हक़ीक़ा
الحقيقة: وهي رسالة تتضمن ردودا لإثبات مذهب دارون في النشوء والارتقاء
शैलियों
ولقائل أن يقول: إن تلك مسائل فوق طاقتنا ولم يعط لنا علمها، فالأولى بنا أن نسلم بالعالم كما هو بدون أن نتعب أنفسنا بما كان أو بما سوف يكون، فنجيبه أن الإنسان لا يعرف نفسه جيدا حتى يضع حدا لمعرفته، فهو يخطئ خطأ لا مزيد عليه إذا جزم بأنه ما من أحد يستطيع في المستقبل - مهما تقدمت المعارف - أن يفهم ما لا ندركه نحن اليوم، فحق الطبيعي في البحث عن أصل الكوائن الحية إذن حق مطلق، وإذا ثبت ذلك قلنا: إن في معرفة أصل هذه الكوائن فائدة كبيرة، ولو لم يكن فيها سوى العلم فقط لكفى.
إن مقام الإنسان بالنظر إلى هذه الأجسام الحية يختلف باختلاف ما يعتقده من أصلها، فعلى القول الأول - أي على فرض كونها ثابتة - هو غير مكلف للبحث فيها إلا بقدر ما تمس الحاجة من دفع ضرر قد يتأتى له عنها، أو جلب منفعة قد تحصل له منها. وهذا لا يتعدى ما جاوره منها بحكم المساكنة العارضة، وإذا نظر فيها نظر الطبيعي كان نظره فيها مقتصرا على وصف صورة صورة، ونوع نوع، وتقرير وظيفة عضو عضو، بقطع النظر عما قد يمكن أن يكون بينها من الارتباط والمناسبة، وما يجمعها من النواميس؛ إذ لا يرجو أن ينكشف له سرها يوما ما؛ لأنه خارج عن العالم المادي، ولا أن يقف على ما يردها إلى وحدة معلومة ويربطها بناموس ما؛ لأن كل نوع هو - كما قال أجاسيز - صورة فكر خالق متميز، وليس بين فكر خالق وفكر آخر مثله من النسبة إلا مجرد الإرادة، فلا يقدر الإنسان أن يدرك النسبة بين فكر وفكر من هذه الأفكار الخالقة المتجسدة إلا إذا أدرك العقل الخالق نفسه، ولا يتم له ذلك؛ فهو يتصور الخالق كصانع «على صورته» مهتم على الدوام ببناء أبنية بين جميل وقبيح، وجليل وحقير، ويبقيها زمنا معلوما ثم يهدمها؛ لأنه يريد ذلك لا لسبب آخر، ويقيم غيرها عوضا عنها يكون أنسب لما جد في أفكاره، فكيف يرجو الإنسان مع ذلك أن يجد رابطا يربط الأنواع ببعضها، فلا حاجة له إذن أن يسألها عن أصلها ولا عن أصله، ولا أن يتعب نفسه في البحث عن الحياة؛ لأنها سر فوق أسرار الطبيعة يستحيل إدراكه.
وعلى القول الثاني، أي على فرض كون الأجسام الحية آتية عن بعضها، متسلسلة على سبيل الاستحالة المركب من البسيط، والبسيط من الأبسط، فلا يقتصر الإنسان في البحث فيها على النظر في كل نوع، أو كل صورة فقط، بل يتعداه إلى النسبة بين نوع ونوع، وصورة وصورة، وبين جميع الأجسام الحية بالنظر إلى بعضها، وإلى الأشياء التي من خارج أيضا، فيرى أولا: أن الأنواع مرتبطة ببعضها ارتباطا شديدا، وأن النواميس التي تفعل في كل منها هي نفس النواميس التي تتكون وتنمو بموجبها الأجسام الحية كافة، وثانيا: أن الاستحالة الحاصلة في الصور ناتجة عن التفاعل الحاصل بينها وبين الأشياء التي من خارج، ويرى غير ذلك أيضا؛ إذ يعلم أن كل ما يفعل في الأشياء التي من خارج يفعل بالضرورة - أيضا - فيما تفعل هي فيه، وهو يقدر أن يفعل فيها، إذن هو يقدر أن يفعل في العالم الحي المحيط به، ومن ثم في نفسه أيضا؛ لأنه جزء منه، بخلاف ما لو كان غير ذلك.
وسواء خرج الإنسان من عالم الحيوان وألف له عالما وحده أو لم يخرج، فهو يجد في ماضي هذا العالم تاريخ نفسه، وكل جسم حي له الحق أن يدعي أن له معه بعض نسبة أو قرابة؛ لأنه ليس سوى صورة متحولة عن نفس المادة المؤلف هو منها، أو عن مادة شبيهة بها، فمعرفة الحيوانات والنباتات مهما كانت حقيرة هي نفس معرفة الإنسان، ومعرفة عمل جسمه، ومعرفة التغيرات القابل لها؛ لأن نواميس تغيرات المادة هي واحدة أينما كانت، وهي فيها سر ما نسميه بالأمراض، وسر منعها وشفائها.
