وهكذا نجد أن الأقطاب الإسرائيليين كانوا متفقين مع اليونانيين في معارضتهم للمؤثرات الأجنبية؛ فقد كانت الدولة والعقيدة شيئا واحدا في نظر اليونانيين واليهود، وأية بدعة دينية يمكن أن تهدد الدولة بالخطر، فلا غرو إذن أنهم حافظوا على الموسيقى في معابدهم بنفس الحرص الذي كان حراسهم يرقبون به كل دخيل عليهم.
وقد دأب آباء الكنيسة على نصح رعيتهم بأن تعير أذنا صماء للألحان الرومانية التي تحط قدر المسيحية الحقة. وعملت الكنيسة، منذ أول عهدها حتى القرون المتأخرة، على محاربة كل اتجاه من الجماهير إلى إدخال ألحان دنيوية في شعائر الصلاة، غير أن الشعوب أصرت على إدخال الألحان الشعبية في دور العبادة، وتعلم رجال الدين الكاثوليك كيف يحنون رءوسهم، ويقبلون التيارات الموسيقية الجارفة. وإذا كانت الكنيسة أكدت ضرورة التمسك بالتراث والبساطة، فإن موسيقييها المدنيين أنفسهم لم يملكوا إلا أن يوجهوا بعض طاقاتهم الإبداعية لخلق قوالب جديدة.
ولقد كان القديس أوغسطين أقدر آباء الكنيسة جميعا في الدفاع عن الاتجاه الأفلاطوني الذي تغلغل في موسيقى الكنيسة في عهدها المبكر. وقد سبق أن لاحظنا أن أفلاطون كان فنانا مبدعا أصدر على الموسيقى أحكاما كانت قاسية متزمتة في كثير من الأحيان. ومثل هذه المفارقة التي يتسم بها الفيلسوف الميال بطبيعته إلى الفنون تتمثل بصورة أعنف، ولكنها أكثر واقعية، عند أوغسطين؛ ذلك لأن النظريات الفلسفية التي عرضها أفلاطون في الجمهورية و«القوانين» وغيرها من المحاورات لم توضع موضع التنفيذ في عصره، أما عندما نصل إلى القرون الأولى للمسيحية، فإنا نجد أوغسطين يدافع عن هذه النصائح الأفلاطونية الصارمة إلى حد أنها أصبحت بفضله أنموذجا للمبادئ الأخلاقية التي تميزت بها موسيقى العصور الوسطى، حتى وقت ظهور النزعة الإنسانية في الحضارة الغربية بعد حوالي ثمانمائة عام من ذلك.
ولقد كان أوغسطين في شبابه معلما للبلاغة، ثم أصبح من شراح الشعر المشهورين. وقبل تعميده بوقت ما بدأ يكتب بحثا «في الموسيقى» اتسم بلهجة صوفية رفيعة، وخصص قبل كل شيء لبحث الوزن والنظم والنظريات المتعلقة بالأعداد. وقد حاول أوغسطين قرب نهاية ذلك الكتاب الذي يتألف من ستة أبواب أن يحلل الموسيقى بطريقة يمكننا في أيامنا هذه أن نسميها بالطريقة النفسانية. واللهجة العامة للبحث تجمع بين الفيثاغورية في بحثه للعلاقات العددية، وبين الأفلاطونية في تعاليمه الأخلاقية السطحية. وفي هذا البحث، وكذلك في الملاحظات الأخلاقية المتعلقة بالموسيقى في كتاب «الاعترافات»، تبلور الفكر الكاثوليكي الرسمي بشأن وظيفة الموسيقى في الكنيسة والدولة.
ولقد انتهت الروح الإنسانية التي سادت العالم الغربي نتيجة لبعث تعاليم أرسطو من جديد، انتهت نهاية مؤسفة من الوجهة الموسيقية بانعقاد مجمع «ترنتينو
Trent » والمحفل البابوي في عام 1564م. وأغلب الظن أن أقطاب الكنيسة الكاثوليكية أرادوا تطهير صفوفهم فنيا ولاهوتيا، وهذا يعني العودة إلى الأساليب البسيطة المستخدمة في الماضي. هكذا رأى الجمع أنه إذا كان أرسطو يخدم أغراض الكنيسة في شئون اللاهوت، فإن من الواجب، في مجال الموسيقى، سماع صوت أفلاطون كما تردد صداه عند القديس أوغسطين. وكانت النتيجة هي الإبقاء على الموسيقى البوليفونية المستخدمة لأغراض العبادة، غير أنهم جعلوا استمرارها في الشعائر مرهونا بتحفظات عقلية معينة. وهكذا لجأت الكنيسة مرة أخرى إلى أسلوب الحلول الوسطى نحو تلك الاتجاهات الفنية التي لم يكن يسعها إلا قبولها. وقد مرت البروتستانتية بنفس المراحل من الأخطاء التي ترتكب في حق الموسيقى، وكررت هذه المغالطات الجمالية المدرسية بدلا من أن تتخلص منها.
ولقد واجه لوثر موقفا محرجا في محاولته جمع قائمة من الألحان الشعائرية والبروتستانتية؛ فعلى الرغم من أنه كان دون أدنى شك متحمسا ثوريا في مجال الدين، فإنه لم يكف أبدا عن الإعجاب بالموسيقى البوليفونية الفنية في المذهب الكاثوليكي؛ لذلك اقتبس ألحانا من التراتيل الأمبروزية ومن «السكوينسات» (
sequences ) الشائعة في العصور الوسطى، ومن الأناشيد الجريجورية للكنيسة الكاثوليكية. وقد أعيد تشكيل هذه الألحان، وبسطت وغيرت، بحيث تلائم أغانيه الكورالية الفخمة. كذلك أخذ لوثر الألحان الشعبية الألمانية وأدمجها بالموسيقى الروحية للعقيدة البروتستانتية. ولسنا نعلم عن يقين إن كان لوثر وضع بنفسه هذه الموسيقى أم أشرف على توجيه ذلك النشاط الموسيقي، ولكن لا بد أنه قد أظهر فهما وحبا عميقا للموسيقى، وهو أمر تكشف عنه كتاباته بوضوح.
أما كالفان فكان يرتاب في نظريات لوثر المتحررة في الموسيقى. وكما حذر آباء الكنيسة المسيحيين الأولين من الألحان الوثنية، كذلك أخذ كالفان على عاتقه، بروح متعصبة، أن يمحو من الوجود كل ما تبقى من آثار الموسيقى الكاثوليكية في المذهب البروتستانتي، وبذلك ارتكب خطأ لا يغفر، هو خنق الملكات الإبداعية، وإرجاع موسيقى الهوجنوت إلى أكثر القوالب بدائية. وهكذا فإن فلسفته الموسيقية، التي كانت تستهدف العودة إلى روح البساطة المسيحية الأصلية وتخليص البروتستانتية من الشعائر والطقوس المعقدة، قد بلغت من التزمت ما بلغته من قبل فلسفتا أفلاطون والقديس أوغسطين.
الفصل الخامس
अज्ञात पृष्ठ