمينات أن الدعوة المسيحية بعد السيد المسيح كانت ترجع إلى مركزين: أحدهما برئاسة جيمس (أي يعقوب) المسمى بأخي الرب، ومقره بيت المقدس؛ والثانية برئاسة بولس الرسول ومريديه، ومقرها خارج فلسطين بعيدا عن سلطان هيكل اليهود. وقد كانت شعبة بيت المقدس أقرب إلى المحافظة والحرص على شعائر العهد القديم، ملحوظة المكانة في العالم المسيحي داخل فلسطين وخارجها من بلاد الدولة الرومانية، كما يظهر من وصاياها ومن أجوبة المسيحيين في الخارج عليها، وكلها وصايا تحث على رعاية الشعائر الإسرائيلية كما تقدمت في النبوءات.
وظلت الرئاسة على العالم المسيحي معقودة لهذه الشعبة المقيمة في بيت المقدس حتى تهدم الهيكل، وتقوضت مدينة بيت المقدس، وتبددت الجماعة في أطراف البلاد، وآلت قيادة الدعوة إلى الشعبة التي كانت تعمل في خارج فلسطين، فكان لذلك أثر كبير في أسلوب الدعوة، وفي اختيار وسائل الإقناع، إذا اختلف الأسلوبان بين الخطاب الموجه إلى اليهود وحدهم، والخطاب الموجه إلى الأممين النافرين من اليهود، فبينما كان الخلاص على يد فرد من بني إسرائيل لإنقاذهم دون غيرهم أمرا مفروغا منه بين اليهود، كان العالم الخارجي بحاجة إلى صفات إلهية في الرسول المخلص يقبلها الأمميون، ولا يتقيدون في قبولها بالشروط والعلامات التي يلتزمها المتشبثون بحرف الناموس، وقد كانت كتابة الأناجيل في وقت يوافق هدم الهيكل وتفرق الشعبة المقيمة ببيت المقدس، فوضحت فيها دلائل الدعوة كما تولاها المبشرون بها في بلاد الأممين ، وغلبت فيها الصفة الإلهية على غيرها من الصفات المسموعة في جدار الهيكل، قبل إلحاح الحاجة إلى تدوين الأناجيل، وإن المؤلفين ليطنبوا إطنابا كبيرا في ترديد الكلمات الإنجيلية التي تدل على اعتصام السيد المسيح بكتب التوراة، وتوصية التلاميذ باتباعها على سنة الفريسيين، وأشهر هذه الكلمات قوله للتلاميذ والجموع كما جاء في الإصحاح الثالث والعشرين، من إنجيل متى: «إنه على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون، فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وتعلموه، ولكن حسب أعمالهم لا تفعلوا، لأنهم يقولون ولا يفعلون.»
ومن تلك الكلمات قوله كما جاء في الإصحاح الخامس: «لا تظنوا أنني جئت لأنقص الناموس أو الأنبياء، وما جئت لأنقص بل لأكمل، فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل ...»
ومنها قوله كما جاء في الإصحاح العاشر: «إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة السامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة.»
ومنها قوله كما جاء في الإصحاح الخامس عشر: «لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة ...» إلى أقوال أخرى تفهم في مضامينها إن لم تفهم من لفظها الصريح كما في هذه الأقوال.
رد وتعقيب
وعندنا أن المؤلفين أصحاب هذه النظرية في غنى عن العناء والعنت في تأويل الكلمات أو التنقيب عن الصحائف المطوية، إذا كان قصاراهم أن يثبتوا أن الدعوة المسيحية ابتدأت بتوجيه الخطاب إلى الأمة التي تدين بالتوراة وتترقب ظهور المسيح المخلص من بين أبنائها، وأنهم كذلك في غنى عن العناء والعنت إذا أرادوا أن يثبتوا أن القائمين بدعوة الأمم قد اتخذوا لهم أسلوبا في الدعوة غير الذي يتفاهم عليه بنو إسرائيل الذين يقرءون الكتب ويعتقدون بما فيها من النبوءات، وأن رسل الدعوة المسيحية إلى الأمم قد وصفوا السيد المسيح بصفات لم يتصف بها السيد المسيح في كلامه الذي نقلته عنه الأناجيل.
