في هذه الكلمات الحكيمة تمثل شعور الكثيرين من أصدقائي منذ أعلنت عزمي على الرحلة إلى الحجاز حاجا حتى ودعوني مسافرا، وفيها كان يتمثل شعوري لو أن أحدا حدثني عن هذه الرحلة قبل خمس سنوات من قيامي بها، فلما كانت سنة 1931 وبدأت أكتب «حياة محمد» شعرت بعد التقدم فيها بالرغبة الملحة في الذهاب إلى الحجاز، ولما سيرت شركة مصر للملاحة البحرية باخرتها الأولى «زمزم» إلى الأماكن الإسلامية المقدسة في سنة 1934، علمت أن في نيتها تسيير هذه الباخرة في أكتوبر من تلك السنة كيما تطوع لمن شاء قضاء العمرة في شهر رجب، إذ ذاك لم أتردد وصممت على انتهاز الفرصة لتنفيذ ما اعتزمته، لكن قلة الإقبال على هذه الزيارة الرجبية لم تسمح بتسيير الباخرة فلم تتم الرحلة، وأسفت لفوات الفرصة، وبقيت على عزمي أن أزور الحجاز وبلاد العرب وأن أقوم فيهما بكل ما أستطيع من الدراسات.
ولئن أسفت على فوات هذه الرحلة لقد أسفت كذلك لإضاعة فرصة عرضت من قبل، ولم يدر بخاطري يوم أضعتها أني سوف آسف عليها، تلك فرصة السفر إلى الحجاز مستهل الشتاء من عام 1930، حين دعت الحكومة السعودية الصحافة المصرية إلى الحجاز لحضور حفلة التتويج للملك ابن السعود، فقد دعيت إلى هذه الحفلة، وكنت أود إجابة الدعوة لولا إقبال مصر يوم ذاك على المفاوضة لعقد الاتفاق بينها وبين إنكلترا، ولما تكن كتابة سيرة النبي العربي قد تمكنت من نفسي لتربط بيني وبين بلاد العرب بصلة تجعلني حريصا على أن أتعجل زيارتها؛ لذلك لم يكن ما يحفزني إلى المفاضلة بين المقام بمصر ومغادرتها في وقت كانت أحوال مصر تدعوني للقيام بواجبي القومي كاملا؛ من ثم رجوت صديقي وزميلي الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، فسافر إلى الحجاز ممثلا جريدة السياسة بالنيابة عني، ولو كشف لي يومئذ من الغيب ما يسرتني الأقدار له لما عدل بي عن السفر إلى موطن النبي العربي أي اعتبار، ولكن «ما تدري نفس ماذا تكسب غدا».
أقمت على عزمي أن أزور الحجاز وبلاد العرب، وآثرت أن يكون ذلك أشهر الحج؛ لأؤدي فرضه وأدرك إدراكا ذاتيا كل حكمته، ووطد عزمي ما عرفت في فرائض الإسلام الأربع الأولى من حكمة بالغة يدرك سمو جلالها وجليل نفعها كل من يؤديها بنفسه أو يعيش بين أهله وإخوانه الذين يؤدونها، ألا يجمل بي أن أقف بنفسي بين الحجيج بمكة ومنى وعرفات، ومع الذين يزورون قبر النبي بالمدينة؟ لأؤدي فريضة الحج فأستبين حكمته، ولأقف على ما يدركه المسلمون اليوم من هذه الحكمة، ولأرى كيف يؤدون هذا الفرض؟
أما فرض الحج ليشهد الناس منافع لهم، وليذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام؛ ولتتيسر لهم بالاجتماع لأداء الفريضة فرصة التعارف والتفاهم؟ فليكن الوقوف على مبلغ تقديرهم لهذه الحكمة بعض ما أشهده في الحج من منافع.
وبدأ التفكير في السفر للحج يساور نفسي ويشغل حيزا من ذهني، ولم أطالع بهذا التفكير بادئ الرأي أحدا؛ إذ كانت شوائب التردد ما تزال تشوبه، فقد انتشرت أمام ذهني في الأيام الأولى منه صورة غير مشجعة لما قد يقوم في سبيل هذا السفر من عقبات، فما عسى أن تكون الحياة في بلاد العرب لرجل تقتضيه عادات الحياة ما لا يتيسر هناك؟ وما عساي أفعل إذا مرضت؟ ولي ابن عم مات على عرفات ودفن بمكة من عامين لعله لو أسعف بالعلاج والطب لما تيتم أبناؤه، وإذا استطاع الإنسان التغلب على مخاوف المرض وحاجات الحياة في غير أشهر الحج، فكيف يغالبها حين يختلط حابل المسلمين بنابلهم بمكة، وحين تكون الأماكن المقدسة معرضة للأمراض الوافدة إليها من الهند ومن جاوة ومن مختلف أقطار الأرض؟ هذا إلى ما تقضي به نظم مصر الصحية من احتياط بالوقاية الطبية قبل السفر، وحجر صحي في العودة.
