تصدير المترجم
مقدمة المؤلف
1 - اليونانيون
2 - الموسيقى في العصور الوسطى
3 - الفيلسوف والموسيقى في العصر القوطي وعصر النهضة
4 - الموسيقى البروتستانتية
5 - الفلسفة الجمالية للموسيقى في عصر الباروك
6 - المذهب العقلي، والتنوير، والعصر الكلاسيكي في الموسيقى
7 - الفلسفة التالية ل «كانت» والرومانتيكية في الموسيقى
8 - الفلسفات الموسيقية في عصرنا الحاضر
9 - معايير لفلسفة جمالية في الموسيقى
تصدير المترجم
مقدمة المؤلف
1 - اليونانيون
2 - الموسيقى في العصور الوسطى
3 - الفيلسوف والموسيقى في العصر القوطي وعصر النهضة
4 - الموسيقى البروتستانتية
5 - الفلسفة الجمالية للموسيقى في عصر الباروك
6 - المذهب العقلي، والتنوير، والعصر الكلاسيكي في الموسيقى
7 - الفلسفة التالية ل «كانت» والرومانتيكية في الموسيقى
8 - الفلسفات الموسيقية في عصرنا الحاضر
9 - معايير لفلسفة جمالية في الموسيقى
الفيلسوف وفن الموسيقى
الفيلسوف وفن الموسيقى
تأليف
جوليوس بورتنوي
ترجمة
فؤاد زكريا
مراجعة
حسين فوزي
تصدير المترجم
في هذا الكتاب محاولة لدراسة ميدان لم يطرق من قبل على نطاق واسع، وهو العلاقة بين آراء الفلاسفة وتطور الموسيقى على مر العصور؛ ذلك لأن من المألوف أن نجد دراسات تكتب عن فلسفة الموسيقى، أو عن آراء فلاسفة معينين أو مدارس فلسفية خاصة في الموسيقى، أما تأثير الفلسفة ذاتها في مجرى الموسيقى، فهو موضوع لم يكتب فيه الكثير من قبل. ولعل السبب الأكبر في ندرة ما كتب عن هذا الموضوع هو الاعتقاد الذي يسود معظم الأذهان، بأن تطور الموسيقى سار مستقلا عن أفكار الفلاسفة، ولم يتأثر بها على الإطلاق، وإن كانت هناك نقاط التقاء معينة بين المجالين تتمثل في تلك الكتابات التي كان الفلاسفة يسجلون فيها أفكارهم عن الموسيقى من آن لآخر، أو في تلك التأملات شبه الفلسفية التي قد يعبر بها الموسيقار عن تجاربه في الحياة والفن. ومع ذلك فمن المؤكد أن القارئ يخرج بعد قراءة هذا الكتاب بانطباع مخالف تماما، هو أن تأثير الفلسفة في الموسيقى كان أقوى مما نتصوره للوهلة الأولى، وأن هناك مصيرا مشتركا يجمع بين هذين المجالين للنشاط الروحي في الإنسان، وأن اللقاء بين الفيلسوف والموسيقى قد استمر طوال التاريخ، وما زال قائما إلى اليوم.
والقضية التي يدافع عنها المؤلف هي أن آراء الفلاسفة في الموسيقى لم تكن إلا تعقيبات متنوعة على أفكار رئيسية قال بها فيلسوف يوناني كبير هو أفلاطون في محاوراته، ولا سيما «الجمهورية» و«القوانين»، منذ أكثر من ألفي عام. وأهم هذه الآراء أربعة: (أ)
التأثير الأخلاقي للموسيقى، من حيث إن لها القدرة على دعم العنصر الفاضل في الشخصية أو زيادة ميلها إلى الرذائل، تبعا لنوع الألحان والإيقاعات والمقامات المستخدمة فيها. (ب)
التأثير النفسي للموسيقى، من حيث قدرتها على رفع معنويات الإنسان أو الهبوط بها، وشفاء أمراض معينة، أو بعث الاضطراب والاختلال في النفس. (ج)
ضرورة قيام علاقة سليمة بين الأنغام والكلمات، والربط بين الموسيقى والشعر برباط وثيق، وإيثار الموسيقى المصاحبة للغناء على الموسيقى الخالصة في معظم الأحيان. (د)
الشك في قيمة التجديدات الموسيقية، والنظر إليها بعين الحذر، على أساس أن التجديد في هذا المجال قد يؤدي إلى اضطراب في النفوس، وبالتالي إلى اختلال في نظم الدولة.
هذه المبادئ الأربعة على الرغم مما تتضمنه من مواقف سلبية من الموسيقى، تنطوي ضمنا على اعتقاد راسخ بقوة تأثير هذا الفن في الإنسان، وبأن الموسيقى قوة هائلة يستطيع الإنسان أن يستغلها في الخير والشر على السواء، ويمتد نفعها أو ضررها حتى يشمل المجتمع بأسره، وما يسوده من نظم اجتماعية وسياسية؛ لذلك كان الفلاسفة والمفكرون منذ عهد أفلاطون ينظرون بعين الحذر إلى هذه القوة السحرية الجبارة، ويحاولون وضع الضمانات التي تكفل استخدامها لأغراض تلائم القيم التي يدعون إليها.
ويرى المؤلف أن هذه المبادئ هي التي تحكمت في موقف الفلاسفة من الموسيقى طوال عصور الحضارة الغربية؛ فهي قد انتقلت بعد العصر اليوناني إلى المسيحية في العصور الوسطى، وكانت هي المحور الذي دار حوله تفكير آباء الكنيسة الكاثوليكية في الموسيقى، وكذلك آراء المصلحين البروتستانت في عصر النهضة. واستمر الفلاسفة يدعون إلى هذه الآراء في عصر «الباروك» والعصرين الكلاسيكي والرومانسي، وما زال تأثيرها واضحا في النقد الجمالي الموسيقي حتى اليوم. وبعبارة أخرى فقد امتد تأثير أفلاطون في هذا المجال بدوره حتى عصرنا الحاضر.
على أن آراء أفلاطون في الموسيقى لم تكن وليدة موقف جمالي أصيل بقدر ما كانت نتاجا لذهن نظري يحدد مجموعة من الغايات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية لمدينة فاضلة، ويعمل على تسخير كل شيء في سبيل تحقيق هذه الغايات؛ فذلك الفيلسوف الذي كان في كتاباته أقرب الجميع إلى الفنان الأصيل، قد وقف من الفن الصحيح موقفا متزمتا لم يكن يتورع فيه عن القضاء على حرية الفنان من أجل ضمان قيام ما يعتقد أنه الدولة المثلى. وإذا كان أفلاطون بآرائه هذه هو الذي تحكم في تفكير الفلاسفة في الموسيقى حتى اليوم، فلا عجب إذن أن تكون أفكار الفلاسفة عاملا معوقا لتطور الفن الموسيقي، وأن يكون الطابع الغالب على هذه الأفكار هو الطابع المحافظ الذي يدافع عن القيم الماضية أو الحاضرة، ولا يثق في أي تطور يبشر به المستقبل.
ولكن هل يرجع موقف الفلاسفة هذا إلى مجرد قصور عقلي، وافتقار إلى ممارسة التجربة الجمالية الصحيحة في مجال الموسيقى فحسب؟ الحق أن هذا التعليل، وإن كان يصح في حالات معينة، فليس في رأينا بالتعليل الشامل لكل جوانب هذه الظاهرة. وإنما التعليل الذي نراه صحيحا هو أن الفيلسوف النظري كان يدافع عن الأوضاع القائمة ويبررها، ويعجز عن كشف الأوضاع المقبلة أو استباق الأوضاع الجديدة؛ فكل ما يستطيع الفيلسوف النظري عمله، في هذا المجال أو غيره، هو أن «يفلسف» ما هو موجود بالفعل، ويستخرج الأساس النظري له، أما التطور الفعلي فلا يمكن أن يتم على يد الفيلسوف.
وهذا يصدق على مجال الموسيقى مثلما يصدق على مجالات أخرى كثيرة؛ ففي حالة العلم يستطيع الفيلسوف أن يتقن الكشوف الموجودة والأساليب المعمول بها، ولكنه لا يستطيع أن يوجه إلى كشف جديد أو منهج لم يعرف من قبل. وفي مجال التفكير الاجتماعي قد يتمكن الفيلسوف من وضع أساس فكري للتطور الماضي أو الحاضر، ولكن المستقبل يثبت دائما أنه أرحب وأوسع من الصيغة التي يضعها له الفيلسوف، والتغير الثوري الذي يتم فيه لا يحدث على يد الفيلسوف النظري، وإنما على يد الثائر العملي. وفي مجال الفن عامة، والموسيقى خاصة، لا يزيد الفيلسوف عن أن يكون مرآة تعكس الأوضاع القائمة بالفعل، وقد يركزها بطريقة منظمة لا يستطيع الذهن العادي أن يصل إليها من الوهلة الأولى، ولكنه لا يستطيع أن يخلق أوضاعا جديدة، أو يتكهن، بقوة الفكر النظري وحده باتجاه المستقبل، بل إن الذي يقدر على ذلك هو الفنان المبدع وحده.
ولنضرب لذلك مثلا بسيطا؛ ففي هذا الكتاب نجد الفلاسفة حتى أوائل القرن التاسع عشر، يؤكدون ضرورة الربط بين الموسيقى والشعر، ويجعلون للموسيقى الخالصة؛ أي موسيقى الآلات وحدها، مكانة ثانوية بالقياس إلى الموسيقى المصاحبة للغناء، ثم يظهر شوبنهور ونيتشه في القرن التاسع عشر ليدافعا عن الموسيقى الخالصة، ويؤكدا قدرتها التعبيرية الكاملة، ومن بعدهما قل أن نجد من الفلاسفة من يجعل للموسيقى الخالصة مكانة ثانوية، فهل يعد تغير موقف الفلاسفة على هذا النحو مجرد تحول ذاتي للفكر، تمكن فيه من تصحيح خطأ سابق ظل يقع فيه لمدة ألفي عام، واستدركه في القرنين الأخيرين؟ الواقع أن تصور المسألة على هذا النحو ينطوي على قدر غير قليل من السذاجة، والأصح أن نعلل هذا التحول بأنه راجع إلى حدوث تطورات في الفن الموسيقي نفسه، في القرن التاسع عشر بوجه خاص، أتاحت لهذا الفن أن يعلن استقلاله الذاتي، ويثبت قدرته على الوقوف على قدميه دون الاستعانة بأي فن آخر. وعندما وصلت الموسيقى إلى سن الرشد هذا، ظهر من المفكرين من «يفلسفون» هذا الموقف الجديد، ويدافعون عن استقلال موسيقى الآلات، أما قبل ذلك فلم يكن في وسع الفلسفة النظرية - بحكم طبيعتها وفي حدودها الخاصة وحدها - أن تمجد موسيقى الآلات، أو تعلي من قيمة اللحن بلا كلمات، ما دام الموسيقار لم يكن قد طور بعد أداته التعبيرية إلى الحد الذي يتيح للفيلسوف أن يعبر نظريا عن هذا التجديد.
وأبلغ شاهد على ما نقول آراء الفيلسوف «كانت» في الموسيقى، كما عرضت في الفصل السادس من هذا الكتاب؛ ففي الوقت الذي أعرب فيه «كانت» عن هذه الآراء، كان هناك عالم موسيقي جديد يوشك على الظهور، وكان باخ وهيندل وهايدن وموتسارت قد أحدثوا انقلابا هائلا في مكانة هذا الفن وقدرته التعبيرية. ومع ذلك ظل «كانت» الذي يعد من أضخم العقول في ميدان الفلسفة النظرية يدافع عن أولوية الشعر، ويهاجم الموسيقى الخالصة، ويضع الفن الموسيقي في أدنى درجات سلم الفنون. وهكذا عجز «كانت» عن إدراك اتجاه المستقبل، الذي كانت بوادره قد ظهرت في عصره بكل وضوح، وظل في ميدان الموسيقى - كما كان في ميدان العلم - مجرد ذهن يفلسف ما هو حاضر، ويعجز عن إدراك بذور المستقبل، فليس لنا إذن أن ندهش حين نجد الفيلسوف يدافع عن القيم الراهنة والأوضاع القائمة؛ إذ إن كل بضاعته عقل نظري يفلسف هذه القيم، وكل عتاده ذهن خالص يقنن هذه الأوضاع، أما التطور الفعلي فيتم على أرض العلم أو الفن، لا على أرض الفلسفة. •••
وأستطيع أن أقول إن أهم النتائج التي انتهى إليها المؤلف من بحثه الطريف لتأثير الفلسفة في تطور الموسيقى نتيجتان؛ الأولى أن الفيلسوف ومعه الكاهن كانا في معظم الأحيان حائلا يقف في وجه تطور التيارات الفنية على مر القرون، وأثبت الزمان أنهما نبيان زائفان، على حين أن الفنان الذي نددا به ب «حكمتهما» لم تقتصر مقدرته على التبصر بحقيقة عصره، بل لقد استطاع أن يستبق حاجات المستقبل ويتكهن بها. ولا حاجة بنا إلى الوقوف طويلا عند هذه النتيجة؛ لأن ما أوردناه في هذا الجزء السابق من التصدير يعد تعليقا كافيا عليها.
