रास्ते में
في الطريق
शैलियों
الفصل الثالث
الكآبة
يقول بعض الأطباء بلهجة الجزم التى لا تردد فيها ولا تلعثم: إن حيوية الجسم الإنسانى تكون أدنى ما تكون بعد منتصف الليل. وفى تلك الساعة العصيبة، يعجز العقل عن تدبر الحاضر بسكينة ورضى، واستشفاف المستقبل بشجاعة، ورجع البصر فى الماضى بغير أسف. ولكن كل امرئ غير هؤلاء الأطباء يعرف أن ساعة الكآبة والهبوط لا وقت لها، وأنها قد تكون الأولى صباحا أو الثانية مساء. كما قد تكون فى العصر أو الغسق. فليس لها ثبات ولا أوان معروف، وأن ساعتها قد تكون ثوان أو دقائق. وقد تمتد وتطول، فينطوى فيها الليل والنهار جميعا والعمر أو خيره فى بعض الأحيان.
ومهما يكن من ذاك، فإن المحقق - على كل حال - أن كاتبا مثلى لا يسعه إلا أن يشعر وهو يتأمل «سعيدا» بقصوره وعجزه، فإن مثل هذه الكآبة لا يستطيع أن يوفيها حقها سوى مجمع من أعلام البيان. وقد يسع «زولا» أن ينصفها، وعسى أن يكون «جوركى» قادرا على تناولها بقلمه، ولعل «دستويفسكى» كان أقدر من سواه على ذلك، ولكنها فوق طاقتى وحدى. وشر ما فيها أنك لو سألت «سعيدا» نفسه عنها، ما سببها أو داعيها، لما وسعه أن يعلله.. ولكان الأرجح أن يتعجب لها، فقد كان حسن الحال ميسر الرزق. ولا نكران أنه كان يكد ويتعب فى سبيل الرزق.. ولكن كل إنسان يفعل ذلك، حتى أصحاب الضياع لا مفر لهم من العمل والسهر والتعهد والعناية بما يملكون، وإلا نضب المعين وجف المورد. وكان فوق ذلك ذا زوجة صالحة فيها رقة وجمال وأدب وحذق ولها عقل، وكفى بهذا نعمة.
وكان فى تلك الساعة فى «قهوة» لها حديقة تشرح الصدر. والطريق أمامها واسع نظيف، واليوم يوم أحد، والغوانى يرحن ويجئن على الرصيف.. كل اثنتين أو ثلاث أو أربع معا، وهن فى حفل من الزينة. وأخلق بالمرء حين ينظر إلى وجوههن الصبيحة وقدودهن البارعة وخطرتهن الرشيقة، ويسمع أصواتهن البلبلية أن يشيع البشر فى نفسه! وكانت فى حديقة القهوة نافورة صغيرة، ترسل الماء خيوطا دقيقة تعلو ثم تتناثر على صورة المظلة. وقد اجتمع الماء والخضرة والوجه الحسن - بل الوجوه الحسان - فماذا يبغى سعيد فوق ذلك؟ أم ترى اجتماع ذلك كله هو سر الكآبة، من يدرى؟
وجاء ماسح الأحذية وقعد ومد يده بالصندوق إلى رجل سعيد بلا استئذان، فرفع هذا قدمه إلى الصندوق بحكم العادة لا بدافع الرغبة.. فقد كان الحذاء نظيفا لماعا.
وقال الرجل بعد فترة صمت شغل فيها بغسل الحذاء بالماء والصابون: «من زمان ما جئت إلى هنا يا بك».
ولم يكن سعيد «بيكا» ولا كان له أمل أو رغبة فى رتبة كهذه.. فإنه رجل عمل لا يحفل بالألقاب والرتب، ولكن كل امرئ «بك» عند ماسحى الأحذية وسائقى المركبات. ولم يزد سعيد فى جواب السؤال على «آه»، ثم أدار عينه فى الجالسين بهذه القهوة فألفى ناسا يشربون وآخرين يلعبون «الطاولة» وحولهم كثيرون ينظرون إليهم وهم وقوف. وأخذت عينه رجلا وامرأة جالسين تحت شجرة وأمامهما قدحان من «الزبيب» فقد كان هذا أحد الشهور التى لا «راء» فى حروفها - وهى مايو ويونيه ويوليه وأغسطس - والقاعدة المصرية أن شرب «الزبيب» يحلو ويطيب فى هذه الشهور الأربعة. فاشتهت نفسه قدحا من الزبيب.. وصفق فجاء الخادم، ولكنه تردد وخطر له أنه ليس معه من يشاربه. فنظر إلى الخادم الصبور، وسأله: «عندك إيه»؟ ولم تكن به حاجة إلى سؤال كهذا، ولكن الخادم ألف هذا من الزبائن، ووطن نفسه عليه، فقال بلا تململ: «قهوة، شربات، كازوزة، شاى..» وأمسك. ثم كأنما تذكر، فزاد «خشاف، ليمونادة».. ولم يأنس من سعيد قبولا، فقال: «ويسكى، كونياك..» فاستوقفه سعيد بإشارة، وسأله: «كونياك من أى صنف؟» فقال الخادم: «كمبا، كمبا عال، مارتل، كور فوازييه، انيسى..».
فهز سعيد رأسه، وقال: «هات زبيب».
ومضى الخادم، فقال ماسح الأحذية: «القهوة دى يا بك عال».
अज्ञात पृष्ठ