والإحرام: التجرد من الملابس كلها، والاكتفاء بمئزرين غير مخيطين يلتف الإنسان بهما، ويبقى عاري الرأس ليله ونهاره أياما عدة، كيف يحتمل الإنسان ذلك كله في الحجاز؟! وهو - فيما يصفه الواصفون - بلاد بادية، لا تعرف من صور الحضارة ما تطمئن إليه نفس أحد ممن أصبح جوار الطبيب والصيدلية بعض ضرورات حياته.
ولئن نسيت هذه الاعتبارات وجعلت لي فيمن سبقني إلى الحج أسوة ، أأنسى هذا الاضطراب الدولي القائم بسبب الحرب الناشبة بين إيطاليا والحبشة؟ لقد ألبت إنكلترا الدول المشتركة في عصبة الأمم على عاهل «رومية»، وحشدت في البحر الأبيض المتوسط وعلى حدود مصر من القوات ما ينذر بالحرب بين عشية وضحاها؛ حرب يكون البحر الأحمر وطريق الحجاز فيه بعض ميادينها، فإذا أنا سافرت ثم وقعت الحرب فكيف لي أن أعود إلى وطني وأهلي وأبنائي؟
مر ذلك كله في خاطري فزاد في ترددي، ولقد حاولت الاطمئنان إلى رأي فيه بسؤال أصحابي الذين زاروا الحجاز عن نوع العيش هناك، وبسؤال المشتغلين مثلي بالسياسة عما يتوقعونه من أثر الخلاف بين إيطاليا وإنكلترا، على أنني لم أتجاوز السؤال إلى ما قد يفهم منه عزمي على السفر، فلو أنهم فهموا مني ذلك العزم لأقدمت وسافرت غير عابئ بالنتائج، ذلك مزاجي، ولعله مزاج من يغلب عليهم الحياء في اتصالهم بالناس، يجازفون مخافة أن يقال: خافوا! ولم أتلق من أصحابي بادئ الرأي جوابا أطمئن إليه، فبينا كان قوم يهونون علي أمر العيش بالحجاز كان آخرون يصفون لي من عسره وشدته ما يطير معه اللب شعاعا، ولقد أوجب بعض الأطباء أن يأخذ المسافر معه من صناديق المياه المعدنية ما يكفيه اتقاء تلوث مياه الحجاز، ورأى آخرون أن يحمل المسافر معه كل ما يحتاج إليه من طعام وشراب.
لم يكن الأمر على هذا التصوير سفرا إلى بلاد قريبة يذهب الإنسان إليها، ويقضي مناسكه بها ويعود منها في أسبوعين أو نحوهما، فالعدة للطواف حول الأرض أو السفر إلى القطب لا تزيد على ما يذكرون، أية عزيمة لا تتضعضع إزاء هذه المخاوف ولا ترد صاحبها عن عزمه؟!
صحيح أن أكثر الذين زاروا الحجاز وحجوا البيت وزاروا المدينة هونوا علي الأمر وجعلوه في صورة من اليسر لا يبقى معها موضع للتردد، بل أضاف بعضهم أن هذه الرحلة جميلة محببة تثير في نفس المثقف من الإحساس والصور الشعرية والفنية السامية ما لا تثيره الرحلات إلى المصايف، أو بلاد الآثار في مصر والغرب، لكن كلام هؤلاء المشجعين لم يمح من نفسي أثر كلام المحذرين، فقد تصورتهم متأثرين بعاطفتهم الدينية أكثر منهم بالواقع، وأنهم يخشون إن ذكروا المشقة، أو ذكروا نقص أسباب الراحة والصحة بالحجاز، أن ينقص أجرهم عن حجهم وعمرتهم، ولولا أن منهم علماء ومثقفين لما بلغت أخبارهم من نفسي أن تغالب أخبار المحذرين، وأن تجعلني أديم التفكير في أمر السفر.
अज्ञात पृष्ठ