مقدمة وإيضاح
حجة إبليس1
نصيحة إبليس1
فلسفة للبيع
رقص الضمائر
الإنسان والبهائم
الفلسفة والبطن
مناظر الشقاء
طرق الانتحار1
الجحيم
अज्ञात पृष्ठ
اختراع التقبيل1
أيام الهدنة
ثياب الكائنات
دولة البغال
مؤتمر الحيوانات
آية المسخ
زيت الفضيلة ونار الرذيلة
ما هي السعادة
أحلام اليقظة
طبيعة الإنسان
अज्ञात पृष्ठ
عظم الوجود1
حكم وأمثال
مقدمة وإيضاح
حجة إبليس1
نصيحة إبليس1
فلسفة للبيع
رقص الضمائر
الإنسان والبهائم
الفلسفة والبطن
مناظر الشقاء
अज्ञात पृष्ठ
طرق الانتحار1
الجحيم
اختراع التقبيل1
أيام الهدنة
ثياب الكائنات
دولة البغال
مؤتمر الحيوانات
آية المسخ
زيت الفضيلة ونار الرذيلة
ما هي السعادة
अज्ञात पृष्ठ
أحلام اليقظة
طبيعة الإنسان
عظم الوجود1
حكم وأمثال
حديث إبليس
حديث إبليس
تأليف
عبد الرحمن شكري
مقدمة وإيضاح
لقد وجدنا أناسا يرون أن ارتقاء الأمم في طلب الماديات، ولا يعلمون أن الأمة الخاملة، الضعيفة العزيمة، المفيقة من نوم طويل - مثل نوم أهل الكهف - لا تنجح في طلب الماديات، إلا إذا حركت نفوسها، واهتاجت عواطفها، وبحث أفرادها في نفوسهم، ونفوس الناس قاطبة، فيفهمون حقائق الحياة.
अज्ञात पृष्ठ
وإنما طلب الماديات مظهر من مظاهر النفس، وعاطفة من عواطفها. ومن أجل ذلك يكثر البحث في النفس، وعواملها، وبواعثها، وعللها، وأمانيها، وصفاتها من فضائل ورذائل، عند بدء نهضات الأمم؛ لأن كل خلق في حياة الناس يأتي قبله نقد وبحث، يهدم ويفسح له مكانا للبناء، والنهضات من مظاهر البناء، وكل نهضة أولها هدم، وآخرها بناء.
ومن أمثال هذا البحث النفسي الذي يأتي عند ظهور الأمم، ما كتب في الشعر التمثيلي الذي هو بحث في بواعث النفوس في عهد الملكة «إليزابث»، في بدء نهضة إنكلترة. وكذلك شعر «أسكيل» في بدء نهضة إنكلترة، وكذلك شعر «أسكيل» في بدء نهضة أثينا، وشعر «جيتي» و«شيلر» في بدء عصر الاضمحلال. وذلك حين تلوح مظاهر الضعف، فيكثر البحث النفسي. وشاهد ذلك شعر «يوربيد»، الذي هو بحث في النفس وتساؤل وشك.
وحيث إن حياة الأمم أدوار، أمل ويأس، يكونان فيها بمنزلة المد والجزر، كذلك شعر الأمة يعبر عن أدوار حياتها، انظر كيف يعبر شعر «شيلي» عن الآمال التي أنتجتها نهضة الثورة الفرنسية، وكيف أن شعر «بيرون» يعبر عن الغضب الشديد، والتضجر الذي كان سببه نأي تلك الآمال.
وقد بدأ يكثر في آداب اللغة العربية البحث النفسي، والتساؤل، والتفكير، والتعبير عن حركات النفس وبواعثها، ولكن كل ذلك - لم يزل بعد - قطرة، لا تعرف إن كان وراءها سيل آت.
وهذا الكتاب فيه شيء كثير من البحث النفسي، والتساؤل، والشك، والسخر، الذي هو محرك يحرك النفوس ويوقظها. فهو يعبر عن تلك الدنيا التي في كل نفس. ففي فصل نصيحة إبليس مثلا ترى السخر المودع في هذا الباب ما أرمي إليه من بيان معاني تلك النفوس الجامدة القبيحة، التي تشبه مباول الطرق.
وقد جعلت «إبليس» ينصح بما ينبغي الانتهاء عنه، وهذا ما يقتضيه الذوق الفني الصحيح، وقد لامني في ذلك بعض ضئال الأفهام، أولي الذوق الفاسد الذين يريدون أن أجعل أقوال «إبليس»، مثل أقوال الأتقياء من مشايخ الأزهر الشريف، فأجعل «إبليس» يحض على الأخذ بالفضيلة والإيمان. وهذا خطل في الرأي، فإن أقوال «إبليس» ينبغي أن تعبر عن نفسه، لا عن الحقيقة المطلقة، أو عما نراه نحن حقيقة.
وكذلك الأديب المسيحي الصادق في مسيحيته، إذا ألف كتابا ووصف فيه فيمن وصف يهوذيا، جعل أقوال اليهوذي تعبر عن نفسه، لا عما يراه المسيحي حقيقة، انظر مثلا إلى قصة «الفردوس المفقود»، تأليف الشاعر «ملتون». و«ملتون» من زعماء المتطهرين المسيحيين، فإنه جعل أقوال «إبليس» تعبر عن بواعث نفسه وعواطفها، وإنما مهارة الأديب في دقة التعبير عن تلك البواعث، وفائدة قراءة وصف أمثال هذه البواعث لا تنكر؛ إذ إنها تنير الذهن، وتؤدي إلى سعة في التخيل، والفهم، وكبر العقل.
وكذلك صحة الذوق الفني تقتضي أن لا يكون كل ما يقوله «إبليس» باطلا؛ فإننا نجد أحيانا الشرير يصيب الرأي الرجيح من حيث يخطئ صاحب الخير، بل إن صفات الشر التي في نفسه قد تجعل ذلك الجانب من جوانب الحق والصواب أقرب إلى ذهنه منه إلى ذهن صاحب الخير.
ومن أجل ذلك جعلت «إبليس» ناقد النفس، يظهر عيوبها، ويغري باليأس منها، بينما محدثه من الناس يستفيد من هذا النقد معرفة تلك العيوب، والرغبة في محوها. فإبليس إذا مزج كذبه بالصدق إنما يفعل ذلك كي يكون كذبه أعظم تأثيرا. فهو يجتهد أن يضل محدثه في «حجة إبليس»، و«نصيحة إبليس»، وفي «رقص الضمائر»، وفي «طرق الانتحار»، وفي «وصف الجحيم»، وفي «دولة البغال»، وفي «مؤتمر الحيوانات»، وفي «اختراع التقبيل»، ولكنه يريد أن يضله بالصدق، كما يريد أن يضله بالكذب.
وخدع إبليس وتغريره بمنزلة النار التي تصقل النفوس. وإنما يصفو الذهب الإبريز بالسكب، ولكن بعض النفوس مثل التبن الذي تأكله البهائم، فإذا أدخل النار احترق.
अज्ञात पृष्ठ
فإذا أحس قارئ وهو يقرأ هذا الكتاب أن قراءته لم تبق من نفسه غير الرماد، عرف أن نفسه من صنف التبن. وأما إذا رأى أن نفسه قد صقلها وهذبها تغرير التجارب، وخداع الحوادث والحياة كما يراه في هذا الكتاب مبينا مشروحا؛ عرف أنها من النفوس الذهبية.
ولم يكن عفوا أني أخرجت المحدث من تغرير «إبليس»، وأريته أحلام اليقظة؛ كي يزيد إيمانه بالإنسان، وبالله، والحياة والسعي فيها.
حجة إبليس1
جعلت أتنقل في قراءة الكتب بين جحيم «دانتي»، وجحيم «ملتون»، وجحيم «المعري» حتى أدركني النعاس، فنمت ورأيت في الحلم «إبليس»، وكان جميل المحيا، قد توجه الجحيم بتاج من النار والنور عليه ثياب وضاءة، وله نظرة تنفذ إلى صميم القلب، فتضيء له ما يضمره، فلما رآني حياني، وقال: أجئت تنظر إلى ذلك الجريء الذي عصى ربه، ورأى أن الحرية في الجحيم خير من الذل في الجنة؟
فقلت: على رسلك يا أبا مرة، فوالله ما أنا بالرجل الذي تغويه بكلماتك، لست ممن تستذله جهنم وعذابها، ولا ممن تزدهيه الجنة ونعيمها، فإن في نفسي جنة وجحيما، وكفى بهما رادعا عما تدعوني إليه من العصيان. وإني ما أتيتك بالإعجاب ولا بالمقت. ولقد كنت أستشعر لك الرحمة، لولا أنك ترى في رحمة الرحيم، وإشفاق المشفق، إهانة لك واحتقارا.
قال إبليس: هون عليك، وخل الرحمة لمن هو في حاجة إليها من البشر. هل ترى رحمة الرحيم من الناس قد أودت بشقاء أهل النحس منهم؟ اذهب إلى مكانك من الأرض، وانظر في أكنافها، فإنك واجد من البؤس والشقاء ما تداويه بالرحمة إن كنت رحيما، وأكبر ظني أنك لست بفاعل.
أما إن الذل قد نال منكم منالا حتى مكن الرياء منكم، فصرتم تثنون على الخير وفاعليه، وللشر أحب إليكم منه إلي. أما إنكم لتلعنون «إبليس» كي تلفتوا الله عما هو فيكم من صفات الشر. وهيهات أن يستقيم ذلك، وتسبون الشر وفاعليه كي لا يقال إنكم منهم، إنكم لتحتالون علي كي أغويكم، فإذا لم أجد بدا من إغوائكم رجعتم تستنزلون علي اللعنات. أكان ذنبي إليكم يا بني آدم أن قد دللت «آدم» على شجرة العرفان، وكان قبلها يعيش عيشة البهائم؟ أما إن الجاهل ليبغض العرفان كما تبغضونني، وإن الأرمد ليشكو النور كما تشكونني، تقولون إني أضلكم فيا عجبا كل العجب! إنكم تحتالون علي حتى أضلكم بالرغم مني.
