وكان الخوف من الحرب وخطر الطريق أبلغ في نفسي أثرا، ولم يقنعني من سألتهم رأيهم في الأمر بما يزيل هذا الأثر من نفسي، فبينما كان بعضهم ينفي احتمال الحرب بين إنكلترا وإيطاليا قبل أن تتضعضع قوات إيطاليا في الحبشة، كان آخرون يؤكدون اقتراب الحرب ويكادون يضربون لوقوعها موعدا، وكان من بين الذين استشرت من اعتزم الحج منذ العام الماضي، فلما استنجزتهم عزمهم اعتذروا بما طرأ من أحوال قد تجر إلى حرب تشترك مصر فيها، وتكون الأراضي المصرية أو المياه المصرية ميدانها، ويتعرض أبناء مصر وتتعرض ثروتها من جرائها لما تجره الحرب وراءها من الدمار والهلاك؛ ولهذا الاحتمال ثارت مصر تطلب إلى إنكلترا أن تعقد معها معاهدة مودة وتحالف كانا قد انتهيا من قبل إلى نصوصها، وأجابت إنكلترا بعد لأي أنها على استعداد للمحادثة من جديد على ضوء ما سمته الأحوال المتغيرة للشئون الحربية الحديثة، وقبلت مصر عرض إنكلترا، وجعلت تعد العدة للمحادثات فالمفاوضات، وبهذه المفاوضات اعتذر بعض الذين نذروا السفر إلى الحجاز من قبل، وحاولوا أن يلقوا في روعي أن السفر في مثل هذه الأحوال يعتبر تنحيا عن أداء ما للوطن من حق على أبنائه، وربما كان موقف مصر من هذه المفاوضات أدعى إلى إرجائي السفر من موقفها سنة 1930، حين اعتذرت عن تلبية الدعوة إلى حفلات التتويج لابن السعود.
فكرت في هذه الأمور مليا، على أن استشارتي أصحابي جعلت غير واحد منهم يسألني: أمسافر أنت حقا لتؤدي فريضة الحج؟ وكان جوابي منذ ألقي هذا السؤال علي لأول مرة: إن شاء الله، ومع أن مشيئة الله يتعلق بها إرجاء السفر كما يتعلق بها السفر، فقد كنت أحس كلما قلت هذه الكلمة كأن دافعا أقوى من تفكيري يدفعني إلى عدم الإرجاء، وإن أمسكني ما قدمت من الاعتراضات في دائرة ترددي، وتركت الأمر معلقا بمشيئة الله وإن لم يمنعني ذلك عن ذكره وتفصيل الحديث فيه كأنه أمر لا محالة واقع.
ومن عجب أني رأيت بعض أصدقائي يزداد حرصا على صدي عن السفر كلما رآني أشد إقبالا عليه، وكان بعضهم يلتمس من أسباب الإرجاء ما يراه مقنعا، قال أحدهم: إن تيسير المواصلات لأداء فريضة الحج يطرد سراعا، فخير لمثلك أن يرجئ أداءها حتى تكون غير مرهقة إياه، أما إن كان مقصدك في السفر استيفاء البحث في سيرة محمد وعصره، فالخير أن تذهب في غير أشهر الحج، فالبحث التاريخي والعلمي بحاجة إلى الهدوء والطمأنينة ليؤتي ثمره، ومكة في غير أشهر الحج هادئة، يعاون سكونها على البحث من غير عناء بحثا أعود بالفائدة وأدنى إلى الدقة العلمية، فلا تغامر الآن حتى تطمئن إلى سلامة البحر الأحمر، وحتى تنتهي مصر من مفاوضتها إلى موقف حاسم في أمر الاتفاق مع إنكلترا.
على أنني لم أعدم تشجيع قوم استهانوا بمشقة السفر وبخطر الحرب، وأكبروا عزمي واستحثوني على تنفيذه، قال أحدهم: إنك سترى في الأماكن الإسلامية المقدسة تاريخا يمكن التثبت منه والقطع بصحة وقائعه؛ وذلك على خلاف تاريخ المسيحية في فلسطين، حيث تحجب الأساطير كل ما يمكن أن نسميه تاريخا بالمعنى العلمي، وقال آخر: إذا كانت المفاوضات المصرية الإنكليزية هي التي تدعوك إلى البقاء، فأنا الكفيل بأن تسافر وتؤدي فريضة الحج وتحقق ما تشاء تحقيقه ولما تقطع المفاوضات مرحلتها الأولى، وقال ثالت: هب الحرب شبت وتعرضت الملاحة في البحر الأحمر للخطر، ففي مقدورك أن تعود بالسيارة من طريق سيناء، ولن تضن مصلحة الحدود المصرية عليك بالمعونة كي تعود، ولو أن ذلك حدث لكان لك فيه من الحظ أن ترى من الأماكن المقدسة المتصلة بسيرة النبي العربي ما لا تتيسر لك رؤيته إذا عدت بالبحر والبحر آمن.
وأفضيت إلى زوجي بذات نفسي، فكانت أكبر مشجع لي على السفر، قالت: إنك تفكر في الحج وفي السفر إلى الحجاز منذ عام أو أكثر من عام، فسافر على بركة الله وتوكل عليه ما دمت قد عزمت، وسترى في الحجاز لونا جديدا من الحياة يريح مرآه الأعصاب وتطمئن له النفس، وقد شغلت نفسك حتى انتهاء مقامنا في الصيف بالشام بالدرس والبحث، فروح عن نفسك بهذا السفر منهما.