وأما النتيجة الهامة الثانية، فهي مترتبة على النتيجة السابقة، فإذا كان استقراء تاريخ الموسيقى يثبت أن الفيلسوف لم يكن على حق في تنديده بالتجديدات والتطويرات الموسيقية، وإذا كان هذا التجديد قد فرض نفسه على الرغم من معارضة المفكر الفلسفي أو رجل الدين، فمن الواجب أن نتوقع أن يفرض التجديد في الموسيقى المعاصرة نفسه على النحو ذاته، رغم المعارضة التي يلقاها من كثير من الفلاسفة والمفكرين والنقاد الفنيين. وهكذا يدافع مؤلف الكتاب بحرارة عن القيم الجديدة في الموسيقى المعاصرة، وعن الاتجاهات التجريدية الشكلية التي يعتقد أنها تمثل حركة التطور في الفن الموسيقي في المستقبل، ويتخذ دفاعه هذا شكل تنديد غير مباشر بالطريقة السوفييتية في تقدير الموسيقى؛ إذ يرى فيها أصداء واضحة للفلسفة الأفلاطونية التي كانت تسخر اتجاهات الفن لها لخدمة أغراض الدولة. وإذا كان من الجائز أن هذا النقد حين يصدر عن كاتب ينتمي إلى العالم الغربي، لا يكون خالصا من بعض الشوائب أو الدوافع السياسية، فليس في وسع المرء أن ينكر أنه من الوجهة الموضوعية الخالصة صحيح، ولا سيما بالنسبة إلى الفترة الاستالينية التي سبقت تأليف الكتاب.
ومع ذلك فإني لا أجد نفسي مقتنعا كل الاقتناع بالوجه الإيجابي لهذه الحجة، وهو الدفاع عن الموسيقى الشكلية المعاصرة بحجة أنها إذا لم تكن مقبولة في الوقت الحالي، فستصبح مقبولة في المستقبل؛ فأصحاب هذه الحجة يشبهون نقاد الاتجاهات المعاصرة المفرطة في غرابتها بالنقاد الرجعيين الذين عابوا على موسيقى عصر الباروك، في وقتها، أنها صاخبة أكثر مما ينبغي، على حين أننا نجدها الآن مثالا للهدوء والصفاء. والواقع أن كتب الموسيقى تحفل بأمثلة لهذه الحجة، فنراها تفيض في تعداد أمثلة هجوم النقاد على أعمال بيتهوفن الأولى مثلا، ووصفهم إياها بالإغراب والتعقيد المتعمد، وتأكيدهم استحالة فهمها، وتستدل من ذلك على أن كل تجديد أصيل يقابل في بداية الأمر بالاستنكار، ثم تعتاده الأذن بالتدريج، ولكن قياس التجديد الموسيقى المعاصر بهذه الحالات السابقة في التاريخ الماضي للموسيقى هو في رأيي قياس مع الفارق الكبير.
ذلك لأنه قد مضى الآن أكثر من سبعين عاما على بداية ظهور هذه التجديدات، وهي فترة كانت تكفي وزيادة لتثبيت قيمتها في النفوس لو كانت لها قيمة كبرى بحق. ومع ذلك فإن الكثيرين ما زالوا يجدونها منفرة حتى اليوم، بل إن من بين أولئك الذين لا يعترفون بها موسيقيين كبارا؛ مثل برونو فاتلر وبابلو كازالس. وفي كل يوم يغرق الموسيقيون في العالم الغربي في تجاربهم الصوتية التي يتصورون أن الأذهان سوف تستسيغها في المستقبل، كما استساغت من قبل موسيقى بيتهوفن بعد عداوة شديدة في البداية، ولكن كم من الوقت احتاج إليه العالم ليعترف بعظمة بيتهوفن، وليهضم تجديداته ويدمجها في تراثه الفني؟ إن ذلك لم يستغرق أكثر من سنوات قلائل؛ ففي خلال حياة بيتهوفن ذاتها، اعترف الجميع بعظمته، واستوعبت تجديداته الجريئة، ولم يعد بين النقاد أو بين جمهرة المستمعين خلاف حول أصالة هذا الفنان. أما في عصرنا الحالي، فما زال الخلاف على أشده حول التجديدات المعاصرة بعد أكثر من سبعين عاما، وما زال الجزء الأكبر من هذه التجديدات المفرطة في شكلياتها لا يحرك أحاسيس حقيقية أو يقابل بإعجاب صادق من معظم الناس، وإن كان الكثيرون يخشون الاعتراف بهذه الحقيقة، حتى لا يتهموا بالجهل أو الرجعية. وهذا القول لا ينسحب بطبيعة الحال على كل الموسيقى المعاصرة، وإنما على اتجاهاتها الشديدة التطرف فحسب.
ومما يزيد من صعوبة تشبيه هذا الموقف المعاصر بالمواقف الماضية، أن قدرة الناس على استيعاب الجديد أيام بيتهوفن مثلا كانت أقل بكثير من قدرتهم الحالية على ذلك؛ إذ إن عدم وجود وسائل لتسجيل الموسيقى في القرن التاسع عشر كان يعني أن الآذان لم تكن تعتاد الأساليب الجديدة إلا من خلال الحفلات القليلة التي تستمع فيها إلى هذه الموسيقى مباشرة، ولم يكن للموسيقى خارج هذه الحفلات أي كيان (إلا في أوساط الموسيقيين المحترفين القادرين على عزفها على آلة كالبيانو مثلا). أما في وقتنا الحالي، فإن فرص الاستماع وتدريب الأذن على الاتجاهات الجديدة أصبحت فرصا لا حدود لها، بفضل التسجيلات والإذاعات. وبعبارة أخرى فإن التجديد الذي كان استيعابه يقتضي أجيالا كاملة في الماضي لم يعد يحتاج اليوم إلا إلى سنوات قلائل.
ومع كل هذه الفوارق التي تخدم قضية التجديد، وتجعل استيعاب الأذهان له أيسر بكثير، فما زال معظم الناس، ومنهم الخبراء المدربون، عاجزين عن استيعاب الكثير من الاتجاهات المغرقة في الشكلية في الموسيقى المعاصرة، وما زال موسيقار مثل «فيبرن
Webern » عاجزا عن أن ينتزع من الإعجاب ما كان يلقاه الموسيقار المجدد في القرن التاسع عشر بعد سنوات قليلة من ظهور إنتاجه.
والخلاصة أن الحجة التي ترتكز، في تبريرها للاتجاهات المتطرفة في الموسيقى المعاصرة، على السوابق التاريخية ، قد أصبحت حجة بالية من فرط ما استهلكها المفكرون الجماليون، واستنفدت أغراضها، وبدأ بطلانها ينكشف في ضوء التطورات التكنولوجية المعاصرة. •••
بقيت كلمة أخيرة عن طريقة تأليف هذا الكتاب؛ فالمؤلف هو أستاذ مساعد للفلسفة في كلية بروكلين بنيويورك، هو في الوقت ذاته موسيقي مكتمل التكوين. هناك احتمال كبير في أن يكون الكتاب كله، أو أجزاء منه، قد صيغ أصلا على هيئة محاضرات، بدليل ما نجده في بعض الفصول من تلخيص للفصول السابقة على طريقة الدروس الملقاة في المحاضرات. ومن جهة أخرى فإن المؤلف نظرا إلى كونه يرجع إلى أصل غير أمريكي، كان في بعض الأحيان يرتكب هفوات لغوية شكلية استبحت لنفسي أن أصححها، وأقوم بالترجمة على أساس التصحيح، دون خروج أساسي عن الأصل أو تحريف له، وأنا أعد نفسي مسئولا عن هذه التعديلات القليلة مسئولية كاملة.
فؤاد زكريا
مقدمة المؤلف
كان لكتابات الفلاسفة تأثير كبير في التطور التاريخي للموسيقى في الحضارة الغربية. وسوف يتضح لنا في الصفحات القادمة من هذا الكتاب أن الفلاسفة، وإن كانوا في عمومهم كتابا نظريين ليس لديهم من الخبرة الفنية ما يتيح لهم تقويم التركيب الفعلي للموسيقى، كانت لديهم مع ذلك آراء كثيرة في الموسيقى، وفي تأثير الفن الموسيقي في سلوك الإنسان. والواقع أن الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية للإنسان الغربي تشهد بوضوح بمدى تأثير نظريات الفلاسفة في مجرى الموسيقى في الحضارة الغربية.
ولقد كان الفيلسوف القديم يرى في الموسيقى أكثر من مجرد تعبير عن المشاعر، فلم يكن يقنع بالنظر إليها على أنها وسيلة من وسائل الاتصال الفني ينقل بها الموسيقار الشاعر في العالم القديم أفكاره وأحواله الانفعالية إلى الآخرين. وإنما حاول الفيلسوف اليوناني أن يعرف إن كان أصل الموسيقى يرجع إلى «مصدر علوي» معين يعلو على أفهام البشر. وكان يؤمن بأنه توصل إلى معان أخلاقية في الألحان، وإلى دلالات أخلاقية في الإيقاعات. وعندما لاحظ تأثير الموسيقى في سلوك الإنسان، وصل إلى أن الموسيقى قد تهذب الطبع، وقد تزيده انحطاطا. ولما لم يكن لديه من العتاد الذهني ما يتيح له فهم الموسيقى الفعلية ذاتها، فقد نسب إلى أصل الموسيقى وقواها خصائص صوفية. ونظرا إلى انعدام ثقته في الانفعالات، وإلى تمجيده للعقل، فقد كان يخشى من تلك الآثار التي يمكن أن تجلبها الإيقاعات المتوثبة والأنغام المفرطة في حسيتها على الجسم والذهن. وقد استنتج أن الإيقاع واللحن إنما هما محاكاة لحركات الأجرام السماوية التي تصدر عنها خلال حركتها في السموات موسيقى إلهية لا تدركها آذان البشر. وعلى أساس هذا الافتراض، انتهى إلى أن فن الموسيقى مقلد لقوانين الطبيعة، ولما كان النظام الأخلاقي ساريا على الكون، فإن للموسيقى قيمة أخلاقية.
ولقد عمل المسيحيون في كتاباتهم على تجميل وتزويق تلك الصورة الخيالية الجامحة، وتلك المضمونات الأخلاقية التي نسبها الفلاسفة القدماء إلى الموسيقى. واستعاض آباء الكنيسة، ومن بعدهم قادة حركة الإصلاح الديني، عن تلك النظرية الشيقة القائلة إن انسجام الأفلاك هو الأصل الإلهي للموسيقى، بالاعتقاد القائل إن الموسيقى قد وهبت للإنسان بفضل موجود خير، من أجل إعلاء كلمة الله. أما في أيامنا هذه، فقد عدلت أقوال الفلاسفة القدماء، وطبقت تطبيقا عمليا أوسع نطاقا، وأجريت تحليلات أيديولوجية للنظرية الأخلاقية اليونانية، كما تحول استخدام الأثينيين للموسيقى وسيلة للتعليم إلى نوع من الإرشاد السياسي.
على أن هذا الكتاب لا يزعم لنفسه أنه تاريخ للموسيقى، أو أنه عرض عام للفلسفة، وهو قبل هذا كله لا يدعي على الإطلاق أنه دراسة فنية لعلم الموسيقى. وإنما الغرض من هذا الكتاب هو تقديم عرض تاريخي لأصول التفكير الجمالي في الموسيقى، وتطوره في الحضارة الغربية. ومن رأي المؤلف أن جذور التفكير الجمالي في الموسيقى الغربية ترجع إلى أفلاطون، وأن كتابات هذا الفيلسوف اليوناني ما زال لها تأثيرها الواضح في الموسيقى حتى يومنا هذا.
وربما قيل ردا على ذلك، أنه لا جدوى من إيضاح أوجه الشبه بين المفاهيم الموسيقية لدى القدماء والمحدثين لسبب بسيط هو أن موسيقى القدماء لها صدى انفعالي يختلف عن الموسيقى الشديدة التعقيد عند المحدثين، ولكن الواقع أنه ليس أبعد عن الصواب من الاعتقاد بأن الموسيقى البسيطة التي كان الشاعر اليوناني يجمل بها شعره بالغناء، لم يكن لها في نفوس سامعيه نفس التأثير الانفعالي الذي تحدثه فينا موسيقانا الحديثة الشديدة التعقيد.
