وهو سؤال أورده المرزوقي في مقدمته التي ذكرناها، وأجاب عنه بما يفيد بأن المسألة في نقد الشعر ليست متروكة لفوضى الأذواق الخاصة، بل إن لها مفاتيح موضوعية لو أحسن النقاد تطبيقها لما اختلف ناقد عن ناقد في تقدير الشعر؛ أين جيده وأين وسطه وأين رديئه، وما تلك المفاتيح المعيارية إلا ما أسموه ذات يوم بعمود الشعر!
نعم، معيار الجودة في الشعر هو مقدار ما يتحقق في القصيدة من ذلك «العمود»، ولكن مهلا! فلهذا «العمود» المعياري معنى أكاد أوقن أنه بعيد كل البعد عما تتوهمه عنه، فلقد شاع بيننا في عصرنا أن يذكر عمود الشعر هذا بشيء من الزراية، عن غير فهم لمعناه، وما معناه؟ إنه محصلة لسبع خصائص يجب أن تتوافر، وبقدر توافرها تكون درجة الجودة، وهي: أن يكون المعنى صحيحا، وأن يكون اللفظ جزلا مستقيما، وأن يكون الوصف صادقا، وأن يكون التشبيه قريبا، وأن تكون الاستعارة مناسبة، وأن تكون الأجزاء ملتحما بعضها ببعض، وأن تجيء القافية متساوقة مع اللفظ والمعنى على صورة طبيعية لا تكلف فيها.
وبهذا المعيار «الموضوعي» اختار أبو تمام؛ مما يذكرنا مرة أخرى بموقف الشاعر الناقد الغربي المعاصر - ت. س. إليوت - حين أخذ يبين لقرائه في مقالته «التقليد الأدبي والموهبة الفردية» كيف يتحتم أن تجد موهبة الفنان الفرد مكانا لها في إطار التقاليد، أو قل بعبارة أخرى، إنه لا بد من «عمود» يستند إليه الشاعر أو الفنان، بحيث يكون للتقاليد التاريخية دورها، وللموهبة الفردية دورها، دون أن يطغى أحدهما على الآخر.
والحمد لله، فإن أكبر شعرائنا اليوم يحققون هذا التوازن، أو يوشكون أن يحققوه، لكن همومنا تأتي من الصغار، الذين لا هم من انخفاض الصوت بحيث نتجاهل وجودهم، ولا هم من سعة الدراية بفنونهم بحيث نعنى بهم.
أما بعد، فلعلي أردت بهذا كله شيئا آخر غير الشعر ونقده، فلا أنا بالشاعر، ولا أنا من النقاد المعترف بهم؛ لأني على كثرة ما كتبته في نقد الأدب والفن، فلقد كتبت كتابة الهواة، لا كتابة المحترف، ومن هنا - فيما يظهر - سقطت من الحساب عند السادة الذين يتقنون الحساب.
وإنما أردت بهذا كله أن أضيف قولا جديدا إلى مجموعة أقوال سابقة، أردت بها دائما أن أفرق للناس بين ذاتية المشاعر وموضوعية الأحكام العلمية؛ فالخلط بين هذين الجانبين في حياتنا خلط قاتل، فاذهب مع شعورك ومع هواك وميولك إلى أبعد مدى تستطيعه، لكن اعلم أنك عندئذ تجول في عالم خاص بك ليس حجة على سواك، وأما إذا تصديت لأحكام عقلية تريد إصدارها على أي شيء مما هو مشترك بين الناس، فضع أهواءك عندئذ في صندوق مغلق حتى لا تفسد عليك وعلى الناس حياتهم العقلية.
ولك من جماعة الشعراء أنفسهم قدوة حسنة: شاعرنا العظيم أبو تمام، وشاعرهم العظيم إليوت. الأول من تراثنا، والثاني من عصرنا، وكلاهما يلتقي عند هذه النقطة، وهي: شعورك أنت شيء، وحكمك العلمي على ما يشعر به سواك شيء آخر.
النقد الأدبي بين عهدين
كنت ذات صباح شتوي أسير على طوار الطريق مسرعا، حين مررت ببائع للصحف والكتب، فرش بضاعته على سطح الرصيف، وأسند بعضها على الحائط، ووضع بعضها الآخر فوق قائمة خشبية، وبعد أن اجتزت المكان ببضع خطوات خيل لي أني لمحت بين الكتب كتابا عنوانه «الديوان»، فتعثرت خطاي، وعدت لأستوثق مما رأيت، فإذا هو حقا طبعة جديدة (هي الطبعة الثالثة) من كتاب «الديوان» الذي اشترك في تأليفه سنة 1921م عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني، وقد صدر الجزء الأول منه في شهر يناير من ذلك العام، وصدر الجزء الثاني في شهر فبراير من العام نفسه، ولم يمض شهران بعد ذلك حتى أعيد طبع الجزأين، ثم كان لا بد للزمان أن يدور فلكه خمسة وخمسين عاما؛ لتصدر للجزأين معا هذه الطبعة الثالثة التي أراها.
اشتد بي الحنين إلى قراءة شيء كنت قرأته منذ خمسين عاما! نعم! إنها خمسون عاما مضت منذ قرأت هذا الكتاب لأول مرة، فماذا لو قرأته اليوم للمرة الثانية بعد هذه الفترة الطويلة؟ فاشتريت الكتاب وعدت به إلى منزلي لأجعله أول ما أقرأ، والحق أني لم أكد أبدأ حتى شعرت كأنما ضغطت على مفتاح سحري في «آلة الزمان»؛ تلك الآلة التي ابتدعها ه. ج. ولز بخياله لتنقله على موج الزمن إلى أمام وإلى وراء، وإلى أي أمد يريد، شعرت كأنما ضغطت على هذا المفتاح السحري لأعود القهقرى مع السنين، فأستعيد مناخا فكريا عشناه في العشرينيات وما بعدها.
अज्ञात पृष्ठ