हक़ीक़ा
الحقيقة: وهي رسالة تتضمن ردودا لإثبات مذهب دارون في النشوء والارتقاء
शैलियों
ديباجة الطبعة الأولى
الباب الأول: في مذهب دارون وعلماء النظر
الديباجة
1 - في المادة والقوة
2 - في الوجود المعنوي والوجود المادي
3 - صد ورد
4 - في أصل معرفة الإنسان
ملحق بالباب الأول
الباب الثاني: في ثبوت مذهب دارون وفساد نقيضه
الديباجة
अज्ञात पृष्ठ
1 - في تغير الأنواع
2 - في تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي
3 - مسائل على الخصم مشاكل
4 - في الإنسان وسائر الحيوان
5 - في الارتقاء
6 - في الأدلة على الارتقاء والتسلسل
7 - في دفع اعتراضات على مذهب الارتقاء والتسلسل
خاتمة
الباب الثالث: في آراء علماء الطبيعة في أصل العوالم
1 - في الجوهر الفرد
अज्ञात पृष्ठ
2 - في رأي طمسن في الجوهر الفرد
3 - في وحدة العناصر والقوى
4 - في اختلاف الطبع باختلاف الوضع
5 - في أن القوة والجوهر سيان
6 - في كشف الخلط وإظهار الغلط
7 - مناظرة أصحاب الخلق وأصحاب القدم
8 - فصل الخطاب بين أصحاب الخلق وأصحاب القدم
الباب الرابع: في الحياة وأصلها
1 - في الحياة
2 - في التولد الذاتي
अज्ञात पृष्ठ
3 - في المادة الحية أو البروتوبلاسما
الخاتمة
ملحق في مباحث في الحياة لتأييد الرأي المادي فيها من سنة 1878
استفهام1
الحيرة علة البحث1
الحس وأنواعه المختلفة1
كل السر في المادة1
الحياة1
الحياة والجاذبية1
بعض ملاحظات في الحياة
अज्ञात पृष्ठ
الحياة في أعماق المياه1
الحياة وأصل الأجسام الحية1
حياة الجماد1
أصل الحياة1
خاتمة الكتاب أو خلاصة ما تقدم
ديباجة الطبعة الأولى
الباب الأول: في مذهب دارون وعلماء النظر
الديباجة
1 - في المادة والقوة
2 - في الوجود المعنوي والوجود المادي
अज्ञात पृष्ठ
3 - صد ورد
4 - في أصل معرفة الإنسان
ملحق بالباب الأول
الباب الثاني: في ثبوت مذهب دارون وفساد نقيضه
الديباجة
1 - في تغير الأنواع
2 - في تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي
3 - مسائل على الخصم مشاكل
4 - في الإنسان وسائر الحيوان
5 - في الارتقاء
अज्ञात पृष्ठ
6 - في الأدلة على الارتقاء والتسلسل
7 - في دفع اعتراضات على مذهب الارتقاء والتسلسل
خاتمة
الباب الثالث: في آراء علماء الطبيعة في أصل العوالم
1 - في الجوهر الفرد
2 - في رأي طمسن في الجوهر الفرد
3 - في وحدة العناصر والقوى
4 - في اختلاف الطبع باختلاف الوضع
5 - في أن القوة والجوهر سيان
6 - في كشف الخلط وإظهار الغلط
अज्ञात पृष्ठ
7 - مناظرة أصحاب الخلق وأصحاب القدم
8 - فصل الخطاب بين أصحاب الخلق وأصحاب القدم
الباب الرابع: في الحياة وأصلها
1 - في الحياة
2 - في التولد الذاتي
3 - في المادة الحية أو البروتوبلاسما
الخاتمة
ملحق في مباحث في الحياة لتأييد الرأي المادي فيها من سنة 1878
استفهام1
الحيرة علة البحث1
अज्ञात पृष्ठ
الحس وأنواعه المختلفة1
كل السر في المادة1
الحياة1
الحياة والجاذبية1
بعض ملاحظات في الحياة
الحياة في أعماق المياه1
الحياة وأصل الأجسام الحية1
حياة الجماد1
أصل الحياة1
خاتمة الكتاب أو خلاصة ما تقدم
अज्ञात पृष्ठ
الحقيقة
الحقيقة
وهي رسالة تتضمن ردودا لإثبات مذهب دارون في النشوء والارتقاء
تأليف
شبلي شميل
ديباجة الطبعة الأولى
ما لبث كتاب بخنر في مذهب دارون أن نشر حتى بادر بعضهم للاعتراض عليه في مقالة، نشرت في العدد 1175 من جريدة المحروسة، قال فيها: إن هذا المذهب ناقص في الكليات، وطلب إلينا أن نتجاول معه في ميدان الجدال؛ علنا نصل وإياه إلى نقطة وفاق يكون فيها التوفيق بين أصحاب هذا المذهب وأهل النظر، فاضطرنا ذلك إلى إجابة سؤله بمقالة مختصرة، نشرت في العدد 1177 من الجريدة المذكورة، وألحقناها بالباب الأول من هذه الرسالة تحت عنوان «رد على رد».
ولما كانت هذه المقالة بعيدة جدا عن الوفاق الذي ابتغاه، نشر مقالة ثانية في العدد 1179 من الجريدة المذكورة، شدد فيها النكير على أصول هذا المذهب وعلى كليات الماديين، ثم نشرت بعض الجرائد مقالات نضرب عن ذكرها؛ لأنها لم تنهج فيها منهاج البحث، ولم تتعمد سوى القذف والطعن، ثم نشر بعضهم رسالة سماها مناهج الحكماء في نفي النشوء والارتقاء، وقد زعم فيها أنه مقو لأركان هذا المذهب، ناقض لدعائم الفلسفة المادية في أصل العوالم.
وقد كنا شرعنا في الرد على كل ما تقدم في الجريدة المذكورة في مقالات نشرت تباعا حتى طرأ على صديقنا الأبر المأسوف عليه، صاحب هذه الجريدة، من صروف الحدثان ونوائب الأيام التي لا يسلم منها إنسان، ما اضطرها إلى الاحتجاب حينا من الدهر، واضطرنا إلى تأجيل تتمة الرد كذلك:
إنما نحن مثل خامة زرع
अज्ञात पृष्ठ
فمتى يأن يأت محتصدوه
وما زال هذا الرد تام التأليف غير تام النشر حتى تيسر لنا طبعه أخيرا في هذه الرسالة التي سميناها «الحقيقة»،
1
وضمناها من البراهين القاطعة ما عددناه كافلا للبيان، وافيا بالمرام في هذا المقام.
شبلي شميل
مصر 1885
الباب الأول
في مذهب دارون وعلماء النظر
وفيه ديباجة وأربعة فصول
الديباجة
अज्ञात पृष्ठ
بربك أيها الفلك المدار
أقصد ذا المسير أم اضطرار؟
مسيرك قل لنا: في أي شيء
ففي أفهامنا منك انبهار؟
لقد خاض الكتاب على اختلاف طبقاتهم في الكلام على مذهب دارون، وما يترتب عليه من النتائج كما في شرح بخنر، فمن حاطب ليل تخبط فيه تخبط من ضل السبيل وخانه الدليل، فأكثر من القول الهراء، وبالغ في التسخط والإغراء، ومن أديب متقد ذكاء نظر إليه نظر الفيلسوف المسترشد بعقله، المتمسك بنقله، ومن عالم لا يسبر غور علمه، بحث فيه البحث الدقيق، وعمق كل التعميق، فنفاه بعض، وشك فيه بعض.