إن المبادئ الجمالية التي نقدر على أساسها موسيقانا مبنية على كتابات الفلاسفة اليونانيين. ومهما قيل عن هؤلاء الفلاسفة القدماء من أنهم أعاقوا تطور الموسيقى بتأملاتهم الجامحة، فإنهم مع ذلك قدموا إلينا معاييرا للقيم نستطيع بها أن نصوغ حكما عن الموسيقى، والأهم من ذلك أن الفيلسوف اليوناني كان مهتما بمشكلات تتعلق بموسيقى عصره، تماثل تماما تلك المشكلات التي نهتم بها في حضارتنا الحالية. وهكذا فإن تشابه المفاهيم الموسيقية في التفكير الجمالي القديم والوسيط والحديث إنما يرجع إلى أنها كلها تنويعات للحن الأصلي الذي اتخذه أفلاطون شرطا ضروريا لإيجاد مجتمع مثالي، ولخلق الإنسان المثالي.
ولقد ظل الفيلسوف حتى القرن الثامن عشر يقوم الموسيقى من خلال المعاني الميتافيزيقية والأخلاقية والرياضية، وكان في كل مناسبة يكتب القدرة الخلاقة للموسيقى بدفاعه عن القيم التقليدية، وحرصه على إبقاء الأمور على ما هي عليه. وكان الفيلسوف يسارع إلى التشكيك في أي تغير يطرأ على الموسيقى، ويأخذ على عاتقه تقويم الموسيقى الجديدة التي قد تهدد استقرار الطقوس السائدة أو الوضع السياسي القائم. أما الأصوات الفلسفية القليلة التي ارتفعت بالاحتجاج على مثل هذه الآراء الجمالية السائدة عن الموسيقى، فكانت تؤكد أن الموسيقى لا تعني شيئا عدا ذاتها، وأنها ليست موضوعا للميتافيزيقا، ولا مسألة أخلاقية، ولا وسيلة لتنظيم التعليم، ولا أداة سياسية.
ولقد وقف الموسيقي صامدا في وجه السلطة على مر عصور التاريخ، وإن اضطر في الماضي - وما زال مضطرا في الحاضر - إلى الرجوع عن موقفه الجمالي إلى حد ما، حتى يضمن سلامته إزاء الأوامر الغاشمة لسلطة دينية، أو نزوات سيد يرعاه، أو قرارات لجنة سياسية. وهكذا كان الموسيقار عبدا للأخلاق والدين، وصنيعة لسيد غني، وأداة لنشر أيديولوجية سياسية، ولكنه خلال هذا كله لم يكن في أي وقت أداة طيعة تماما في يد أي واحد من هؤلاء، وإنما كانت طبيعته ذاتها تجعله منصرفا تماما إلى إشباع حاجته الشديدة إلى التعبير عن ذاته، ومستغرقا كل الاستغراق في الرغبة في إطلاق مشاعره من عقالها. ولقد ظل هذا الصراع بين الفكر والشعور، بين العقل والحكم الجمالي، بين الفيلسوف والموسيقار، صراعا دائما طوال التاريخ.
وإنه لمن الممكن وضع نظام من القيم لفلسفة جمالية للموسيقى، لا تكون مرتكزة على تعاليم القدماء، وإنما على قيم إنسانية النزعة. مثل هذا النظام أو النسق من القيم الموسيقية يمكن تحقيقه باستبعاد الأساطير البالية التي طغت على الخلق والتذوق الموسيقي، وبالاسترشاد بالمبدأ القائل إن الموسيقى هي في أساسها تعبير عن المشاعر في شكل فني، قوام أسلوبه هو الإيقاع والنغم؛ فالموسيقى تنبعث من المشاعر، وتأثيرها إنما ينصب على المشاعر، وهي ناشئة من العاطفة لكي تحرك العواطف. وجذور الموسيقى متغلغلة في تربة الواقع الفعلي؛ فهي نتاج للتجربة البشرية، حتى حين تعلو على التجربة؛ إذ تبلور المشاعر في أنغام حسية، وإيقاعات متحركة تنقلنا إلى قمم شفافة من النشوة الوقتية. وللموسيقى القدرة على تخليصنا من القلق والهموم، وهي وسيلة للاتصال تفوق في فعاليتها وقدرتها على الإثارة الانفعالية كل صور التعبير الأخرى التي استحدثها الإنسان لكي ينقل بها مشاعره وأفكاره إلى الآخرين. والموسيقى تجسد آمالنا وأحلامنا، وحزننا ويأسنا. وليس في وسعنا أن نستخلص من الموسيقى إلا ما أضفيناه عليها بالحساسية والفهم. ومهما كان الفلاسفة قد كتبوا عن الموسيقى، فقد كان ما قالوه عنها أقل مما قالوه عن أي فن من الفنون الأخرى؛ لسبب بسيط هو أن الانفعال الذي تثيره الموسيقى فينا لا يخضع للمنطق بنفس السهولة التي تخضع بها له الفنون المرتكزة على مدركات عقلية، كالشعر أو الدراما.
على أن الفيلسوف قد جعل للموسيقى درجة منخفضة في سلم الفنون لهذا السبب ذاته، وأعني به أن الموسيقى تتعلق قبل كل شيء بالمشاعر لا بالعقل، وبالانفعال لا بالفهم، وبالخيال لا بالتصورات الذهنية. ولقد دأب الفلاسفة طوال العصور - باستثناء القليل منهم - على الاعتقاد بأن الموسيقى بلا كلمات أقل قيمة من الموسيقى بالكلمات؛ فموسيقى الآلات الخالصة غامضة تفتقر إلى التحدد، وهي تجسيد للانفعال في نغم وإيقاع يثير فينا مشاعر أحس بها الموسيقي إلى حد ما عندما ألف موسيقاه. غير أن الفيلسوف لا يوقن بأن المشاعر يمكن أن تكون أهلا للثقة، وإنما يؤكد أن الكلمات التي تضاف إلى الموسيقى تضفي على المشاعر طابعا يمكن إدراكه ذهنيا، وتجعل اللامتحدد محددا واضح المعالم، وتنقل فن الموسيقى من المستوى الأدنى للانفعال إلى المستوى الرفيع للعقل.
الفصل الأول
اليونانيون
القسم الأول: السابقون على سقراط
ليس لدينا من المعلومات الفعلية عن الموسيقى سوى القليل في تلك الفترة من التاريخ القديم، التي تناظر العصر المعروف بالعصر السابق على سقراط في الفلسفة. وكل ما نعرفه معلومات متفرقة يمكن استنتاجها من كتابات الفلاسفة والشعراء، ما دامت الموسيقى ذاتها قد اندثرت. تبدأ دراسة الفلسفة السابقة على سقراط بالفيلسوف طاليس في القرن السابع ق.م. وفي القرن التالي أسس فيثاغورس مدرسة فلسفية منظمة، وكان اهتمام هذه الفلسفة بالقيمة الأخلاقية للموسيقى، وبالتركيب التجريبي للأنغام الموسيقية لا يقل عن اهتمامها بإثبات أن العدد هو الحقيقة بالمعنى الصحيح. أما الشعراء الذي يرجعون إلى عهد أقدم هو عهد هوميروس في القرن التاسع ق.م. فقد خلفوا لنا شذرات هزيلة، ولكنها قيمة عن موسيقى القدماء، وهي تتميز بأنها أقرب إلى الخيال الشعري منها إلى الحقيقة، ولا مفر لكتاب في الفلسفة الجمالية للموسيقى من أن يبدأ بعرض هذه الشذرات الباقية كما تستخلص من الكتابات القديمة، وتبويبها في ترتيبها التاريخي الصحيح.
إن أقدم معرفة لدينا بالموسيقى في الحضارة الغربية ترجع إلى كتابات الفلاسفة اليونانيين. والواقع أن ما قالوه عن الموسيقى لم يكن يتسم بالأصالة التامة؛ إذ إن الكهنة المصريين القدماء كانت لديهم آراء مشابهة، كما ظهرت مثل هذه الآراء لدى حكماء الشرق قبل العصر الذهبي لليونان بوقت طويل. غير أن فضل الفلاسفة اليونانيين إنما يرجع إلى تنظيمهم للنظريات الموسيقية الموروثة عن أسلافهم، وبذلك خلفوا لنا تراثا من الفلسفات الموسيقية القديمة، ولكن عندما تدخل خيال الشاعر اليوناني المنشد من أجل تغير تلك القيم الموسيقية التقليدية السائدة في العالم القديم على النحو الذي يكفل ملاءمتها للحضارة الهلينية ، أخذ الفيلسوف على عاتقه القيام بمهمة الدفاع عن الماضي، فقوم الموسيقى الجديدة على أسس أخلاقية وميتافيزيقية، وأصدر أحكاما مدوية ما زال صداها يتردد في موسيقى عصرنا الذي نعيش فيه.
ومن الواجب أن نذكر، عندما نتحدث عن الموسيقى اليونانية، أن الشاعر المنشد اليوناني كان موسيقيا في الوقت ذاته، ولم يكن يفصل الموسيقى عن الشعر؛ فقصائد هوميروس وأناشيد بندرا لم تكن تنشد إلا مع الموسيقى. وكان الشاعر والموسيقار في اليونان شخصا واحدا، وبلغ من اعتماد موسيقاه على النص الكلامي أن كل نغمة مفردة كانت ترتبط بكل مقطع في الكلام الملفوظ.
ويرجع أصل كلمة الموسيقى ذاتها إلى اليونانية، وكان ينظر إليها في الأصل بطريقة شبه أسطورية، على أنها فن أوحت به مباشرة، وخلفته ربة الفن (موزي
muse ). ولقد كان لليونانيين القدامى في البداية ثلاث ربات؛ ربة الدراسة (العلم)، وربة الذاكرة، وربة الغناء، ولكن كل فن أصبح له بمرور الوقت ربة راعية. وتروي الأساطير السابقة على عهد هوميروس أن «أورفيوس» خادم أبولو الذي كان مطربا ساحرا، ومنشدا للشعر، كان هو ذاته ابنا لإحدى الربات، وكانت لصوته خصائص سحرية تشفي المرضى، وتبعث التقوى في النفوس عند أدائها للطقوس الدينية. ولقد أشار أفلاطون في حديثه عن السفسطائي «بروتا جوراس» إلى التأثير الخلاب الذي تحدثه بلاغة بروتا جوراس، وكذلك أغاني أورفيوس في نفوس سامعيها.
1
وقد وصف أرستوفان «موزياوس
Museaus » تلميذ أورفيوس بأنه طبيب للنفوس، نستطيع أن نفترض أنه توصل إلى علاج مرضاه بسحر الأناشيد التي تنسبها الأساطير إليه. وقد عزا إليه أرسطو القول بأن «الموسيقى أعذب ما يتمتع به جنس البشر»،
2
ثم أضاف، مشيرا إلى موزايوس، أن الموسيقى يمكن استخدامها وسيلة تسري عن الإنسان العناء.
وقد وصف هوميروس الشعراء المغنين في «الأوديسية» بأنهم أقرب البشر إلى قلوب الآلهة؛ فقد وهبتهم الربة فن الغناء، لا لكي يطربوا نفوس الناس فحسب، وإنما لكي يسهروا على رعاية أخلاق البشر أيضا.
3
فهؤلاء الشعراء هم الرسل الذين يعيشون على الأرض، وينقلون الرغبات الإلهية إلى الإنسان. وبالموسيقى يستطيع الإنسان بدوره أن يبتهل إلى الآلهة لتخلصه من المرض والوباء. وقد وصف هوميروس كما روى «بلوتارك» بعده بقرون عديدة
4
كيف أوقف الإغريق نقمة أحد الأوبئة بقوة الموسيقى، وسحرها الذي بدد غضب الآلهة «بالأناشيد والأغاني المقدسة هدأت الآلهة راضية.»
ولقد ظلت علاقة الشاعر المنشد بربته، وهي العلاقة التي رأيناها من قبل عند هوميروس قائمة عند هزيود، الذي عاش في حوالي القرن الثامن ق.م. فقد أنبأنا بأن الربات ظهرت له بينما كان يطعم قطعان أبيه، وعهدن إليه بأن يكون رسولهن وشاعرهن، وأعطينه «عصا الشاعر؛ لتكون آية على رسالته كمنشد»، وقبل أن يفارقنه قلن له: «إننا نعرف كيف نقول كثيرا من الأكاذيب التي تقع من الآذان موقع الحقيقة، ولكننا نعرف أيضا كيف نصرح بالحقيقة عندما نشاء.» فلا عجب إذن أن حمل طاليس في القرن التالي على الأسطورة الهومرية؛ لأنها تشويه للواقع يحرص على الابتعاد عن الحقيقة. وقد اتهم هوميروس بأنه لا يقصر على خلق آلهة أسطورية، وربات ملهمات، بل يضفي على هؤلاء أيضا صفات إلهية. والأدهى من ذلك في نظر طاليس أن هوميروس كان يؤمن بأن البشر جميعا خاضعون لأهواء الآلهة ونزواتهم، واستغل مواهبه الفنية لينصح الإنسان بأن يسلم مصيره إلى أيدي الآلهة. أما هزيود فقد اتخذ موقفا أكثر إنسانية من مؤلهي البشر، ولكن ليس إلى الحد الذي يكفي لإرضاء طاليس، الذي أطلق عليه أرسطو اسم «أبي الفلسفة القديمة». لقد كان ما يريده طاليس من الشاعر المنشد اليوناني، هو أن يركز مواهبه لتلبية حاجات الإنسان فحسب، بدلا من أن يخلق أناشيد لآلهة غير موجودة.