لقد عانيت الليلة البارحة العناء كله من امرأة شمطاء، ليس فيها للهوى مطمع، جعلت تحتال علي لأغويها وأنا أتمنع، حتى لم أجد بدا من إغوائها رحمة بها، وإذا شئت حدثتك حديث الشيخ فلان الذي يحتال علي بدهاء قلبه ولسانه، كي أضله، ويتوصل إلي، ويتضرع كل التضرع، كي أمكنه من إظهار الرذيلة في لباس الفضيلة، حتى لم أجد بدا من إجابته. فيا بني آدم إني لو قمت بينكم واعظا أرشدكم إلى الخير، وأستعين بدهائي على هدايتكم لما تابعني أحد منكم إلى الخير كما تتابعونني الآن إلى الشر، ولقلتم: قد كبر الشيخ أبو مرة، وخرف، وصار لا يقوى على إغوائنا، وطلبتم من الله أن يعزلني عما ولانيه من غواية الناس، وأن يجعل مكاني من هو أقدر على إغوائكم مني.
ثم إن الشهوات أيها الناس سبيل التجارب، والتجارب سبيل الحكمة، غير أن هذا السبيل محفوف بالمكاره، فمن الناس من كانت شهواته جنة ونعيما، ومنهم من كانت شهواته جحيما، وأنا إذا أغريتكم بإرضاء شهواتكم فإنما أغريكم بمزاولتها مزاولة العاقل اللبيب، الذي يزاولها كي يرفه عن نفسه، وكي يستفيد مما يجده في مزاولتها من التجارب، وكي يفتق ذهنه بما تجده النفس فيها من الراحة واللذة. فهل ذنبي إليكم أنكم لا تفهمون قولي، وأنكم تزاولونها مزاولة الجاهل البليد؟
يا بني آدم إن من يخشى النار خليق أن لا يرى النور. أليست النار مصدر النور؟ وكذلك من خاف العذاب أخطأه نور العرفان (انظر إلى احتيال اللعين في ابتداع التشبيهات، ومهارته في ذلك)، يا بني آدم إن الماء الراكد يرث السم والوباء، وكذلك النفس الراكدة التي لا تحركها الرغائب ومطالب الحياة، فإنما أريد أن تفتقوا بها أذهانكم، فما حيلتي إذا كنتم تنيمون بها ضمائركم.
अज्ञात पृष्ठ
يا بني آدم إن الإيمان المضلل شر من الكفر، انظروا إلى القدماء الذين كانوا يتقربون إلى الله بالضحايا البشرية، وانظروا إلى القسس الذين كانوا يحرقون الناس في محاكم التفتيش، وانظروا إلى الذين لا يقنعون إلا بتقطيع الأرجل، والأيدي وفقء الأعين. على أنكم تخالون أن المرء لا يعبد الله إلا إذا أهان نفسه له ...
فلما رأيت أن «إبليس» يريد إغوائي، قلت له: دعنا من هذا الحديث؛ فإني ما جئت لأتعلم الدين والعبادة منك، ولا للمحاجة التي تحاول بها أن توهم الناس أنك بريء طاهر، وإنما جئت أستطلع الغريب من أمرك، وأرى أين تكون من الأوصاف التي تطير بها إشاعة السوء. فإن بعض أعدائك قد أشاع أنك قبيح الوجه، وأن لك في أسفل الكفل ذنبا مثل ذنب الحيوان، فقال: أما الوجه فقد رأيته، فماذا رأيت زينا أم شيئا؟ قلت: زينا، ولولا ذلك ما قدرت على إغراء الناس. ولكن ما يدريني لعل لك أوجها كثيرة، فإنك تخدعنا بالجمال كما تخدعنا بالقبح، وربما كان جمالك مثل جمال السراب، أو جمال أصبغ العاهرات. فضحك إبليس وقال: أما الذنب فانظر إن كنت تجده، ثم كشف عن ظهره، فوالله العلي العظيم ما رأيت له ذنبا، ولا ما يشبه الذنب، ولكن ربما كان ذنبه مثل تلك اللعب التي تنقبض وتنبسط، والعلم لله.
نصيحة إبليس1
قال إبليس: إني مؤتيك نصحي، فإن اتبعته سعدت، وإن نبذته شقيت، فاعلم أن الشر والخير لا يفترقان، فلولا الشر ما وجد الخير، إذ إن الخير في مقاومة الشر، فإذا زال الشر زال الخير أيضا، وإذا عم الخير ومحي الشر لم يكن الخير فضيلة. ونشر الخير وإزالة الشر حلم كاذب، ولكن لو فرضنا أنه يجوز تحقيقه لما كان ذلك نافعا؛ لأن الخير إذا عم بطلت مزيته، وانتفت فضيلته، فلا يهولنك الشر الذي تراه، ولا تفزع من مظاهره، فإن الحياة تخرج من الشر خيرا، كما تخرج من الخير شرا.
وإياك والرحمة فإنها جبن صريح، ووطن نفسك على أن الشقاء من لوازم الحياة، فانقل شقاءك إلى كتف غيرك، ولا تحمل شقاء أحد، ولا ترع لشقاء الفقراء والبائسين، فلولا شقاوتهم ما وجدت سعادة السعداء. فإن لوازم الحياة أساسها الاستعباد، وهؤلاء الأشقياء هم عبيد الحياة، ولا تطيب حياة السعيد إلا بهم، فبهم تناط الأعمال الوضيعة، ولهم المكاسب الضئيلة الحقيرة، وما دامت سنة الرقي التنافس، فلا مناص من الشقاء.
وإياك والتفكير في متاعب الحياة وشرورها؛ فإنه غير نافع، بل هو مرض من الأمراض، ولا تجتهد من غرورك أن ترشد الناس إلى الحق، فإن مطلب الحق شقاء لا يجدي نفعا، وإنما تراد الحياة للذة، والسعادة، واللهو ... فاطلب منفعتك، وقاتل من أجلها بيدك، ورجلك، وأظفارك، وأنيابك. واحذر أن تشعر بالآم الناس وشقائهم، يكفيك أنك تشعر بآلام نفسك.
ويخيل لي أن لك من ذكائك رادعا عن أن تحرق قلبك بمطلب الحق، إنما تدفي قلبك بنار خامدة من نيرانه. واعلم أن الذكاء والكياسة من آلات النصب والاحتيال الشريف، ومطلب الحق أحبولة صيد. فاذكر أنك تريد أن تكون ذا جاه ومنزلة، وهذا يحتاج فيه إلى الإيهام والغش أكثر من صدق السريرة.
واعلم أن مطلب الحق غرور من الإنسان، فإن الحق شقاء، وطالب الحق الباحث عنه مثل ذبالة تضيء للناس وهي تحترق، وأنت أعقل من أن تحسد الذبالة المحترقة؛ لأنها تضيء للناس، ومن هم الناس؟ أليسوا كلهم حيوانات، سواء الصديق والعدو؟ عش لنفسك لا للناس، ولا يغرنك الحق فإنه عذاب لقائله ، وهو لهو ساعة لسامعه، فإذا أردت أن تقول الصدق فاستخدم الغش فيه ، كما هي عادة الناس، وادع صدق السريرة، ولكن إياك أن تحسها، وإياك أن تكون ذلك المسكين الذي يحس كل عاطفة من عواطف الحب والرحمة والحنان، فاحذر كل عاطفة من عواطف الضعف من أمثال هذه الصفات التي غري الشعراء بوصفها وتزيينها؛ فإن هذه عواطف الضعف التي تؤدي إلى الفشل في معترك الحياة، وإذا رزقت ولدا فعلمه فلسفة حب الذات.
وكل وتثاءب طول يومك، وإياك أن تقيس طول أذنيك في المرآة؛ فإن ذلك يؤدي إلى الجنون، واجعل مثال الكمال عندك في الحياة حياة الأناني الذي يعيش لنفسه، وعود نفسك أن تخرج همومك من قلبك في تثاؤب طويل تفزع الهموم منه.
وادع أنك صادق العواطف كي تغر الناس، ولكن اضحك في قفاهم، وأخرج لسانك سخرا بهم إذا أدار أحدهم لك قفاه؛ كما أنهم يخرجون ألسنتهم سخرا بك إذا أدرت لهم قفاك. واحتفظ بالسليقة؛ فإنها أسمى ما وهبك الله، وإن بي لدافعا جهنميا يغريني بحثك على مطلب الحق، والبحث في الحياة كي أشقيك معي، فيخفف شقاؤك بعض شقائي، ولكني أنصحك وأنا مخلص لك، فاجتهد أن تكون مثل تماثيل الآلهة التي لا ترحم عابدها، واجعل نفسك تمثالا ذا حياة يسعى ويعيش، واجعل حياتك مثالا يعبر عن هذه المبادئ الصحيحة التي أودعتها نصيحتي.
अज्ञात पृष्ठ
واضحك الضحك الذي يدل على خلو الفكر، وفراغ الذهن كفراغ العقل، ولكن إياك والضحك الكثير، فإن كثير الضحك كثير البكاء، والحيوانات المطمئنة لا تعرف الضحك. نعم إنها لا تعرف ضحك الجذل والسرور، ولكنها أيضا لا تعرف الضحك المر الأليم، فهي أسعد حالا من الإنسان. وهذا يدل على أن السعادة ليست أجل ما وهب الإنسان، ولكن ذلك لا يقلل من قيمتها، بل هو مغبون فيها.
فلما انتهى إبليس من مقاله قلت: هيهات، فإننا لعبة في يد الطبائع، بعضها يشقي وبعضها يسعد، وهي منا كالحبل في العنق إما يقودنا، وإما يشنقنا.