अज्ञात पृष्ठ
كل أولئك لا حاجة بهم إلى العناء والعنت لاستنباط الأدلة عليه من مضامين الأقوال أو طوايا الصحف المنسية، ولكن هؤلاء المؤلفين أصحاب هذه النظريات يكلفون براهينهم عنتا شديدا إذا حاولوا أن ينكروا أن دعوة الأمم قد بدأت في عهد السيد المسيح، وأن التلاميذ والرسل تعلموا منه أن يشملوا الأمم بدعوته، ولا يقصروها آخر الأمر على بني إسرائيل، فلم تتواتر أخبار الأناجيل على شيء كما تواترت على هذه الأخبار في مواضعها وفي مناسباتها المعقولة، ولم تأت الأناجيل في هذه الأخبار إلا بالنتيجة الطبيعية التي يعززها سياق الحوادث، ويستلهم منها منطق الأشياء كما نقول في مصطلحاتنا الحديثة. وماذا كان السيد المسيح صانعا بعد رفض القوم دعوته وإصرارهم على رفضها إلا أن يتجه برسالته إلى غيرهم، أو أن يكف عن هذه الرسالة ويعدل عنها بتاتا، فيعدل عنها التلاميذ والرسل، ولا يتجهوا بها إلى الأمم ولا إلى إسرائيل؟
ولا يفوتن المؤلفين أصحاب هذه النظرية أن الرسل الذين بشروا الأمم بالمسيحية هم الدعاة الذين احتملوا أشد العذاب في سبيلها، وهم الذين صمدوا لها بعد أن تفوق دعاة المسيحية في بيت المقدس، ومن يفعل ذلك لا بد أن يكون معتقدا لما يدعو إليه، ولا يكون مبلغه من العقيدة أنه يحتال لاجتذاب السامعين إليه بأسلوب غير الأسلوب المألوف عند بني إسرائيل. فكيفما كان مرجع هذه العقيدة، فالرسل الذين أعلنوها بين الأمم قد صدقوها قبل أن يدعوا الناس إلى تصديقها، وقد اطمأنوا إليها قبل أن يروضوا الناس على ابتغاء الطمأنينة فيها.
وبعد فنحن لا نستغرب الضجة التي أثارها المؤلفون بما ابتدعوه معتمدين على أسانيدهم التاريخية، أو على طريقتهم في تكملة التاريخ بتنسيق الصور الفنية من وحي القريحة أو من وحي الخيال، إلا أننا نعود إلى أنفسنا فلا نرى أن هؤلاء المؤلفين قد أطلعونا على رأي طارئ يدعونا إلى تعديل شيء جوهري في الصورة التي أوضحت أمامنا لرسالة السيد المسيح عندما استجمعنا خواطرنا ومعلوماتنا لتأليف هذا الكتاب، ويسرنا أننا نعيده اليوم في طبعته الثانية كما بدأناه في طبعته الأولى بغير تعديل يذكر إلا ما كان من قبيل المطبعيات والتصحيفات. ويسرنا قبل ذلك أننا لقينا من قرائنا عرفانا مشكورا نغتبط به، ويغتبط به كل من مارس التأليف في هذا الموضوع الجليل على التخصيص، ولا نعلم أن منهجنا في الكتابة عن «السيد المسيح» قد لقي من أحد استنكارا يحسبه الكاتب أو القارئ في حساب النقد المفهوم، وكل ما هنالك أن بعضهم ظن أن التأليف عن السيد المسيح يقتضي منا أن ندين بالمسيحية أو ندين بجميع مذاهبها في وقت واحد، ولم يقل أحد إننا إذا كتبنا عن برهما وجب أن نكون برهميين، أو كتبنا عن أديان الأمم وجب أن ننتقل فيها من دين إلى دين، ولو وجب ذلك على باحث لما كتبت تواريخ الأديان، ولا تواريخ الدعاة إليها ممن يتفقون في الملة الواحدة، أو لا يتفقون، بل لو وجب ذلك لما كتب عن الشرق إلا المشارقة، ولا كتب عن أوربة إلا الأوربيون، ولا كتب عن الماضي إلا من كان فيه، ولا عن المستقبل إلا مولود من بنيه، ولا وجوب لشرط من هذه الشروط المفروضة في حكم من أحكام النقد المفهوم.
وإنصافا لكثرة القراء الغالبة، نقول إنهم من الوفرة بحيث تحسب هذه القلة إلى جانبها بحساب النسبة إلى الألف؛ لأنها أندر من أن تحسب النسبة إلى المائة، وإنما تصادفها على نسبة متفاوتة في شعب شتى من المطالعات التاريخية الدينية، فربما كتبنا عن الخلفاء الراشدين كلاما لم يعجب أفرادا من الشيعة، أو كتبنا عن معاوية بن أبي سفيان كلاما لم يعجب أفرادا من غيرها، ولكن العبرة من وراء هؤلاء بالقراء الذين يقرءون ما يوافقهم وما يخالفهم ولا يرضيهم من الكاتب أن يعطيهم نسخة مكررة مما في ضمائرهم وخواطرهم، وبين أيدي هؤلاء القراء قدمنا الطبعة الأولى من هذا الكتاب، ونقدم الآن طبعته الثانية على بركة الله.
الباب الثاني
المسيح في التاريخ
المسيح
يدل علم المقارنة بين الأديان على شيوع الإيمان بالخلاص، وظهور الرسول المخلص في زمن مقبل، وظهر على عقائد القبائل الحمر في القارة الأمريكية أن القبائل التي تؤمن بهذه العقيدة غير قليلة في الأمريكتين، وليس في هذا عجب؛ لأن الرجاء في الخير أصل من أصول الديانة، والأمل في الصلاح مادة من مواد الحياة الإنسانية يبثها الخالق في ضمير خلقه، ويفتح لهم بها سبيل الاجتهاد في طلب الكمال والخلاص من العيوب.