فمهلا أيها الكاتب الحاطب، فلقد طالما أصغيت إلى بيانك لعلي أستضيء بضوء برهانك، فإذا أنت كرجل متقلد هراوة مقطوعة من غابات الغباوة، تهش بها على الأنام كراعي الأغنام. ولا غرو؛ فقد تعودت أن ترى الناس كالأنعام، ولو أنك جئت بقضية علمية أو فلسفية لأنصفتك بذكرها، وعرفت قدرك بقدرها، لكنك جعلت ردودك جعبة طعن وقذف، وكنانة سب وشتم، فوطنت نفسي على عدم الإجابة، وقلت: الصمت في مقام مثلك إصابة، فما أنا ممن ينازل هذا النزال، ولا قبل لي بمثل هذا الجدال:
لقد أظلف النفس عن مطعم
إذا ما تهافت ذبانه
فتبا لدهر رجاله صبيان كبار
الفصل الأول
अज्ञात पृष्ठ
في المادة والقوة
إن العالم الطبيعي والحاسب الرياضي والعامل الميكانيكي أقصر كلاما، وأفصح بيانا، وأبسط أسلوبا، وأثبت حجة، وأصدق كذلك من الأديب اللغوي، والعالم اللاهوتي، والفيلسوف المنطقي، وسائر علماء الجدل الكلاميين؛ لأنه ألف البرهان الطبيعي الرياضي الذي لا يقبل المغالطة والتمويه.
أما أنت أيها الفيلسوف الداخل ميدان النزال من أبوابه، الطالب الجدال بأسبابه، فأهلا وسهلا بك ومرحبا؛ لقد سقطت على من يجل قدرك، ولا يبخسك فضلك، ولكن ما لي أراك لا تثبت على حال، ولا يقر لك قرار، شأن من يزعم أن المعقول يقوم بدون المحسوس. وافقتنا على مبدأ لم تلبث أن نقضته بما بنيت عليه من النتائج، جعلت المادة قديمة ثم خلقتها، ولما تبين لك فساد ذلك عدلت عنه، وحاولت التستر بقولك: إن موافقتك لنا افتراضية لا حقيقية، وإن مذهبك هو غير ما ذكرت، فصرح لنا على أي مبدأ تعتمد، ألعلك لا تعلم أن التردد في المبادئ يوجب الاضطراب في القياس، والفساد في الأحكام، فإنك لا تقر هنيهة على المحسوس حتى تطير على جناح الأفكار في سماء الخيال، ولا تلبث لحظة على الفلسفة العملية حتى تتيه في مضايق الفلسفة النظرية، فتستنتج على غير مبدأ، وتحكم على غير قياس، إلا ما صورته لك حدة الذهن وقوة الخيال.
ولا يخفى أن البحث على هذه الصورة خبط عشواء في ليل بهيم، ولا يمكني متابعتك في هذا التيه الذي لا يمكن السلوك فيه إلا بطريق الهداية، وهي نعمة وإن خص بها البعض، لكنها لا تعم، وإنما يمكنني متابعتك إذا سلكت معي سبيل العلم، إلا ما رجعت معي من سماء غيبك إلى أرض المحسوس، ومن فضاء فلسفتك النظرية إلى دائرة الفلسفة العملية. ولا يخدعنك عقلك المجرد، وإرادتك الحرة، وأفكارك الغريزية، فدقق النظر طويلا، وتساهل قليلا؛ تر أن ما تظنه كذلك خاضع لأحوال المادة، ومكتسب كسائر الأعضاء والوظائف، فبحثك في الطبيعة بدون الاستناد إلى المحسوس اعتقادا منك أن العقل وحده قادر أن يتوصل إلى حل هذه المسائل حلا يقرب من الصحة وهم وأي وهم.
لقد جئتنا هذه المرة بمذهب غير مذهبك الأول، وقلت لنا: إن الوجود في عرفك نوعان، معنوي سابق ومادي مسبوق، وبعبارة أخرى: معنوي خالق، ومادي مخلوق، وضربت لذلك مثل المعاني والألفاظ الموضوعة لها. وقبل أن نتعرض لنفي هذا القياس، وتبيين وجه فساده، لا بد لنا - وقد عدلت الآن عن قدم المادة - من بسط شيء عما يعلم عن المادة والقوة نجعله تمهيدا للكلام على الوجود المعنوي والوجود المادي كما تقول:
1
لا حاجة بنا إلى أن نعرفك أن العلم قد توصل في الأمور الطبيعية إلى هذه النتيجة الكبرى، وهي أن القوة والمادة لا تنفصلان البتة، ولا أظنك تستطيع أن تعرفنا بمادة مجردة عن كل قوة أو حركة، أو تطمع أن تبين لنا قوة أو حركة مجردة عن كل مادة؛ فالقوة لا تعرف إلا بالمادة، والمادة لا تعرف إلا بالقوة، فلا تدرك الواحدة بدون الأخرى.
لنتصور أدق الدقائق المركب الجسم منها خالية من كل قوة؛ أي من رباط قوتي الجذب والدفع الذي يتكفل بحفظها، ويؤلف صور الأجسام، ولنفترض أن قوى الألفة قد زالت، فماذا ينبغي أن تكون النتيجة، ألا يلزم أن تدخل المادة في عدم لا صورة له ولا يدرك، على أنا لا نعرف في عالم الطبيعة جوهرا فردا بلا قوة، فهو إنما يظهر بفعل القوة فيه تارة على صورة، وطورا على صورة أخرى، وآونة مركبا من أجزاء متشابهة، وأخرى من أجزاء متباينة. ولا يستطيع العقل أن يتصور المادة بلا قوة، فإنا إذا تصورنا مادة أولية مهما كانت، فلا بد أن تكون دقائقها تحت فعل الجذب والدفع، وإلا فإنها تتلاشى من ذهننا.
كذلك القول بقوة بلا مادة فارغ ولا أساس له، وإذا كان من المقرر أن القوة لا تقدر أن تظهر إلا بالمادة، فلا تكون القوة إذن سوى الصفة المتصلة بالمادة، وكل صفات المادة كائنة فيها جوهريا، إلا أنها قد لا تظهر فتكون هاجعة فيها؛ أي في حالة السكون، فالقوة في المادة تنبه تنبيها، لا أنها تحل فيها حلولا جديدا، فالمغناطيسية مثلا لا تنتقل من جسم إلى آخر كما ربما يتوهم، وإنما تهيج فتظهر بتغيير حالة دقائق الجسم المتهيجة فيه، فهي متصلة بأجزاء الحديد، وهي في قضيب ممغنط مثلا متجمعة، خاصة في المكان الذي لا تظهر فيه، أو تظهر فيه قليلا.
لنتصور إذا أمكن كهربائية أو مغناطيسية بلا الحديد ولا الأجسام التي رأينا ظواهرهما فيها، ولنفرض أيضا الأجزاء التي نسبها المتبادلة وأوضاعها الجوهرية هي بالحقيقة أسباب الظواهر الكهربائية والمغناطيسية، فلا يبقى والحالة هذه سوى تجرد لا صورة له، وعلم لا معنى له بحد نفسه، وإنما نتذكر به جملة ظواهر خصوصية معلومة؛ لأنه لو لم تكن أجزاء قابلة لأن تتكهرب لم يكن كهربائية، ولما استطعنا بواسطة التجرد وحده أن نعلم عنها شيئا أو أن نتصورها، ولم يكن لها وجود لولا هذه الأجزاء، فكل الأجسام المسماة عديمة الوزن كالحرارة والكهربائية والنور والمغناطيسية وغيرها، ليست شيئا آخر سوى تغيرات مادية؛ أي تغيرات في وضع الدقائق المؤلفة المادة منها.
अज्ञात पृष्ठ
فالحرارة والنور والصوت إنما هي اهتزازات ارتجاجية في الأولين، وتموجية في الأخير، والظواهر الكهربائية والمغناطيسية تتم بتغيرات نسبية في أجزاء المادة وجواهرها الفردة، ولأجل ذلك عرف العلماء القوة بأنها خاصة من خصائص المادة، أو هي الحركة، أو هي حالة من حالات المادة، وأنه يستحيل إدراك القوة بلا مادة، كما أنه يستحيل البصر بلا عين، أو الفكر بلا دماغ، أو القول بقوة مفرزة بلا غدة، أو بقوة انقباضية بلا ليفة عضلية، فلا شيء أمكنه في زمان من الأزمنة أن يدلنا على وجود قوة سوى التغيرات التي ندركها في الأجسام بواسطة حواسنا، وعلى هذه التغيرات المرتبة حسب نسبها، والمسماة بأسماء مختلفة، يطلق اسم الجنس «القوة»، وليس سوى هذه الواسطة لفهم المعنى المراد بهذه اللفظة، فما هي إذن النتيجة الكبرى الفلسفية لهذه المعرفة البسيطة الطبيعية.
