रास्ते में
في الطريق
शैलियों
ويظهر أنى كنت أكلم نفسى فى الطريق بصوت عال، فقد استوقفنى قريب لى وقال لى: «مالك.. ماذا جرى»؟
قلت له مستغربا: «نعم.. ماذا جرى»؟
وتجهمت له فقال: «من الذى تشتمه وتسبه هذا السب القبيح»؟
فأفقت وارتد إلى عقلى.. وكان قريبى هذا له نسيب عندنا له بقية من مال قليل استودعناه إياه ليجريه مع ماله فى تجارته، فقلت له: «يا أخى هذا الطبيب الذى أرسلتمونى إليه يقول لى: إنه لا دواء لى إلا أن أذهب إلى لبنان، وأنه لا أمل لى فى الشفاء بغير ذلك.. ولا أدرى ما أصنع، فقد ذهب أكثر نصيبى فى نفقات التعليم والباقى لا يكفى للسفر إلى الشام. ولست أحب أن أجور على نصيب أمى وأخى وإن كان من السهل رد ما أقترض بعد أن أقبض مرتبى من وظيفتى.. وعلى ذكر ذلك، أقول لك إنى عينت مدرسا فى المدرسة السعيدية الثانوية».
وكان الذى أخطر الشام على بالى فى هذه اللحظة، أن لى صديقا أصابه صداع ملح أعيا الأطباء شهورا.. فبعثوا به إلى لبنان فاستراح من آلامه، وكتب إلى من هناك يصف لى جمال البلاد ويدعونى إلى اللحاق به.
وكان لابد من موافقة أمى على الاستدانة من نصيبها أو نصيب أخى من هذه البقية الباقية من المال القليل، وكانت - رحمها الله - قوية ذكية، ولم أكن أجرؤ أن أكذب عليها.. ولو أنها كانت سألتنى لما وسعنى إلا أن أحدثها بما دار نفسى من أساليب الاحتيال عليها - لا خوفا منها، بل لأنها عودتنى أن أصدقها وألا يكون جزائى على الصدق إلا الخير. غير أنها لم تسألنى شيئا بل وافقت وقالت: «اقتراح حسن.. اذهب إلى ... خذ منه ما يكفيك».
ولو كنت ذكيا لأدركت أن فى الأمر سرا، وأن وراء هذه الموافقة السريعة التى لم أكن أتوقعها تدبيرا خفيا.. ولتذكرت أنها كانت تحبنى حتى كانت لا تستطيع أن تفارقنى يوما واحدا فكيف بشهر أو شهرين؟ ولكن خفة الشباب صرفتنى عن النظر فى شىء من هذا ، فصدقت وذهبت إلى الرجل فقال: «ليس معى الآن إلا خمسة جنيهات فخذها، ولولا أنى مريض لخرجت معك لأجيئك بكل ما تحتاج إليه.. ولكن بضعة أيام لا تقدم ولا تؤخر».
فخرجت مغتبطا فما كنت رأيت قط قبل ذلك اليوم خمسة جنيهات - ذهبا - فى كفى أصنع بها ما أشاء ولا أسأل عنها. وأنسانى الفرح أن كونى لا أسأل عن هذه الجنيهات ماذا صنعت بها هو التدبير الذى لجأت إليه أمى اعتمادا على ما تعرف من تبذيرى وإسرافى اللذين أعياها علاجهما.
ومضت أيام ثلاثة نقصت الجنيهات التى معى بعددها، فقد أبقيتها فى جيبى.. فطارت واحدا بعد واحد كأن لها أجنحة، فعدت إلى صاحبنا وقلت له أنى أريد بقية المبلغ اللازم لأنى أخشى الضياع على كل ما يعطينى.. فأبدى الاستغراب وسألنى عما بقى معى من الجنيهات الخمسة، فقلت لم يبق إلا اثنان فقط.. فهز رأسه ولم يقل شيئا وناولنى خمسة أخرى وقال: «إلى أن أشفى».
فكبرت فى عين نفسى، فقد كنت فرحت بخمسة وأحسست أنى رجل عظيم.. فكيف وقد صار معى سبعة لا خمسة فقط.. ولم أعد فى تلك الليلة إلى البيت إلا قبل الفجر متسللا، فألفيت أمى قاعدة تدخن وتنتظرنى، ولكنها لم تقل شيئا واكتفت بالنظر والابتسام. ولو كنت ذكيا لاستغربت أن تبتسم لابنها الذى لا يكاد يقوى على الوقوف على قدميه - لا من السكر فما كنت سكيرا بل من التعب والإعياء والسهر - وكانت هى تعرف أن الخمر لا تعنينى فلم تكن تخشى شيئا من هذه الناحية. •••
अज्ञात पृष्ठ