فالطب والتشريح والفيزيولوجيا والزوولوجيا والإمبريوجنيا والبلينتولوجيا والأنتروبولوجيا، وغيرها من العلوم الفرعية التي تبحث عن الإنسان تؤلف سجلا شديد الارتباط ببعضه، يشمله علم واحد هو علم الحياة، ويسمى البيولوجيا، وعليه فليست الأنواع تجسد أفكار خالقة متميزة، وليست أسبابها إرادة ذات مقاصد خفية، ولكنها تتكون تبعا لنواميس ثابتة غير متزعزعة تعمل دائما على قياس معلوم أشبه بالنواميس الطبيعية والكيماوية، وتؤدي نظيرها إلى نتائج متعددة، فكل صورة لها أسبابها المتممة، وتعرض لنا لا كأمر يطلب منا تقريره، بل كمسألة يطلب منا حلها. وهذا هو سبب التقدم الذي حصل في علوم الحياة منذ انتشار الكتاب الشهير لدارون في أصل الأنواع، ولولا هذا السبب لما كان حصل أو يحصل فيها شيء من ذلك.
فمذهب التسلسل - أو كما يسمونه أيضا مذهب الاستحالة - يرينا دائما الحركة والنزاع والغلبة، حيث يرينا مذهب ثبوت الأنواع أو الجراثيم السكون. فالحياة ميدان خصام قد تحصل فيه مقاتل وملاحم يشترك فيها نوع الإنسان، وتنجلي عن ظفر أنواع وملاشاة أنواع. وهذا المذهب أقدم جدا من دارون، فقد قال به علماء كثيرون قبله في أواخر القرن الماضي، وفي أوائل هذا القرن، نخص بالذكر منهم: بوفون، ولامارك، وجات، وجفروا سانتيليار، الذي حصل بينه وبين كوفيه، المخالف له في المذهب، في جمعية العلوم في باريز، جدال شاهد بفضلهما، ولم يزل ذكره حتى اليوم، إلا أن دارون منذ نحو 22 سنة قد فصله بجملته ووضعه على أساس متين، وهذا هو السبب في نسبته إليه.
ويراد به أن جميع الأجسام الحية - بما فيها من الاختلافات - حيوانية كانت أو نباتية، منقرضة كانت أو باقية، هي مشتقة من صورة واحدة أصلية، أو من صور قليلة أصلية بسيطة جدا. والأدلة على صحة هذا المذهب كثيرة، منها وأهمها: (1) اشتراك نواميس الحياة في سائر الأجسام الحية، فهي واحدة في جميعها. (2) تحول الأجسام الحية عن بعضها وإلى بعضها كما نعلم من البلينتولوجيا، فإن هذا العلم يعلمنا أنه في مدة الأدوار العديدة لتكون الأرض: كل طائفة من الحيوانات والنباتات قد مرت متحولة بالتتابع بسلسلة فصائل وأنواع متعددة جدا، فإن طائفة ذوات الفقر - مثلا - قد مرت بطائفة السمك والأمفيبيا والحشرات والطيور وذوات الثدي، وكل من هذه الأنواع قد مر أيضا بسلسلة أنواع مختلفة. (3) وجود الأعضاء الأثرية؛ فلو كانت الأجسام الحية جرثومية ومخلوق قوة خالقة تفعل لقصد معلوم؛ لما وجب أن يكون فيها أعضاء أثرية لا نفع لها، والحال أنه لا يكاد يخلو جسم حي منها، ولكن لما كانت متحولة عن بعضها؛ كان وجود هذه الأعضاء فيها لازما ضروريا؛ إذ إن وجودها وعدمه متوقفان على الأحوال الطبيعية التي هي الفاعل الأول فيهما، وهذا لا يكون دفعة واحدة، بل شيئا فشيئا، إيجادا كان أو إعداما، ولا يخفى ما صادف هذا المذهب من الصعوبات في أول انتشاره، وأما الآن فيكاد لا يختلف فيه اثنان من الطبيعيين.
حياة الجماد1
قال ثولت من رسالة في هذا الموضوع: إن القول بأن الجماد حي كالحي ليس بجديد، فقد قال كرذان في القرن السادس عشر: «إن الحجر يحيا ويمرض ويهرم ويموت.» وهو قول صحيح؛ لأن المادة متحولة ومتغيرة على الدوام فهي في تولد دائم، وموت دائم، وبعث دائم، وذلك هو الحياة، وحياة الجماد لا تفرق عن حياة الإنسان أو الحيوان أو النبات؛ إذ الكل خاضع لسنن واحدة، مندفع قسرا في تيار زوبعة لا تسكن حركتها، أولها وآخرها مكتنفان بظلمات بعضها فوق بعض.
والتولد أول أطوار تحولات المادة، وهو - بقطع النظر عن افتراضات الخيال التي قد تضل والبراهين الفلسفية التي كثيرا ما تخدع - واقع تحت نظر كل إنسان، وعام على الجماد والنبات والحيوان؛ ففي كل دقيقة، بل في كل لحظة ترى الأحياء تتكون، والجواهر الفردة تنضم، والدقائق تتركب، ولا فرق بين البسيط والمركب من حيث السنن الفاعلة بهما؛ إذ لكل فرد - مهما كان - تركيب كيماوي معلوم، وصورة معلومة، ونوع تبلور معلوم، حتى نفس تغيره ثابت إلى حد محدود، ويتم تبعا لشرائط معلومة، وإذا تغيرت إحدى هذه الشرائط تغيرت موازنته حالا، فهو متغير على الدوام، إلا أنه لا يزول من الوجود، وكما أن الحي يتأثر بالأحوال التي من خارج كذلك الجماد، وإذا كان بينهما فرق، فإنما هو في الشدة والضعف، بحيث إن أحدهما أشد انفعالا، وأسرع تأثرا، وأقل ثباتا من الآخر، ولكنهما يفعلان وينفعلان على السواء طبقا لناموس المادة الأولى، وهو التكافؤ بين الفعل والانفعال.
अज्ञात पृष्ठ