كان حديث زوجي وتشجيع أصدقائي حريين بالقضاء على كل أثر للتردد في نفسي، لكني ظللت أفكر في العقبات وتذليلها، جاهدا لتغليب جانب العزم على جانب الإرجاء، وإنني ذات ليلة لشغل بالأمر أقلبه على وجوهه وأستخير الله فيه، إذ سمعت حديثا كأنه الإلهام قضى على ترددي قضاء مبرما؛ فقد عدت إلى داري بعد انقضاء عملي الصحفي منتصف الليل، وجلست إلى جانب أداة «الراديو»، وجعلت أدير شارته على محطات مختلفة حتى كانت عند «بودابست» عاصمة المجر، و«بودابست» تعزف في مثل هذه الساعة من الليل ألحانا موسيقية تطرب لها النفس، فما كان أشد عجبي حين سمعت الإذاعة فيها غير موسيقية! وحين سمعتها محاضرة باللغة الإنكليزية، وكانت أول عبارة تنفست عنها الإذاعة قول المحاضر: «وسط هذه الجموع الحاشدة حول الكعبة جعلت أسمع: الله أكبر، الله أكبر: فلما انتهيت من الطواف ذهبت أسعى بين ربوتي الصفا والمروة ...» وانطلق المحاضر يتكلم عن الحج وشعائره ومناسكه وما كان له في نفسه من أثر عميق.
لم يخامرني ريب من أول وهلة في أن المحاضر هو صاحبي الأستاذ المجري «جون جرمانوس» الذي أسلم وتسمى باسم عبد الكريم؛ والذي جاء إلى مصر منذ عام فزارني غير مرة، ثم ذهب من مصر إلى الحجاز فقضى بها أشهر الحج وعاد فلقيني وقص علي شيئا مما مر به أثناء رحلته، فلما أتم إذاعته من «بودابست» أقفلت أداة «الراديو» وقد علاني الوجوم، وقلت في نفسي: أويكون هذا الأستاذ الأوروبي الحديث العهد بالإسلام أصدق عزما مني في زيارة الأماكن الإسلامية المقدسة؟! وهل تراه يطيق من مشقة الحج ما لا أطيق؟ وشعرت بما في ترددي من تجديف يجب أن يتنزه عنه إيماني بالله وثقتي بنفسي، إذ ذاك نضوت عني كل ما علق من قبل بإرادتي، ولم أرتب لحظة في أن الله قد عزم لي بهذا الحديث من «بودابست» بعد أن استخرته مخلصا واستعنته صادقا.
فلما اطمأن عزمي وقرت إرادتي عدت ألوم نفسي على ما كان من مخاوفها، وكيف أخاف اليوم وعهدي بنفسي أعظم ثقة بالله من أن أحجم دون ما أعتقده الحق أو الخير، أو أرجع عن أمر تعلقت به نيتي، وما البحر الأحمر واحتمال مخاوف الحرب فيه إذا قيس إلى سنة 1914؟! لقد كنت إذ ذاك محاميا بالمنصورة، وكنت قد عقدت العزم مع صديق لي أن نقضي بعض الصيف بلبنان، وحددنا اليوم الثاني من شهر أغسطس موعدا لسفرنا على إحدى البواخر التي تبرح بورسعيد إلى بيروت؟ وبينما كنا نستقل القطار صبيحة ذلك اليوم من المنصورة إلى مرفأ سفرنا طالعتنا الصحف بأن الحرب شبت بين النمسا والصرب وروسيا وفرنسا بعد أن عجزت السياسة عن تسوية حادث «سيراچيڨو» بما يصون السلم ويحقن الدماء.
وقدرت وصاحبي امتداد الحرب إلى عرض البحر الأبيض، ودار بخاطرنا أن نقضي أسابيع رياضتنا في بورسعيد، لكني ما لبثت حين داعبنا هذا الخاطر أن دفعته بأن في مقدورنا أن نركب الصحراء في عودتنا من لبنان إذا خيف البحر وتعذر ركوبه، وركوب الصحراء يومئذ كان معناه امتطاء ظهور الإبل، فلم تكن سكة الحديد قد مدت لفلسطين، ولم يكن السفر بالسيارات مألوفا، وسافرنا إلى لبنان، فإذا تركيا تحشد جنودها، وإذا الأنباء تترى بعد أيام بأن البواخر الذاهبة إلى مصر اضطربت مواعيد سفرها، مع ذلك لم تتغير ابتسامتي للحياة، وبقيت وصاحبي حتى أقلتنا باخرة جمع عليها المصطافون من مصر جميعا فحشروا فوقها زمرا.
ها هي ذي أكثر من عشرين سنة انقضت منذ هذا الحادث وما أزال سعيدا بذكراه، راضيا عن إقدامي، فكيف أخشى اليوم احتمال حرب في البحر الأحمر لا يزيد على أنه احتمال قريب أو بعيد، ولم أكن أخشى يوم ذاك أن تمتد إلى البحر الأبيض حرب شب بالفعل أوارها ، أوبلغ من تقدم السن بي أن أضعف عزمي؟ أم أن الأولاد مجبنة لي اليوم ولم تكن لي مجبنة يومئذ؟ أم أن إغراء الشباب بالمغامرة الرخيصة ليس في شيء من حكمة الكهولة وأناتها في تدبرها الأمور وتقديرها؟ ليرجع ترددي من خوف الحرب في البحر الأحمر إلى أي من هذه الأسباب أو إليها جميعا، فأنا ملوم فيه، فما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله، وكل نفس ذائقة الموت كتابا مؤجلا.
अज्ञात पृष्ठ