لا شك أن الذين يقولون بوجود قوة أبدعت العالم من لا شيء لا يستندون في قولهم هذا إلى شيء من العلوم الطبيعية والفلسفة العملية، التي تتبع العلم في سيره، وتتغير مع تغير الأفكار بتغيره، وإنما يفعلون ذلك انقيادا لفلسفة موهومة نشأت عن نقصان الاختبار في سالف الأزمان، ورسخت في العقل حتى كادت تكون ثابتة فاعتبرت غريزية، وحجتهم الكبرى هي أنه لا بد لكل معلول من علة.
وقد فاتهم أنه في هذا الدور المتسلسل لا بد لهم من الوقوف عند نقطة يثبتون فيها حصول الوجود بالمعجزة، إلا أنهم عوضا عن أن يقفوا فيه عند حد الأبحاث الطبيعية المؤيدة بالاختبار، ويثبتوه للمحسوس يطفرون به إلى ما وراء الطبيعة، ولو فاتهم الدليل ونقصهم البرهان، فمن أين عرفوا أن القوة قد توجد مجردة عن المادة، والحال أن المادة لا تنفصل عن قواها، أم كيف جاز لهم التصديق بوجود شيء من لا شيء، وهل ضلال أشد من هذا الضلال على العقل؟ فتكون العالم من العدم أمر مستحيل لا يقبله العقل، ولا يثبته الاختبار.
والعدم لفظة لا معنى لها، ومن المقرر أن المادة دائمة الوجود لا تتغير، وهذا يقتضي كونها قديمة، ولو فرضنا وجود قوة مبدعة لما أمكن وجودها باعتبار الزمان لا قبل الخلق ولا بعده. لا قبل الخلق؛ لأن ذلك يقتضي بقاءها مدة من الزمان بلا عمل، وفي حالة السكون أمام المادة اللاصورة لها والساكنة أيضا. وهذا غير سديد. ولا بعده؛ لأن هذا ظاهر البطلان، فإذا كانت القوة المبدعة لا تقدر أن توجد قبل الأشياء ولا بعدها، وإذا كانت المادة لا تدثر، وإذا لم تكن مادة بلا قوة، ولا قوة بلا مادة، فلا شك أن العالم قديم، فما لا ينفصل لم يكن منفصلا، وما لم يدثر لم يبدع.
الفصل الثاني
في الوجود المعنوي والوجود المادي
وأما مثل المعاني والألفاظ الذي ضربته للوجود المعنوي السابق والوجود المادي المسبوق، فقول غير سديد، وفيه من السفسطة ما كان يغنيك تدبره عن إسهاب الشرح عليه؛ لأن أسبقية المعنى على اللفظ نسبية كما لا يخفى عليك، وأنت تريد بتقديم الوجود المعنوي على الوجود المادي أسبقية مطلقة، وإلا فأي مثل غير هذا المثل يقوم مقامه؟
وهو لا يفيد شيئا في تأييد ما تذهب إليه كمثل الأسباب والمسببات عموما، فإن ما كان منها علة لشيء، فهو نفسه معلول لشيء آخر، فالسبق هنا نسبي لا مطلق، وأنت لم تنكر علينا ذلك، حيث استدركت على نفسك بما معناه: «وربما اعترض علينا أن المعاني حاصلة من تأثير المادة في الدماغ.» وإنما نحن ننكر عليك اعتمادك عليه بعد عرفانك ذلك، فأنت هنا تسلم معنا بأن المعاني في العقل ليست غريزية، بل مكتسبة وصادرة عن المادة بواسطة الحواس، وإن كان عندك أدنى شك في ذلك فنحن نقول لك: إن المعنى العقلي ليس إلا تأثيرا ماديا، أو هو صورة المادة المرتسمة في الدماغ - كما ترسم الصورة في المرآة - فالنور لولا العين لم يكن له في عقل الإنسان معنى ، ولم يفتكر الإنسان أن يضع له علامة أو لفظة تدل عليه.
ولو صح هذا القياس على الوجود المطلق لكان الأولى أن تعتبر المادة قبل معناها في العقل؛ لأنها أسبق منه من حيث هذا الوجود النسبي، فأسبقية المعنى على اللفظ كأسبقية المادة على المعنى نسبيا. وأما إذا اعتبرت الحقيقة، فالمادة لا تنفصل عن معناها، ولا يقصد بالمعنى ما ندركه فقط، فالأعمى لا يبصر النور، فهو لا يتصوره ولا يعرف له معنى في عقله، ومع ذلك فمادة النور متصلة بمعناها، وعدم إدراك الأعمى لها لا يسلخ عنها وجود المعنى فيها، وعدم وجود المعنى في أركان لفظه؛ أي الحروف عوضا عن أن يكون حجة علينا، فهو حجة لنا، فالألفاظ تدل على معان لا تدل عليها حروفها دلالة صريحة.
كما أن المواد المركبة تكون ذات خصائص لا تدل عليها عناصرها دلالة واضحة، فقياسك هذا إذن فاسد. واعلم أن الدلالة على المعاني لا تقتصر على الألفاظ فقط، بل تتناول كل حركات الجسد، وربما اقتصرت عليها في الحيوانات الدنيا التي لا يسمع لها صوت، وبهذا الاعتبار تكون الحركات من قبيل اللغات، فاللغات أعم من إبداء المعاني بالألفاظ، التي هي حركات خصوصية صوتية يشترك في تقطيعها أعضاء الحلق واللسان والشفتين، وترافقها حركات موافقة لها في سائر أعضاء الجسد، تظهر لك في البعض، وتخفى عنك في البعض الآخر.
अज्ञात पृष्ठ
أقول: وإذا توسعت في حقيقة هذه المعاني رأيت فيها من البساطة ما يدلك على تقارب الأشياء في الطبيعة ووحدة أصلها؛ فإن صفات المادة إذا حللت إلى بسيطها دلت على صفتين، أو خاصتين، أو قوتين، وهما: الجاذبة والدافعة، وهكذا المعاني الذاتية إذا حللت إلى بسيطها دلت على أحد معنيين: جاذب أو دافع، ومحبوب أو مبغض، ومرغوب أو مرهوب، ومقبول أو مكروه، وترتسم صورة ذلك على جميع حركات الجسد.
ألا ترى كيف أن حركات الإنسان أو الحيوان المتكره من شيء تدل كلها على محاولته إبعاد ذلك الشيء عنه، وإذا أحب شيئا دلت حركاته على محاولته ضمه إليه، وكما يكون ذلك في الحركات يكون كذلك أيضا في اللغات، فإن اللغات كالحركات في الدلالة على المعاني، واللغات كالحركات موجودة في الحيوان والإنسان كوجود المعاني فيهما، إلا أن اللغات أوسع في الإنسان لاتساع المعاني واكتمال الآلات فيه أكثر منها في الحيوان.
ومن دقق النظر رأى المعاني مرسومة على الألفاظ ومبانيها كما ترتسم على سائر الحركات، فإن إباءتك للشيء جعلتك تعبر عنها في اللغة العربية مثلا بلفظة «لا»، وقبولك له بلفظة «أي ونعم». ولا يخفى ما في لفظ هاتين اللفظتين من الحركات الدالة على معنى كل منهما، فإنك بلفظك «لا» تحاول بحركات الفم كل علامات التبعيد، وبلفظك «أي ونعم» كل علامات التقريب. وقس على ذلك سائر الألفاظ في سائر اللغات، إلا أن هذه الدلالة لا تكون دائما بسيطة وواضحة كما في هاتين اللفظتين البسيطتين، بل تتنوع وتتركب كثيرا بقدر تنوع المعاني وتركبها، وربما فعلت فيها أسباب مختلطة جدا، بحيث لا تظهر لك هذه النسبة إلا عند التدقيق الكلي، أقول: وربما كان في الموضوع مبحث دقيق جدا ولذيذ للغاية عند من يحب الخوض فيه.