تنبيه «إبليس»: إذا علم أحد القراء أن بين أصحابه من يدين بنصيحة «إبليس»، فليرسل إلينا اسمه؛ لأننا نريد أن نحصي عدد من يدين بها من البشر، وكأني بكل قارئ قد أرسل إلي يبرئ نفسه، ويتهم صحبه. أليست تبرئة النفس واتهام الصحب من تعاليم الأستاذ «إبليس»؟
فلسفة للبيع
حدثني «إبليس» قال: لقد عانقت يوما ربة الحكمة التي تسمعون عنها في قصص الإغريق، فشممت منها نسيم الحكمة الصادقة، ففطنت إلى أن معنى الحياة الذي يبحث الباحثون عنه؛ ماسة تحت أنقاض هراء الفلاسفة، ولكنها ماسة لم تزل بعد فحمة لم تصقلها نار الحق والكمال، فإن معنى الحياة بسيط جد البساطة، حتى إنه من بساطته يكاد لا يكون للحياة معنى. فلأي أمر تنصب في طلب ما تجمله في نفسك، وتتقاتلون في الألفاظ والمذاهب الفلسفية؟
وإن من درس الفلسفة ورأى تناقض «أفلاطون»، و«أرسططاليس»، و«تلستوي»، و«نيتشه»، و«ماكس نوردو»، و«هيز»، و«كانت»، و«هجل»؛ يحتقر العقل البشري، ويرى كأن هؤلاء الفلاسفة أطفال يترامون بالوحل، وإني لأتساءل أحيانا عن مصير أرطال الفلسفة التي يخرجها كل جيل من الأجيال. ومن العجيب أن ارتفاع الأمم وانخفاضها، والحروب والتقلبات الكبيرة مظاهر تجتلي في كل منها فكرة فلسفية تنبسط، ثم تنطوي، كأنها أحلام يحلم بها الزمن في نومته الأبدية التي تشبه نومة معاقر الأفيون.
وأكبر ظني أن الفلسفة هي الشجرة المحرمة التي أكل منها آدم وحواء فعصيا الله، فخير لكم أن تجمعوا ما عندكم من ثمار هذه الشجرة، وأن تقذفوه بالعراء، ولكن كيف تستطيعون ذلك إذا كانت حياتكم فكاهة فلسفية، ومغالطة منطقية، وإن أغث الفكاهة ما صدر من الفلاسفة.
على أني لا أنكر أن عندك من الفلسفة ما لو بعته كفاك ثمنه مئونة التماس الرزق، ولكن من الغريب أنكم كلما قل مالكم قلت فلسفتكم، وكان ينبغي أن تزيد كي تعينكم على فقدان المال، وتكون لكم عوضا صالحا منه، وقد صنف لكم العلماء الكتب العديدة، شارحين الفلسفة التي تستعينون بها على مصائب الحياة، ولكنهم لم يشرحوا لكم الفلسفة التي تستعينون بها على تلك الفلسفة.
فها أنا أشرحها لك، وأوضح لك ما استخلصته منها من الأدوية، ولا مراء أن القراء عندهم من الفلسفة قدر ما عند محدثي، ولكن كما أن السلع تقلد صناعتها، كذلك الفلسفة فلا بد أن ترى العلامة التي سجلها بها العقل في الوجود.
ثم جعل «إبليس» يشرح أنواع الفلسفة، وما استخرجه منها من الأدوية، فقال: عندي فلسفة لتسكين آلام الضمير وتوبيخه، وفلسفة لتسكين آلام الحب وآلام الضرس، وفلسفة فيها برء من الجوع والظمأ ... إلخ. وهي أدوية خالية من السم قليلة الثمن، ولا أريد أن أغش القارئ وأوهمه أني قد استعملتها، وأني وجدت لها فائدة. معاذ الله، ولكني وجدت الفلاسفة قد أجمعوا على أن نفعها عميم.
अज्ञात पृष्ठ
فإنهم قد استخلصوا مثلا للغضب دواء من الفلسفة، وهو أن لا يتكلم الغضبان عند الغضب، وبهذه الوسيلة يذهب غضبه، كأنه لم يكن. انظر إلى ذكاء هذا الفيلسوف، ولا يخدعنك هراء بعض الناقدين، فإن بعض الجهلاء يقول: إنك إذا اشتريت دواء الغضب، أي: السكوت، ووضعته في وعاء لوقت الحاجة، وأردت أن تستعمله عند الغضب لم تجده. وهذا نقد فاسد غير رجيح؛ لأسباب بديهية لا لزوم لذكرها.
أما دواء الحب، فهو أن تتوهم أن حبيبك قبيح الوجه، وأنك لا تحبه، فإن هذا التوهم فعله عجيب. يا رعى الله من اخترع دواء التوهم، فإن فيه برءا من الآلام والأمراض. ألا تذكر أيها القارئ يوم آلمك ضرسك، ولجأت إلى الطبيب فعالجك، وكلما عالجك زادت ضرسك إيلاما. فلم تجد بدا من الفلسفة فتوهمت أن ضرسك لا يؤلمك، فوجدت أن هذا التوهم فيه الشفاء.
على أنه قد لا يفيد من كان ضرسه عنيدا، ولكن جزاء صاحب الضرس العنيد أن لا يفيده التوهم. ويقال: إن أحسن دواء للشقاء أن يرى الإنسان آثار الشقاء في غيره، فإنه إذا رأى حمارا في بعض أسواق المدينة قد لحقه الهزال، ونال منه الشقاء، وبدت عليه آثار الخصاصة والحاجة؛ رفه منظر هذا الحمار التعس عن نفسه؛ لأنه يجد منه شريكا له في النحس والتعاسة، فيقول لنفسه: أيتها النفس تأساء وتعزية، ألست ترين هذا الحمار التعس شريكك في الحياة والجد والسعي والعمل، شريكك أيضا في الشقاء؟
أما الفلسفة
1
التي تسكن آلام الضمير وتوبيخه، فإنها خير الفلسفة، ودواؤها خير دواء. فإنه لم يفلح رجل في ميدان الحياة، ولم تفلح أمة في مجال الاستعلاء إلا بقتل الضمير. فإن صوت الضمير عند أهل الشر بغيض، مثل نهيق الحمار في أذن «بيتهوفن»، أو مثل نعيق البوم شؤم، أو مثل نعيق الغراب عند العاشقين.
وفي حياة الضمير موت الجد والسعي، والنشاط والهمة. والسعيد من جعل ضميره آلة من آلات النصب. فالمرء في الحياة مضطر رغم أنفه إلى كثير من الشر، فكيف تستقيم له السعادة إذا لم يكن ضميره من الضمائر الخرس؟ ولما انتهى إبليس من سخره ضحك ضحك زنوج نيام من اللذة التي يجدونها في لحوم البشر.
رقص الضمائر
جعلت أماشي «إبليس» يوما في أسواق القاهرة، فرأينا حمارا عليه حمل من البرسيم، قد عالج الهزال حتى كأنه خيال يسعى، وهو يحاول أن يأكل من البرسيم الذي يحمله، ولكن لا يستطيع ذلك، فنظر إلينا نظرة الذل والمسكنة، وكأنه يقول في نظرته: أليس من الشقاء أني أكاد أنوء بحمل من البرسيم، ثم أحاول أن أعالج سغبي بشيء منه فلا أستطيع، وقد مرت علي ثلاثة أيام لم أذق فيها حلاوة الطعام، وبي من الجوع والهزال ما يبدو لعينيكما؟ فمال إلي «إبليس» وقال ساخرا: إن هذا الحمار يشبه الإنسان، وحمل البرسيم الذي على ظهره مثل الفلسفة التي تثقل ذهن المرء، ثم يريد أن ينتفع بها فلا يستطيع. كما أن الحمار يريد أن يأكل من البرسيم، فلا يجد إلى الأكل منه سبيلا.
وبعد ذلك جعلنا نمشي حتى وصلنا إلى أرض خلاء، فرأينا بها رقصا، قال «إبليس»: ذاك رقص الضمائر، كل ضمير من ضمائر الناس يرقص على النغمة التي تشابه طبعه، ورأينا الضمائر آتية زرافات ووحدانا، ثم بدأت الأركستر تعزف والضمائر ترقص، فوالله ما رأيت رقصا أغرب من ذلك الرقص.
अज्ञात पृष्ठ
ومن العجيب أني التفت إلى جانبي فلم أر «إبليس»، ثم نظرت إلى مكان الأركستر، فإذا هو دليل العازفين، ورئيسهم، وقائدهم. وقد أخبرني بعد ذلك أنه هو الذي وضع النغمات التي ترقص على أوزانها الضمائر. وكانت الرقصة الأولى رقصة الكبر والتيه، ولكن الضمائر كانت تسميها رقصة عزة النفس والإباء، ثم بعد ذلك كانت رقصة الجبن والذل التي كانت تسميها الضمائر رقصة الحزم والتؤدة والصبر، ثم بعد ذلك كانت رقصة النفاق التي تسميها الضمائر رقصة الكياسة والذكاء، ثم رقصة الظلم والاستبداد التي كانت تسميها الضمائر رقصة العدل والحرية ... إلى آخر ما رأيت وسمعت من الرقص والأنغام، فعلمت أن ضمائر الناس تدين لإبليس، وتشرب من كأسه، وتسكر من خمره، وترقص على نغمه، وتحسب الكبر إباء، والتيه عزة، والجبن حزما، والذل صبرا، والنفاق كياسة وذكاء ... والظلم عدلا.
ورأيت ضمائر من كنت أظن فيهم الخلق الحميد، فإذا هي سوداء قبيحة مثل أوجه القرود، ورأيت بينها ضميري، فوالله ما عرفته حتى ناداني وعرفني نفسه، وأنا أنكره وهو يتشبث بي، ويقول: أنا صاحبك فلا تخجل مني، فأقول له: اذهب عني فإنك لست ضميري. إن ضميري نقي طاهر، وأنت قذر، فيضحك الملعون ضحك الساخر. فمن لم يرضنا من أصحابنا وصفنا له ضميره، وبينا مواضع قبحه، فقد رأيناها موضعا موضعا.
وبعد ذلك مررنا بفتيان سكارى، كل ينظر إلى وجه أخيه، ثم يضحك من غير سبب. فسألت «إبليس» عن الضحك وأصله، وكيف كان اختراعه؟ قال «إبليس»: إن الرجال الوحشيين الذين لا يعرفون الحضارة والمدنية مثل رجال نيام نيام الذين يستطيبون لحم الإنسان ويأكلونه، لا يضحكون، بل عليهم من وحشيتهم وقار كثيف، حتى إذا سكروا استفزهم السكر، فيضحكون من غير ما سبب. وكذلك أجدادهم الوحشيون في أول الخليقة الذين كانوا يستطيبون أيضا لحم الإنسان ويأكلوه، فإنهم كانوا لا يضحكون، ولا يمرحون حتى عرفوا كيف يصنعون الخمر، فعلمهم شربها الضحك.