وفي القرن ذاته حمل أكسنوفان (حوالي سنة 570ق.م.) الذي ينتمي إلى المدرسة الإيلية في الفلسفة، على آلهة هوميروس وهزيود، كما فعل طاليس، ولقد استغل أكسنوفان سلاح التهكم ببراعة، فألف شعرا كان لاذعا وثوريا فيما ينطوي عليه من مطالبة بالإصلاح الاجتماعي. وقد أنحى باللائمة على هوميروس وهزيود في كل ما يلحق البشر من الشرور؛ إذ إنهما «قد نسبا إلى الآلهة كل الأمور التي تعد عارا بين البشر، كالسرقة والزنا وخداع بعضهم البعض.» ومرد ذلك كله إلى أن الشعراء الأولين كانوا يصورون الآلهة بصورة بشرية «فالناس يصنعون الآلهة على شاكلتهم، ولو كان للخيل أو الثيران أو الأسود أياد تمكنهم من خلق أعمال فنية، لجعلوا الآلهة على شاكلتهم أيضا.» لذلك رأى أكسنوفان أن من الضروري القضاء على هذه الأوهام الشعرية «إن شئنا إصلاح الحياة الاجتماعية». وقد ألف السياسي «سولون» (638-588ق.م.) مقطوعات شعرية يتحسر فيها على انعدام المساواة بين الإنسان وآلهته. وقد طبق فلسفته الإنسانية على الموسيقى الأثينية بدورها، فرأى أن من الممكن تقوية الروح الأخلاقية والوطنية عن طريق الموسيقى، التي تؤدي بدورها إلى تقوية الدولة، وتقلل من اعتماد الناس على الآلهة المتقلبة. كذلك عبر ألكيوس
Alcaeus (600ق.م.) عن روح عصره في الأناشيد والأشعار السياسية التي ألفها، وحمل فيها على الطغاة وعلى أعدائه السياسيين. وقد كتب مع معاصرته المشهورة «سافو
Sappho »
5 (حوالي 600ق.م.) أغنيات حب وخمريات لبلاط لسبوس
Lesbos
الفخم. كذلك شهد القرن السابع ظهور شخصية موسيقية فذة، هي شخصية «أرخيلوخوس
Archilochos » الذي كان من أقوى دعاة التغيير، والذي كان يستخدم الأنغام المتنافرة من آن لآخر، كما أضاف أوزانا إيقاعية جديدة إلى الشعر.
ويرجع إلى أرخيلوخوس الفضل في الإسهام بثلاثة تجديدات في الموسيقى اليونانية، كانت لها قيمة جمالية كبرى؛ فقد استخدم الإيقاع السريع، واستحدث نماذج إيقاعية جديدة، أضفى بها على موسيقى عصره حيوية كانت تفتقر إليها من قبل على الأرجح. وقد أرجع إليه الكتاب المتأخرون فضل استحداث أوزان حية ثنائية المقاطع (
iambic )، وإيقاعات متغيرة معقدة، وإدماج أجزاء شبه كلامية بين فقرات اللحن. كما ينسب التاريخ إلى أرخيلوخوس فضل النهوض بالأغنية الموسيقية التي كانت تغنى بمصاحبة «الليرا
Lyre ». وأغلب الظن أن انتشار الفن الشعبي في عصره أتاح له أن يستوحي في كثير من ألحانه الفولكلور والأغاني التي يتداولها الناس. كذلك كان أرخيلوخوس يستخدم التنافر الموسيقي من آن لآخر؛ إذ يجعل الآلة المصاحبة تعزف نغمات مخالفة للحن الغنائي. وقد حمل أنصار التقاليد الموروثة على هذا النوع البدائي من تعدد النغم (البوليفونية)، ووصفوه بأنه تخليط نغمي.
على أن الشاعر بندار (حوالي 522-443ق.م.) قد فند في القرن التالي الآراء المخالفة للدين عند الفلاسفة في أنشوداته الغنائية؛ إذ إنه استخدم خياله في الرد عليهم قائلا: إن الأم التي رعت الآلهة والناس واحدة، غير أن الأولين هم الأفراد المميزون في الأسرة الأرضية، الذين لا يعرفون الموت ولا الشقاء البشري. ولذا ارتفع صوت بندار محذرا من أن محاكاة الآلهة تجديف، وعلى ذلك «فلا تحاول أن تصبح مثل زيوس؛ لأن الفانين لا تصلح لهم إلا الأشياء الفانية.» ولما كان بندار على إلمام واسع بالموسيقى بفضل تتلمذه على أبولودورس
Apollodorus
والموسيقار الشهير لاسوس الهرميوني
Lasus of Hermione ، فقد أهله إيمانه الديني ومقدرته الموسيقية لمدح الآلهة بالأغاني والأشعار. وقد أنبأنا بأنه «قرب فناء بيته كانت مجموعات من الفتيات ترقص وتغني ليلا في مدح أم الآلهة»، وعندئذ سأل الفيلسوف الشاعر الموسيقار
6
من هي أم الآلهة؟ أهي العنصر الأول؛ أي الواحد الذي يسبق كل شيء، والذي يتولد عنه كل شيء؟ يبدو أن الفيلسوف في بحثه في أصل الكون وطبيعته، كان يحدث بالفعل تغيرا في مصطلح هوميروس وهزيود، ويسمي الآلهة بالعناصر الأولية.
ولقد أحرز فيثاغورس (حوالي القرن السادس ق.م.) شهرة يحسد عليها؛ إذ عرف بأنه منشئ العلم الموسيقي عند اليونان، ومؤسس مدرسة فلسفية ذات تعاليم سرية. ولقد شاع في العالم القديم اعتقاد بأنه لم يترك وراءه كتابات، حتى لا يفشي أسرار طائفته، وأغلب الظن أن فيثاغورس كان متبحرا في الرياضيات والعلم، وأنه أسس مدرسته بوصفها مجمعا دينيا تدرس فيه الأخلاق والسياسة إلى جانب الفلسفة وعلم الصوت والحركة. وقد وضع فيثاغورس، في محاولته كشف أسرار الكون، أسس الاعتقاد الميتافيزيقي بأن الأعداد هي الحقاق الأصلية، ثم ازداد تلاميذه غلوا في التصوف، وأضافوا إلى ذلك أن الأعداد هي الماهيات الحقيقية التي تكون قوام الطبيعة كلها وتحكمها. ولما كان الإنسان جزءا من الطبيعة، فإنه تجسيد لمجموعة من الأعداد، وهو يرتبط عدديا بالطبيعة ارتباط الجزء بالكل، والذي يجعل الإنسان على ما هو عليه مكوناته العددية. أما في الطبيعة، كما في الفنون التي يخلقها الإنسان للوفاء بحاجاته، فإن التناسب والتماثل والانسجام والتنافر ينشأ عن علاقات رياضية، وعلى ذلك فالموسيقى وحدة تتألف من علاقات عددية. ولما كانت الأعداد تتصف بصفات أخلاقية كامنة فيها؛ لأن الطبيعة خيرة في أساسها، فمن الواجب تقويم الموسيقى على أسس أخلاقية؛ أي إن حجة الفيثاغوريين هي أنه إذ كانت العناصر المكونة للموسيقى لها خصائص أخلاقية، فلا بد أن للموسيقى ذاتها قيمة أخلاقية. ولقد أدت هذه النظرة الأخلاقية إلى الموسيقى إلى صبغ الكتابات اليونانية في الفلسفة الجمالية للموسيقى بصبغة أخلاقية اكتمل نموها وتطبيقها النظري عند أفلاطون. ولنستمع إلى ما يقوله أرسطو عن الفيثاغوريين: «لقد رأوا أن من الممكن التعبير بالعدد عن تغيرات السلالم الموسيقية ونسبها.» ولما كانت كل الأشياء الأخرى تبدو في طبيعتها الكاملة مصوغة في قالب الأعداد، ولما كانت الأعداد تبدو أول الأشياء في الطبيعة بأسرها، فقد اعتقدوا أن عناصر الأعداد هي عناصر الأشياء جميعا، وأن السموات كلها سلم موسيقي وعدد.
7
وهناك أدلة قوية تبعث على الاعتقاد بأن فيثاغورس قد سافر إلى مصر، ودرس علوم الفراعنة وفلسفتها الموسيقية، مثلما فعل المؤرخ هيرودوت في القرن الخامس. والأرجح أن فيثاغورس قد عاد إلى اليونان ومعه بعض النظريات البسيطة في علم الصوت، فضلا عن معتقدات أخلاقية محددة المعالم عن الموسيقى، اكتسبها من الكهنة المصريين. وهكذا بدأ يقول لتلاميذه إن الموسيقى البشرية الفانية ما هي إلا أنموذج أرضي للانسجام العلوي للأفلاك. أما الفيثاغوريون المتأخرون، فقد اعتقدوا أن السموات تنبعث عنها موسيقى بالفعل؛ فخلال حركة هذه الأجرام السماوية في السماء، تؤدي السرعة التي تتحرك بها إلى بعث أصوات منسجمة كأنها مجموعة غنائية تنشد في السماء، وترتبط سلسلة الأصوات التي تصدرها هذه الأجرام السماوية بعضها ببعض كما ترتبط أنغام السلم الموسيقي. أما السبب الذي لا نسمعها من أجله، فهو أننا اعتدناها على الدوام.
8
وتروي الأخبار المتواترة أن فيثاغورس قد اكتشف قرار السلم وجوابه، ثم استنبط المسافات الواقعة بينهما عن طريق سلسلة فريدة من التجارب طبق فيها المعرفة التي كان قد جمعها في أسفاره، على أفكار خصبة ابتدعها هو ذاته. وقد وجد فيثاغورس أنه: (1) إذ شد وترا مثبتا فوق قطعة من الخشب، (2) ووضع إصبعه في منتصف هذا الوتر الوحيد بالضبط، (3) وضرب على ذلك الوتر، فإن كل نصف فيه يتذبذب بضعف سرعة الوتر، وبذلك تنتج نغمة تماثل في صوتها النغمة الأصلية المنبعثة عن الوتر الكامل، ولكن كل مستوى أعلى من حيث حدة الصوت، ثم طبق هذه الطريقة على أوتار لها كثافة ودرجة توتر واحدة، ووجد أن أطوال الأوتار هي التي تتحكم في النغمة، ولكن الخواص الفيزيائية للأوكتاف (المسافة بين القرار والجواب) يمكن تفسيرها عن طريق تقسيم الوتر إلى قسمين متساويين، أيا كان طوله أو سمكه، ولكن كيف نملأ الفراغ الذي تكونه الأصوات العليا والدنيا في الأوكتاف؟ لقد وجد فيثاغورس أنه إذا قسم الوتر عند نقطة تمثل نسبة 3: 4، فإنه يحصل على مسافات الصوت الموسيقي الرابع، وإذا كانت النسبة 2: 3 حصل على مسافات الصوت الخامس. وكان ينظر إلى الصوت الثامن والرابع والخامس على أنها أصوات متوافقة، على حين أن الثالث والسادس أصوات متنافرة؛ أي غير متوافقة.
وقد عرف عن أرخوطاس التارنتي
Archytas of Tarentum ، الذي عاش في النصف الأول من القرن الرابع معاصرا أفلاطون، أنه اهتم بدراسة الجوانب الفيزيائية للموسيقى أكثر مما فعل أي فيثاغوري آخر، وكانت له في الموسيقى كتابات كثيرة متنوعة، لم تتضمن فقط كشوفه وحساباته الخاصة، بل تضمنت أيضا كشوف وحسابات غيره من الفيثاغوريين الذين كانوا يجرون تجارب على أسس حسابية عن النسب العددية المناظرة للصوت الثامن والرابع والخامس، وقد لاحظ أرخوطاس أولا أن الصوت لا ينتج إلا باصطدام شيء بشيء آخر أو احتكاكه به، ورأى ثانيا: أن «هناك أصواتا متعددة تخرج عن نطاق إدراكنا الطبيعي، نظرا إلى ضعف الاصطدام المؤدي إلى حدوثها، أو إلى بعد المسافة بين الذات وبين مصدر الصوت، أو حتى لأن الصوت قد يكون أعلى مما ينبغي»، واستنتج أرخوطاس ثالثا «أن الفرق في حدة الصوت راجع إلى نسبة الحركة التي تنقلها الضربة إلى الهواء». وقد ضرب أمثلة متعددة تأييدا لنظرياته هذه في علم الصوت، هي: «الصوت البشري، ونغمة المزمار والناي، وصوت الطلبة المستخدمة في الطقوس الدينية ». وعلى الرغم من أن أرخوطاس كان عميق التأثر بالعجائب العديدة التي يجلبها العدد، فإن كتاباته لا تتضمن أية إشارة إلى أي تفسير ديني أو سحري للعلاقات العددية، كما كانت الحال بين زملائه الفيثاغوريين. وقد توصل في علم الصوت إلى تحديد النسب العددية المناظرة للمسافات التي تفصل بين أنغام السلم الرباعي القديم بالنسبة إلى ثلاثة أنواع مختلفة من السلالم؛ الربع الصوتي الإنهارموني
enharmonic
والكروماتي
chromatic
والدياتوني
diatonic . أما من الجهة الجمالية، فكان يرى أن «الخصائص العقلية للعدد والتوافق رائعة في ذاتها بما فيه الكفاية»، ومن هذا انتهى - على خلاف الرأي الشائع في أيامه - إلى أن من الواجب في التعليم إخضاع الأدب للموسيقى.