الفصل الثالث
صد ورد
ولا نعلم كيف جاز لك الاعتراض على قولنا: «إن الصفات الموجودة في الأجسام المركبة موجودة بالقوة في المادة البسيطة، ووجودها فيها بالقوة لا يستلزم وجودها بالفعل.» بقولك: «إن ذلك غير مشبع ومناقض لرأي الطبيعيين أنفسهم.» إلا أن تكون قد فهمت القوة في قولنا «بالقوة» كما تتصورها أنت، وإلا فليس في كلامنا ما يوجب ذلك، ولا سيما بعد أن عرفناك أن القوة والمادة في عرف الماديين شيء واحد، والظواهر أو الصفات أو القوى ليست سوى تغيرات مادية - كما قد تبين فيما تقدم، وكما يتضح أيضا مما يأتي - فإنه في فحص جميع الظواهر الكهربائية المعروفة لسنا نعرف ظاهرة واحدة لا تدل على تغير في أدق أجزاء المواد المتهيجة كهربائيتها، فإنا إذا أطلقنا محمول قنينة ليدن في سلك من البلاتين؛ نرى هذا السلك يقصر حتى يتجعد لحصول تغير في أدق أجزائه.
وكذلك يحصل في سلك من الرصاص، فتتكون فيه عقد يضغط بعضها بعضا، وسائر الأسلاك المعدنية المستعملة في الأعمال الكهربائية إذا طال استعمالها في ذلك يحصل تغير جوهري في أجزائها، فقد تتصلب، وقد تصير سهلة القصم، وكذلك مجرى المغناطيس يؤثر في مرونة الحديد والفولاذ، فإن قضيبا من الحديد ملتويا من ثقله يتقوم إذا تمغنط، وهكذا تفعل أيضا سائر القوى في الأجسام كما يسهل تبيينه، فإن القوى الميكانيكية - كالتموجات التي يحدثها الصوت في الهواء مثلا - قد تحدث تحليلا كيماويا في المواد المركبة تركيبا ضعيفا.
وأما قولك ردا علينا: «إن وجود الزوائد في بعض الحيوان - والصحيح في عالم الحيوان والنبات - التي لا لزوم لها لا يلزم منه عدم الانتظام «ولعلك تريد القصد والغاية؛ لأننا لا نذكر أنا جئنا بهذه اللفظة، واللانظام عندنا أمر نسبي لا حقيقي، كما تقدم في مقالتنا السابقة» أولا: لعدم إمكان الإنسان أن يحيط علما بكل شيء، وربما أدرك الخلف ما لم ندركه نحن.» فعلى ذلك نجيب أن علماء طبائع الحيوان والنبات لا يدعون أنهم بلغوا علم كل شيء، بل هم لا يزالون يبحثون، وكل سنة بل كل يوم يكتشفون حقائق كانت غير معروفة عندهم، وما لا يثبتونه يطرحونه بين المسائل الخلافية، وهي ليست بالعدد القليل عندهم، إلا أن ما لا يعلم سببه الطبيعي لا يزالون يعالجونه حتى تنجلي لهم الحقيقة فيه بجهد التنقيب والتنفير، فلا يطفرون فيه حالا إلى ما وراء الطبيعة، كما يفعل جزافا سادتنا الفلاسفة النظريون، الذين لا يصعب عليهم وجود سبب لكل شيء، وهم في سماء خيالهم تائهون.
على أن عدم الإحاطة علما ببعض مفردات الأشياء لا يقتضي منه نفي ما تحقق عن أكثرها، وما يترتب عليه من الكليات، ولو جاز ذلك لكان الأولى أن تسقط كليات النظريين بأسرها، فإنها لا تكاد تتفق مع شيء من قضايا العلم الذي لا تزال تعترضه في سيره، وكم رأيناها مشتبكة معه في نزاع شديد، ولم نر العلم دان لها ولا مرة واحدة، فتلتزم أخيرا أن تذل له متصرفة في المعاني والألفاظ؛ لأن دائرتها كما لا يخفى عليك واسعة فلا يضيق بها مجال، وإذا كنا نعرف من المسائل تسعين مسألة مثلا، ولكل مسألة سببا طبيعيا، وكنا نجهل أسباب عشر مسائل، أفمن العقل أن يحملنا جهلنا على أن ننتحل لهذا المجهول قوى ما فوق الطبيعة، أم من الحكمة أن نقيسه على أخواته ونلحقه بها أملا بأن ينكشف لنا سره الطبيعي يوما ما؟ على أن الأعضاء الأثرية التي نحن بصددها ليست في شيء من ذلك، فقد تقرر وجودها، وعرفت الأسباب الطبيعية لكثير منها، ووضح أمرها، وقل غامضها، وهي تنقض الغاية وتنفي القصد، وتثبت القربى بين الإنسان وسائر الحيوان. وربما بعدت هذه النسبة بين الإنسان والحيوان بالعلم، وقربت بالجهل، فكان أقربهم إليه أجهلهم بمعرفة أصله، وأبعدهم عنه أعلمهم به.
ومن العجب أنك أثبت مذهب دارون وأنت تحاول نقضه بقولك: «وقد تكون هذه الأمور فلتات طبيعية مستفادة من الظروف والحوادث والأهوية والأقاليم ونحوها.» إذ لا يخفى عليك أن الخلق على مذهبك ومذهب أنصارك كائن بالأنواع، وهذا يقتضي أولا ثبوت الأنواع، وثانيا اشتمال كل نوع على الأعضاء اللازمة له لا أكثر ولا أقل؛ لأن كل نوع خلق خصوصي مختصر في جرثومة قابلة للنمو، ومتضمنة كل صفاته الجوهرية، وإلا فلا يكون في الخلق معنى لحدوث نقصان أو زيادة فيه تأباهما الحكمة، وقد تنزه الصانع الحكيم عن كل عمل لا حكمة فيه.
अज्ञात पृष्ठ
على أن معاني هذه الأعضاء الأثرية ظاهرة بنسبة التكوين المتسلسل كما يظهر لمن يدقق النظر في طبائع الحيوان والنبات، أو ينظر فقط إلى كلياتها نظرا عاما دقيقا، فلا يسعه والحالة هذه أن ينكر ما بين الأنواع والتباينات من النسبة الشديدة والقرابة والتسلسل، وسائر ما هو مقرر في مذهب دارون، إلا أن يكون سابق اقتناعه حاجبا بينه وبين ما يرى.
وقولك: «وهي بجملتها أمور عرضية» غير سديد؛ لأنه يلزمك أن تعلم أن الأشياء العارضة في الجسم من المعيشة والإقليم، والحاصلة عن أسباب أخرى أكثر اختلاطا تنتقل بالوراثة والانتخاب الطبيعي، وتصير جوهرية كما في الألوان وتشقق الجلد، وازدياد عدد الأصابع، والأمراض والأميال العقلية، وغير ذلك مما لا يسعك إنكاره.
وأغرب ما في ذلك قولك: «لأنه يوجد في الطبيعة قوة مهذبة مربية، وفي بعض الأحوال مولدة بادعة.» فأنت تعترف هنا بأن الطبيعة فيها قوة التوليد والإبداع، إلا أنك تجعل هذه القوة مودعة فيها من بادع الوجود، فيا للعجب كيف جاز لك هذا القول؟! أما رأيت ما فيه من التناقض؛ فإنك زعمت أولا أن المادة البسيطة يجب أن يكون فيها من الإدراك الكلي ما في الإنسان من الإدراك الجزئي، وبعبارة أخرى: إن الحجر يجب أن يكون فيه قوة تدرك كالإنسان، وإن لم يظهر لنا ذلك فيه، ولا يجب الاعتماد على المحسوس؛ فإنه قد يضل.