وأما أنتم فإن ضحككم عادة ورثتموها عن أجدادكم، فهو بقية من بقايا تأثير الخمر فيهم، قلت: ولكنا نجد الفرد منا يجيد الضحك وهو لا يشرب الخمر؟ قال «إبليس»: إنما سبب ذلك أن أجداده الأولين كانوا يدمنون شرب الخمر، ولولا إدمان أجدادكم معاقرة الكأس لما استطعتم أن تضحكوا. ثم جعل «إبليس» يضحك ، فقلت: أما والله إنك لساخر فظيع، وهذا صوت ضحكك مثل صوت تصادم الأفلاك، فأي شيء كان يستفز أجدادك إلى الضحك، أعني: إذا كان لك أجداد؟ ولكني أعرف أنك لست عريقا في النسب.
الإنسان والبهائم
حدثني «إبليس» قال: إني أرى في الحيوانات العجم خصالا هي في الإنسان ضئيلة خافية. فللكلب من الوفاء والأمانة ما ليس للإنسان، وللخيل من الود والولاء ما لا يبلغ بعضه الإنسان، وللبغال والحمير من الصبر والحزم ما ليس له، وللقرود من الذكاء والفطنة، وحب التقليد ما ليس له، ولو فطنتم يا بني آدم لرأيتم أن تزوجوا بناتكم من ذكور البغال والحمير والكلاب والقرود؛ لكي يكتسب بالوراثة نسلهن من حميد صفات هذه الحيوانات - انظر أيها القارئ إلى سخر اللعين «إبليس»، واحذر أن تصدق قوله، فإنه كاذب لئيم.
قال «إبليس»: ولا مراء أن هذا يرفع من شأن الإنسان، ولا تحسب أن النساء ينزعجن من هذا الزواج، فإنهن قد ألهمن فضائل الحيوانات، وهذا تفسير ميلهن إلى صغار الكلاب والقرود، ولقد بلغني أنكم فطنتم إلى ما يعود عليكم من الفوائد فتزوجتم من إناث الحيوانات العجم، وزوجتم نساءكم من ذكورها. فإنك إذا مشيت في الأسواق، ورأيت أحد الناس حكمت عليه أنه من نسل القرود، لما يبدو لك من ذكائه وفطنته وحبه التقليد. وإذا رأيت رجلا آخر حكمت عليه أنه من نسل الكلاب لما يبدو لك من أمانته ووفائه، ولقد قيل إنكم عرفتم بالذكاء والفطنة، فما سبب هذا الذكاء، وأين مصدره؟ إلا أن تكونوا من نسل القرود فاكتسبتم هذا الذكاء من أجدادكم القرود.
على أنه ليس في ذلك عار عليكم، إذا صح ما يقوله «داروين»
1
الفيلسوف الإنكليزي عن أصل الخليفة، فإن قوله يجعلكم وغيركم سواء في النسب، ولكنكم تكثر في بلادكم الجثث المحنطة التي تدعى الممياء من صنع القدماء، على أن الأحياء منكم جثث محنطة، فأنتم اثنا عشرة جثة محنطة، وهذا سبب أنك إذا رأيت مصريا رأيت في عينيه خيال الموت ، وشممت منه ريح الموت.
अज्ञात पृष्ठ
تمر بكم الحوادث الناطقة وتعظكم، وأنتم لا تفهمون قولها؛ لأنكم جثث محنطة تدور الأفلاك دورتها، وتمر بكم الساعات والأيام والسنون، وأنتم في سكون أهل الكهف لا توقظكم دقات الساعات، ولا أجراس الأيام، ولا طبول السنين، حتى صرتم إذا هز أحدكم كتفه أو نفض ثيابه نزل عنها غبار القرون الذي تراكم عليكم، والعنكبوت التي بنت عشها في أجسامكم، وإنه ليصدق فيكم قول «أبي العلاء المعري» في الإنسان:
حق وإن كان أخا صورة
في الإنس أن يلجم أو يرسنا
وأن تسمى رجله حافرا
في واجب التشبيه أو فرسنا
وعلى ذكر غبار القرون أقول: إنهم اختلفوا فيه، فبعضهم قال: إنه مثل دقيق الحنطة، وبعضهم قال: إنه أسود مثل الكحل، ولكن هؤلاء مخطئون؛ فإن الذي جعل غبار القرون أسود قذارة نفوس من يتراكم عليهم من الناس، وهذا الغبار تزعمون أن له فعلا عجيبا، يحسب أحدكم أنه إذا أخذ قليلا منه، وصره في خرقة وعلقه على جسمه كالتميمة صار في مأمن من الحوادث وعدواتها؛ لأن فيه سرا من أسرار الحياة.
وإني أخشى لطول ما عبد القدماء الحيوانات - من عجول وكلاب - أن يكون قد صار في نسلهم شيء من صفات هذه الحيوانات. وإني أرى كثيرا من الناس فأحسب أنهم لو عاشوا في زمن القدماء لعبدهم القدماء؛ لأنهم يشابهون معبوداتهم.
فلما وصل «إبليس» في سخره إلى هذا، قلت: لو كان في السخر من دواعي الحياة ما يستفز النفوس الغافلة لاتخذت منه بوقا أستفز به نفوسنا التي لا يكاد يوقظها من نومتها نفخ إسرافيل في الصور، ومن أجل ذلك أرى أننا سنبعث يوم القيامة بعد بعث الناس كلهم؛ لأن موتنا أعمق من موتهم، ونومة القبر عندنا أعمق من نومة القبر عندهم، وليس من العجب أن نقوم يوم القيامة نحك أعيننا وأنوفنا بأيدينا، ونحن متخلفون متأخرون، فنجد أن الحساب يوم الحساب قد انتهى، وذهب أهل الجنة، وذهب أهل النار إلى النار، وبقينا ليس لنا مأوى.
ولكن السخر لا يستفز النفوس الراكدة إلا كما يستفز الميت تقطيع جثته، ولقد جاء في قصص اليونان أن هناك طائرا يدعى الفينيق إذا كبر وشاخ وحرق خرج من رماده طائر جديد. ويا ليت أن نفوسنا من صنف ذلك الطائر، فنشعل تحتها من السخر نارا تحترق فيها، ثم تخرج من رماد تلك الأنفس نفوسا جديدة، ولكن النفوس التي ملؤها البلادة والغباء لا يحرقها ولا يصقلها السخر، حتى ولو أشعلت تحتها القناطير منه، واستأجرت كل ما في الجحيم من الزبانية والأبالسة، وجعلتهم يسخرون دفعة واحدة، واشتريت كل ما في جهنم من الفحم، وأشعلته تحت هذه النفوس البليدة، فإنك لن تشعل فيها نار الذكاء.
ولقد سألت «إبليس» مرة أن يصف لي صوت الجحيم، فقال: إن أصوات الجحيم مثل صراخ إله مجنون جريح من أمثال آلهة القدماء، وسألته: ما مقدار الفحم الذي يكفي لحرق الفرد من أفراد المجرمين؟ فقال: إن المرأة الحسناء البادنة يطفئ شحمها النار. ومن أجل ذلك نشعل تحتها من الفحم أكثر مما نشعله تحت غيرها. وقد جعلنا مرة نشعل القناطير من الفحم تحت امرأة بادنة حتى نفد ما في الجحيم من الفحم، ولم ينفد شحمها. فأرسلت أحد الزبانية كي يستعير مقدارا من أخشاب أشجار الجنة وحطبها. وأحسبك لا تعلم أن الزبانية يسلخون الحسان من الفتيات والغلمان المجرمين، ويصنعون من جلودهم لباس اليد، ثم يبيعونه لأهل الترف، ويصنعون من شعر حسان المجرمين ضفائر يبيعونها لمن أصابهم القرع من المقربين إلي.
अज्ञात पृष्ठ
أيتها الإنسانية ما أحلاك في عيني. أنت كالعاهرة وفضائلك مثل تلك الصبغة الحمراء التي تصبغ بها العاهرة خديها وشفتيها، ورذائلك مثل ذلك الكحل الأسود الذي تزين به العاهرة عينيها، وصوت ضميرك مثل صوت خلخال العاهرة الذي يطرب الفاسق ساعة الفسق، فأنت أيتها الإنسانية تزينك رذائلك كما تزينك فضائلك، وتشينك فضائلك كما تشينك رذائلك.
أيتها الإنسانية أنت كالحية الرقشاء، وفضائلك مثل جلدها الناعم المرقش، ورذائلك مثل أنيابها اللامعة. أيتها الإنسانية أنت كالجثة العفنة، وفضائلك مثل ذلك الذباب الكثير الألوان الذي يتهافت عليها، ورذائلك مثل ذلك اللحم الذي تنزعه الذئاب عن العظام، فتتغذى به كما يتغذى الناس برذائلك. فأنت أيتها الإنسانية تزينك رذائلك كما تزينك فضائلك ، وتشينك فضائلك كما تشينك رذائلك.
اللهم يا خالق الأنغام والموسيقى أعطني آلة من آلات أنغامك قد روضتها يدك القادرة على النغم، وأعرني قطعة من صوتك، ونغمة من أنغامك كي أوقظ بها هذه النفوس، وأسمعها لحنا من ألحان القوة والحياة يعيننا على استئناف الحياة، والتماس القوة.
الفلسفة والبطن
وضعت مرة أمامي الكرة الأرضية التي ندرس عليها دروس تقويم البلدان، ثم جعلت أتأملها، ووكلت بها النظر كله فصرت لا أرى غيرها، وجعلت أرى فيها سرا غريبا أرجو حله بالنظر إليها كأن في باطن تلك الكرة سر الوجود. أليست رمزا للأرض التي نسكنها؟ وعقل الإنسان يحسب دائما أنه يجد في الرمز من المعنى ما يجده في المرموز إليه.
ثم خيل لي أن هذه الكرة التي رسمت عليها القارات والبحار، ليست في الحقيقة كرة من الجص، بل كرة عن الديناميت وضعها «إبليس» أمامي مازحا، ثم خيل لي أن يديه مدت في الفضاء، فأخذت كرة من الديناميت، ورمت بها وجه الأرض، فتهدمت الأرض، ولم يبق منها باقية. وعند ذلك أفقت من حلم اليقظة، وقلت: ما يمنع أن تكون الأرض كرة كبيرة من الديناميت.