9
فإذا انتقلنا إلى بركليس، مؤسس الإمبراطورية الأثينية، لوجدنا أنه جمع حوله أبرز شخصيات عصره في ميادين الفلسفة والأدب والفن؛ إذ كان فيدياس
phidias
المثال، وهيرودوت وثوكوديدس المؤرخان، وسوفوكليس وأوريبيدس المؤلفان المسرحيان، اللذان دافعا عن قضية الموسيقى المجددين، كان هؤلاء جميعا يزينون حياة أثينا بشخصياتهم الرفيعة. وفي هذا الجو أبدى الفيلسوف «أنكساجوراس» احتقارا عميقا للديانة الرسمية، أعرب عنه تحت رعاية صديقه وحاميه المستنير بركليس. وكان من الشخصيات الأخرى في الحياة الثقافية وفي مجالس بركليس، دامون
Damon ، الذي أشار إليه أفلاطون في محاورة «الجمهورية» على أنه حجة في الموسيقى وفنان يمارسها بالفعل. ولما كان دامون معلما لبركليس وصديقا حميما له، فقد أتاحت له صفته هذه أن يجعل للموسيقى مكانة هامة في تربية الشخصية وتكوين المواطن الصالح. وكان دامون يعتقد أن التأثير العميق للموسيقى «لا يؤدي فقط إلى إثارة الانفعالات المختلفة وتهدئتها، بل يؤدي أيضا إلى بث جميع الفضائل، كالشجاعة وضبط النفس، والعدالة ذاتها.» والواقع أن نوع المصنف الموسيقي يطبع النفس بطابعه الخاص، سواء أكان ذلك الطابع خيرا أم شرا، وذلك بالنسبة إلى القائم بأداء الموسيقى وإلى سامعها معا؛ فمن الممكن باستخدام التوافقات المناسبة خلق صفات جديدة أو إبراز صفات كامنة، لا في الصغار فقط، بل في الكبار أيضا.
10
وكان دامون يرى أن الموسيقى ضرورية لا للتعليم الثقافي فحسب، بل من أجل تكوين دولة قوية سليمة، ولكن الغريب أنه خالف الروح الديمقراطية السائدة في عصر بركليس، وذهب إلى أن التجديد في الأساليب والإيقاعات الموسيقية يعد نذيرا بتغير اجتماعي أو حتى بثورة. وكان يرى أنه لو غير الشاعر المنشد اليوناني أو نوع الأساليب الفنية أو الألوان الموسيقية، بحيث يغير أو ينوع الأنماط التقليدية للتعبير الموسيقى، فإن التأثير الانفعالي لهذه التجديدات يؤدي بدوره إلى تغير حضاري واجتماعي. وهكذا انتهى دامون، متفقا في ذلك مع الفيثاغوريين، إلى أن الموسيقى قيمة أخلاقية ينبغي استغلالها من أجل بلوغ هدف الروح الأخلاقية السليمة.
أما ديمقريطس (المولود حوالي عام 460ق.م.) فكان يرى أن الشاعر الموسيقار يحمل قبسا من الروح الإلهية. وقد امتدح هوميروس فوصفه بأنه شاعر ملهم من الآلهة، تعبر أعماله عن جمال منبعث من روح نشوانة، وقد وصف ديمقريطس الموسيقى بأنها أحدث الفنون عهدا، وبأنها لم تنشأ عن «الضرورة وإنما عن الفيض والوفرة». وكان يرى في الموسيقى، كما رأى فيها السياسي «سولون
Solon »، قوة تعليمية واجتماعية تتيح للإنسان أن يحفظ التوازن بين الرياضة البدنية والآداب. وكان ديمقريطس يؤمن، مع الفيثاغوريين، بأن الفنان يحتل موقعا وسطا بين الآلهة والإنسان، وأن الرسالة الإلهية للفنان الملهم تحتم عليه أن يساعد الإنسان على بعث التوافق بين نفسه وبين النفس الكلية عن طريق إيقاع الموسيقى ورشاقتها.
11
ولننتقل إلى سقراط (469-399ق.م.) الذي كان في الأصل نحاتا وابن نحات، ثم تحول إلى الفلسفة حتى يكرس حياته لتعليم شباب أثينا. ولقد صوره أفلاطون في «الجمهورية» على أنه متفق تماما مع دامون في آرائه الخاصة بالقيمة الأخلاقية والسياسية والتعليمية للموسيقى. وكان سقراط يرى أن الفلسفة التي تجعل الحياة العادية ذات معنى وهدف هي أرفع الفلسفات جميعا. وللموسيقى القدرة على تشكيل نفوس الصغار، وإعدادهم لحياة كهذه. وكما أن من الممكن تشكيل المجتمع تبعا ل «أنموذج في السماء»؛ فقد كان يعتقد بأن الموسيقى تستطيع ضبط النفس، بحيث تنسجم مع نفس الأنموذج المتغلغل في سلوك الأجرام السماوية وفاعليتها.
وعلى الرغم من أن سقراط كان معارضا لبلاغة السفسطائيين، فإنه اتفق مع بروتاجوراس على أن الميتافيزيقا لا يمكن أن تؤدي بالمرء إلا إلى الشك، وأن الرياضة ما هي إلا تأملات عميقة. ومن هنا فقد كرس بقية حياته لدراسة الأخلاق والتربية. وكان سقراط يؤمن بأن خلاص البشر إنما يكون في إقامة حياة ثقافية مستنيرة تحرر الإنسان من الأوهام، ومن الاستدلال الفاسد والتحامل. غير أن مثل هذه الإباحة، ومثل هذه الحرية الفكرية لم تكن معروفة حتى لأثينا الحرة الديمقراطية. وسرعان ما انقلبت عليه العناصر الأثينية المحافظة، ونظر إليه أرستوفان الذي كرس جزءا كبيرا من حياته لحماية التراث التقليدي، على أنه رمز آخر لما كان يراه حضارة منحلة بدأت تضرب أطنابها في أثينا. وكما سخر أرستوفان من التجديدات الموسيقية في شعره، فكذلك سخر من فلسفة سقراط في مسرحيته الساخرة «السحب»، ونظرا إلى أن سقراط كان يتشكك في قدرة الآلهة، ويجادل في فضائل الديمقراطية الأثينية، فقد اتهم بإفساد شباب أثينا، وحكم عليه بالموت.
وقد روى سقراط في الساعات الأخيرة من حياته حلما طاف به وهو نائم في زنزانة سجنه، وسجل تلميذه أفلاطون هذا الحلم في محاورة «فيدون»:
12 «طالما أتاني الوحي في الأحلام خلال حياتي بأن أؤلف موسيقى، وكان نفس الحلم يأتيني تارة بصورة وتارة بصورة أخرى، ولكنه كان دائما يقول لي نفس الكلمات أو ما يماثلها: ارع الموسيقى وألفها. وكنت أتصور حتى الآن أن كل ما هو مقصود بهذا هو حثي وتشجيعي على دراسة الفلسفة، التي كانت هدف حياتي، والتي هي أسمى أنواع الموسيقى وأفضلها.» وهنا يعرب سقراط عن شكه في اعتقاد أصبح يتخذ مبدأ تعليميا بين أتباع دامون، وهو أن دراسة الموسيقى لا ينبغي أن ينتفع منها إلا بوصفها مبحثا رياضيا يعد المرء لدراسة أرفع هي الفلسفة. كذلك قال فريدرش نيتشه في كتابه «ميلاد المأساة من روح الموسيقى اليونانية». إن هذا الحلم ينطوي ضمنا على اعتراف هو أن سقراط قد أيقن، وهو يواجه شبح الموت، بأن للديالكتيك والمنطق والعقل، حدودها التي لا تتعداها في اكتساب المعرفة، والسعي إلى تحقيق الحياة الطيبة؛ فللموسيقى قدرة تفوق قدرة العلم على تقريبنا من الحقيقة النهائية؛ إذ إن الموسيقى تتيح لنا الوصول إلى وحدة متوافقة مع الطبيعة.
القسم الثاني: أفلاطون
هناك أوجه شبه بين كتابات الفلاسفة اليونانيين في الموسيقى وبين الآراء الموسيقية للمصريين القدماء والصينيين والعبرانيين. ومعنى ذلك أن الفلسفات الموسيقية التي قد تكون راجعة إلى حضارات أسبق من ميلاد المسيح بحوالي 1500 سنة قد وجدت طريقها إلى الفكر اليوناني.
ولقد كان أفلاطون (427-347ق.م.) أشهر فيلسوف غربي يرى أن الموسيقى بمعناها الكلاسيكي والحديث، ينبغي أن تستخدم من أجل تحقيق الأخلاق الصالحة، ولم تكن آراء أفلاطون عن مكانة الموسيقى في المجتمع المنظم أصيلة تماما، كما أنه لم يكن أول من بحث في التأثيرات الأخلاقية للموسيقى على الشخصية والسلوك الإنساني. ومع كل ذلك، فسيظل أفلاطون شخصية تاريخية فذة ينبغي أن نتخذها نقطة بداية في كل بحث للفلسفة الجمالية للموسيقى في الحضارة الغربية. ولم تكن كتاباته تتضمن مركبا جامعا بين النظريات الشرقية والغربية القديمة فضلا عن نظريات عصره فحسب، بل إن هذه الكتابات كانت تضم في داخلها التقاليد الموسيقية المتبعة لدى الجيل الأثيني السابق لجيله هو.
13
ولسنا نعلم إن كان أفلاطون قد عرف بالفعل فلسفة كونفوشيوس التي أذاع تعاليمها في الشرق؛ فقد تكون أوجه الشبه بين فلسفتيهما في الموسيقى مجرد مصادفة، ولكن هناك فقرات متعددة ظهرت أصلا لدى كونفوشيوس، ويكاد أفلاطون يردها حرفيا؛ ففي فقرة تتصل بالأخلاق والدين كتب كونفوشيوس يقول: «إن موسيقى «تشنج
Cheng » منحلة شهوانية، وموسيقى «سونج
Sung » ناعمة تبعث في النفس الطراوة والميوعة، وموسيقى «واي
Wei » سهلة متكررة، وموسيقى «تشي
Chi » خشنة تبعث في النفس روح التكبر. هذه الأنواع الأربعة من الموسيقى كلها حسية تفسد أخلاق الشعب؛ ولذا فليس من اللائق استخدامها في القرابين والتضحيات.» وفي الكتاب الثالث من الجمهورية أكد أفلاطون التأثيرات الأخلاقية للموسيقى بطريقة مشابهة إلى حد يدعو إلى الدهشة،
14
فدعا إلى استبعاد المقامين الإيوني
Ionian
والليدي
Lydian
من الدولة؛ لأن فيهما ميوعة وتخنثا يبعث الانحلال في الأخلاق. أما المقامان الدور
Dorian
والفريجي
، اللذان يتميزان بروح عسكرية، فمن الواجب استبقاؤهما. وهكذا بدأ أفلاطون تشييد مذهبه في الفلسفة الجمالية للموسيقى بأن عزا إلى المقامات الموسيقية (
modes ) اليونانية صفات أخلاقية . وانتهى في محاورة «القوانين» إلى نتيجة مشابهة لتلك التي رأيناها عند كونفوشيوس، فقال: إن «الإيقاعات والموسيقى بوجه عام هي محاكاة للخلال الطيبة والسيئة في الناس.»
15
ولقد تمسك أفلاطون بالرأي القائل إن الموسيقى ينبغي أن تكون وسيلة من وسائل دعم الفضيلة والأخلاق. وكان يرى أن الموسيقى أرفع من الفنون الأخرى، على أساس أن تأثير الإيقاع واللحن في الروح الباطنة للإنسان وفي حياته الانفعالية أقوى من تأثير العمارة أو التصوير أو النحت. وهكذا فإن الطفل الذي يستمع إلى المقامات الموسيقية المناسبة تنمو لديه، دون أن يشعر، عادات وقدرات مرهفة تتيح له تميزا للخير من الشر. وبعد أن تشكل الموسيقى شخصية الطفل، وتجعله مستقرا في انفعالاته، تكشف له دراسة الفلسفة، عن وعي كامل، أسمى أنواع المعرفة.