ولما بينا لك أن البسائط لا يلزم أن تكون متضمنة نفس الخصائص والقوى التي في المركبات، وإن كانت قابلة للظهور فيها عند بلوغها مبلغها، قلت: فإذن القوى الفاعلة في البسائط ليست القوى الفاعلة في المركبات. ولا يخفى ما في هذا القول من الاضطراب، ثم جئت لنا بتعليل آخر - أي الوجود المعنوي والوجود المادي - وقلت لنا: إنه المذهب الذي تذهب إليه هذه المرة، وقد رأيت ما له من القيمة، ثم ما لبثت أن هدمت كل ما بنيته بقولك: «إن في الطبيعة قوة مولدة مهذبة.» فكأنك قد أثبت لها ما يثبته لها الماديون؛ أي أثبت لها التوليد الذاتي، والفرق بينك وبينهم أن هذه القوة عندك ليست أصلية فيها، بل مودعة فيها من بادع الوجود. وهذه العبارة الأخيرة لم أقدر أن أفهمها؛ لأنه كما لا يخفى عليك بعد إثباتك قوة التوليد للطبيعة لم تذكر ما دليلك على أنها مودعة، ولعل ذلك من المسائل التي تعلو فوق طور العقل، والتي لم يعط حلها إلا للراسخين في العلم بطريق الإلهام والوحي، فأنا معذور إذا كنت لا أفهمها، فإنه لم يعط لي حل الرموز والاقتناع بالألفاظ المجوفة والكلام المقعر.
ومن العجب العجاب أنك لم تشترط حينئذ على طبيعتك ما اشترطته على طبيعة الماديين من ضرورة وجود صفات المركبات في بسائطها كما هي فيها، مع أنه لا فرق بينهما إلا من حيث الحركة الأولى أو بادع الوجود، وأما بعد ذلك فكل واحدة منها تعمل أعمالا من نفسها على نظام معلوم، وسنن واحدة، فيا للغرابة! كيف يقع كل هذا التناقض في كلامك وأنت به مرتض قانع.
على أن الذكاء وحدة الذهن لا يقتضيان أن يكون صاحبهما في مأمن من ضلال الأفكار، بل العقل يتصرف في المعاني بحسب قوته - سواء كانت المبادئ المؤسس عليها صحيحة أو فاسدة - فالمبادئ لا تؤثر في قوة العقل، بل في مجرى أفكاره، ولا في قوة استنباطه الأدلة العقلية، بل في صحة أحكامه وعدمها؛ ففي كل عصر وفي كل مذهب نبغ رجال معدودون من أفراد الزمان لما لهم من الذكاء وحدة الذهن وسعة الصدر، ولا يصح أن يكون جميعهم على هدى لتباينهم في الآراء والمذاهب، فالعقل يسير في الطريق التي يألفها، وينمو على المبادئ التي ينشأ فيها - صحيحة كانت أو فاسدة - وينبغ فيها بحسب ما له من الذكاء؛ فلا غرو إذا كان ضلال الأفكار في العالم نشأ عن أناس متوقدي الذهن، كثيري التفنن في أساليب الكلام، شديدي قوة التصرف في المعاني، وإن كانوا كثيري الخطأ في الأحكام يسحرون العقول التي لا تقوى على مناضلتهم بما يظهر لها من ساحر بيانهم، ويفتنون الألباب التي لا قبل لها بمجادلتهم بما تراه من فاتن برهانهم، ولا يغير مجرى الأفكار إلا تغير المبادئ، وأقرب المبادئ إلى الحقيقة ما وافق الاختيار.
قال أحد الحكماء: لا ينبغي قبول آراء آبائنا كما يفعل الأولاد بحجة أن آباءنا قبلوها، ونقول: إن جهل الإنسان لحوادث الكون كان سببا لانخداع عقله، واستحكام الخطأ من أفكاره، واستفحال الأوهام فيه، فإن من كان قليل الخبرة في شيء كان شديد التوهم فيه، كالطفل الذي يحاول أن يتناول بيديه ما يراه بعينه، فيمد يده إلى القمر كما يمدها إلى فيه، ولا يعلم أن القمر بعيد المنال، ولا يتيسر له معرفة الأبعاد إلا بتكرار التجربة، فهذه المعرفة في العقل ليست أصلية، بل مكتسبة بالاختبار، وقس عليها سائر معارف الإنسان الصادرة عن سائر الحواس.
وإذا علمت أن جميع معارف الإنسان مكتسبة حكمت معنا بأن أفكاره مكتسبة أيضا، وعقله مكتسب كذلك، وإذا كان العقل مكتسبا كان عرضة للانخداع؛ لعدم تبينه الأشياء كما هي في كل الأحوال، ولأول وهلة؛ فلا قيمة إذن للحجة التي يستند إليها النظريون بقولهم: إن ذلك مطابق للعقل أو غير مطابق له، إلا إذا اتفقت هذه الحجة مع سواها من البراهين الحسية، قلنا: وإذا تكرر هذا الانخداع على العقل شب عليه ونما، حتى يغدو فيه من الغرائز، فيصير عنده كل أمر مخالف لما تربى عليه خطأ وإن كان صحيحا، وكل خطأ استحكم أمره صعب استئصاله؛ لأنه لا يقتصر على نفسه، ولا يقف عند حده، بل يتناول كل شيء دونه، فيتطلب في استئصاله استئصال كل ما نتج عنه، وربما اقتضى نقض بنيان الهيئة الاجتماعية نقضا تاما، ولا يخفى ما دون ذلك من الموانع.
على أن كل عصر لا يعدم أناسا متقدين ذكاء تطاول هممهم الأفلاك وإن بعدت، ويسبرون بثاقب عقلهم الأسرار وإن خفيت. ولو أردنا تعداد مثل هؤلاء الرجال الذين قاموا في كل عصر، وكان لهم في تاريخ الإنسانية يد بيضاء؛ لضاق بنا المقام، فنقتصر على أسماهم عقلا، وأوسعهم فضلا، وأعلاهم همة، الذين قلبوا بتعاليمهم وجه الهيئة الاجتماعية؛ إذ زجروا الإنسان من سماء الخيال، وردوه إلى أرض الحقيقة غير محترمين تقليدا، ولا راهبين وعيدا، لا ملاذ لهم إلا العلم، ولا دين لهم إلا الحق، ولا غاية لهم إلا تخفيف مصائب الإنسان، وتقليل ويلاته بإنهاضهم إياه من حضيض الجهل إلى سماء العلم.
الفصل الرابع
अज्ञात पृष्ठ
في أصل معرفة الإنسان
إن من الأوهام التي تقاضت الإنسان حياته زمانا طويلا، وكانت أعظم أسباب شقائه، ودواعي عنائه اثنين عظيمين؛ وهما: أولا: اعتقاده القديم في الأرض أنها مركز تدور حوله الأفلاك، وثانيا: اعتقاده في نفسه أنه من أصل سماوي، فأهبطه الخالق من فسيح جنانه - ولماذا؟ - وأسكنه ضيق أرضه، وإنما خلق له كل شيء من منظور وغير منظور، وعلى هذين الاعتقادين نشأ الإنسان في الأخلاق والعادات والسياسة؛ فتقوض هذين الركنين يلزم منه انتقاض البنيان العظيم الذي شاده الإنسان عليهما، ولذلك كان انتشار الحقائق المخالفة لمألوف الناس صعبا جدا.
فكوبرنيكوس وكبلر وغليلي سحقوا بتعاليمهم الأفلاك البلورية التي اختلقتها أوهام الأقدمين، وأصلحوا علم الهيئة من هذا الخطأ المبين، وقرروا أن السماوات ليست قبة زرقاء مرفوعة فوق الأرض ومرصعة بمسامير من ذهب، وأن الجلد ليس فاصلا يفصل المياه التي فوق الجلد عن المياه التي تحت الجلد - كما توهم أسلافنا - وإنما هي فضاء فسيح تسبح فيه الأجرام السماوية، ومنها أرضنا هذه المتحركة حول الشمس خلافا لما كان يظن من أن الأرض ثابتة، والشمس تدور حولها خدمة لها، وأن العوالم خاضعة في مجراها لسنن ثابتة لا معلقة تمسكها يد خفية وتديرها كما تشاء، وبحسب ما لها من الأهواء.