أليس شر الناس ورذائلهم ونقائصهم من عنصر ذلك الديناميت، فالإنسان إذا شئت ديناميت الشر.
حدثني «إبليس» قال: بودي لو مات عالم الإنسان كله، ولبث ميتا مدة أشهر ثم يحيا، فإنه يجد بعد عودته إلى الحياة أن الأفلاك لا تزال تضيء، وأن البحر لا يزال زاخرا، والرياح لا تزال عاصفة، والليل والنهار يعتوران الأرض. وأكبر ظني أنه يزعم من غروره أن هذه الأشياء قد هلكت حين هلك، وأنها بعثت حين بعث.
وحدثني «إبليس» قال: ولماذا صار الإنسان - وهو حيوان - يحدث في هذا الوجود ضجة أعظم من ضجة غيره من الحيوانات، فيقرع الطبول ويدق الأجراس، ويطلق المدافع ترحيبا أو قتالا، محبة أو عداء؟ ألم يقل العلماء: إن الحيوان إذا لطفت أعصابه ورقت كره الأصوات الضخمة؟ إذا الإنسان أغلظ أعصابا وشعورا من البغال والحمير، أم تراه يحب تلك الأصوات الضخمة من أجل جلالها؟ أم من أجل أنها تثير فيه ذكرى الوحشية والزمن القديم، حين كان يهز ذنبه في سيره اختيالا، كما يهز الآن عصاه ويلويه تيها ودلالا، كما يلوي سلسلة الساعة؟
ألم يجل بخاطرك أن الإنسان حيوان مفترس، عليه من الحضارة والنفاق ثوب رقيق يلبسه كي يخفي ملمسه الخشن، وأنيابه البارزة، وأظفاره الطويلة؟
अज्ञात पृष्ठ
وبعد، فبأي شيء يفخر الإنسان؟ أبعواطفه وأفكاره وآرائه وعلومه وهو يكتسبها من بطنه؟ لأن الطعام الذي تحويه معدته تستخرج منه تلك الدوافع التي يسميها عواطف، وتلك الآراء والأفكار التي يسميها حقائق. والدليل على ذلك أن الإنسان تختلف أطواره، وميوله، وأحواله حسب اختلاف أنواع الطعام الذي يأكله، وما يتبع ذلك من سهولة الهضم أو صعوبته، وقد بلغني أن بعض الأطعمة تكسب المرء بشاشة ورقة أكثر مما يكسبه غيرها.
ألم تتذكر أيها القارئ حين رقص الحب في عروقك، وغمز مفاصلك فحسبته وحيا من الطبيعة، وسرا من أسرارها، وروحا من أرواحها، وضوءا من أضوائها؟ ولو بحثت عن سبب ذلك الحب لعلمت أنه خصيصة في بعض الأطعمة والأشربة، وهناك أطعمة أخرى تغري المرء بالرحمة والكرم، ومن أمثال تلك الأطعمة البالوظة أو المهلبية، فإنها تجعل القلب ناعما لينا مثلها، فيلين لدواعي الرحمة، وإني لأتذكر أني أكلتها مرة، ثم خرجت إلى الأسواق، فلم أر فقيرا إلا أعطيته من دراهمي، فلما نفذت تصدقت بثيابي. كل هذا الكرم من فعل البالوظة، قاتلها الله. أما المخلل فإنه يعلم المرء الشراسة، وقلة الأدب، وقد يفرق بينه وبين زوجته؛ لأنه يغريه بالغضب والسباب، ولو شئت ذكرت لك أصناف الأطعمة، وأظهرت لك كيف أن جميع أخلاق الناس وآرائهم مكتسبة منها.
وقد بلغني أن بعض الشعراء لا ينظم الشعر إلا إذا كان به مغص أو عسر هضم، فلا يغريه بنظم الشعر غير المغص أو عسر الهضم، قلت: هذا - والله - لا شك فيه، فإن قراءة شعر بعض الشعراء تورث المرء إما مغصا، وإما عسر هضم. وقد زعم بعض الفلاسفة الماديين أن المادة تفرز التفكير ، كما يفرز الجسم الأدناس. فليس من العجيب أن نسمع بعد ذلك أن المادة نفسها من أدناس الزمن.
مناظر الشقاء
قال «إبليس»: «إذا شئت أن تعرف معنى الحياة، فاسر معي. فسريت في ليل غارت كواكبه وقامت نوادبه، فجعلت أشق جيب الظلماء كالسابح في الماء، وأتعرف مظان العبرة لأريق العبرة، فدفعت إلى بيت خرج من إهابه، ونم عن أصحابه وجهه شاحب، ولونه غائب، قائم في الظلام كالأحلام، أو كأنه شيخ ناهضه الزمان، وقارعه الحدثان. إذا رميته بنظر صادق ولحظ وامق، لمحت فيه بقية من النعيم المسلوب، كأنها الذكرى الخلوب في الخاطر الحرب، والشمس في ضحى شحب، والزهرة فوق الرمس، ويوم صار أمس فولجت بابه، وقطعت رحابه، حتى دفعت إلى مكان يلوح منه نور ضئيل كما يلوح اليقين في ظلمة الجحود.
فنظرت - وما أروع ما نظرت - امرأة عجفاء بين الصغيرة والكبيرة ذات وجه مهزول، وشعر مهدول، ولباس كأنه قد من الظلام وخاطته الأيام، وحسن زائل، ولون حائل، وقدم براها الحفا وجلال كأن لم يكن، ووقار كأن لم يزل، ونظرت في الغرفة فرأيت أرضها مثل سمائها خالية إلا من البرد اللاذع، غير سرير من الخشب ليس عليه من الفراش ما يدفع سطوات القر، وجعلت المرأة تحنو على السرير فوق غلام في السابعة، تملكه الداء وعز الدواء، يتلوى على سريره، ويسأل عن نصيره، وإنما نصيره الموت.
ثم يقول: يا أماه قد أخذ مني الجوع مأخذه، ولو كان ما بي من الداء لصبرت، ولكن الداء والجوع والقر يا أماه آلام تغالبني، وأنا الضعيف، أتطلبني بوتر ولم أرد من الحياة موارد الآثام؟ أماه أين ما ورثته من العيش الفينان والنعيم الوثير؟ ... لقد أودى به أبي ... أماه لشدة ما عانيت من ذلك الرجل الغليظ الكبد، أنسيت إذ أتى البارحة مع الفجر، يتمايل من خماره؟ فجعل يضربني وبي من الداء ما بي، ثم أخذني بيده فرمى بي ناحية من الغرفة، أنسيت إذ عاتبته فقام إليك، وجعل يضرب بك الحائط؟
ثم سكت الغلام قليلا، ثم صرخ قائلا: أما إن ألم الجوع لشديد أهاه أطعميني ... أو ... أو ... اقتليني. وجعلت المنكودة تذرف الدمع، وتقول : ليس عندي يا بني ما أقريك غير العبرات، وكأنما أجهد الكلام الغلام، ورثى له الموت فمد إليه يده.
ألح عليه السقم حتى أحاله
إلى صفرة الجادي عن حمرة الورد
अज्ञात पृष्ठ
وظل على الأيدي تساقط نفسه
ويذوي كما يذوي القضيب من الرند
لقد أنجزت فيه المنايا وعيدها
وأخلفت الآمال ما كان من وعد
لقد قل بين المهد واللحد لبثه
فلم ينس عهد المهد أو ضم في اللحد
1
يا أمل خبا، ورجاء أفل، ونعمى مسلوبة، وعبرة تأسر العبرة، وفرصة قد سرحها الحادث الجلل، وآية أودى بها الموت قبل أن تنصر اليقين. أي أخي قد جرى بك القدر في مزلقه، والقدر مطية شموس إذا أسلسلت أسعدت، وإذا جمحت أهلكت، يا زهرة علها ماء الشباب. أية ريح غدرت بك، ويا قادمة النسر أي عائق عاقك عن بلوغ شأوك إلا بعد ومرماك النائي.
حدث كل هذا والمرأة مطلقة عبراتها، ولا ملجأ للمحزون خير من البكاء، ولولا أن الشقاء كان عقيدها من ليلة زفافها، لفعلت ما لم تفعل، ولأثارت الأصداء من مكامنها، ولطمت ذلك الوجه الواهن الحر، ولكن الحزن يدفع الحزن، كما أن الخط في القرطاس يعفي على الخط ... فتح الباب فجاءة، ودخل منه رجل بادن أحمر العين، غائر الخد، يتصبب العرق من وجهه وثيابه، يتمايل تمايل الغصن اللدن، تهزه الريح الهوجاء.
فلما رأته المرأة أبلدها الخوف قليلا، ثم ارتعشت وكأنما دار بخلدها ما كان يحاوله ذلك الفاقد العقل، فوقفت أمام سرير ابنها، فتقدم نحوها زوجها، وقال: قولي للغلام أخلي الفراش. قالت: إنه لا يسمع ما أقول. قال: أنا أسمعه ولو كان ميتا. قالت: إنه لكذلك، قال: فإني أحييه، فأخلي لي السبيل إليه. قالت: كلا، لا أتنحى ما دام في رمق، فوثب عليها زوجها، ولكنها تماسكت، ودفعته عنها دفعة ألقته على الأرض، فقام مغضبا، ووضع يده في ثيابه، فأخرج منها خنجرا، ثم وثب ثانية عليها، وطعنها في صدرها طعنة دانت بينها وبين الأرض، ثم بادر نحو الفراش، فأخذ الغلام بين يديه، وقذف به ناحية من المكان، ثم ارتمى على السرير.
अज्ञात पृष्ठ
أيها الموت ما أروع طلعتك، وأندى كفك، وأجزل نعمتك، إنك لتسل الضغن من الضلوع، فإذا بطشت بالرجل بطشت بشماتته بالناس، وشماتة الناس به، وبحسده للناس، وحسد الناس له.