ولقد كان للموسيقى والرياضة البدنية دور حيوي في خطة التعليم عند أفلاطون. وكان في رأيه أن الموسيقى ينبغي ألا تتبع الرياضة البدنية، بل إن الواجب - على عكس ذلك - هو أن تسبق الموسيقى الرياضة البدنية وتتحكم فيها؛ لأن الجسم لا يهذب الروح، وإنما الروح هي التي تشكل الجسم. وفضلا عن ذلك فإن الرياضة البدنية قد تصبح خشنة وتؤدي إلى غلظة الطبع، ومن هنا كان من الواجب تخفيفها وتهدئتها بالموسيقى. ومن جهة أخرى فإن الموسيقى دون الرياضة البدنية قد تبعث التخنث في نفس متذوق الفن؛ لذلك فإن المزج بين الموسيقى والرياضة البدنية باعتدال يؤدي إلى تكوين شاب أثيني متزن متناسق الطباع.
ولقد حدثت خلال حياة أفلاطون تجديدات موسيقية متعددة لم يهضمها أفلاطون ولم يحتملها، وإنما كان يتقبل فقط تلك الطريقة التقليدية، التي يكتب فيها شعر غنائي يتلى أو يغنى بمصاحبة الموسيقى. والواقع أن الشعر والموسيقى «ذلك الزوج الإلهي من الأصوات الساحرة» أخوان لا ينفصلان في الحياة الثقافية اليونانية، وكان لفظ «الموسيقى» يدل على الشعر واللحن معا. ولقد كان أفلاطون يرى أحدهما أهم من الآخر، فذهب إلى أنه لما كانت اللغة هي التعبير المباشر عن العقل، فلا بد أن يكون للكلمة أو البيت الشعري مكانة أرفع من اللحن؛ ذلك لأن النص الشعري نتاج العقل، أما اللحن فيؤدي إلى لذة الحواس فحسب، ومن هنا كانت له مكانة أدنى.
ولم يكن لدى اليونانيين نظام توافقي «هارموني» كما نعرفه اليوم، وإنما كان اللحن متوقفا تماما على النص وتابعا له. وكانت الموسيقى اليونانية مبنية بحيث توضع نغمة لكل مقطع، وكان من الشائع تقسيم المقاطع إلى «طويل» و«قصير» بحيث يساوي المقطع الطويل مقطعين قصيرين. وفي الوقت الذي بدأ فيه أفلاطون الكتابة، كان هناك اتجاه متزايد القوة إلى استخدام الشعر مجرد نص للموسيقى، وتشويه الكلمات بحيث تلائم الموسيقى، وكان هذا الاتجاه يثير الاحتجاج بالفعل.
16
وكان صوت أفلاطون هو أعلى الأصوات احتجاجا، ولكنه لم يكن منفردا في رأيه هذا.
وقد احتفظ أفلاطون بالرأي اليوناني التقليدي القائل بعدم وجوب الفصل بين الكلمات واللحن. ومن الطبيعي أن ينظر الشاعر المغني اليوناني الذي يلتزم التراث الكلاسيكي بدقة، إلى أي تميز كهذا على أنه تميز أكاديمي بحت؛ إذ إن الشاعر والموسيقي كانا واحدا، يؤلف أنشودته ويعزفها بوصفها أسطورة أو رواية شعرية ذات إيقاع موسيقي. ولما كان أفلاطون قد أكد أن النص الكلامي أرفع مرتبة؛ لأنه أخضع القالب الموسيقي للشعر، فإنه كان أكثر من غيره استياء من أولئك الموسيقيين الثوريين الذين كانوا في أيامه يؤلفون موسيقى دون كلمات لغرض سماع أصوات تبعث اللذة في الأذن فحسب؛ ولذا كتب يقول: عندما لا تكون هناك كلمات، فمن الصعب جدا إدراك معنى الانسجام والإيقاع، أو معرفة ما إذا كانا يحاكيان أي شيء ذي قيمة.
17
ولقد انتقد أفلاطون التحديد الموسيقى نقدا لاذعا، وعلى الرغم من أنه كان هو ذاته فنانا خلاقا، فقد ظل على الدوام متعصبا في إبداء سخطه على الفنان الضال الذي تتبدى سوراته القلقة على الدوام في صورة أشكال فنية متغيرة. وكان أفلاطون يخشى من أن يؤدي التحرر المفرط في الفن إلى انتشار فوضى في الدولة، وعلى أساس اعتقاده هذا قال في الكتاب الرابع من «الجمهورية»: ينبغي أن يحرص حكامنا على أن تظل الموسيقى والرياضة البدنية على صورتها الأصلية، دون إدخال تجديدات عليها ، وعلى هؤلاء الحكام أن يبذلوا كل ما في وسعهم للاحتفاظ بهما سليمين، فإذا ما قال الشاعر إن البشر متعقلون إلى أبعد حد ب «أحدث ما لدى المغنين من أغان»، فإن هؤلاء الحكام يخشون من أن مدحه قد لا يكون موجها إلى أغان جديدة، وإنما إلى نوع جديد من الغناء، وهذا ما لا ينبغي امتداحه، أو تفسيره على أنه المعنى الذي قصده الشاعر؛ إذ إن أي تجديد في الموسيقى يجلب أخطارا شديدة على الدولة كلها وينبغي نظره، هذا ما قال به دامون
Damon ، وما أومن به بدوري، من أن المرء في الأصل لا يستطيع تغيير أساليب الموسيقى دون أن يقلب معها الموازين الأساسية للدولة رأسا على عقب.
18
ولقد كانت محاربة التجديد، على أسس فلسفية ودينية، شائعة في الشرق بقدر ما كانت شائعة في الغرب؛ فقد روى فيثاغورس أن كبار كهنة فرعون كانوا يحتجون بشدة على تجديدات أساطين العزف، وكان من رأيهم أن التغيير الفني مصطنع، وأنه بالتالي خطر على الحياة الروحية والمادية للأمة.
كذلك روى هيرودوت أن المصريين كانوا يعتقدون أن لألحانهم الدينية أصلا مقدسا؛ ولهذا السبب لم يكونوا يسمحون بأية تجديدات أو يقبلون أنغاما أجنبية في طقوسهم الدينية. وقد توسع أفلاطون في هذه الفكرة في محاورة «القوانين»،
19
فأضاف أن المصريين قد نسبوا ألحانهم المقدسة إلى الربة إيزيس، ثم انتقل إلى امتداح قدرة المصريين على خلق ألحان يمكنها قهر الانفعالات الغريزية في الإنسان وتنقية الروح. والمعنى الكامن في أقواله هذه هو أن الألحان الوحيدة الجديرة بالتقدير هي المقامات والأنغام الموسيقية المحددة بدقة، على نحو من شأنه أن يجعل لها تأثيرا عاطفيا بفضل بساطتها المباشرة.
وكان من رأى أفلاطون أن البساطة الموسيقية لا تتعارض مع القانون الطبيعي؛ فإشاراته المتعددة إلى الموسيقى تتضمن الاعتقاد بأن في وسع الموسيقى أن تتيح للمرء بعث التوافق بين نفسه المتناهية، والنفس اللامتناهية، وذلك عن طريق المزج الرقيق بين أفكاره وأفعاله وبين الأجرام السماوية التي يتم بينها انسجام الأفلاك. أما التخليط الصوتي الصخب فلم يكن، في رأي أفلاطون، غريبا عن الثقافة اليونانية فحسب،
20
بل هو يؤدي إلى التضارب بين النفس البشرية وبين النظام المثالي للأشياء.
ولقد كان أفلاطون يعتقد بأن القوى التي تمارسها الموسيقى على الانفعالات البشرية قوى غير مأمونة، شبهها بقوة السحر. وكان ينظر إلى المزامير الموسيقية (التي تسمى عادة بالناي
flutes
في الترجمات الإنجليزية) على أنها ذات قدرة خاصة على الغواية، وكتب يقول إن الآلات المتعددة الأوتار التي أصبحت من البدع المنتشرة حينئذ تبعث الاضطراب في نفوس السامعين، وكان يعتقد أن الليرا (
Lyre ) التقليدي والصنج
harp
ومزمار الرعاة هي الآلات المأمونة أخلاقيا، ولا سيما في تعليم الصغار.
ومن الواجب في نظر أفلاطون أن تكون المعزوفات والمؤلفات الموسيقية معا ذات طبيعة بسيطة؛ ذلك لأنه كان يخشى أن تؤدي الاتجاهات الناعمة في الموسيقى إلى تخدير أعصاب المواطنين العاديين، مما يترك أثينا تحت رحمة أعدائها. كذلك خالف الموسيقيين في استخدامهم للإيقاعات المعقدة والقوالب الموسيقية المختلطة. وإذا كان تيموثيوس
Timotheus (حوالي 446-357ق.م.) وهو واحد من مشاهير المجددين في عصر أفلاطون، قد زاد أوتار الليرا إلى أحد عشر أو اثني عشر، فإن هذه الزيادة في ذاتها كانت تشكل خطرا ممكنا على الدولة القائمة. ومن جهة أخرى فقد كان أفلاطون معجبا بفلسفة الموسيقى السائدة في إسبرطة، وهي الفلسفة التي كانت تحظر أي خروج عن القواعد القديمة للموسيقى.
21
فيما يلي بعض أمثلة الحظر التي رواها بلوتارك عن إسبرطة: «ولقد كانوا يحترمون موسيقاهم القديمة، في جديتها وبساطتها، إلى حد أنهم لم يسمحوا بأي انحراف من القواعد السائدة ومقاييسها، حتى إن مجلس القضاء الأعلى
Ephori
أوقع، بناء على شكاوى تلقاها، عقوبة شديدة على ترباندر
Terpander (وهو موسيقار ذائع الشهرة والصيت، عرف بمهارته الفائقة، وبراعته في العزف على الصنج، كان يبدي للتراث القديم أعظم التبجيل، بحيث شهدت مدائحه بما كان يحمله من احترام للأفعال البطولية الفاضلة) فحرمه من صنجه، وزاد من قسوة العقوبة بأن عرض الصنج على الجماهير لتصب عليها غضبها، فعلقها بمسمار أمامهم، كل ذلك لأنه أضاف إلى الآلة الموسيقية وترا واحدا يزيد على العدد المعتاد المقرر، مع أنه لم يكن له نفع أو غرض في ذلك إلا تنويع الصوت، وجعله أنفع وأمتع. ولقد كانت أفضل الموسيقى عندهم هي أكثرها جدية وبساطة، وأقربها إلى الطبيعة. ومن أجل هذا السبب ذاته استل أحد هؤلاء القضاة سكينا قطع به أوتار صنج تيوثيوس؛ لأنه تجاوز عدد السبعة بها، أثناء دخوله في مسابقة في «الأعياد الكرنية
Carnean » التي كان يحتفل بها تمجيدا لأبولو. وهكذا بلغ من شدة تشبثهم بعاداتهم وأساليبهم القديمة أنهم لم يكونوا يتحملون أبسط تجديد، حتى ولو كان ذلك في أمور تافهة أو ضئيلة الأهمية؛ خشية أن يؤدي الإسراف في شيء إلى الإسراف في شيء آخر، حتى ينتهي الأمر بعد تغيرات متدرجة غير ملموسة، إلى تجاهل مجموع تشريعاتهم واحتقارها، مما يضعف الدعامة الرئيسية التي يرتكز عليها بناء حكومتهم، ويؤدي إلى تقويضها.»
22
ولقد تمثلت في تيموثيوس الرغبة الملحة القلقة للفنان الخالق في التغير. وعمل الشعراء الموسيقيون على التعبير عن مشاعرهم بأساليب ووسائط جديدة، تحدوا بها القوالب التقليدية. وقد روى تيموثيوس أنه قال: «لست أتغنى بالماضي.» ثم أعقب ذلك قوله: «في التجديد القوة ... إلى الجحيم يا ربة الفن العجوز.» ومضى التمرد في الفنون حثيثا، ولكن أرستوفان تصدى للتحدي الموجه إلى أنصار التقاليد، وقاد حملة ضد الاتجاه الجديد في الموسيقى، ثم سار في أعقابه معاصره فركراتيس
(القرن الخامس ق.م.) غير أن المجددين في ذلك العصر ظلوا يغيرون في الموسيقى والآلات، ملتمسين سبلا جديدة للتعبير. وقد أزعج هذا الاتجاه أفلاطون، وهو يرى الألحان والأنماط الإيقاعية التقليدية تلقى من الجمهور إعراضا متزايدا، بعد أن كانت هي المميزة للفن الهليني.