ولا يخفى عنك ما اقتضى نشر هذا التعليم من العناء، وما اعترض في سبيله من الموانع، وما أوجب على ذويه من الاضطهاد حتى بلغ ما بلغ إليه من الانتشار، وقبل أن سكن كل ثائر ضده، وقعد كل قائم عليه، ولا يخفى عنك ما أوجب أيضا من الثورة في تاريخ الإنسان، فشمر الإنسان عن ساعد الجد، وأرسل طرفه إلى الأفلاك يستجليها نواميسها، ويستقصيها مادتها، ومد يده إلى جوف الأرض يستلبها كنوزها، ويستكشفها أسرارها، فانجلت له غوامض الطبيعة، وانكشفت له أسرار الكيمياء، وعرف المواد والعناصر وما لها من الشرائع، وما حوته من الخصائص، ودان له النبات، وذل له الحيوان، وانكشفت أسرار البيولوجيا، وبرزت دفائن البلينتولوجيا، فسأل عن أصل الحياة في آثارها.
وما الفضل في معرفة أصل الإنسان بأقل من ذلك، ومرجع هذا الفضل إلى لامرك ودارون، اللذين ردا الإنسان «الهابط من السماء والذي لا يزال يصبو إليها» إلى مقامه الحقيقي في الطبيعة. ولما انتشر هذا المذهب قامت عليه قيامة أصحاب التقليد، المحافظين على المقرر وإن كان خطأ، الكارهين لكل مستجد وإن كان صوابا. على أن سرعة انتشار هذا المذهب مع ما هو عليه من الحداثة يتبين منها ما له من القيمة الصحيحة، والحركة التي أثارها في الخواطر ليس لها مثيل في تاريخ الإنسانية، وقد ظهرت مفاعيلها وينتظر منها شيء كثير في المستقبل، فإنها لا تقتصر على تقرير هذه الحقيقة، بل لا بد لها من تغيير الإنسان تغييرا جوهريا، بحيث يتجدد كليا كأنه وجد وجودا جديدا، فتتغير أخلاقه وفلسفته وسياسته وشرائعه وحكوماته، وغير ذلك مما يتعلق بهيئته الاجتماعية.
ولا يسبق إلى فهمك على سبيل الجد أو المزاح أن هذا التغيير تكون نتيجته رجوع الإنسان إلى الأخلاق الوحشية، أو كما قالت إحدى السيدات الإنكليزيات لدارون: «إن الساعة التي يتأيد فيها هذا المذهب ينتقض بنيان الفضيلة في البشر.» كلا، بل بالضد من ذلك يقوى بنيان الفضيلة، ويستقيم أمرها عما هي اليوم عليه؛ إذ هي اليوم غائية لا يعملها الإنسان إلا خوفا من عقاب أو طمعا بالثواب.
وأما تلك فتكون اضطرارية قياسية؛ لاستقامة أحكام العقل بميزان العلم الصحيح - ولا يوهمنك ما جاء في إحدى المجلات، وقد قسمت الصدق إلى أربعة أقسام، منها اثنان صدق بالفطرة، وصدق بالخوف من الدين، مفضلة هذا الأخير على الأول، تفضيل الشرير المغلول الذي لا يقدر على عمل الشر؛ لتقيده على الصالح المطلق الحرية الذي إنما يصنع الصلاح؛ لأنه تعوده، ولا أعلم كيف صح في قياسها هذا التفضيل، ولعل السبب ما نحن في صدده.
ولا يخفى عليك أن مصائب الإنسان الكثيرة الألوان منشؤها الجهل، ولولا الجهل لما رأينا الزارع الذي هو أهم أركان الهيئة الاجتماعية يتضور جوعا حال كون الملك يكاد ينشق من تخم، ولولا الجهل لما سن الناس الشرائع التي يهضم بها الكبير حقوق الصغير - ولما رأيت بعضهم يعربد علينا كالبعير - ولما كثر تحامل الناس بعضهم على بعض، ولما فشا الكذب في نوع الإنسان، وطال لسان الرياء، وقصر لسان الحرية، وزاد الشر في بني البشر.
فالإنسان كالشجرة لا تستقيم إذا نمت عوجاء، ولا تعوج إذا نمت مقومة؛ لأن صفات الإنسان تنمو فيه قويمة إذا استقامت بالعلوم الحقيقية، والمبادئ الصحيحة، ومعوجة إذا تعوجت بالمبادئ الكاذبة، فإذا كانت مبادئ الإنسان صحيحة كان صحيح القياس، صحيح الحكم، وإلا فإن كانت فاسدة كان فاسد القياس ، فاسد الحكم، قضية مسلمة لا يصح فيها خلاف، وكأني بك وقد تأملت صحة هذا القول تنقبض نفسك يأسا؛ إذ تقنط من صلاح الهيئة الاجتماعية لعلمك أن الحقائق سلطانها قليل، وأن السائد إنما هو سلطان الأوهام.
نعم، إن صلاح الهيئة الاجتماعية صلاحا تاما عاما لا يكون إلا إذا كان العلم الصحيح تاما عاما، ولا بد منه يوما ما إلا أن ذلك الزمان بعيد جدا، وربما لزم له مئات من الأجيال؛ لأن إزالة ما رسخ في العقل من المبادئ في ألوف من الأجيال ليست بالأمر السهل، على أن ما لا ينال كله لا يترك كله، والطفرة في كل شيء محال، فانتقال الإنسان من الجهل التام إلى العلم التام يستحيل في نظام هذا الكون دفعة واحدة، إلا على سبيل المعجزات. ولا أظنك تجهل مبلغ المعجزات من الحقيقة، فلا بد إذن من السير البطيء في ارتقاء درج الكمال. فحال الإنسان من ذلك أدبيا كحاله طبيعيا، فهو لم يوجد كما هو الآن دفعة واحدة، بل اقتضى له ملايين من السنين حتى خرج من الحيوانية إلى الإنسانية، وهكذا لا بد له في قطع المسافات البعيدة التي تفصل بين أحواله الأدبية من السير البطيء المتمهل.
अज्ञात पृष्ठ
ملحق بالباب الأول
كان حضرة المعترض المشار إليه، وقد ستر اسمه، قد نشر قبل رسالته الثانية التي ظهرت في العدد 1179 من جريدة المحروسة، والمردود عليها هنا رسالة أولى في العدد 1175 منها، يعترض بها على المذهب المذكور، وقد رددنا عليها في العدد 1178 من الجريدة المذكورة بمقالة مختصرة، وهي هذه: (1) رد على رد
محصل ما في الرد المنشور في العدد 1175 من جريدة المحروسة على ما جاء في كتاب بخنر على مذهب دارون، أن حضرة صاحبه يوافقنا في أمور، ويخالفنا في أمور، يوافقنا في كون المادة أزلية أبدية، وأن الموجودات متكونة منها، ومتحولة عنها بقوة فيها ملازمة غير مفارقة. وهذا ما نذهب إليه ويذهب إليه جمهور الماديين، فلا خلاف بيننا من هذا القبيل؛ ولذلك فلا حاجة لنا إلى إعادة الكلام عليه، ويخالفنا في أن القوة اللابسة المادة والمتحولة فيها تحولها في الأجسام كافة من جماد ونبات وحيوان، هي على زعمه عاقلة مدركة تعمل في المادة إعمالا، مغياة على نظام مقصود.
وهذا ما لا نوافقه عليه، ولا يتحصل من مبدئه؛ فإنه جعل القوة والمادة أولا أزليتين، ثم جعل القوة متسلطة على المادة، وكيف يصح التوفيق بين القولين؛ لأنه في القول الأول جعلهما موجودتين معا، وفي القول الثاني فضل القوة على المادة، وسلطها عليها تتصرف فيها كما تشاء. ولا يخفى ما في هذا القول من معنى الفاعلية التي فيها معنى السبق أيضا، فتكون القوة في قوله سابقة المادة، ولو بالمعنى، وإذا صح ذلك فكيف يصح أن تكون المادة أزلية كالقوة؟!