أيها الموت كم وامق لك تباعده، وكاره تدانيه، يا أخا الفقر والجهل والظلام بك تم أمر هذه الثلاثة، وازدانت دولتها. أنت مرآة حياة الناس، فيها كالنفس الرقيق، يفزع الناس منك فزع الطفل من وجه الظلام. يسعى الإنسان وأنت تسخر بسعيه وغروره، فلو كنت لا تنزل إلا بمن كرثه الشقاء لتمت فيك رحمة الله.
ولما رأى «إبليس» مني الحزن، قال: هذا معنى الحياة، تجني الأقدار على المجرم، فيجني المجرم على البريء. فقلت: لا تغرر بي فإنك تحاول أن تخدعنا بالشقاء كما تخدعنا بالنعيم، والعاقل من لا يزدهيه تغرير الحوادث.»
طرق الانتحار1
وبينما نحن نمشي في أسواق المدينة، رأينا الناس مزدحمين، فجعلنا نزاحمهم حتى وصلنا إلى وسط الحلقة، فرأينا غلاما ملقى على قضبان الترام، قد مر الترام على ساقه فهشمها، ولكنه لم يزل به رمق من الحياة، فرأينا الناس يرفعون أيديهم إلى رءوسهم، كما ترفع الكلاب أو القردة أذنابها، فسألنا عن الغلام، فقيل لنا: تلميذ سقط في الامتحان، فحاول الانتحار، فصاح «إبليس» في الناس قائلا: يا أبناء الطين والوحل، تتركون الغلام يموت من النزيف، وترفعون أيديكم إلى رءوسكم كأن ذلك دواء للنزيف، وكان خليقا بكم أن تسرعوا إلى طبيب فتأتون به إلى الغلام قبل أن تفيض روحه، فلما سمع الناس ذلك تعوذوا بالله، وانصرفوا وجاء رجال الإسعاف، فحملوا الغلام إلى المستشفى.
وبعد ذلك ركبنا الترام إلى الجزيرة، وجعلنا نمشي على ضفة النيل، ونظرت في الماء فرأيت صورتي فيه، ولكنها صارت كلما نظرت إليها تسخر وتضحك مني. فقلت لإبليس: إني لأنظر إلى صورتي في الماء كأني أنظر إلى مخلوق غيري، بيني وبينه نافذة تطل على دنيا جديدة غير دنيانا هذه، وكأن تلك الصورة في الماء تدعوني إليها، فقال «إبليس»: وما يمنعك من الذهاب إليها؟ هل هناك ميتة خير من ميتة في هذا النيل السعيد الذي يأتي إليكم بالخيرات والأمراض؟ هل هناك ميتة خير من ميتة في هذا النهر المبارك الذي تستمدون منه حياتكم فهو أبوكم وإلهكم؟ هل هناك ميتة تطهر بها نفسك في هذا النهر من أدران الحياة وأقذارها، من لؤم وخسة، ودناءة وقسوة؟
ثم ضحك «إبليس» قليلا وقال: على أني لا أرضى لك تلك الميتة؛ لأن النهر يقذف بجثتك على جانبه فيتصيدها الناس من جوانبه كما يتصيدون الميت من الأسماك، ثم يعرضونها على الطبيب وهم يسدون مناخرهم من عفونتها، فيقطعها الطبيب وهو يغازل إحدى ممرضات المستشفى، ثم يرمي بقطعة منها إلى كلبه وهو يمازحه، فيأنف الكلب أن يأكل منها، ما أقبح تلك الميتة. وسكت قليلا، ثم قال: ما تقول في الانتحار بالكهرباء؟ إنه أحدث طريقة جمعت كل أسباب الراحة، هذا إذا كان التيار عظيم القوة، وهي طريقة حسنة إلا إذا كنت تأنف أن تموت ميتة المجرمين من الأمريكان. وسكت قليلا، ثم قال: وماذا تقول في الانتحار بحمض الفنيك؟ كلا، إن الانتحار بالسم ميتة مثل ميتة الكلب الكلب، ثم إن فعل السم يشوه وجه الحسان المعشقين، ويفسد جمال من تعيدهم الأعين والقلوب.
وسكت قليلا، ثم قال: إلا أن أمثل طريقة من طرق الانتحار هي أن تقتصد بضع جنيهات إذا كنت ممن يرزقهم الله بها، وأن تركب السفينة الذاهبة إلى الشام أو إلى أوروبا، حتى إذا كانت السفينة في عرض البحر العظيم العميق اصعد إلى ظهرها في ليلة الظلام والقمر فيها باعثان من بواعث الجلال، ثم انتظر حتى ينام السامرون، وارم بنفسك في أحضان اليم العظيم، فإنك تأمن بذلك أن يعبث الناس بجثتك بعد موتك، وماذا عليك لو أكلتك الأسماك؟ أليست الأسماك أشرف من الدود؟ ولئن تأكلك الأسماك خير من أن تأكلك الديدان.
ثم إن في هذه الميتة فضيلة أخرى، وهي أنك إذا كان لك في الأرض قبر لم تسلم من الناس، ولا من وطء أقدامهم النجسة، ولا من لؤمهم. أما في هذه الميتة فأنت بعيد عن الناس، وقسوتهم، وخستهم، وأقدامهم، وأصواتهم. فقلت لإبليس : حسبك حسبك، فقد - والله - حببت إلي هذه الميتة، ولو لم يكن فيها من الفضيلة إلا البعد عن الناس لكفاها ذلك فضلا. وليس الذي يؤلمني من الموت وقعه، ولا ما يخشى المرء أن يلاقيه بعده، وإنما يؤلمني أن يصير المرء جثة تقلبها الأكف، ويغسلونها بالماء كي يطهروها من الأدناس. وهم لو غسلوها بالمحيطات الخمسة لما طهروها من دنسها، وكيف يكون الميت طاهرا أو الموت مصدر الدنس؟
فيا ليت أن المرء إذا مات رفع إلى السماء أو اختفى جسمه، وصار لا يرى إلا كما نرى الهواء، كي تصان جثته عن الغسل، والتكفين، والنواح، والحمل على الأعناق، ولو لم يكن في الموت غير ذلك لكان الموت قبيحا، أو ليت أن المرء يموت بضع أيام كي يجرب الموت، ويعلم ما بعده، ثم يرجع إلى الحياة.
अज्ञात पृष्ठ
وفي أثناء هذا الحديث كانت الشمس توجه أشعتها إلينا فتنفذ حرارتها إلى مجرى الدم في العروق، فالتفت إلى «إبليس» وقلت: انظر إلى البون العظيم الذي بين أن تسطع الشمس على الحياة والأحياء، وأن تسطع على الموت والأموات. فهي إذا سطعت على الأحياء من الناس بعثت فيهم حرارتها من العواطف ما تتحمل به الحياة، وإذا سطعت على الزهر بعثت فيه من بواعث الحياة ما تبعثه في صدر الإنسان.
فضحك «إبليس» ساخرا، وقال: ويحك ألست ترى سطوع الشمس على الأحياء مثل سطوعها على الأموات؟ أليست حرارة الشمس تولد الشهوات وغيرها من عوامل الشر في صدور الأحياء، كما أنها تولد الديدان في جثث الأموات، والديدان في جثث الأموات مثل الشهوات في قلوب الأحياء؟
ثم رأيت طفلا على وجهه نقاب من القذارة توسد الأرض، وصار يضرب بعصاه على قطعة من الخشب، فقلت: انقر على دفك فإن في عمرك فسحة لمعاناة آلام الحياة، والموت، والتفكير فيهما، فضحك «إبليس» وقال: أنا الكفيل له بذلك.
الجحيم
زرت «إبليس» مرة في الجحيم، وطلبت منه أن يريني بعض أنواع العذاب في جحيمه، فبرقت عيناه بريق القسوة، وأخذ بيدي وقال: تعال انظر إلى بني جلدتك يعذبون، ولكنك ربما خشيت على جلدتك ما تراهم فيه من العذاب. فقلت له: هون عليك، فإني أعتقد أنك أنت وزبانيتك وجحيمك الذي أراه حلم فظيع، وسأفيق منه يوما، ثم أهزأ به. فقهقه.
ثم سرنا حتى وصلنا إلى ضرام عظيم عليه قدور كبيرة، وفي كل قدر امرأة أو رجل يعذب، وقد سلخ الماء جلده، وهرى لحمه، حتى سال دمه وشحمه، وبدت عظامه، وكانت صرخاته ينفطر لهولها القلب، وعلى كل قدر عفريت، فأتم يقلب الرجل بسيخ في يده، كلما نضج جانب من جوانبه أدار جانبه الآخر. فقلت لإبليس: متى ينتهي عذاب هؤلاء؟ قال: لا ينتهي أبدا، وكلما نضجت جلودهم ولحومهم أعيدت لهم جلود ولحوم.
ثم سرنا حتى رأينا رجالا مصلوبين على قوائم من الحديد الملتهب، وحول كل رجل عدد من الزبانية في يد كل عفريت منهم قضيب من الحديد الملتهب، وهم يضربون الرجال حتى تتهرى لحومهم، فتعاد لهم لحوم. ثم سرنا حتى وصلنا إلى بركة فيها النار السائلة، وفيها النساء والرجال يعومون، حتى إذا وصلوا إلى حافة البركة. ثم سرنا حتى وصلنا إلى تماثيل من النار، فيها يعذب المعذبون. ثم سرنا حتى بلغنا ساحة فيها كثير من المعذبين يقطع الزبانية من لحومهم، ويطعمونهم ما يقطعون، ويجمعون دموعهم في أوعية، ويسقونهم منها، ممزوجة بماء النار.
وفي مكان آخر وجدنا أناسا في أقفاص ضيقة من الحديد، والزبانية يتفكهون بتعذيبهم، فيطعنونهم بسيوف من نار، ويصبون عليهم ماء النار. ثم سرنا حتى وصلنا ساحة واسعة في وسطها أناس يسقط عليهم من السماء ذر كثير ناري يغطيهم جميعا، فيحترقون، ثم تعاد لحومهم، ويفعل بهم كذلك إلى الأبد.