وقد يشتد هذا الأمل حين تشتد الحاجة إليه، فكان المصريون الأوائل يترقبون «المخلص» المنقذ بعد زوال الدولة القديمة، وروى برستيد عن الحكيم إبيور
Ipuwer
अज्ञात पृष्ठ
أن المخلص الموعود «يلقي بردا على اللهيب، ويتكفل برعاية جميع الناس، ويقضي يومه وهو يلم شمل قطعانه.»
1
وقد كان البابليون يؤمنون بعودة «مردخ» إلى الأرض فترة بعد فترة؛ لقمع الفتنة، وتطهيرها من الفساد، وكان المجوس يؤمنون بظهور رسول من إله النور كل ألف سنة ينبعث في جسد إنسان، وقيل إنه هو زرادشت رسول المجوسية الأكبر الذي يرجعون إليه بتفصيل الاعتقاد في إله النور وإله الظلام، وقد تخلفت هذه العقيدة إلى ما بعد اليهودية والمسيحية والإسلام، وأشار إليها الجاحظ وهو يتكلم عن أستاذه إبراهيم بن سيار النظام حيث قال: «إن السلف زعموا أن كل ألف عام يظهر رجل لا نظير له، فإذا صدق هذا الزعم كان النظام للألف عام هذه.»
أما الإيمان بظهور رسول إلهي يسمى «المسيح» خاصة، فلم يعرف بهذه الصيغة قبل كتب التوراة وتفسيراتها أو التعليقات عليها، في التلمود والهجادا وما إليها.
ومرجع التسمية نفسها إلى الشعائر التي وردت في سفر التكوين وسفر الخروج، وما يليهما من أسفار الأنبياء، فإن المسح بالزيت المبارك شعيرة من شعائر التقديس والتكريم، وأول ما ورد ذلك في الإصحاح الثامن والعشرين من سفر التكوين، حيث روي عن يعقوب أنه «بكر في الصباح وأخذ الحجر الذي وضعه تحت رأسه، وأقامه عمودا، وصب زيتا على رأسه، ودعا ذلك المكان بيت إيل - أي بيت الله.»
وجاء في الإصحاح الثلاثين من سفر الخروج أن «الرب كلم موسى قائلا: ... وأنت تأخذ أفخر الأطياب ... دهنا مقدسا للمسحة ... وتمسح به خيمة الاجتماع، وتابوت الشهادة والمائدة وتقدسها، فتكون قدس أقداس، وكل ما مسها يكون مقدسا، وتمسح هارون وبنيه وتقدسهم ...»
وكان الأحبار والأنبياء يسمون من أجل هذا مسحاء الله، وتنهى التوراة عن المساس بهم كما جاء في الإصحاح السادس عشر من سفر الأيام: «لا تمسوا مسحائي، ولا تؤذوا أنبيائي.»
وكان مسح الملوك أول شعائر التتويج والمبايعة، فكان شاءول وداود من هؤلاء المسحاء.
ثم أطلقت كلمة «المسيح» مجازا على كل مختار منذور، فسمي كورش الفارسي «مسيحا» كما جاء في الإصحاح الخامس والأربعين من سفر أشعيا؛ لأن الله أخذ بيده لإهلاك أعداء الإسرائيليين، وإقامة بناء الهيكل من جديد، وسمي الشعب كله مسيحا كما جاء في المزامير، وكتاب النبي حبقوق، ومنه: «خرجت لخلاص شعبك: خلاص مسيحك»؛ بمعنى الشعب المختار.
وتكررت في كتب «الهجادا» أو كتب التعاليم الإشارة إلى الرسول المنتظر باسم المسيح، فتارة يطلق هذا الاسم على يوسف، وتارة على موسى - عليهما السلام - ولا يزال المؤمنون بالرسالة المسيحية من طوائف اليهود ينتظرون مسيحا في صورة رسول هاد أو صورة شعب مبرور؛ لأنهم لا يدينون برسالة عيسى ابن مريم - عليهما السلام.
अज्ञात पृष्ठ
وقد كان الإيمان بانتظار المسيح على أشده بعد زوال مملكة داود وهدم الهيكل الأول، فردد الشعب الإسرائيلي وعود أنبيائه بعودة الملك إلى أمير من ذرية داود نفسه، تخضع له الملوك، وتدين الأمم لسلطانه، ثم ترقى الإيمان «بالمسيح» بمعنى الملك إلى الإيمان بالمسيح بمعنى المختار، أو المنذور للهداية والصلاح، وبلغ هذا التحول غايته في بعض النبوءات، ومنها نبوءة أشعيا التي امتازت بتكرار هذه الوعود، فمن وصف القوة والبطش والصولة والصولجان، إلى وصف الدعة والتضحية والصبر على المكاره في سبيل التحذير والتبشير، وقد جاء في الإصحاح الثالث والخمسين من صفات الرسول المنتظر أنه «محتقر ومخذول من الناس، ورجل أوجاع وأحزان»، وجاء في الإصحاح التاسع من سفر زكريا: أنه «عادل، ومنصور وديع، يركب على حمار ابن أتان»، واتفقت أقوال كثيرة على أنه يأتي مسبوقا برائد يعلن مجيئه، وهو النبي إيليا (إيلياس) منبعثا من الأموات.
