أما العامل الآخر وهو بيته فأثره في حياته كبير طويل الأمد، سواء بالوراثة أو بالتلقين والاختبار.
ولد بلندن في أوائل سنة 1561، في بيت من بيوت الرئاسة من جانبي أبيه وأمه، فكان أبوه السير نيقولاس باكون حامل أختام الملكة في عهد اليصابات، وكانت أمه بنت السير أنتوني كوك الذي كان مربيا لإدوارد السادس، وركنا من أركان الإصلاح الديني في زمانه، وكانت سيدة مثقفة تحسن اللاتينية واليونانية، وتتشيع لمذهب كلڨن وتغلو في التشبث بآراء المتطهرين والمتنطسين، الذين يمقتون التيسير والسماحة في مسائل الدين.
فكان تأثير هذه النشأة الدينية مزدوجا في سيرة باكون وتفكيره: بعضه في اتجاه بيته وبعضه مناقض لهذا الاتجاه.
فالبحث في مسائل الدين وحقائق الإيمان، وأصول الجزاء والثواب كانت بابا مطروقا - بطبيعة الحال - في ذلك البيت خلال تلك الفترة، التي كثرت فيها المنازعات بين النحل والمذاهب الدينية، فنشأ باكون في صباه معود الذهن على البحث في هذه الأمور وما يتصل بها ويجري في مجراها.
وكان الغلو في التنطس بقية من بقايا عصر مضى، لا تطرد مع النزعة الغالبة في عصر الطموح والاستطلاع والتهافت على المال والمتاع، فلم يكن لهذا التنطس البيتي ثبات في وجه العصر وجمحاته ودواعيه، ولعله كان من شأنه أن يضاعف الاندفاع مع العصر في كل ما يقتضيه من غواية، وكل ما تتسع له القدرة والمزاج من مجاراة.
وكتب على باكون أن يتلقى أثرا آخر من بيته وذوي قرباه، يخيل إلينا أنه أبلغ الآثار المكسوبة في توجيه أخلاقه، وإبراز كوامنه وتغليب أطوار مزاجه، فإنه لقي العقبة الكبرى، بل العقبات الكبار جميعا من ذوي قرباه، فكانت الوزارة في أيديهم والبلاط رهنا بمشورتهم، أو غير معرض عن توسلهم ورجائهم، وكان للناشئ باكون أن يطمع بحق في معاونتهم وكلاءتهم، ويصعد إلى أرفع المراتب بأعينهم وعلى أيديهم، ولكنهم صدموه في آماله ولم يزالوا يصدمونه من عنفوان صباه إلى أن شارف الكهولة، وبلغ من مناوأتهم إياه أنهم كانوا لا يساعدونه، ولا يتركون غيرهم يساعده بما يستطيع، فوقفوا له بالمرصاد كأنهم ألد الأعداء، وشوهوا عقيدته في الناس، وفي استقامة الأخلاق من حيث يشعر ولا يشعر، ومن حيث يشعرون ولا يشعرون.
أرسل فرنسيس إلى كامبردج وهو في الثانية عشرة من عمره، وكان يتردد على أبيه في البلاط، فكانت الملكة تداعبه كلما رأته وتدعوه باسم «حامل أختامها الصغير»، فكان ذلك مما يملي له في الثقة بالارتقاء إلى أرفع المناصب يوم يحين أوانها، وقد لاح له في بادئ الأمر أنه جد قريب.
ففي السادسة عشرة ترقى في سلك طلاب العلم إلى طبقة الراشدين أو الأقدمين، كما كانوا يسمونهم في ذلك الحين، وفتح له أول باب من أبواب المناصب، أو أبواب العلم السياسي الذي يتزودون به يومئذ لتلك المناصب، فذهب إلى باريس في صحبة السير أمياس پوليت
Amyas paulet
سفير إنجلترا لدى البلاط الفرنسي، وتنقل بين المدن الفرنسية تنقل الدارس المستفيد، ومضت عليه قرابة ثلاث سنوات وهو يتهيأ ويتحفز للترقي في مناصب الدولة بمعونة أبيه، ولكنه فوجئ بموته وهو على أشد ما يكون ثقة بمعونته وحاجة إلى الاعتماد عليه، فمات أبوه سنة 1579 وهو في الثامنة عشرة من عمره، وعوجل بالموت قبل أن ينجز لولده ما كان يفكر فيه من أمر توظيفه وأمر ميراثه، فقد كان في نيته أن يوصي له بضيعة تغنيه أو تكفيه، وتتيح له أن يظهر بين أقرانه بالمظهر الذي يرضيه. فأصبح فرنسيس بعد موته خلوا من الوظيفة المأمولة وخلوا من الميراث الموعود، إلا القليل الذي يقع من نصيب الولد الثاني في بلاد الإنجليز.
अज्ञात पृष्ठ