ومن أمثلة مهازل التحكيم ما حدث عندما رشح برتراند رسل سنة 1940م ليكون محاضرا زائرا في كلية جامعية صغيرة في مدينة نيويورك، فرفض مجلس الكلية قبول الترشيح بتأثير جماعة ضاغطة كانت لها أهداف أخرى غير العلم وشئونه، فما كان من الفيلسوف عند نشره لأول كتاب له بعد ذلك (وهو كتابه «بحث في المعنى وصدق القول») أن كتب تحت اسمه على صفحة العنوان درجاته العلمية وأوسمته الشرفية في المجال الأكاديمي، وأستاذياته الزائرة لأعظم جامعات العالم، ثم ختم القائمة الطويلة بقوله: «وهو مرفوض من كلية مدينة نيويورك أن يحاضر في الفلسفة.» قاصدا بذلك أن يقول إن رفض هذه الكلية الصغيرة لشخصه هو من بين علامات التشريف التي تحكم له لا عليه.
وقد لا يصعب على القارئ أن يجد في حياتنا الأدبية أمثلة جرت أحداثها على هذا الغرار.
شاعر ينقد نفسه
لم أجد بالأمس جديدا أقرؤه، فعدت إلى شيء قرأته منذ بعيد؛ لأجدني وكأنني أمام فكرة جديدة، ثم لم تلبث الخواطر أن تقاطرت.
عدت إلى شرح ديوان الحماسة للمرزوقي، وديوان الحماسة - كما يعلم القارئ المهتم بتراثنا الأدبي - هو مجموعة من الشعر اختارها أبو تمام؛ لتمثل - من وجهة نظره - نموذجا للشعر الجيد كيف يكون، ولقد أطلق أبو تمام اسم «الحماسة» على مختاراته تلك؛ لا لأن الشعر المختار كله من باب الحماسة، ولكن لأن شعر الحماسة قد جاء في الديوان أول الأبواب.
بدأت قراءتي بالمقدمة التي قدم بها المرزوقي شرحه لديوان الحماسة هذا، فإذا الفكرة التي أقول إنها بدت لي كأنها جديدة تطالعني بارزة وواضحة، وهي أن الشاعر العربي العظيم أبا تمام قد اختار ما اختاره على أساس يختلف اختلافا بعيدا عن الأساس الذي كان هو ينظم عليه شعره، فكيف نفسر أن شاعرا عظيما كهذا ينظم شعره الخاص من لون، حتى إذا ما أراد أن يضرب للناس مثلا للشعر الجيد جعل اختياره من لون آخر؟
يطرح المرزوقي (شارح الديوان) هذا السؤال في مقدمته، أو قل إنه سؤال طرح عليه ليجيب عنه، فأجاب بقوله: «إن أبا تمام كان يختار ما يختار لجودته لا غير، ويقول ما يقوله من الشعر بشهوته.» فإذا أعدنا قول المرزوقي في عبارة عصرية، قلنا: إن أبا تمام كان «موضوعيا» في اختياره، «ذاتيا» في شعره الخاص؛ فلقد توخى الجودة وحدها وهو يختار، أما حين ينظم شعره فلم يسعه بالطبع إلا أن يطلق نفسه على سجيتها؛ فهو في حالة الاختيار بمثابة الناقد، وأما في حالة الإبداع فهو شاعر، ومعنى ذلك هنا هو أن أبا تمام الناقد قد لا يعجبه أبو تمام الشاعر.
ومن ذا يقرأ هذه المفارقة عن شاعرنا القديم دون أن ترد فورا إلى ذهنه مفارقة أخرى شبيهة بها من الشعر الأوروبي المعاصر، متمثلة في ت. س. إليوت؟ فهو أيضا شاعر ناقد، ولكن بصورة أخرى؛ لأن نقده منشور في فصول نقدية، مستقلة، وليس هو مستنتجا من موقفه وهو يختار نماذج الجودة؛ فلقد نظم إليوت الشعر من طراز رومانسي، حتى إذا ما كتب فصوله في نقد الشعر، كان مشايعا للطرز الكلاسيكية القديمة، ولقد سئل في ذلك مرة: كيف يفسر هذا التناقض بين نظريته النقدية وشعره؟ فأجاب بما معناه أن الناقد ينشد المثل الأعلى، وأما الشاعر فملتزم بواقعه الذاتي كيفما جاء.
كان أبو تمام في تراثنا الأدبي شاعرا وناقدا (كان ناقدا بطريقة اختياره لما اختاره من شعر سواه)، وكان ت. س. إليوت في هذه الدنيا المعاصرة شاعرا وناقدا. وإن العربي القديم والغربي المعاصر ليتشابهان في الموقف؛ وذلك لأنهما عظيمان، والموقف الذي يتشابهان فيه هو ضرورة الحياد الموضوعي عند النظر؛ فلقد كان يستطيع هذان العظيمان أن يعرضا على الناس موقفا في نقد الشعر يدافعان به - ولو بطريق غير مباشر - عما يقولانه من شعرهما الخاص، لكنهما لم يفعلا، فكان كل منهما صادقا مع نفسه الداخلية وهو ينظم، وصادقا أيضا مع معايير النقد الخارجية وهو يختار.
وإني لأعلم بأن عددا كبيرا ممن يتعرضون للنقد الأدبي عندنا اليوم، يصعب عليهم أن يتصوروا بأن يكون النقد معتمدا على شيء آخر غير الذوق الخاص، كأنما الناقد رجل ألهمته السماء طريقة للمفاضلة بين جيد ورديء؛ ولذلك فسوف يقول هؤلاء: ألم يحتكم أبو تمام في اختياره إلى ذوقه الشعري نفسه الذي كان يحتكم إليه وهو ينظم الشعر؟
अज्ञात पृष्ठ