أما الماديون فليس عندهم فرق بين القوة والمادة؛ إذ ليس بينهما عندهم فاضل ومفضول، وسابق ومسبوق، أو فاعل ومفعول؛ فهما بالحقيقة واحد لا ينفصلان، فهو من هذه الحيثية غير متفق مع أصحاب ما وراء الطبيعة وعلماء الأديان؛ لأنه جعل القوة الفاعلة والعاقلة محصورة في المادة، ولا مع العلماء الماديين؛ لأنه مع حصره القوة في المادة ضمنها معنى السبق عليها، ولا مع علماء الكلام؛ لما في كل ذلك من التناقض.
وأما كون القوة المذكورة ذات إدراك كلي في المادة الأولى البسيطة كإدراك الإنسان الجزئي في المادة المركبة، فهذا يوجب على مبدئه أن تكون المادة البسيطة مدركة أيضا؛ إذ لا يجب أن يكون فرق بين المادة والقوة على ما سلم به من ملازمة الواحدة للأخرى؛ بل يوجب أيضا أن تكون المادة الأولى ذات خصائص أكمل منها في المواد المركبة، ولا شيء مما نعلمه عن مواد الطبيعة يجوز لنا هذا الوهم.
ونحن في بحثنا لا نحب أن نتخطى الطبيعة، ولا ما ترشدنا إليه ظواهرها، فقبول المادة الأولى البسيطة للتركب على أحوال مختلفة، وللظهور بمظاهر مختلفة لأسباب ربما كانت اختلاف وضع في جواهرها الفردة لا يلزم منه أن تكون فيها صفات سائر الكائنات المتولدة عنها بالفعل، وإن كانت فيها بالقوة، فالقابلية لا يلزم منها الفاعلية، والقوة التي ترجع إليها سائر القوى ، وهي الحركة على ما اتفق عليه عموم علماء الطبيعة من كل المذاهب، وإن يكن في إمكانها أن تتحول إلى جميع القوى الطبيعية كالحرارة والكهربائية والنور وغيرها.
إلا أنه لا يسعنا القول: إنها نيرة بالفعل كالنور، وإن كان لها ذلك بالقوة، كما أنه لا يسعنا أن نقول: إن الحرارة كالكهربائية والكهربائية كالنور لإمكان كل منهما أن يتحول إلى غيره؛ ولذلك فلا يسوغ لنا أن نقول: إن القوة التي ترجع إليها جميع القوى تدرك كالإنسان؛ لأنه في إمكانها التحول إلى ما فيه من الصفات، فجعل المادة والقوة لا القوة وحدها - خلافا لما يستفاد من كلام حضرة المعترض - كلا عاقلا يتصرف في الأشياء كما يريد. لا نجد في الطبيعة ما يسوغ لنا القول به، ولا ينطبق على القياس؛ فإن كان مراده بقوته المدبرة المتصرفة في الكون السنن التي تجري عليها الطبيعة، فلا يكون بيننا خلاف في ذلك، إلا أنها لا تكون عاقلة ومريدة كما يريد هو.
وماذا تفيدها إرادتها وهي حينئذ لا تفعل مختارة؛ أي إنها لا تقدر أن تنشئ وتخرب، وتبني وتهدم وتخرق نظام الكائنات كيف شاءت ومتى شاءت؟ بل تفعل مضطرة على حكم الضرورة، وحينئذ لا يبقى له ما يخالف به الماديين سوى الاسم. وهذا لا ينازعه أحد منهم فيه، فليسمها ما شاء، وهو لم يتكلف هذه المشقة إلا لكي يتذرع بها لإلقاء أساس - كما يقول - يوافق أهل الأديان وعلماء الكلام. ولقد أحسن السير «وليم طمسن» حيث قال: إن الضلال الذي نشأ عن علم الكلام غرق أناسا أكثر من جهل رباني السفن على أن حضرة المعترض منفرد فيما ذهب إليه، ولا يجد بينهم من يوافقه عليه، وهو مع ذلك لو سلم له لا يكسبه شيئا فيما نرى؛ لأنه يبقى عليه أن يفصل نفس الإنسان عن نفس الحيوان. وكيف يتأتى له ذلك وقد جعلهما من مصدر واحد روحانيا وجسمانيا؟ بل يبقى عليه أن يفصل في الإنسان كل نفس عن نفس في هذا الوجود الكلي، حتى يجوز له أن يخبرنا على مذهب الأديان بمعاد وجزاء في نعيم وعقاب، في جحيم في هذا الوجود المشهود أو في غيره.
وعلى ما أرى أن هذا المذهب الذي ذهب إليه حضرة المعترض لا يدانيه مذهب في الغرابة، على أن الباحث في العلم لغاية غير معرفة الحقيقة لا يؤمن شططه، فنحن ليس غرضنا أن نبحث في العلم لنجد فيه ما نؤيد به أفكارا وأوهاما نشأت في الإنسان؛ إذ كان في مهد الطفولية، وصارت بطمعه من جهة، وجهله من جهة أخرى حقائق أدخلت في رأسه رغبة أو رهبة، تارة بالوعد وتارة بالوعيد، وإنما غرضنا الوحيد البحث عن الحقيقة نقبلها كما تنجلي لنا على صفحات كتاب الطبيعة، لا نصعد إلى فوق ولا نهبط إلى أسفل؛ لنبحث عن أشياء موجودة أمامنا وواقعة تحت حواسنا.
अज्ञात पृष्ठ
وقال أيضا: إنا ذكرنا الحياة ولم نعرفه ما هي، والحال أن موافقته لنا في ملازمة القوة للمادة والمادة للقوة لا تجوز له هذا السؤال، وهل يا ترى في إمكانه أن يعرفنا ما هي الحياة على مذهبه، أو مذاهب أصحاب ما وراء الطبيعة، ببيان مشبع أقرب إلى العقل من بيان الطبيعيين؛ فإن علماء الطبيعة لما كان غرضهم في البحث عن أشياء هذا الكون تقرير خصائصها، ومعرفة أحوالها، لم يكن يهمهم من ذلك كله إلا الوقوف على أسباب ظاهرة كافية للتعليل عن كل ما يحصل فيها.
وقد عرف بالاختبار أن المواد كلها ذات خصائص أو قوى تتحول فيها، وتكون بسيطة في البسيط، ومركبة في المركب، سموها تارة طبيعية، وتارة كيماوية، وتارة حيوية، بحسب ظواهرها في المواد المختلفة، لا أنها قوى مختلفة بعضها عن بعض بالطبع، فكلها بالحقيقة طبيعية، فكما أنه في إمكان المادة الأولى التحول إلى مواد كثيرة مختلفة جدا في الصورة، كذلك في إمكان القوة الأولى المتصلة بهذه المادة التحول إلى قوى كثيرة مختلفة في الخصائص.
أما إلماعه إلى الغاية والنظام المقصود، فمنقوض بما في الحيوانات والنباتات من الأعضاء الزائدة التي يسمونها أثرية، والتي لا فائدة لها، وفيما يسمونه حكم الضرورة، فمثال الأعضاء التي لا فائدة لها: الأسنان القواطع في أجنة كثير من الحيوانات المجترة، فهذه تكون في سمك عظم ما بين الفكين ولا تبرز أبدا؛ ولذلك لا فائدة لها، فما الغاية من وجودها؟ والإنسان في غنى عن تحريك أذنيه، فما الفائدة من العضلات المرتبطة بهما؟ وربما اكتسب الإنسان بالمزاولة والتمرين القدرة على تحريكهما، وأما فائدتها فظاهرة في بعض الحيوان.