وقد كان هذا الارتقاء في فهم الرسالة المسيحية يصاحب أطوار الشعب الإسرائيلي في تاريخه المتعاقب، فيقوى الرجاء في المسيح الملك كلما ضعفت الدول المسيطرة على فلسطين، وهان خطب الثورة عليها، وتعاظم الأمل في استقلال رعاياها ، ويعود الرجاء إلى «المسيح الهادي » كلما استحكم سلطان الغالبين، وبدا أن الأمل في الخروج عليهم بقوة السلاح بعيد عسير، وهكذا تراوح تفسير الرسالة المنتظرة بين رجعة الدولة وبعثة الهداية على حسب أطوار التاريخ، فلما دخلت فلسطين في حوزة الدولة الرومانية سنة خمس وستين قبل الميلاد، وأخذ الأمل في قيام الدولة يتضاءل، ويخلفه الأمل المتتابع في انتظار الرسول المخلص، والبعثة الروحانية، اقترن هذا التحول بظاهرتين تصطحبان حينا وتفترقان، بل تتناقضان جملة أحيان، فعظم سلطان الهيكل وكهانه حين تحول السلطان القومي كله إليهم، وأصبح هذا السلطان ملاذ المتطلعين إلى كل رئاسة قومية تصمد للدولة الأجنبية، ومن الناحية الأخرى جنحت الضمائر المتعطشة إلى اليقظة الروحية جنوحا متمردا على القديم، مؤمنا بانتظار البعث من غير جانب «الهيكل» وبقاياه، وما جمد عليه مع الزمن من الموروثات والمأثورات.
فلما بلغ الكتاب أجله، وحانت البعثة المرقوبة، كان المعسكران متقابلين متحفزين على استعداد.
النبوة بين بني إسرائيل
من تمام العلم باستعداد عصر الميلاد لدعوات النبوءة أن نلم بأحوال النبوءة في الشعب الإسرائيلي منذ تكاثر عدده، وتنوعت أعمال الرئاسة والتعليم بين قبائله وأسباطه، فإن أحوال النبوءة في ذلك الشعب لم تكن على الصورة التي تسبق إلى خواطرنا من النظر في تواريخ كبار الأنبياء، وتواريخ الفترات التي مضت بين عهودهم في الأمم المتعددة.
فنحن اليوم نستهول دعوة النبوءة، ونعلم عن يقين أن الذي يقدم على ادعاء النبوءة في عصرنا هذا يقدم على خارقة مستغربة، ويعرض نفسه لاتهام المتدينين قبل المنكرين والملحدين؛ لأن أتباع الأديان يؤمنون بختام النبوءات، أو يؤمنون بأن النبي الجديد ينتقص عقائدهم، ويزعم لنفسه أن يعلمهم ما لم يعلموه من كتبهم وأقوال أنبيائهم، أما المنكرون والملحدون، فهم لا يقبلون دعوى النبوءة في هذا العصر، ولا في غيره من العصور.
ونحن اليوم نعلم أن الفترة بين إبراهيم وموسى، وبين موسى وعيسى، وبين عيسى ومحمد - صلوات الله عليهم - قد طالت حتى حسبت بمئات السنين، ففي اعتقادنا على الدوام أن ظهور الأنبياء حادث جلل لا يتكرر في كل جيل، ولا يراه الإنسان في عمره مرتين.
ونحن اليوم نعلم من تواريخ كبار الأنبياء أنهم أقدموا على مصاعب تخفيف المقدمين عليها، وشقوا بدعوتهم طرقا لا يسهل تذليلها؛ لأنهم حطموا آلهة، وسفهوا أحلاما، وغيروا العقائد التي درجت عليها الأمم عصورا بعد عصور، وأقاموا عليها سلطان ذوي السلطان، كما أقاموا عليها شرائع الحاكمين والمحكومين، كذلك صنع محمد، وكذلك صنع موسى - عليهما السلام - فمن تولى الهداية إلى دعوة على هذا النحو فهو متعرض للعدوان والبغضاء، مقتحم على الناس طريقا لا يقبلون اقتحامه من أحد، ولا يرون أحدا يقتحمه عليهم إلا أعنتوه، وأقاموا له العراقيل.
أما أحوال النبوءة في بني إسرائيل فينبغي أن نتصورها على غير هذا النحو؛ لأنها تخالفه من جملة وجوه.