وظهرت أساليب جديدة أكثر تزويقا أصبحت هي محط الأنظار في عصره، ولو كان لنا أن نقبل شهادة بلوتارك لقلنا إن الموسيقى في عصر أفلاطون كانت تجيش بالعواطف.
ولقد كان لفظ «الموسيقى» يدل عند اليونانيين على مفهوم مزدوج؛ فهو من جهة يشمل جزءا من المناهج التعليمية كالقراءة والكتابة والرياضيات والرسم والشعر. ومن جهة أخرى كان يستخدم بالطريقة التي نستخدمه بها، فيدل على الموسيقى بمعناها الدقيق. ولقد كانت الموسيقى بالمعنى الأخير وثيقة الارتباط بالقراءة والكتابة والرياضيات والرسم والشعر، إلى حد أن أي تغيير في الموسيقى كان يراقب بحذر شديد؛ إذ إنه سيؤثر بالتالي في البرنامج التعليمي الكامل للشباب الأثيني.
وأهم ما في فلسفة أفلاطون في الموسيقى هو أن الموسيقى، من حيث هي مبحث تعليمي وثقافي، ينبغي أن تستخدم في تحقيق أخلاق فاضلة. وقد عرض أفلاطون في محاورة «طيماوس» مذهبا أنطولوجيا يتصور العالم على أنه من خلق عناصر هندسية. وفي خلال عملية إرجاع الطبيعة إلى أنموذج صوفي من العلاقات العددية، أعرب عن الرأي القائل إن الموسيقى قد وهبت للإنسان؛ لكي تجعله يحيا حياة منسجمة حكيمة،
23
وهكذا أصبحت للموسيقى وظيفة غائية تساعد على بلوغ الأخلاق الفاضلة.
ويمكننا أن نعرف بدقة كنه هذه التأثيرات الأخلاقية إذا رجعنا إلى مصادر كتلك الفقرات التي أعرب فيها أفلاطون، في محاورة «الجمهورية»، عن اقتناعه بأن من الواجب إبعاد المقامين الأيوني والليدي من الدولة؛ لأن لهما طابعا ناعما متراخيا، أما المقامان الدوري والفريجي بما لهما من طابع عسكري، فيجب إبقاؤهما. وبعد أن وضع أفلاطون أساسا أخلاقيا للمقامات اليونانية، انتقل إلى تحليل خصائصها؛ أي الإيقاع واللحن، ثم تساءل في محاورة «القوانين» إن كان الإيقاع واللحن في ذاتهما «يحاكيان الخلال الطيبة والسيئة في الناس»، وبعد أن أصبحت آراؤه الموسيقية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمبادئ الأخلاقية، طبقها بطريقة عملية دقيقة في جملتها على نوع بدائي من «البوليفونية» كان قد بدأ يذيع في أيامه، فوصفه بأنه تخليط نغمي، لا يمكن أن يسفر عنه إلا الاضطراب الذهني، ثم نصح الشاعر المغني اليوناني بأن يؤلف أنشودته الموسيقية، بحيث يمكن أداؤها «نغمة نغمة» لا بواسطة «مجموعة معقدة ومتنوعة من الأنغام» كما يحدث «عندما تعطينا الأوتار صوتا والشاعر أو واضع اللحن صوتا آخر». وهكذا قال أفلاطون محذرا: إن «التوافق والانسجام الذي تتجمع فيه مسافات قصيرة وطويلة، وأنغام بطيئة وسريعة، أو مرتفعة ومنخفضة»، وكذلك التنوعات المعقدة عندما تكيف مع أنغام الليرا، تؤدي قطعا إلى إثارة صعوبات «إذ إن المبادئ المتعارضة تبعث الاضطراب»،
24
والنتيجة التي تنبني على ذلك هي أن تنوع الإيقاع واللحن وتعقيدها أمر ينبغي تجنبه؛ لأنه يبعث الانقباض والاضطراب في الذهن مما قد يبعد الناس عن المجرى الطبيعي للأشياء، وينقلهم إلى عالم اللامعقولية والخبل.
وهكذا رأى أفلاطون أن الأنماط والأنغام الموسيقية المحددة بدقة، والتي تؤثر عاطفيا بفضل بساطتها المباشرة، هي وحدها المفيدة، وفي وسع النوع الصحيح من الموسيقى أن يساعد الإنسان على أن يوائم بين نفسه المتناهية وبين اللامتناهي. «... فالإيقاع والانسجام يجدان طريقهما إلى الأغوار الباطنة للنفس؛ حيث يستقران راسخين»،
25
أما التخليط الصوتي الصاخب فقد يجعل النفس البشرية تتضارب مع النظام المثالي للأشياء. وعلى ذلك فمن الواجب نبذ الشعراء المغنين الذين يضعون موسيقى غير ملائمة للنظام الطبيعي من صفوف المجتمع؛ إذ إنهم يحطمون النفوس، ويعجلون بهلاك المجتمع.
القسم الثالث: أرسطو
اقتبس أرسطو (384-322ق.م.) جزءا كبيرا من فلسفته من أفلاطون؛ فقد اتفق مع أستاذه على أن الموسيقى فن مقلد، صيغ على أنموذج الانسجام الكوني. كذلك نظر أرسطو إلى الموسيقى، كما نظر إليها اليونانيون عامة، على أنها أكثر الفنون تقليدا للشخصية وتمثيلا لها؛ إذ إنها صورة مباشرة للشخصية أو نسخة منها. «إن الإيقاع واللحن يهيئان محاكاة للغضب والرقة، وكذلك الشجاعة والاعتدال، وكل الصفات المضادة لهذه وغيرها من صفات الشخصية، وهذه المحاكاة لا تكاد تفترق عن الانفعالات الأصلية إلا قليلا، كما نعلم من تجربتنا الخاصة؛ إذ إن سماعنا لهذه يحدث في نفوسنا تغيرات. وليست عادة الشعور باللذة أو الألم إزاء التمثلات المجردة بمختلفة كثيرا عن نفس هذا الشعور إزاء الأشياء الواقعية.»
26
وإذن ففي الإيقاع واللحن نجد محاكاة شديدة الواقعية للغضب والهدوء، فضلا عن الشجاعة والاعتدال وأضداد هذه الصفات؛ أي إن المحاكاة الموسيقية لا تقتصر على الأحوال الشعورية فحسب، بل تشمل الصفات الأخلاقية والاستعدادات الذهنية أيضا؛ فالموسيقى التي يضعها شخص ما، تشكل شخصية المستمع في اتجاه الخير أو الشر. والموسيقى انعكاس لصانعها، والأمر في ذلك لا يقتصر على كون شخصية المرء تصور فيما يخلقه، بل إن من تصل موسيقاه إلى أسماعهم يتأثرون إلى حد بعيد.
كذلك ربما كان أرسطو متأثرا بأفلاطون عندما وضع النظرية القائلة إن المأساة «التراجيديا» ينبغي أن تتضمن أفعالا تثير الشفقة والخوف، حتى تتم عملية «التطهير
Kathaarsis » الانفعالي،
27
فلا شك أن أرسطو كان يعرف ذلك النص الذي لاحظ فيه أفلاطون في محاورة «القوانين» أن الحركة مفيدة للنفس والجسم معا؛ لأن الإيقاع يهدئ الخوف ويعيد التوازن النفسي؛ فقد قال أفلاطون: «إن انفعال الراقصات في أعياد الخمر، كذلك الأطفال، هو انفعال خوف، ينشأ عن عادة سيئة للنفس. وعندما يبعث أحد مثيرا خارجيا في هذا النوع من الانفعالات، فإن الحركة الآتية من الخارج تغلب على الحركة الداخلية الفظيعة العنيفة، وتحدث طمأنينة وهدوءا في النفس وتهدئ النبضات المضطربة للقلب، وهو أمر مرغوب فيه إلى حد بعيد؛ إذ يجعل النعاس يدب في أجفان الطفل، ويجعل الراقصات، مع بقائهن أيقاظا، يرقصن على المزمار بمعونة الآلهة التي يقدمن إليها قرابين مقبولة، ويبعث فيهن حالة ذهنية متزنة تحل محل التشنجات.»
28
ولقد أنبأنا أرسطوكسينوس
Aristoxenus ، تلميذ أرسطو، أن استخدام طريقة «التطهير» قد ظهر في الأصل لدى الفيثاغوريين، ولكن الواقع أن عادة استخدام الموسيقى في علاج المختلين عقليا ليست يونانية الأصل، وإنما اتبعت في الصين ومصر قبل أن يستخدمها الكهنة اليونانيون. وأغلب الظن أن أرسطو قد وسع هذه النظرية بعد أن لاحظ ما لبعض أنواع الموسيقى من تأثير في إحداث حالة نفسية أو نشوة دينية أو «أحوال» كما كان يسميها اليونانيون «وهو أمر نادرا ما يشاهد في هذا البلد، ولكن مقره الأصلي في الشرق». ولقد كان أولئك الذين يمرون بنوبات من الاختلال العقلي يعدون «مجذوبين» بالآلهة، فكان الكهنة يتولون معالجتهم. وكان الدواء من نفس نوع الداء؛ بمعنى أن أساسه هو تقديم موسيقى متشنجة لعلاج العقول المتشنجة؛ فالحركة الإيقاعية للنغم الموسيقي القلق العنيف، يمكن أن تؤثر في سامعها المعتل على نحو يكفل إعادة التوازن له. وفي الأدب اليوناني إشارات إلى حالات كان كهنة باخوس يجمعون فيها النساء ذوات العقول المختلة المضطربة، ويقتادونهن إلى المعبد للعلاج، وهناك يعزف الكهنة موسيقى المزامير الصاخبة التي تدفع النساء إلى الرقص، وكلما ازدادت الموسيقى عنفا ازداد الرقص تشنجا ، وعندما تخور قوى النساء يسقطن على الأرض في غيبوبة، وعندما يستيقظن تكون حالات الاختلال العقلي قد زالت، وتشفى النساء شفاء مؤقتا أو نهائيا.
29
كذلك ردد أرسطو آراء أفلاطون بشأن الطابع الأخلاقي للموسيقى؛ فقد كتب في «السياسة» يقول: «إن الألحان الخالصة هي بدورها محاكاة للخلق؛ ذلك لأن المقامات الموسيقية تختلف تماما الواحد عن الآخر، كما أن تأثيرها في سامعيها يختلف؛ فبعضها يجعل الناس في حزن وهم، كالمقام المسمى بالليدي المختلط، وبعضها الآخر يضعف الذهن، كالمقامات الرقيقة الناعمة، وغيرها يحدث مزاجا معتدلا مستقرا، وهو التأثير الذي يبدو أن المقام «الدوري» يتميز به، أما الفريجي فيوحي بالحماسة ... ومثل هذه المبادئ تنطبق على الإيقاعات؛ فبعضها له صفة السكون، وغيرها له صفة الحركة، ومن هذه الأخيرة ما يبعث حركة سوقية، ومنها ما يبعث حركة نبيلة ... فللموسيقى القدرة على تكوين الشخصية، ومن هنا كان من الواجب إدخالها في تعليم الصغار ... ويبدو أن فينا نوعا من التعاطف مع المقامات والإيقاعات الموسيقية، وهذا ما حدا ببعض الفلاسفة إلى القول إن النفس توافق، وغيرهم إلى القول بأنها تتصف بالتوافق.»
30
غير أن أرسطو اختلف مع أفلاطون في استبعاد هذا الأخير للمزامير، فكتب يقول: «إن سقراط «الجمهورية» مخطئ في اقتصاره على الاحتفاظ بالمقام الفريجي مع الدوري، لا سيما وهو يرفض استخدام الناي؛ ذلك لأن الفريجي بالنسبة إلى المقامات الأخرى بمثابة الناي بالنسبة إلى الآلات الموسيقية الأخرى كليهما عاطفي مثير. وهذا أمر يثبته الشعر؛ إذ إن الناي أقدر الآلات على التعبير عن الثورة التي تتمثل في رقصات باخوس، وغيرها من الانفعالات المماثلة، كما أن المقام الفريجي هو أصلح المقامات الموسيقية للتعبير عنها.
31
وأضاف أرسطو مواصلا بحثه للمقامات الموسيقية: «إن الناس جميعا متفقون على أن الموسيقى «الدورية» أكثر الأنواع جدية ورجولة. ولما كنا نقول بوجوب تجنب التطرف واتباع الوسط، ولما كان المقام الدوري وسطا بين المقامات الأخرى، فمن الواضح أن شبابنا يجب أن يعلموا الموسيقى الدورية.»
32
وعلى هذا النحو صاغ أرسطو مذهبا أخلاقيا مبنيا على فكرة الوسط العدل.