ثم تحولنا إلى ناحية من نواحي الجحيم، حيث يعذب المعذبون بالأمراض، يسلط الله عليهم السل والوباء والزهري واليرقان والسوداء والبرص والحمى وغيرها من الأمراض، تجتمع على كل منهم حتى يتهرى لحمه. وقد رأينا هؤلاء المعذبين مطروحين في أماكنهم، كأنهم جثث عفنة تتصاعد منهم رائحة كريهة، فسددت أنفي كي لا أقيء من خبث تلك الرائحة. ثم سرنا إلى مكان يعذب فيه المعذبون بالحشرات، وهو مكان كالجب المنخفض، وفيه العقارب والثعابين أشكالا وأنواعا، وفيه البق والدود والبراغيث والقمل والصراصير والخنافس والفيران، وفيه كثير من الحشرات التي لم نسمع عنها في الدنيا، تأكل أجسام المعذبين أكلا. وقد اختلطت هذه الحشرات بلحومهم حتى تكاد لا تميز بين المعذبين وبين الحشرات التي يعذبون بها.
ثم سرنا إلى مكان آخر يعذب فيه المعذبون بالخوازيق، فيأتي الزبانية بالتعس المجرم، ويجلسونه على خازوق حاد رفيع فينفذ منه، ويخرج من رأسه، ثم تعاد له الحياة والصحة، ويفعلون به ذلك إلى الأبد. ثم رأينا جماعة من الناس يعذبون بآلة يوضعون فيها، وتربط بها أيديهم وأرجلهم، ثم يدير الزبانية تلك الآلة فتتفكك أعضاؤهم، وهم يصرخون صراخ المجانين من شدة الألم.
अज्ञात पृष्ठ
ثم سرنا بعد ذلك إلى مكان آخر يعذب فيه المعذبون بالسم فيسقون سما ملتهبا يقطع أحشاءهم، ويفتك بقلوبهم وأمعائهم ورئاتهم، فيتصبب العرق من أبدانهم، وهم يتلوون من الألم كما تتلوى الديدان. ثم تركناهم وسرنا إلى مكان آخر يعذب فيه المعذبون بالجنون، فيعطى الواحد منهم شربة يشربها فيجن، ثم يؤتى إليه بولده المعذب مثله، فيخنقه الأب المجنون ويأكل منه، ثم تعطى له شربة أخرى فيفيق من جنونه، ويرى ما فعل بابنه فيصيح كالمجنون، ويضرب رأسه بحيطان الجحيم، وينتف شعره، ويعض نفسه حتى يتهرى لحمه من العض، ودموعه تسيل على جسمه، ثم تعاد الحياة لابنه، ويسقى الابن شربة الجنون، فيفعل بأبيه ما فعل أبوه به.
فلما رأيت هذا العذاب اشتد بي الألم والوجل، وسقم قلبي منه، وكانت الزبانية كالوحوش المفترسة، يقطعون أجسام المعذبين، ويأكلون منها، ثم يقرضون أسنانهم، ويلحسون الدماء التي لوثت شفاههم، ثم يضحكون ضحكة الظفر والجذل، وكأن هذا الجحيم أربعة أشياء جمعت في مكان واحد، مارستان كبير، وميدان حرب، وحريق هائل، وحمام ساخن.
وكان في الجحيم أنواع كثيرة من العذاب غير ما ذكرت. منها العذاب بالصواعق الدائمة، والعذاب بالزلازل والبراكين؛ إذ يرمى بالمعذبين في جوف البركان. ومنها العذاب بالحيوانات المفترسة مثل الأسود وغيرها، إذ يجعل المعذبون فريسة لها. ومنها العذاب بالثلج والبرد الشديد. ومنها العذاب بالجوع والظمأ. ومنها تعذيب المعذب بأن يدفن حيا. ومنها التعذيب بالسهام المسمومة.
ولما أظهرت لإبليس اشمئزازي، وشدة امتعاضي من تفننه في أنواع العذاب، قال: أما علمت أن الجحيم مطهى يطبخ فيه طعام الأبالسة؟ فأنكرت على إبليس أن يكون ذلك صحيحا، فسار بي إلى تنور عظيم، ورأيت الزبانية يجيئون بفتيات وفتيان من المعذبين عراة، وهم أنعم الناس جلدا، وأرقهم لحما، وأجملهم جسما. فقلت: ماذا تصنعون بهؤلاء؟ قال: إننا نصنع غذاء. ثم نادى «إبليس» أحد الزبانية، وقال لي: هذا هو الطاهي، ثم سأله أي أجزاء هؤلاء الحسان نستلذ أكله؟ قال: الصدر لنعومته ولينه، ونحن نصنع منه أصنافا كثيرة. وهو غذاء المقربين من أهل النار، أما الرأس والأكارع فإنها غذاء الأصاغر.
فلما رأى إبليس تعجبي وإنكاري، قال: لم تتعجب؟ ألست ترى السواد الأعظم من الناس يعيشون في الدنيا تعساء، يعملون ويشقون نهارهم وليلهم، ثم يكاد أحدهم لا يصيب الكفاف، وإنما هم يسخرون كالحيوانات العجم، كي تسعد الأغنياء بثمار عملهم، فكما أن الأغنياء في الدنيا يأكلون لحوم الفقراء، ويشربون دماءهم، كذلك في الآخرة تنضج لحوم السواد الأعظم من الناس في الجحيم، كي يستلذ المقربون أكلها.
وأنت ماذا يروعك من أنواع العذاب التي رأيتها في الجحيم؟ إنها كلها مأخوذة من دنياكم، وكل فرد منكم معرض لأن يعذب في الدنيا بشيء منها. ألستم تعذبون بالسم والجنون والتقطيع والتمثيل وبالخوازيق وبالحيوانات المفترسة وبالزلازل والبراكين وبالنار والجليد وبالسهام والسيوف وبالقنابل وبالأمراض والحشرات وبالجوع والظمأ وغيرها من أنواع العذاب؟
وليست دنياكم إلا جحيما كبيرا، فلا يعيش في الدنيا إلا من أجرم وأفسد في حياة قبل الحياة الدنيا، وإنما عيشته في الدنيا تكفير عن سيئاته التي أتاها في حياته الأولى. أما من أحسن عملا في تلك الحياة الأولى، فإنه يعيش في عالم آخر غير عالمكم.
اختراع التقبيل1
يا رعى الله من اخترع التقبيل، فإنه قصيدة من قصائد النسيب، وآلة من آلاته، ونغمة من نغماته. حدثني فيلسوف قال : إن «آدم» هو أول من اخترع التقبيل. قال: زعموا أن آدم وحواء ذهبا إلى شجرة من شجر توت الجنة، وجعلا يأكلان من ثمرها، حتى سال رضابهما، وامتزج بماء الثمر الذي أكلاه، فأعطاه ماء الثمر من حلاوته، فبينما يأكلان لمست شفة «آدم» شفة «حواء» عن غير قصد، فراقتهما تلك اللمسة المعسولة بعصير الثمر، فكانا كلما أرادا أن يراجعا لذتها ذهبا إلى شجرة التوت - يا ليتهما لم يذهبا بعد ذلك إلى الشجرة المحرمة - وبللا شفتيهما بعصير ثمرها، ثم حك أحدهما بشفة الآخر.
وجاءت «حواء» إلى «آدم» يوما، وقالت له: يا «آدم» إنك قد اخترعت نوعا آخر من أنواعه، قال «آدم»: وما هو؟ قالت: هو التقبيل بإطباق الشفاه. قال «آدم» أجدت يا «حواء»، ولكن لا غرو، فأنت أم النساء. وزعموا أن الحلاوة التي نذوقها إذا قبل أحدنا عشيقته هي بقية جاءتنا من سبيل الوراثة، من حلاوة ثمر توت الجنة الذي بلل «آدم» و«حواء» شفتيهما بعصيره.
अज्ञात पृष्ठ
والقبل غذاء العاشق والشاعر. فهو إذا قبل حبيبته كانت روحه فوق شفته وطي أنفاسه، فإذا تصافحت الشفاه تصافحت الأنفس. إنك لتشرئب بعنقك عند التقبيل، فتشرئب نفسك حتى تطل على حبيبك من عينك وفمك، فإن العين والفم بابان تطل منهما النفس على مرأى صالح، ومعتنق طيب.
أيام الشباب وأيام التصابي من لي بتلك القبل البطيئة التي تضرم النفس، وتشعل العين، وتوقد الخيال. أيام الشباب وأيام التصابي لكانت تلك القبل عقدا في جيدك، ورونقا غضا في ريعان الحياة. أيام الشباب أنت فجر الحياة، فيك تغني القبل بصوتها الغريد، كما تغني الأطيار في فجر النهار، وفيك تينع القبل في روض الشفاه، كما تينع الأثمار والأزهار في الروض. أيام الشباب أنت عنوان الحياة، فيك يقرأ القارئ آية الحب، وآية العمر.
إن في القبل من بيان المنطق وفصاحة القول ما يعجز «برك» و«ششرو». ومن بلاغة التعبير وشرف الخيال ما يزري بشكسبير و«ابن الرومي» و«المتنبي». والقبل شتى المعاني، فإن للحب قبلة، وللشهوة وللحسد والحقد قبلة، وللإشفاق والرحمة قبلة، وللحزن قبلة ، وللذل قبلة، وللجبن قبلة، فغلام يقبل أمه، وعاشق يقبل عشيقته، وماجن يقبل هلوكا، وامرأة تقبل شريكتها في بعلها، وأخت تقبل أختا لها قد أضر بها الحب، وزوج يقبل قبر زوجته، وذليل يقبل يد السلطان أو قدمه أو التراب الذي تحتها، وعابد من العامة يقبل أرض ضريح ولي من الأولياء.
إذا رأيت امرأة تقبل امرأة أخرى، فاعلم أنها تحبها حبا صادقا، أو أنها تكرهها كرها شديدا، ولكن من النساء من تقبل صاحباتها إذا علمت أنهن يعرفن سرا من أسرارها. والتقبيل هو لغة النساء، فكأنها تقول لهن في تلك القبل يا صاحباتي لقد علمتن أني أحب فلانا. والقبل إشارة لا يعرف سرها مثل النساء، كما لا يعرف سر إشارة الماسونية مثل الماسونيين.
