نحن الضيوف وأنت رب المنزل
وشمت فيه إذ تمثل البيت الروح العربي القديم؛ روح الكرامة والكرم والشهامة والنخوة، فشكرت له وبادلته تحية بتحية، وأقمنا بمجلسنا حتى دعينا لتناول الطعام، وتناولناه، واعتذرت عن القهوة، وتحدثنا حينا ثم أوينا إلى فراشنا، وكان فراشي في غرفة بابها يقابل باب غرفة الجلوس في الجدار الموازي من البهو، ومن داخل هذه حمام به صنابير للماء ساخنا وباردا، ونمت ملء جفوني ثم استيقظت بكرة الصباح ممتلئا نشاطا، وأقمت أنظر كيف أعد السيد صالح القزاز برنامج يومنا، وإني لكذلك إذ جاءني بصحبة الشيخ عبد الحميد حديدي ومعهما ورقة كتبا فيها برنامجا لكل يوم من أيام مقامنا بالطائف، وكان برنامج يومنا الأول مدينة الطائف وما حولها.
الطائف
الطائف مدينة من أقدم المدن في بلاد العرب، ولعله لا يغلو من يحسبها أقدم من مكة أو من المدينة، وإن كانت الأساطير تذهب إلى أن بقعة الأرض التي تقوم منطقة الطائف عليها لم توجد ببلاد العرب إلا بعد أن أقام إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، فقد ذكروا أن إبراهيم لما جاء بهاجر وبإسماعيل إلى وادي مكة فأقام قواعد البيت توجه إلى الله بقوله:
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم . عند ذلك أمر الله الملائكة فانتزعوا قطعة من أرض الشام ووضعوها في المكان الذي تقوم الطائف به، وعلماء الجغرافيا وعلماء طبقات الأرض ينكرون - لا ريب - هذا الكلام، وإن روي فيه حديث للنبي
صلى الله عليه وسلم ، وهم ينكرون هذا الحديث ويؤكدون أن النبي لم يقله؛ لأن الطائف وباديتها وأوديتها وجبالها وجدت مع بلاد العرب ومع الشام جميعا، فلم ينقل منها إلى الشام شيء ولم ينقل من الشام إليها شيء.
والتسليم برأي هؤلاء العلماء لا ينفي ما تصوره الأسطورة من تباين بين طبيعة الطائف وطبيعة مكة، يتجلى لكل من قرأ كتب الأدب القديم، وقرأ سيرة النبي العربي، ومن عني بتاريخ بلاد العرب بوجه عام، وأقل مظاهر هذا التباين مما تحدث عنه الكتب خصب الطائف وإمحال مكة، وما ترتب على هذا الخصب وهذا الإمحال في الطبيعة من أثر في الرجال، فالعرب الذين تركوا على التاريخ الإسلامي ذكرا أكثرهم من ثقيف وهوازن، وأقلهم من مكة والحجاز، ولولا بيت الله بمكة، ولولا أنها مسقط رأس النبي العربي، لكانت الطائف صاحبة الأمر في الحجاز، وخاصة بعد أن فقدت مكة مكانتها التجارية حين تحول من ذلك اليوم البعيد طريق التجارة من البر إلى البحر، ومن سفينة الصحراء إلى سفينة الماء، وأقول: اليوم البعيد؛ لأنه يبدأ قبل الإسلام، ولأن طريق القوافل المار بمكة فقد كل خطره منذ صدر الإسلام وحين انتقلت العاصمة الإسلامية من بلاد العرب إلى الشام والعراق ومصر.
وليس هذا التباين في الطبيعة هو وحده الذي يجعل للطائف هذه المكانة المرموقة؛ فتاريخها يكفل لها مكانة مثلها، وليس يستطيع الباحث في سيرة النبي العربي أن يمر بالطائف دون أن يقف عندها، فمنازل بني سعد الذين استرضع النبي فيهم قريبة من الطائف، بل هي من باديتها، وإذا لم يكن يسيرا أن يقطع الإنسان بأن حليمة السعدية ظئر النبي مرت بالطائف في ذهابها إلى مكة أو في عودتها منها، فإن طبيعة الطائف وباديتها الخصبة الكثيرة الأودية والجبال قد كانت أول ما وقعت عليه عينا محمد الطفل المترعرع في هذه البيئة البدوية، الناعم بهوائها وبين أهلها ذوي النفوس الحرة الطليقة من كل قيد.
ولما بعث النبي وقضى من السنين ما قضى بمكة فلم تثمر دعوته الثمرة التي تهيئ له التغلب على ضلال قومه، كانت الطائف في مقدمة البلاد التي اتجه نظره للامتناع بها وببأس أهلها، صحيح أنهم لم يسمعوا له، وأنهم كانوا أشد حرصا على عبادة اللات منهم على اتباع هذا الذي جاء يصرفهم عن دينهم كما حاول عبثا أن يصرف أكابر قومه عن دينهم، لكن تفكير محمد في أمرهم، وذهابه وحيدا إليهم، وتعريضه نفسه لما تعرض له منهم، وهو لا يملك في وحدته دفاعا عن نفسه، كل ذلك يدل على أنه رآهم أرجح عقلا وأدنى إلى إجابة داعي الحق من غيرهم، فأما ما كان من صدهم إياه ومن تحرش صبيانهم به، ثم ما كان بعد ذلك بينه وبين عداس النصراني، فتلك آية الله على أن الحق في حاجة إلى صلابة في النفس وقوة في الخلق لينتصر، فإذا دعا إليه القوي الأمين الذي يخلص في الدعوة تم له النصر ولو بعد حين.
ذهب محمد يومئذ إلى الطائف وحيدا بعد أن تولاه اليأس من قومه لما اشتهر عن الطائف وأهلها من رجاحة الحكم وسعة الصدر وقوة البيان، وجعل يصعد الجبل وينحدر إلى السهول ثم يصعد ثم ينحدر، حتى إذا بلغ القوم في ديارهم قصد إلى دار أبناء عمرو بن عمير بن عوف الثقفي وهم يومئذ سادات قومهم: أولئك عبد ياليل ومسعود وحبيب، وجلس إليهم يحدثهم عن رسالته ويدعوهم إلى القيام معه على من خالفه من قومه ويعدهم النصر والجنة، لكنهم كانوا كغيرهم من أهل شبه الجزيرة، يريدون العاجلة، ويجدون في أصنامهم الوسيلة إلى ربهم، ثم كانوا يرون محالفته على قريش أمرا قليل النفع مخشي الضرر، هو كذلك، بخاصة لأن الخلاف يتصل بعبادة الأصنام، على حين لم تنازعهم قريش عبادة اللات ولا نازعتهم قدسية بيتها ، كما أنهم لم ينازعوها حرمة البيت العتيق وأصنامه، جال هذا كله بخاطر القوم ومحمد يحدثهم، فلم يجدوا لمجادلته موضعا، بل أنكروا عليه رسالته في غلظة وفظاظة، قال أحدهم: «هو يمرط ثياب الكعبة إن كان أرسلك.» وقال الثاني: «ما وجد الله أحدا يرسله غيرك؟!» ورأى الثالث ما في هاتين العبارتين من قسوة فلجأ إلى التهكم وقال: «والله، لا أكلمك أبدا؛ إن كنت رسولا من الله - كما تقول - فأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك، وإن كنت تكذب على الله فما ينبغي أن أكلمك.»
अज्ञात पृष्ठ