وصعد الدم إلى وجهه. إن سعدية تنام الآن في حجرتها، ولا يفصله عنها سوى باب غير مقفول.
وتصور نفسه مرة أخرى الحاج بدوي الذي يمشي رافعا رأسه، وجلس على القهوة مع الحاج محمد يشد أنفاسه مع الجوزة ويدردش، وكل رجل يمر عليه يقرئه السلام، والست حمدية ... آه! مرة أخرى يذهب إليها، وتأخذه بين أحضانها الدافئة، ثلاثة أيام مضت وهو محروم من كل هذا.
ووضع الكوفية على رقبته وأدخل «المطوة» في جيبه، ثم مشى على أطراف أصابعه، ودفع باب سعدية ببطء.
وفي الظلام الدامس أخذ يتحسس بيديه حتى وصل سريرها. كان كل جسمه يرتعد وأنفاسه تتلاحق بسرعة، وكاد يفر من الحجرة بسرعة، لولا أنه تخيل سرير الست حمدية، وهي راقدة عليه تفتح ذراعيها لأحضانه، وألهبه الحماس فأخرج «المطوة» من جيبه، ومد يده على السرير يتحسس رقبة سعدية، ولكن يده لم تصل إلى شيء، فاستعان بيده الأخرى، ولم يعثر في الظلام عليها، ففتح النور ونظر على السرير ليجده خاليا، ونظر تحت السرير، وفي الدولاب، ووراء الشماعة ... لكن سعدية لم تكن هناك.
وعاد إلى حجرته والعرق يتساقط من كل جسمه، وزحف على السرير بجوار زوجته. لقد هربت سعدية قبل أن يقتلها، قبل أن يثبت للحي أنه رجل يغسل شرفه بالدم. كان يحب أن يقتلها أول ليلة، سيقولون إنه جبان، لن يستطيع الجلوس على القهوة، لن يرفع رأسه بين الناس، لن يستمتع بأحضان الست حمدية الساخنة، وجحظت عيناه في غيظ وحيرة، وكانت «المطوة» لا تزال في يده، ورأى زوجته راقدة كأنها ميتة!
ولم يدر لماذا أخذ يبحلق في رقبتها الرفيعة المعروقة، وهي تصعد وتهبط مع شخيرها، واهتزت «المطوة» في يده، وخيل إليه أنه رفع يده بها، وأسقطها على رقبتها، وانفجرت دماؤها في وجهه واختلطت بعرقه. لكنه كان لا يفعل شيئا، وترك «المطوة» في يده وأعطاها ظهره. وحينما أغمض عينيه وراح في غيبوبته، ظهرت له صورة سعدية؛ طفلة صغيرة في العاشرة تمسك صرة ملابسها، وتسير في الشوارع ليس لها مأوى، وفتح عينيه، وأحس بشيء ساخن سخونة الدم، يسيل على وجهه، وسمع صوت نشيجه هو يعلو ... ويعلو ... على صوت أنفاسه.
هيتروفس ... هيتروفس
كان ذلك منذ عشر سنوات أو أكثر قليلا، وكان مدرج علي باشا إبراهيم غاصا بالطلبة على سعته الكبيرة؛ فهو أكبر مدرج بكلية الطب، لكنه أصبح يضيق عاما بعد عام، بذلك العدد المتزايد من طلبة الطب؛ فكل طالب بالثانوي يريد كلية الطب، ويحلم بكلية الطب، ويرى نفسه في منامه وقد أصبح من هؤلاء السعداء الذين ينتمون إلى كلية الطب، ويراهم كل يوم وهم يركبون الأتوبيس من محطة القصر العيني، وعلى أيديهم معاطف بيضاء متسخة تفوح منها رائحة غريبة نفاذة، لا بد أنها رائحة الجثث التي يشرحونها، ويضحكون في كبرياء، ويتكلمون بصوت عال، ويتبادلون كلمات بالإنجليزية، ترن في قوة وخيلاء، لا شك أنها أسماء الأمراض، التي يكتشفون سرها الدفين، أو أسماء ما يشرحون من جسم الإنسان، ويقفون على كل ما ينطوي عليه ذلك المخلوق العجيب، وينادي كل منهم الآخر قائلا: «دكتر»، ويتساءل طالب الثانوي بينه وبين نفسه، إن كان «دكتر» تصغيرا أم تكبيرا للقلب «دكتور». على أي حال فإن للكلمة وقعا جميلا في نفسه، يحس فيها شيئا من الامتياز عن الناس، ويرى الإعجاب بها في عيون ركاب الأتوبيس، ويبيت يحلم أنه حصل على الثانوية، ودخل كلية الطب، وركب الأتوبيس، وفاحت رائحة نفاذة من معطفه، ونطق بكلمات إنجليزية ساحرة، وزميل يناديه يا «دكتر»، ونظرات كلها إعجاب تتجه إليه ...
وهكذا كانت الأحلام تتكاثر، وتتكاثر معها وفود الطلبة إلى كلية الطب، حتى بلغت الدفعة الواحدة في أيامي الخمسمائة أو تزيد، لا يعرف الطالب زميله، ولا يمكن أن يعرفه، ولا يعرف الأستاذ الطالب، ولا يمكن أن يعرفه. ويقضي الطالب ست سنوات ونصفا في الكلية على أقل تقدير، ثم يخرج منها ولا يكاد يعرفه أحد، اللهم إلا بعض الفراشين الذين كان يرشوهم؛ ليسرقوا له ذراعا أو رجلا أو جمجمة، هذا إذا كان طالب طب مثاليا في نظر حرس الكلية على الأقل. أما إذا كان طالب طب فاشلا، أصابه الملل من الجري بالمشرط وراء الشرايين والأوردة والشعيرات الدقيقة، فاتخذ لنفسه هواية أخرى غير التشريح، وهي الخطابة، ولم يجد موضوعا يمارس فيه هوايته إلا السياسة، سياسة البلد، ونظام البلد، والاستعمار، والإنجليز ... و... و... فإذا ما انتهت مشاكل البلد أو خيل له ذلك، تحول إلى سياسة البلاد الأخرى؛ فلسطين الشهيدة ... و... و... ويضرب بقبضة يده على منضدة الأستاذ، ويخطب بصوت جهوري تهتز له جدران مدرج علي باشا إبراهيم الشاهقة. أما الطلبة فلا يكاد يسمعه أحدهم، ويعدونه شرا لا بد منه كل صباح. أما حرس الكلية فهم يولون موهبته الخطابية أهمية أكثر، ويدونون اسمه في سجلاتهم، ويحفظون ملامحه في صورة شمسية، ويتعقبون خطاه داخل الكلية، في المعامل والمدرجات، ودورات المياه، ولا شك أن هذا العمل مفيد إلى حد ما؛ فهو يخفف فراغهم الموحش بعض التخفيف، ويرضي غرور الطالب الفاشل بعض الرضا.
وفي ذلك اليوم كان المدرج بمقاعده وأرضه ونوافذه، مختفيا تحت أجساد الطلبة المتلاحقة، وزفيرهم الساخن يرفع حرارة الجو، فنصبح في الصيف ونحن في الشتاء، وكنت ألبس معطفا سميكا كاللحاف، لم أجد بدا من أن أخلعه وأضعه في حجري، وهو المكان الوحيد الذي بقي خاليا في المدرج!
अज्ञात पृष्ठ