ومن هذا القبيل أيضا العيون الأثرية التي لا تبصر في بعض الحيوانات، التي تقطن الكهوف أو تقيم تحت الأرض، وفي أكثر ذوات الفقار يوجد زوجان من الأطراف: زوج أمامي وزوج خلفي، ويكون أحد هذين الزوجين ضامرا غالبا. وفي النادر يكون الاثنان ضامرين كما في الحيات، على أن بعض الأفاعي - كالبوابيتون - له زائدتان عظميتان في القسم الخلفي لا فائدة لهما، وإنما هما أثران لطرفين كانا موجودين في أجداده. وأمثلة ذلك كثيرة جدا في الحيوان والنبات كما لا يخفي على علماء هذين الفنين، وفي هذا القدر كفاية لغرضنا.
فلو كانت الغاية موجودة لما وجب أن يكون في هذه الكائنات شيء لا فائدة له، وربما كان مضرا أيضا. وكم حار علماء طبائع الحيوان والنبات بهذه الأعضاء الأثرية قبل دارون، وذهبوا فيها مذاهب شتى حتى ظهر مذهب دارون، فقطعت جهيزة قول كل خطيب؛ لأن كل عضو لازم نما بالاستعمال، وكل عضو لا لزوم له ضمر لعدم الاستعمال، فعرف أن الأعضاء الأثرية كانت أعضاء نامية في أجداد كانت لازمة فيها، وضمرت حيث لم يبق لها لزوم، وفي البعض زالت بالكلية، فلا دخل للغاية هنا، وإنما الدخل للضرورة.
وما نراه من النظام فهو كذلك ضروري لا مقصود؛ لأن التغير الحاصل في جزء من أجزاء هذا العالم يتبعه تغير في سائر الأجزاء على حكم الضرورة كنتيجة لسبب، فإذا كانت العوالم موجودة على النظام الذي نراها فيه؛ فلأنها هي من الارتباط بعضها مع بعض؛ بحيث لا يمكن أن تكون على خلاف ذلك، فلو تغير نظام أحدها لوجب أن يكون التغير شاملا لعموم النظام؛ ولذلك لم يكن الكون بعضه بالنسبة إلى بعض، ولا هو كائن ولن يكون إلا منتظما وإن اختلف في الأزمنة الثلاثة؛ لارتباطه بعضه ببعض، وجريه على سنن شاملة لجميعه، وكذلك يقال في الارتقاء؛ فإن العالم لا يسير إلا متقدما لضرورة تغلب الأنسب في منازعة هذا الوجود، كما هو مقرر في مذهب دارون.
الباب الثاني
في ثبوت مذهب دارون وفساد نقيضه
وفيه ديباجة وسبعة فصول
الديباجة
अज्ञात पृष्ठ
ألا قل لمن عد مذهب دارون وساوس، واجتهاد أصحابه دسائس، فحمل عليه يريد طعنه بأسنة أيمانه، وذبحه بقواطع برهانه: رويدك؛ إنك قد استسهلت الصعب وما الصعب بهين، ألا راعك بعد الشقة، أم لم تدر ما أوجبت على نفسك من المشقة، أم كيف ساغ لك طعن تعليم دارون، وقد بحث فيه السنين الطوال، ونقض ما شيد عليه وهو أرسى من الجبال، أم بأي قوة نسفته نسفا، وتركته قاعا صفصفا لا ترى فيه عوجا ولا أمتا، بل كيف ساغ لك هدم أبحاث علماء الأرض بالطول والعرض؟ ألعلك ظننتها شذرات أفكار فدفعتها بشذرات أفكار، لم تكلفك البحث إلا سواد الليل وبياض النهار، ثم قلت: إنك مشبعنا، ولم تطعمنا إلا ضاهسا، ومروينا ولم تسقنا إلا قارسا. دع عنك هذه الوساوس؛ فما كانت الحقائق لتطرس بترهات البسابس.
ذكر بعض أدباء اللغة مذهب دارون في النشوء والارتقاء، وقفى عليه بما معناه أنه مذهب باطل بالأدلة العقلية والطبيعية، قال بعد تعريفه له ما نصه:
إن ركن النشوء والارتقاء عند دارون: الانتخاب الطبيعي، وهو فرض بلا إثبات، ورأي من صور الوهم. ا.ه.
ثم حصر اعتراضاته عليه في ثلاثة؛ أولا: أنكر الارتقاء بدليل أن كثيرا من الأحياء لم يظهر فيه شيء من علامات التدرج، ثانيا: أنكر الصور المتوسطة اللازمة في مذهب التسلسل، ثالثا: طول الزمان اللازم للانتقال من أدنى صور الحياة إلى أرفعها بالنشوء والارتقاء المنقوض بالأبحاث الجيولوجية - كما قال. وهي أهم اعتراضات خصوم هذا المذهب.
وفي كل ذلك من النظر ما يحتمل بحثا طويلا، ربما ضاق عنه الكلام إن لم يضق صدر المقام، فنجتزي بذكر شيء من كليات هذا المذهب دفعا للاعتراضات المذكورة، ومن تبقى عنده أدنى ريب نرده إلى مطولات القوم، ونحن الآن لا نطمع بالفوز في طريق كهذا كثير العقبات، وإنما نقول كما قال الإمام الغزالي: «ولو لم يكن في ذلك إلا ما يشككك في اعتقادك الموروث لكفى به نفعا؛ فإن من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والحيرة.» ا.ه.
الفصل الأول
في تغير الأنواع
نقول: لقد كان الاعتقاد سابقا أن الأنواع خلق خصوصي كل نوع مخلوق وحده، إلا إن الطبيعيين رأوا في الأحياء أشياء كثيرة لا تتفق مع هذا القول. أولا: قابلية كل فرد، بل كل نوع للتغير تبعا لنواميس حيوية حقيقية لا فرضية؛ كتغير الجماد تبعا لنواميس طبيعية، ثانيا: وجود أعضاء كثيرة لا فائدة لها في الحال، ولا تفهم غايتها إلا أنها كانت في الماضي، أو ربما صارت في المستقبل ذات فائدة في أحوال أخرى، ثالثا وحدة الناموس الرابط للأحياء بعضها ببعض، وهذا كله يجب ألا يكون في مذهب الأنواع الذي يقتضي أن تكون ثابتة، وأن كل نوع منها يتضمن فيه وفي جرثومته كل الأعضاء اللازمة له، لا أكثر ولا أقل، فقام في ذهن بعض المحققين أنه ربما كانت الأحياء كلها من مصدر واحد متكونا بعضها من بعض، متحولا بعضها عن بعض كما تتكون أصناف الحجارة في عالم الجماد.
وأول من قال هذا القول وأسنده إلى بعض مستندات علمية «لامرك الفرنسوي»، إلا أن قوله هذا صادف وقتئذ من التقاليد ونقصان الأبحاث العلمية موانع جمة حالت دونه ودون انتشاره، فقوبل بالإعراض شأن كل أمر لم تستعد له العقول، ولبث مطويا في زوايا الإهمال حتى قام دارون في هذا العصر وأخرجه إلى عالم البحث والنظر، وقد عززه بأن بسطه بسطا كافيا، وشرحه شرحا وافيا مستندا فيه إلى اكتشافات العلماء المتفرقة، وكانت قد كثرت فصادف هذه المرة أرضا معدة وعقولا مستعدة، فنبت ونما وتعالى وطما حتى كادت أبحاث العلماء تقتصر عليه ولا تنظر إلا إليه.
ولا نقول: إنه لم يقم له خصوم؛ فخصومه كثيرون، فبعضهم خاف منه على اعتقاد موروث، وهم أصحاب التقاليد، فشرعوا الأسنة، وأطلقوا الأعنة، ونادوا الجهاد الجهاد في سبيل الحقيقة والسداد؛ لأنه كما لا يخفى عليك كل واحد يدعى الحقيقة له، وهي واحدة، والناس منقسمون، فصاروا يقومون ويقعدون، ويجأرون ويزأرون، ويكفرون ويعطلون، وهم يخطئون مرة، ويصوبون أخرى، حتى وهنت منهم القوى، فتحصن عقلاؤهم وراء حصن الحياة، وأعقلهم وراء حصن الخلق الكلي تحت نظام كلي، وسنن كلية، وتركوا الطبيعة تدبر أمرها بإذن باريها.
अज्ञात पृष्ठ