وجاء الطموح والفتوح بنظام جديد في توزيع الثروة، فاختل النظام القديم وتصدعت أركان البناء العريق، وكل اختلال فلا مناص فيه من شكاية وقلق واستياء.
وغلا الناس في الطموح فعرض لهم ما يعرض لكل غلو في الرجاء من خيبة وصدمة، واتهام للواقع وطلب للتبدل.
فكان الطموح في عنفوانه، وكانت هذه العوامل الكامنة في بدايتها، ولكنها لم تحتجب عن بديهة الشعر والحكمة في زمانها، فتراءت في وساوس هملت ونقمة تيمون، ويأس لير كما تخيلها شكسبير، وتراءت في تلميح باكون إلى القلاقل والثورات خلال مقالاته، وفي أطواء صفحاته التاريخية.
وجملة ما يقال عنه أنه كان عصرا لا يوجد في عصور التاريخ ما هو أولى منه بتخريج باكون؛ لأننا نلمس مراجع العصر في أخلاقه كما نلمسها في أفكاره وكتبه، فهو عصر يصدف عن علم النظر والعزلة، ويقبل على علم المزاولة والقوة، ويأنف من التسليم بكل شيء، ويتشوف إلى تجربة كل شيء والتذوق من كل شيء، ويركب كل مركب في سبيل الكشف والاستطلاع، ويستسهل كل عسير في سبيل المال والمتاع، وكذلك كان باكون الذي جرب العلم والحياة، واستباح في سبيل المال والمنصب ما لا يباح.
نشأة باكون
كان عصر الرشد - عصر باكون - عاملا مهما في توجيه سيرته وإخراج فلسفته، ولكنه لم يكن بالعامل الوحيد في هذا ولا ذاك، بل أعانه على الأقل عاملان آخران: بنيته وبيته ...
فلم يكن الرجل قط من أصحاب الخلق الوثيق والبنيان الركين، سواء في صباه أو بعد صباه، ولم يتفق له ما اتفق لكثيرين غيره من تصحيح بنيتهم بعد الشعور بالهزال، أو التوعك في إبان الشباب.
وكانت أمه تحذر أخاه الأكبر - أنتوني - أن يحذو في معيشته حذو أخيه الأصغر، وتوصيه أن يذهب إلى الصلاة مرتين كل يوم، ولا يقتدي بأخيه الذي يهمل هذا الجانب ولا يقوم بفرائضه، وتقول: إنها تحسب ضعف الهضم عنده آتيا من اختلال مواعيده واضطراب عاداته، وذهابه مبكرا إلى الفراش ثم سهره على التفكير والقراءة، ثم بقائه في فراشه طويلا بعد تيقظ الناس في الصباح.
وإذا ضعفت البنية واشتد الطموح، وتفوق الذكاء فالطريق مرسوم: طريق الظهور في ميدان الفكر الهادئ، والحيلة الوادعة، والمناصب السلسة المؤاتية، لا طريق المغامرات العنيفة، والشهوات الجامحة والصراع المرهوب.
ويبدو من سيرة باكون أن ضعف بنيته قد تناول شهوات جسده، فملكها ولم تملكه، وعاش حياته كلها ولم تغلبه قط نزوة من نزوات الشباب، أو دسيسة من دسائس الهوى في الكهولة والشيخوخة، وتوجه به عصر المتاع بالحياة إلى ناحية من نواحي هذا المتاع لا يعوقها ضعف البنية، وهي ناحية الوجاهة والبذخ والرئاسة المرموقة بالأنظار. وربما كان مصيبا حين وصف نفسه في أوائل شبابه، فقال من خطابه إلى رئيس الوزراء: «إنني أعترف بأنني على قدر اتساع مطامعي الفكرية تعتدل بي مطامعي المدنية.» ويقصد بها ما نسميه اليوم بالمطامع السياسية والمظاهر الاجتماعية.
अज्ञात पृष्ठ