واضحك الضحك الذي يدل على خلو الفكر، وفراغ الذهن كفراغ العقل، ولكن إياك والضحك الكثير، فإن كثير الضحك كثير البكاء، والحيوانات المطمئنة لا تعرف الضحك. نعم إنها لا تعرف ضحك الجذل والسرور، ولكنها أيضا لا تعرف الضحك المر الأليم، فهي أسعد حالا من الإنسان. وهذا يدل على أن السعادة ليست أجل ما وهب الإنسان، ولكن ذلك لا يقلل من قيمتها، بل هو مغبون فيها.
فلما انتهى إبليس من مقاله قلت: هيهات، فإننا لعبة في يد الطبائع، بعضها يشقي وبعضها يسعد، وهي منا كالحبل في العنق إما يقودنا، وإما يشنقنا.
تنبيه «إبليس»: إذا علم أحد القراء أن بين أصحابه من يدين بنصيحة «إبليس»، فليرسل إلينا اسمه؛ لأننا نريد أن نحصي عدد من يدين بها من البشر، وكأني بكل قارئ قد أرسل إلي يبرئ نفسه، ويتهم صحبه. أليست تبرئة النفس واتهام الصحب من تعاليم الأستاذ «إبليس»؟
فلسفة للبيع
حدثني «إبليس» قال: لقد عانقت يوما ربة الحكمة التي تسمعون عنها في قصص الإغريق، فشممت منها نسيم الحكمة الصادقة، ففطنت إلى أن معنى الحياة الذي يبحث الباحثون عنه؛ ماسة تحت أنقاض هراء الفلاسفة، ولكنها ماسة لم تزل بعد فحمة لم تصقلها نار الحق والكمال، فإن معنى الحياة بسيط جد البساطة، حتى إنه من بساطته يكاد لا يكون للحياة معنى. فلأي أمر تنصب في طلب ما تجمله في نفسك، وتتقاتلون في الألفاظ والمذاهب الفلسفية؟
وإن من درس الفلسفة ورأى تناقض «أفلاطون»، و«أرسططاليس»، و«تلستوي»، و«نيتشه»، و«ماكس نوردو»، و«هيز»، و«كانت»، و«هجل»؛ يحتقر العقل البشري، ويرى كأن هؤلاء الفلاسفة أطفال يترامون بالوحل، وإني لأتساءل أحيانا عن مصير أرطال الفلسفة التي يخرجها كل جيل من الأجيال. ومن العجيب أن ارتفاع الأمم وانخفاضها، والحروب والتقلبات الكبيرة مظاهر تجتلي في كل منها فكرة فلسفية تنبسط، ثم تنطوي، كأنها أحلام يحلم بها الزمن في نومته الأبدية التي تشبه نومة معاقر الأفيون.
وأكبر ظني أن الفلسفة هي الشجرة المحرمة التي أكل منها آدم وحواء فعصيا الله، فخير لكم أن تجمعوا ما عندكم من ثمار هذه الشجرة، وأن تقذفوه بالعراء، ولكن كيف تستطيعون ذلك إذا كانت حياتكم فكاهة فلسفية، ومغالطة منطقية، وإن أغث الفكاهة ما صدر من الفلاسفة.
على أني لا أنكر أن عندك من الفلسفة ما لو بعته كفاك ثمنه مئونة التماس الرزق، ولكن من الغريب أنكم كلما قل مالكم قلت فلسفتكم، وكان ينبغي أن تزيد كي تعينكم على فقدان المال، وتكون لكم عوضا صالحا منه، وقد صنف لكم العلماء الكتب العديدة، شارحين الفلسفة التي تستعينون بها على مصائب الحياة، ولكنهم لم يشرحوا لكم الفلسفة التي تستعينون بها على تلك الفلسفة.
فها أنا أشرحها لك، وأوضح لك ما استخلصته منها من الأدوية، ولا مراء أن القراء عندهم من الفلسفة قدر ما عند محدثي، ولكن كما أن السلع تقلد صناعتها، كذلك الفلسفة فلا بد أن ترى العلامة التي سجلها بها العقل في الوجود.
ثم جعل «إبليس» يشرح أنواع الفلسفة، وما استخرجه منها من الأدوية، فقال: عندي فلسفة لتسكين آلام الضمير وتوبيخه، وفلسفة لتسكين آلام الحب وآلام الضرس، وفلسفة فيها برء من الجوع والظمأ ... إلخ. وهي أدوية خالية من السم قليلة الثمن، ولا أريد أن أغش القارئ وأوهمه أني قد استعملتها، وأني وجدت لها فائدة. معاذ الله، ولكني وجدت الفلاسفة قد أجمعوا على أن نفعها عميم.
अज्ञात पृष्ठ