فأول ما هنالك من الفوارق أن الأنبياء في بني إسرائيل لم يكن وجودهم ندرة، ولم يكن بينهم فترة، أو لم يكن حتما لزاما أن تكون بينهم فترة، فقد يوجد منهم في العصر الواحد أربعمائة نبي، كما جاء في سفر الملوك الأول، حيث جمع ملك إسرائيل «الأنبياء نحو أربعمائة رجل وسألهم: أأذهب إلى رامة جلعاد للقتال؟»
अज्ञात पृष्ठ
وخير ما ورد في وصف مكان الأنبياء بين بني إسرائيل قول النبي «محمد» - صلوات الله عليه: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل».
فقد كان عمل النبي في شعب إسرائيل كعمل العالم الفقيه في الأمة الإسلامية، ولم يكن من المستغرب أن يسمع بهم الخاصة أو العامة في وقت من الأوقات، ولم يكن قيامهم إنكارا لقيام الأنبياء من قبلهم، بل هو تفسير للكتب والنذر، وحض على اتباع السنن التي رسمها لهم من قبل إبراهيم وموسى ويعقوب وغيرهم من الأنبياء السابقين، بل كانوا يعلمون من كتب العهد القديم أن الله وعد إسرائيل «أن يقيم أنبياء مثله ويجعل كلامه في أفوههم (18 تثنية)، وأن بعض هؤلاء الأنبياء قد يتحدث إلى الناس بكلام غير كلام الوحي فعليهم أن ينبذوه»، «وإن قلت في قلبك كيف تعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب فاعلم أن ما تكلم به النبي باسم الرب، ولم يحدث ولم يصر، فهذا كلام لم يتكلم به الرب ... فلا تخف منه.»
بل يجوز أحيانا أن تصدق الأقوال والعلامات، ولا يجوز للشعب أن يستمع إلى وصايا الأنبياء إذا دعوه إلى عبادة رب غير إله إسرائيل، فإذا قام في وسطك نبي أو صاحب رؤيا وأعطاك آية أو أعجوبة، فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو صاحب الرؤيا إن دعاك إلى عبادة آلهة أخرى لم تعرفها وتعبدها ولو صدقت الأعجوبة أو الآية ... (13 تثنية).
ولم تكن النبوءة بإذن من ذوي السلطان، أمراء كانوا أو كهانا أو شيوخا مطاعين في القبيلة، بل يمتلئ يقين الإنسان بالإيحاء إليه فيمضي في تبليغ وحيه ولا يقوى أحيانا على كف لسانه كما قال أرميا: «قد أقنعتني يا رب فاقتنعت، وألححت علي فغلبت، صرت أضحوكة وهزءا ... وكلمة الرب جللتني بالعار والسخرية ... فقلت لا أذكره، ولا أنطق باسمه بعد، فكان في قلبي كأنه نار محرقة محصورة في عظامي ... فلم تكن لي طاقة بالسكوت» (20 أرميا).
وكثيرا ما كان النبي ينحى على زملائه في عصره ويخالفهم في تفسير النذر من ربه، كما قال أرميا: «من عند أنبياء أورشليم خرج نفاق إلى الأرض كلها ... فلا تسمعوا كلام الأنبياء الذين يتنبئون لكم، فإنهم يبطلون عملكم ويتكلمون برؤيا قلوبهم.»
أو كما قال ميخا لملك إسرائيل: «هو ذا الرب قد جعل الروح كذلك في أفواه جميع أنبيائك هؤلاء.»
قال هذا فتصدى له صدقيا بن كنعانة «وضرب ميخا على الفك وقال له: من أين عبر روح الرب مني ليكلمك؟»
وكان المعهود في الأنبياء كما روت كتب التوراة أن يطلب أنبياء إسرائيل حالة الكشف كما يطلبها المتصوفون والنساك فيما علمناه من أخبارهم المتواترة، فمنهم من يصوم ويتهجد ويمسك عن فضول العيش، ويلتمس المنازه والأنهار، كما قال دنيال: «لم آكل طعاما شهيا، ولم يدخل في فمي لحم ولا خمر، ولم أدهن حتى تمت ثلاثة أسابيع، وفي اليوم الرابع والعشرين من الشهر الأول، إذ كنت إلى جانب النهر العظيم دجلة، رفعت عيني ونظرت.»
بل منهم من كان يستعين بالسماع؛ ليشعر بصفاء الروح، ويستلهم الغيب، كما جاء في سفر صمويل الأول: «إنك تصادف زمرة من الأنبياء يهبطون من الأكمة، أمامهم رباب ودف وناي وعود، وهم يتنبئون فيحل عليك روح الرب» (9 صمويل أول).
أو كما جاء في سفر الملوك الثاني: «فقال اليشع حي رب الجنود ... الآن فأتوني بعواد ... فلما ضرب العواد بالعود كانت عليه يد الرب.»
अज्ञात पृष्ठ
ولكن الأغلب مع هذا أنهم كانوا يرتادون الخلوات، وينقطعون في جوانب الأنهار «عند نهر خابور انفتحت فرأيت رؤى الله» (حزقيال).
