وأدركنا البكس بعد نصف ساعة، وكانت الساعة قد جاوزت الثامنة مساء، بل لعلها قاربت التاسعة، وانطلقت العربتان تجريان في طريق معتدل قدر ما يكون طريق السيارة فوق رمال البادية معتدلا، وشعر الشيخ صالح أني أضم إلي ردائي ومشلحي فقال: «هذا جو الطائف، والطائف ترتفع عن سطح البحر ألفا وسبعمائة متر أو تزيد؛ وهي لذلك مصيف أهل مكة، فلا عجب أن أدركك من جوها شيء من البرد، ولكن لا تخف، فهي مصح لا يضر جوه.»
انتهز الشيخ عبد الحميد فرصة هذا القول فأردف: «إذا كنت تضم إليك رداءك من البرد فما كان عسى أن يصنع جيش حنين ولم يكن يحول بينهم وبين هواء البادية زجاج كالذي يحول بينك وبينه؟!» وتبسمت ضاحكا من قوله وأجبت: «لقد كانوا في دفء بالظفر والغنيمة، وكانوا كذلك في دفء بالسير على أقدامهم أو على ظهور إبلهم، ولعلهم كانوا يقطعون هذا الطريق في الربيع أو في الصيف فكان لهم نعيما وغبطة.»
انقضت الساعة التاسعة وتنصفت الساعة العاشرة والظلمة المحيطة بنا دردبيس لا يرى الإنسان أثناءها كفه، والسيارتان تجريان على هون حتى لا يزيد ما بسيارتنا من العطب، ونتحدث آنا ونلزم الصمت آخر وقد حجب عنا كل ما حولنا فلا نرى إلا ما يضيئه فنار السيارة من الطريق، وإنا لكذلك إذ بدا من ناحية الشرق ضياء وخط سواد السماء، ثم أضاء القمر الأرجاء، ومددت البصر ذات اليمين وذات الشمال فرأيت ما حولي سهلا فسيحا لا تقف الجبال البعيدة دون تجوال النظر فيه، وبدت الجبال لبعدها عنا أشباحا مهولة لا نميز منها إلا ارتفاعها وضخامتها، وفي هنيهة صمت قال السائق: هذه الطائف، وحدقت أرجو أن أرى بناء فارتد بصري ولم أر شيئا، وإنما تعزيت بالمثل العربي: «القول ما قالت حزام»، ولئن كانت حزام تبصر إلى مسيرة ثلاثة أيام لقد عودنا حسن الصدق حين يتحدث عما يرى.
هذه الطائف، في هذا السهل الفسيح حولنا كانت إذن جنود النبي العربي منتشرة حين جاءت من حنين لحصار المدينة الحصينة وأهلها ذوي البأس والمنعة، وفي مكان منه ضربت خيمتان من أديم الحمر لمقام أم سلمة وزينب أمي المؤمنين، ترى أين يكون هذا المكان؟ أكان ها هنا على مقربة منا فنحن نسير حيث نزلوا؟ إنهم جاءوا إلى الطائف من ناحية لية، وهي لا ريب قريبة من هنا، ولكن أين كانت مضارب خيامهم؟ لعلي لو سألت لما أجابني أحد، فتحديد المواقع التي مر بها الرسول أمر لا يعرفه الناس من أهل هذه البلاد إلا ظنا، إلا من يكون قد عني منهم بدرس السيرة درسا تطبيقيا، ولقد كنت سمعت أن الشيخ عبد الله بن بليهد عالم نجد قد قام بشيء من هذا الدرس، فلأحاول بعد عودتي إلى مكة أن أراه، وإن كنت لا أثق كثيرا بأنني سأجد طلبتي عنده، فأما الحاج عبد الله فلبي - أو سير سينت چون فلبي - فلم يجعل من هذا الأمر موضع عنايته مخافة الخلاف مع علماء الشريعة على قوله، أو لأنه أكثر عناية برسم خرائط بلاد العرب الحالية كما يبدو من عمله.
قال صاحبي: هذه شبرة، وعجبت كمصري لسماع اسم يتداوله سمعي أثناء مقامي بعاصمة بلادي، وفطن صاحبي لعجبي فقال: «وهذا قصر الملك هنا، ولقد بناه الشريف عبد الله بن عون وأحاطه بالبساتين، وسمي هذا المكان شبرة باسم شبرا المجاورة للقاهرة؛ لمجاورة هذا المكان للطائف، وهذا القصر من أفخم قصور الحجاز، بل لعله أفخمها جميعا.»
كان صاحبي يقول هذا الكلام والسيارة تتخطى على هون بين جدران أغلب الظن أنها من الحجر الأبيض ألقى عليها القمر أشعته البيضاء فزادها بياضا، فأما ما وراء هذه الجدران من قصور وبساتين يتحدث عنها صاحبي فلم يلفتني إليه ولم يوقظ إليه انتباهي، لقد أزفت الساعة على الحادية عشرة مساء، أو الخامسة بالوقت العربي إن شئت، وقد كنت مجهودا غاية الجهد، ولعلي لو رآني في هذه الساعة أحد من أهلي أو أصدقائي بمصر لذكر لفوره قول عمر بن أبي ربيعة:
أخا سفر جواب أرض تقاذفت
به فلوات فهو أشعث أغبر
اجتازت بنا السيارة شبرة ثم تيامنت فمرت، بعد فضاء يبدو إلى جانبه سور لم أدر ما هو، بمنازل أشبه بالأطلال، لكن بناءها يبدو جديدا لم يتم بعد، فلم توضع أبوابه ونوافذه، وتيامنت السيارة ثم تياسرت ثم وقفت بباب لقينا عنده من ينتظرنا، وهبطنا من السيارة واجتزنا الباب إلى حديقة لمع تحت ضوء القمر نباتها، ثم سرنا إلى بهو فسيح مطل على نافورة ماء لم أقف عندها، وفي يمين البهو باب دخلنا منه إلى غرفة بها مقاعد وثيرة دعاني القوم إلى الجلوس فيها، فجلست سعيدا أن قطعنا رحلتنا هذه وبلغنا غايتنا منها بعد الذي أصاب السيارة سالمين، وجيء لنا بالقهوة فشربناها، وتبادلنا من الحديث ما رد إلينا بعض الطمأنينة، وغاب عنا الشيخ محمد صالح القزاز زمنا ثم عاد فجلس يحيينا، وكان ما تمثل به:
يا ضيفنا لو جئتنا لوجدتنا
अज्ञात पृष्ठ