حدثني «إبليس» قال: أتريد أن أقص عليك كيف استكشفت القبل؟ قلت: افعل، قال: إني لما أغريت «حواء» بأن تأكل ثمر الشجرة المحرمة، جاءت بآدم، وجعلت تغريه بأن يأكل من ثمرها وهو يتمنع، فاقتربت منه وهي تكلمه، فلمست شفتها شفة «آدم» عن غير قصد، فوجد «آدم» في شفة «حواء» حلاوة، فقال لها: ما هذه الحلاوة؟ قالت: إنها حلاوة ثمر الشجرة المحرمة، فضم «آدم» «حواء» إليه، ووضع فمه على فمها، ثم قال: ما ألذ هذه الحلاوة المحرمة؟ هكذا اخترع التقبيل. فلما التذ آدم حلاوة الثمر المحرم ذهب إلى الشجرة المحرمة، وجعل يأكل منها، فكان ذلك التقبيل سبب سقوطه وعصيانه الله، وخروجه من الجنة، وشقائكم بخروج جدكم منها.
فالقبل هي عقاربي. وكلما التقى عند التقبيل فم بفم، حدثت شرارة هي من شرار جهنم، وإن ذلك النور الذي تشعله القبل في عيون العاشقين ليس من نور الجنة، ولكنه من نور الجحيم. والناس تقول: إن اللحاظ من أعمالها تغليب الإرادة على الإرادة، ولكن عمل القبل أشد، وهي خير سلاح تحارب به عدوك الجميل، وماذا على الأمم لو جعلت القبل سلاحها في حروبها، بدل المدفع والديناميت، فيأتي الملكان المتغاضبان، ثم يقبل الواحد منها الآخر حتى ينهزم أحدهما.
أيام الهدنة
توجد أيام يسميها الشياطين أيام الهدنة؛ لأنهم يتهادنون، فليس بينهم وبين الناس عداء، يجتمعون فيها، ويشرب أحدهم في صحة أخيه من الجعة، فهم يفضلون الجعة على غيرها من المشروب. ولا غرابة في تفضيلهم الجعة؛ لأنهم يبتردون بها من حر الجحيم. فمن أجل ذلك لا يريدون أن يجمعوا على أنفسهم حرارة الجحيم، وحرارة «الوسكي أو الكنياك».
ذهبت مع «إبليس» مرة إلى حانة يأتي إليها الشياطين كي يشربوا الجعة، ويقصون القصص والحكايات. وفي أثناء ذلك يتفكهون بالنوادر الهزلية، ويضحكون كأن لم تكن بينهم وبين الناس عداوة. وكانت هذه الحانة تسمى حانة إخوان الصفاء، فلما جلسنا وجلس إلينا كثيرون من الشياطين، جعلوا يقصون أخبار السماء والأرض، فالتفت «إبليس» إلي وقال: سمعت أحد الملائكة يقول لحافظ من الحافظين، وهو الملك الذي يحصي ذنوب الناس: ما لي أراك منتوف الجناحين؟ قال: الملك عافاك الله من الناس، فإني أستخدم ريش جناحي - كما تعلم - في كتابة ذنوبهم، وقد تكاثرت علي ذنوبهم حتى برت ريش جناحي وأتلفته، وأنا كلما تلفت ريشة من كثرة الكتابة، نتفت من جناحي ريشة أخرى، حتى نفد ريشي، ولم تنقد ذنوب الناس.
1
अज्ञात पृष्ठ
فضحك «إبليس» وقال: إذا شاء تصدقت عليه ببضع ريشات من جناحي، فطلبت أنا من إبليس أن يعطيني ريشة من جناحه أدخرها وأذكره بها، فأعطاني ريشة من جناحه، وهي محفوظة عندي. ومن شاء من القراء أن يرى كيف يكون ريش إبليس، فليخابرني وهي التي أكتب بها هذا الحديث.
قال إبليس: إني لأذكر أن الكواكب كانت تسمع غناء الملائكة فيطربها، ويعينها على الدوران، كما أن النياق تسمع حداء الحادي فيطربها، ويعينها على الأسفار، فهي في سيرها تنصت إلى الغزل الرقيق الذي تحدوها به الملائكة مثل غزل «العباس بن الأحنف»، أو «قيس بن الملوح» أو «برنز»، أو «شلي»، ولكنها تأنف من سماع الشعر البارد الثقيل، فقد غناها أحد الملائكة مرة بقطعة من الشعر المرذول، فضجت الكواكب، ووضعت أصابعها في آذانها، وجعلت تستغيث وتقول: إن عدتم إلى مثل هذا الشعر اختل نظام الكون.
وبعد أن شربنا من الجعة ما فيه الكفاية، وتركنا حانة إخوان الصفاء، وجعلنا نمشي في الأزقة. وبينا نمشي إذ زلقت قدم أحد المارة فسقط ، فقال وهو لا يعرف أن «إبليس» من المارين: اخسأ اخسأ فهذه من فعلاتك يا «إبليس»، فالتفت إلي «إبليس»، ثم قال: إنه لا يغيظني من المرء شيء مثل غروره وبلادته، فإذا زلقت قدم أحدكم، حسب أن ذلك من فعلاتي، وإذا عطس حسب أني سددت منخره، وإذا تثاءب حسب أني دخلت فمه، كأني ليس لي عمل في هذا الوجود الضخم سوى أن أسد مناخر الناس القذرة، أو أن أدخل إلى أفواههم النجسة، أو أن أتشبث بأقدامهم. ولو علم هذا الثقيل أني أمد يدي إلى السماء فأغمرها في الأثير الأعلى، وأمد رجلي في باطن الأرض فأدفئها بالنار المشبوبة عند مركز الكرة الأرضية، لما نسب إلي أفعال الصبيان.
ولقد جعلت أنا وشيطان آخر نلج بيوت الصالحين المتقين من الناس، فدخلنا منزل الشيخ فلان، وهو رجل من أهل التقوى والصلاح، فوجدناه يتغذى مع امرأته وهي تقول له: يا حسرة وألف حسرة ماذا أجداك ورعك وزهدك وقيامك الليل، ولو بذلت من جهدك في تكميل حياتك بلذاتها بعض ما تبذله في الصلاة والأوراد، لكنت أحب إلى الله وأقرب إليه، فقال: اسكتي يا فلانة، هل حياة خير من حياة تخدمنا فيها الملائكة؟ أما والله إن تحت هذا الخوان لملائكة على رءوسهم، فقلت: والله لا نكذب العبد الصالح، ثم قبعنا وجعلنا نمشي مثل القطط، حتى صرنا تحت الخوان، وحملناه على رأسينا حتى دميا، ثم كشف عن رأسه، فرأيت فيه دملا في حجم البعرة، فقال: هذا من آثار خوان العبد الصالح. قص «إبليس» هذه القصة، ثم ضحك حتى استلقى على قفاه من شدة الضحك.
ثياب الكائنات
حدثني «إبليس» قال: الإنسان حيوان جليل، قيل إنه يمتاز عن غيره من الحيوانات بالضحك، ولكن الباحثين قد وجدوا أن من الحيوانات ما يضحك. وقد أخبرني صديق لا أثق بحديثه أنه رأى بقرة تبسم له، وتغمزه بطرفها، وقيل إن الإنسان يفضل الحيوانات بشرب الخمر، ولكنهم وجدوا أن الخيل تشرب النبيذ وتستلذه ، وقيل إن الإنسان يفضل الحيوانات بلبس الثياب، ولكنا نجد القرود يصنع لها أصحابها الثياب فتأنس بها، وتعجب بها كما يعجب المرء بثيابه، وتزهى بها كما يزهى بلباسه.
على أن المرء لم يلبس الثياب إلا بعد أن أتقن النفاق، فلبس الثياب وادعى أنه لبسها كي تقيه من الحر والبرد. والصواب أنه لبسها كي تخفي قبح جسمه. ومن أجل ذلك ترى المرء إذا عظم جماله خفف من ثيابه، والدليل على ذلك ثياب النساء الرقيقة التي إنما صنعت لتظهر رقة أجسامهن، ودليل على ذلك أيضا ما كان يفعله «إسكندر المقدوني»، فإنه كان يتعرى أمام أصحابه، كي يريهم جسمه الجميل، ويوهمهم أنه من أبناء الآلهة.
إذا بحثت وجدت أن أكثر الناس ولعا بحمامات البحر هم الذين رزقهم الله شيئا من الجمال، وقد تمر بالمرء ساعات يتذكر فيها أيام العري في أول الخليقة، أيام كان المرء عاريا من حلل الحياء الحميد، كما كان عاريا من حلل النفاق الذميم.
ويقال إن سبب اتخاذ الناس الثياب أن الحيوانات في أول الخليقة لما رأت نعومة النساء صارت تتعشقها، وتنظم فيها الغزل والنسيب، فلما رأى الإنسان ذلك لبس الثياب كي يخفي عن الحيوانات جسمه، ألم يجل بخاطرك أننا أيضا ثياب للعوامل والخواطر والآراء التي تتنازعنا؟ وهذه الآراء أليست لباس الحق والباطل؟ وهذه العوامل أليست لباس الخير والشر؟ فهل الحق والخير والباطل والشر من قماش واحد ينسجه الزمن على منسج الأيام والليالي؟ أم هي أقمشة شتى؟ وما هو الزمن؟ هل هو لباس أيضا؟ والمادة أهي لباس القوة؟ والقوة أهي لباس أيضا؟ أم ما هي؟ أهذا الوجود كله ثياب تحتها ثياب وفوقها ثياب؟ ومن الذي جعل المرء قادرا على الرغبة في رؤية الحقيقة التي في ثياب الكائنات؟ وما هي القوة التي يحاول بها معرفة حقيقة الحقائق التي تضمرها ثياب الكائنات؟ هل هناك حقيقة تحت هذه الثياب؟ أم الكائنات ثياب ليس وراءها حقيقة كالثياب التي يضعها الغلام بعضها فوق بعض كي يخيف بها أخاه الصغير؟ فإذا كان الأمر كذلك، ما الذي يلج إلى روح المرء، ويجعله قادرا على تخيل حقيقة ثياب الكائنات؟ أليست الحقيقة التي ينشدها هي التي تغريه بتلمس تلك الحقيقة؟
دولة البغال
अज्ञात पृष्ठ