ولا يمتنع عندهم أن يلهم الله بالرؤيا الصالحة أو الدليل البين إنسانا من غير الأنبياء، ومن غير شعب إسرائيل، كما ألهم أبيمالك وبلعام، ولكنهم يلهمون ليعرفوا بأنفسهم حق الأنبياء والمرسلين.
وكان الغالب على سامعي النبوءات أن يطلبوا آية يعلمون بها أن المتكلم ينطق بوحي من الله، ولكن طلب الآية لم يكن عندهم دليلا على اليقين والإيمان، وربما أذن للنبي أن يطلب الآية، ويمعن في طلبها، فنرى من الأدب ألا يجرب ربه بدليل هذه الآيات (7 أشعيا).
على أنهم كانوا يلجئون إلى الأنبياء يستشيرونهم قبل الحرب، أو الرحلة، أو الإقامة؛ لعلمهم أنهم أقرب إلى الله، وأدنى أن يطلعوا على الغيب المحجوب عن أنظار الدنيويين المنغمسين في هموم الحياة، ومن هؤلاء الأنبياء من كان يستمع الوحي صوتا عاليا، ومن كان يحسه إلهاما، أو هدية، أو رؤيا صالحة، وغالبا ما كانوا يقصرون رسالتهم على النذير بالعقاب كلما خرج الشعب على الأقدمين وانحرف عن سواء العبادة كما تلقاها آباؤهم من الأنبياء السابقين، فلم تكن النبوءة اقتحاما ولا بدعة مستغربة، ولم يكن فيها خطر على النبي إلا حين يتصدى للملوك والأمراء، فيأخذ عليهم مخالفة الشريعة، أو مخالفة المأثور عن السلف، ومن هؤلاء الملوك والأمراء من كان يعمد إلى التنكيل بالنبي في هذه الحالة؛ ليثبت للناس كذبه وأنه لم يأت من عند الله، إذ كان موت النبي الكاذب إحدى العلامات على بطلان دعواه.
ولعلنا نصف الحالة حق وصفها حين نقول: إن القوم كانوا يبحثون عن الأنبياء، ويترقبونهم، ولا يعتبرون ظهورهم خارقة يستهولونها، أو يستغربون تكرارها، وأن الإنسان المتهيئ للنبوءة كان يخشى أن يسكت عن الدعوة متى جاشت ضمائره بحوافزها، وألحت عليه أياما بعد أيام، حتى يصبح السكوت في حكم سريرته عصيانا لأمر الله ونكولا عن إرادته، ومتى استقر في سريرته أن طلب الآية تجربة لله، وضعف في الإيمان، فأسلم الأمور عنده حيث تجيش نفسه بروح الله أن ينذر ويبشر، وعلى الله بعد ذلك أن يثبت نبوءته، وأن يهديه ويهدي الناس إليه كما يشاء.
وفي عصر الميلاد، ذلك العصر الذي ترقبت فيه النفوس بشائر الدعوة الإلهية من كل جانب، كما يترقب الراصدون كوكبا حان موعد طلوعه؛ لا جرم تتفتح الآذان لصوت المبشر الموعود، ولا جرم كذلك أن يكون البرهان المطلوب منه على قدر الرجاء في الخير المنتظر، وأن يمتحنه الناس، فيعسروا غاية العسر في امتحانه، خوفا من سهولة الدعوى على الأدعياء، وخوفا من بطلان الرجاء في إبان اللهفة على الرجاء، فهو رجاء عظيم يعلقه المرتجون على برهان عظيم.
الطوائف اليهودية في عصر الميلاد
كان العالم اليهودي في العصر الذي ولد فيه السيد المسيح يشتمل على طوائف مختلفة، لكل منها مذهبه في انتظار المسيح المخلص الموعود.
والتعريف بهذه الطوائف ضروري لتقرير مكان العقيدة الجديدة بين العقائد التي سبقتها في بيئات بني إسرائيل.
وضروري من جهة أخرى؛ لأنه - فيما نرى - أقوى دليل يرد به على الناقدين المحدثين الذين ظهروا منذ القرن الثامن عشر، وجمحت بهم شهوة النقد والتشكيك، حتى جازوا الشك في النصوص والروايات، إلى الشك في وجود السيد المسيح نفسه، كأنه في زعمهم شخصية من شخصيات الأساطير، وتسقط دعوى هؤلاء الناقدين بمجرد الإحاطة بأصول المذاهب التي كانت معروفة في عصر الميلاد؛ لأن الدعوة المسيحية كانت تعديلا لكل مذهب من هذه المذاهب في ناحية من نواحيه، وكانت هذه التعديلات في جملتها تثوب إلى وحدة متماسكة من القواعد والمثل العليا، لا بد لها من «شخصية» مستقلة عن هذه المذاهب جميعا، قادرة على عرض شعائرها وعقائدها على محك واحد متناسق الفكر والإيمان.
अज्ञात पृष्ठ
ونكتفي من الطوائف الدينية التي كانت معروفة في عصر الميلاد بخمس منها، وهي طوائف الصدوقيين والفريسيين والآسين والغلاة والسامريين، وكل طائفة من هذه الطوائف الخمس مهمة في تاريخ العصر بمزية من المزايا التي تتوقف عليها قوة المذاهب الدينية.
فالصدوقيون هم في دعواهم أتباع «صدوق» وأسرته الذين تواترت الروايات بأنهم كانوا يتولون الكهانة في عهد داود وسليمان.
وكانت طائفتهم مهمة بمراكز أصحابها؛ لأنهم على الجملة أنصار المحافظة والاستقرار، وأصحاب الوجاهة والثراء.
وقد كانوا متشددين في إنكار البدع والتفسيرات، متشبثين بالقديم يؤيدون سلطان الهيكل والكهان، ويقبلون أقدم الكتب التي احتوتها التوراة، وهي كتب موسى - عليه السلام - ويرفضون ما عداها، ولا سيما المأثورات المنقولة بالسماع.
وتدعوهم المحافظة على النظام القائم إلى مسلك يناقض عقيدتهم فيما هو ظاهر من لوازمها، فقد كانوا أقرب اليهود إلى الأخذ بالحضارة اليونانية وعادات المعيشة في البيئات الرومانية، ومنهم من كان يدين ببعض المذاهب الفلسفية؛ كمذهب أبيقور، كما كان مفهوما في ذلك العصر، وقد كان الشائع عنه يومئذ أنه مذهب اللذة الحسية والمتعة بالترف والنعيم، ولكنهم في الواقع لا يناقضون سنتهم وسنة أمثالهم في كل زمن، فإنهم يحافظون على نظام المجتمع؛ لأنهم أصحاب اليد الطولى عليه، ولهذا يحبون متاعه ونعيمه، ويوفقون بينهم وبين أصحاب السلطان السياسي، وقد كانوا يومئذ من اليونان والرومان، ويملي لهم في هذه النزعة أنهم يؤمنون بأن الكتب اليهودية الأولى لا تذكر البعث ولا اليوم الآخر، ولا تعد الصالحين حياة بعد هذه الحياة، خلافا للطوائف الأخرى التي تؤمن بالبعث والحساب.
وقد كانت الحملة على السيد المسيح بقيادة اثنين من كبار الكهنة الصدوقيين، وهما «حنانيا» و«قيافا»، ولم يكن في ذلك عجب؛ لأن الصدوقيين جميعا يحافظون على سلطان الهيكل، ويحافظون على النظام القائم، أو لا يستريحون إلى الثورة والانقلاب.
وخلاصة الآداب الصدوقية أنهم حرفيون في مسائل الدين، متوسعون في مسائل المعيشة، وأنهم يعاشرون الأجانب، ولا يعتزلونهم كسائر أبناء قومهم؛ لأن أعمالهم ومراكزهم متصلة بذوي السلطان.
وتقابل الصدوقيين طائفة أخرى هي طائفة الفريسيين، وهي أقوى من الطائفة الصدوقية بكثرة العدد وشيوع المبادئ والآراء، وحسن السمعة بين سواد الشعب وعلية القوم الذين لا يخالطون الأجانب، وإن لم يكن بين أفرادها كثيرون في مرتبة الرؤساء والوجهاء.
واسم الفريسيين مأخوذ من كلمة عبرانية تقارب كلمة «الفرز» العربية في لفظها ومعناها، فهم المفروزون أو المتميزون، وخصومهم يطلقون عليهم هذا الاسم تهكما وتحقيرا؛ لاعتقادهم أنهم فرزوا أنفسهم عن السلف، واعتزلوا طريق الجماعة الأولى، أما هم فقد كانوا يطلقون لقب الفريسيين أو المفروزين على أنفسهم ويردونه إلى خطاب الله لبني إسرائيل جميعا، كما يرونه في الإصحاح العشرين من سفر اللاويين، فهناك يخاطب الله الشعب قائلا: «وقد ميزتكم من الشعوب لتكونوا لي.» فهم عند أنفسهم المميزون المفضلون.
لهذا كانت تلازمهم في بعض الأحيان صفات الادعاء والتعالي التي تلازم كل طائفة تستأثر لنفسها بالمزيد بين الطوائف الأخرى، وكان بعضهم هدفا لحملات السيد المسيح تنديدا بما يظهرونه من الثقة والكبرياء.
अज्ञात पृष्ठ
على أنهم كانوا يقابلون بهذه الكبرياء كبرياء الوجاهة والثروة التي كانوا يستنكرونها على خصومهم الصدوقيين، وكانوا يثورون على السلطان «الرسمي»، حيث كان في الهيكل أو في المراجع الأجنبية، فكانوا ينكرون على الكهان استبدادهم بالشعائر والمراسم، وينكرون في الوقت نفسه عادات الأجانب والمتشبهين بهم محاكاة للحكام والمتسلطين.
وقد كانت ثورتهم الأولى على البدع الأجنبية التي كانوا يرفضونها كل الرفض، ولا يسامحون من يقبلها، فلما أمر الملك «أنطيوخس» كاهن الهيكل أن يضحي في مذبحه بالخنازير (سنة 168 قبل الميلاد) قاموا قيامة رجل واحد، وعرضوا أنفسهم للموت بالمئات والألوف كراهة لهذه البدعة النجسة، وحدث في عهد الرومان أن الوالي «بترونيوس» عجب من عنادهم في مقاومة الدولة الرومانية مع ضعفهم وقوتها، فسأل زعماءهم: كيف يخطر لكم أن تحاربوا قيصر ولستم أكفاء لقوته؟! فقالوا: نحن لا نحارب قيصر، ولا نزعم أننا أكفاء لقوته، ولكننا نموت على بكرة أبينا، ولا نخالف الشريعة، وكشفوا رقابهم مستعدين لإثبات ما يقولون.
ومن نقائضهم أن ثورتهم على استبداد الهيكل، ورغبتهم في تعميم الشعائر التي كانت محصورة في المحاريب هي التي دعتهم إلى إقامة هذه الشعائر في البيوت بغير حاجة إلى الكهان المرسومين، ولكنهم لم يلبثوا أن جعلوا من كل بيت هيكلا مقدس المراسم، فكانوا على ميلهم إلى السماحة ومقاومة الاستبداد «الرسمي» أشد من المتشددين.
إلا أن الغالب عليهم حين يبتعدون عن الأمور التي تتعرض لهذه النقائض أنهم أقرب إلى التصرف والقياس، أو أقرب إلى تحكيم العقل في مسائل النصوص والتقاليد، فكان الصدوقيون مثلا يصرون على شريعة العين بالعين والسن بالسن ولا يقبلون الدية، وكان الفريسيون على عكس ذلك يفضلون الدية والمسامحة على القصاص، وكان الصدوقيون أقرب إلى المادية والقواعد العملية، وكانوا هم أقرب إلى الروحانية والآداب النظرية، أو آداب التأمل والتفكير، وقد كان إنكار البعث والحياة الروحية أشد ما ينكرونه على خصومهم الصدوقيين، ومن أجل هذا سبقوهم مراحل إلى انتظار الخلاص، أو انتظار المسيح المخلص في عالم الروح، غير مقيد بشروط الصولة والصولجان.
وإذا وصف الصدوقيون على الإجمال بأنهم طبقة «الأرستقراطيين»، فالذين يستحقون وصف الديمقراطيين دون غيرهم من طوائف اليهود في ذلك العصر؛ هم الفريسيون.
وقد جاء عصر الميلاد وهم ينقسمون إلى فريقين: فريق منهما يتبع الحكيم «هلل» الذي قدم إلى فلسطين من بابل، وهو الفريق السمح الودود في معاملة الأجانب؛ والفريق الآخر يتبع الحكيم «شماي»، وهو أقرب إلى التحرج والتضييق، ورد الراغبين في دخول الدين من غير اليهود، وكان شعار هلل الاعتدال بين الزهد والمتاعة، وكلمته المأثورة: «إن الزيادة في اللحم زيادة في الدود.» وشريعته في المعاملة أن الشريعة كلها كلمة واحدة، وهي ألا تصيب أحدا بما تكره أن تصاب به، وكل ما عدا ذلك من الأحكام المنزلة فهو تفسير وتفصيل، وأما الحكيم شماي فقد كان الاعتدال بين الزهد والمتاع أكثر مما يطيق، وروي أنه كان يحترف التجارة ليعيش من كسب عمله، وأن غيرته على القديم كانت أقوى من إقباله على التجديد والتصرف في تأويل النصوص.
والقول الراجح بين المؤرخين أن معلمي السيد المسيح في صباه كانوا من طائفة الفريسيين. •••
والطائفة الثالثة التي تقل عن هاتين الطائفتين في العدد كثيرا، وتساويهما أو تزيد عليهما في القوة والأثر هي طائفة الآسين أو الآسينيين كما يكتبها رواة الأخبار عنها في عصر الميلاد .
عددها كما قدره المؤرخ يوسفيوس والفيلسوف فيلون لا يزيد على أربعة آلاف، يعيش أكثرهم في جنوب فلسطين.
ومصدر قوتهم صرامة العقيدة وتنظيم الخطة، وقد تكون دلالتهم أعظم من قوتهم؛ لأنهم طائفة من صميم الأمة الإسرائيلية قد استقلت بشعائرها، وعباداتها، وآرائها، وأسرارها، وأوشكت أن تستقل عن «الهيكل» كله في علاقتها بالدين والقومية، ولولا أنها تعترف بتقريب القرابين في الهيكل لما حسبت من طوائف اليهود، ولكنها مع هذا تنكر ذبح الحيوان، ولا تقرب القرابين من غير النبات.
अज्ञात पृष्ठ