وقد وجدت النصيحة الحكيمة التي وجهها أفلاطون إلى حراس الدولة بشأن التعليم الموسيقي في «الجمهورية»؛ وجدت هذه النصيحة طريقها إلى كتاب «السياسة» لأرسطو، ولكن بصورة معدلة إلى حد ما؛ فقد أكد أرسطو منذ البداية أن أولئك الذين يحكمون على الموسيقى ينبغي أولا أن يكونوا عازفين أو مغنين لهم حظ غير قليل من الدراية؛ فليس في وسع أحد أن يفهم الموسيقى أولا، ثم يقدرها ثانيا لكي يصدر حكما معقولا على قيمتها، إلا من توافرت لديه معرفة بمختلف الأساليب والإيقاعات والألحان، وقدرة على التذوق الفني للموسيقى التي تعزف؛ وعلى ذلك فلا بد من تثقيف الشاب الأثيني موسيقيا، إذ شاء أن يصبح مواطنا مستنيرا، لكن ما مقدار التعليم الموسيقي الذي يتعين على الشاب أن يتلقاه؟ في هذه الحالة أيضا حدد أرسطو المطلوب على أساس فكرة الوسط العدل «إن دارسي الموسيقى يبلغون القدر المطلوب إذا ما توقفوا في تعليمهم قبل المرحلة التي يمكنهم فيها إجادة فنون العزف التي تمارس في مسابقات المحترفين، ولم يسعوا إلى اكتساب تلك المهارات العجيبة في العزف، التي تشيع اليوم في هذه المسابقات، ومنها انتقلت إلى ميدان التعليم.»
33
فعندما يكون الطالب قد اكتسب معرفة معقولة بالموسيقى، وأصبح قادرا على عزف الآلات، ينبغي أن يقال له إن الإقبال المفرط على الموسيقى لأجل الترويح عن النفس قد يؤدي إلى الابتذال، ولكن من الممكن أن نفي بشروط الوسط العدل إذا «مارس الشبان ذلك النوع الذي حددناه من الموسيقى، على ألا يتجاوزا الحد الذي يمكنهم فيه أن يشعروا بالطرب للألحان والإيقاعات الرفيعة، وليس فقط لذلك النوع الشائع من الموسيقى، الذي يطرب له كل عبد أو طفل، وربما بعض الحيوانات.»
34
فما هي الآلات التي تستخدم في تعليم الشباب؟ «إن الناي أو أية آلة أخرى تقتضي مهارة فائقة كالليرا ينبغي ألا يسمح بها في التعليم ... وفضلا عن ذلك فليس الناي بالآلة التي تعبر عن الصفات الأخلاقية، وإنما هو مثير أكثر مما ينبغي. والوقت المناسب لاستخدامه هو ذلك الذي لا يكون العزف فيه هادفا إلى التعليم، وإنما إلى التخفيف من الانفعالات. وثمة اعتراض آخر هو أن حيلولة الناس دون استخدام الصوت البشري يقلل من قيمته التعليمية.»
35 «وهكذا فإننا نرفض آلات المحترفين والأسلوب الاحترافي في تعليم الموسيقى (وأنا أعني بالاحترافي ما يتبع في المسابقات)؛ إذ إن العازف لا يمارس فنه في هذه الحالة من أجل العلو بنفسه، وإنما لكي يبعث في نفوس سامعيه لذة من نوع مبتذل؛ ولهذا السبب لم يكن أداء هذه الموسيقى من مهام الأحرار، وإنما هو عمل عازف أجير، والنتيجة هي أن يكون العازفون مبتذلين؛ إذ إن الغاية التي يستهدفونها سيئة، كما أن ابتذال المتفرج يؤدي إلى هبوط مستوى الموسيقى، وبالتالي مستوى العازفين؛ فهم يتطلعون إليه، وهو يجعلهم على ما هم عليه، ويتحكم حتى في تشكيل أجسامهم بالحركات التي يتوقع مهم القيام بها.»
36
وعندما وبخ فيليب المقدوني ابنه الإسكندر قائلا: «ألا تخجل من براعتك هذه في اللعب بالأوتار؟» كان في الواقع يعبر عن فلسفة الموسيقى التي حاول أرسطو بوصفه أستاذا للإسكندر في صباه، أن يبثها في نفس تلميذه. وقد روى بلوتارك هذه القصة مشيرا إلى أنتيسثينيس
37
Antisthenes
الكلبي الذي قال: «عندما سمع أن إسمنياس
Ismenias
عازف بارع على المزمار، قال: ولكنه إنسان حقير، وإلا لما كان عازفا بارعا إلى هذا الحد.» وهكذا قال فيليب ذات مرة لابنه الذي كانت أنامله تعزف على الأوتار عزفا ساحرا بارعا بعد أن تدور كئوس الخمر: «ألا تخجل من براعتك هذه في اللعب بالأوتار؟» فحسب الملك بلا شك أن يكون لديه من الفراغ ما يتيح له سماع الآخرين وهم يعزفون، وهو قطعا يبدي تنازلا كبيرا لربات النغم لو كان مجرد متفرج على مثل هذه المسابقات.
38
كذلك كان قلق أرسطو على حالة الموسيقى في عصره يرجع إلى أصل أفلاطوني؛ ففي محاورة «بروتاجوراس» أشار أفلاطون إلى مرحلة في الموسيقى اليونانية بدأت ملامحها تتحدد في القرن السابق له، وأخذت تكتسب شهرة واسعة بين الجماهير في جيله؛ فقد كان الموسيقيون المحترفون الذين يعزفون في المسابقات، في نظر أفلاطون، علامات على تدهور بطيء، ولكنه مؤكد، للحضارة اليونانية، وقد اعترض أفلاطون على الاهتمام بالتعبير الذاتي، والقوالب الحرة، والألحان المنمقة، والبدع الإيقاعية، والألحان الكروماتية
Chromatic ، وقد ظهر الموسيقار المحترف في اليونان خلال القرن الخامس، وذلك في أشخاص تيموثيوس
Timotheus
وإريبيدس
Euripides (480-406ق.م.) وفرونيس
(القرن الخامس ق.م.) وهو مجدد ثالث مزج الهكساميتر
Hexameter
بالشعر الغنائي الحر، وجعل صوت الليرا يشبه صوت البوق «كان ذلك عصرا يعير فيه الموسيقيون الأساليب والآلات حسب أهوائهم، فيجربون إيقاعات وأساليب جديدة في العزف لزيادة القدرة التعبيرية للموسيقى. كما كان عهدا اتصف بالذاتية إلى حد دفع أفلاطون وأرسطو إلى التحسر على التراث اليوناني الذي كان بسبيل الاندثار في المجال الفني.»
وقد دعم بلوتارك آراء أفلاطون وأرسطو؛ إذ أشار إلى أنه قبل أيام فرونيس
والاتجاه الذاتي «لم يكن يسمح للموسيقيين، ما يسمح لهم الآن بإدخال تعديلات على اللحن أو الإيقاع كما يشاءون، وإنما كان عليهم أن يلتزموا، دون تغيير، الأناشيد الشائعة بينهم، حسب الارتفاع الصوتي والوزن الإيقاعي المناسب.»
39
كذلك قدم بلوتارك تأييدا آخر لرأيه القائل إن تجديدات تيموثيوس وفرونيس عند نهاية القرن الخامس وأوائل القرن الرابع ق.م. قضت على البساطة الوقور التي كانت تتميز بها الموسيقى القديمة، فاقتبس من الروايات الهزلية لفركراتيس
وأرستوفان نصوصا؛ منها فقرة لرواية هزلية لفركراتيس صورت فيها الموسيقى على أنها شخصية نسائية مثخنة بالجراح، تشكو أمام العدالة من أن: «فرونيس قد شوه صورتي،
كما تفعل عاصفة عاتية ودوامة ثائرة،
واستخلص بحيلة شيطانية
اثني عشر توافقا صوتيا من أوتاري الخمسة البسيطة،
ولكن يا سيدتي الغالية، أتودين أن تعرفي الحقيقة،
عمن سبب لي أقسى الجرح، وألحق بي أفظع الآلام؟
إنه تيموثيوس الذي طردني من الأرض كلها.
لقد كان هو ألد أعدائي؛
ففي وسعكم أن تروا آثار قسوته الوحشية
عالقة بي؛ إذ كنت أتجول ذات مرة وحيدة،
فقابلني في طريقي المنعزل،
وهاجمني بقسوة، فخارت قواي، وانهارت شجاعتي،
وقيدني بأوتاره الاثنى عشر، فظللت أسيره بلا حراك.»
40
ثم اقتبس بلوتارك نصا من أرستوفان، الذي هاجم أوريبيدس، ومن ينادون بآراء مماثلة لآرائه، على أساس أنهم أصحاب فلسفة منحلة في الفن، ترجع جذورها إلى الحرية الفوضوية السائدة في عصر بركليس. وقد ورد ذكر فليوكسينوس عند أرستوفان، الشاعر الهزلي الذي تعرف منه أنه كان أول من أدخل الأغاني في المجموعات السيكلية
Cyclian . وقد صور الموسيقى على أنها تقدم شكواها على النحو الآتي: «لقد دفعني، رغما عني، إلى أن أبدو
في صورة السكير وسيمائه،
وجعلني أنطق أصواتا غريبة فاجرة،
لا يعرفها السلم المتوافق، وإنما تتجاوز حدوده بكثير،
وليس لها من هدف واحد مفيد،
بل تخالف جميع قواعد الانسجام.
وهكذا أخضعني لإرادته،
وهاجمني، وشوهني، وحملني كل الشرور،
أما أنا، فقد ضعفت مقاومتي، واضطررت إلى الرضوخ،
كما يميل الغصن اللين في كل اتجاه.»
41
أما آراء أرسطو في الانسجام وعلم الصوت، فكان يدين بها للفيثاغوريين؛ ذلك لأن الفيثاغوريين كانوا يرون أنه كلما كانت النسبة بين الجزأين اللذين ينقسم إليهما وتر متذبذب أبسط، كان توافق الصوتين أكمل. وقد علق أرسطو على ذلك قائلا: إن هذا المبدأ يستخدمه الصناع بدورهم في صنعهم للمزامير «ففي المزمار يحصلون على توافق بين القرار والجواب (الأوكتاف) عن طريق مضاعفة الطول. وهذه هي الطريقة التي يلجأ إليها صناع الناي. وبالمثل يحصلون على الصوت الخامس بواسطة طول نسبته 3 إلى 2 ... وعلى الصوت الرابع بطول نسبته 3 إلى 4»
42
كذلك لاحظ أرسطو أن الصوت الأحد يسبب صدمات أكثر في الهواء؛ لأن حركته أسرع،
43
ولما كان أرسطو يتفق مع الفيثاغوريين وأفلاطون على أن التناسب انتظام، وأنه يؤدي بطبيعته إلى إمتاعنا، فقد استنتج من ذلك «أننا نستمتع بمختلف أنواع الأغاني نظرا إلى ما فيها من طابع أخلاقي، أما الإيقاع فنستمتع به لأن له ترتيبا عدديا واضحا ومنظما، ولأننا ننساق معه بطريقة منظمة؛ ذلك لأن الحركة المنظمة بطبيعتها أقرب إلينا من الحركة المفتقرة إلى النظام، بحيث إن مثل هذا الإيقاع أكثر اتفاقا مع الطبيعة.»
44
ولقد كان أرسطو يعتقد، مثل أفلاطون، بأن الغاية القصوى للموسيقى ينبغي أن تكون خير الإنسان والمجتمع، ولكن على حين أن أفلاطون كان يعتقد بأن على الموسيقى أن تحاكي الطبيعة محاكاة أمينة، فإن أرسطو قد استقل عن أستاذه في القول إن وظيفة الموسيقى ليست محاكاة الطبيعة، وإنما إعادة خلق عالم الأصوات الطبيعية في أنغام موسيقية ذات طابع مثالي. وكان أرسطو يرى أن مؤلف الموسيقى أقدر من أي فنان خلاق آخر على التعبير عن انفعالات الإنسان وسلوكه؛ لأن القدرة التعبيرية للأنغام أعظم منها لدى الألوان. والموسيقى فن يسمو على الرسم بفضل طبيعتها الزمنية.
45
وهكذا انتهى أرسطو إلى القول بأن الموسيقى لا تقتصر على تصوير المظهر الخارجي للشعور والسلوك الإنساني، وإنما تمثل الدلالة الباطنة والحياة الانفعالية لأحوال الإنسان وأفعاله على نحو يفوق تمثيل أي فن آخر لها.
القسم الرابع: أرسطوكسينوس والفيثاغوريون
كان أفلاطون يؤمن بأن للموسيقى القدرة على تشكيل الشخصية. وكان يرى أن الموسيقى الرديئة يمكن أن تبعث في النفس أحوالا فاسدة تساعد على تكوين شخصية شريرة؛ لذلك أكد ضرورة تعليم حراس الدولة تعليما موسيقيا سليما، حتى يمكنهم أن يكشفوا ويستبعدوا الموسيقى التي وضعت لنص غير ملائم لها، أو الموسيقى التي تحاول محاكاة أصوات غريبة عن طبيعتها، وهو أمر لا يمكن أن ينجم عنه إلا تقليد فج للظواهر الفعلية فحسب. وقد حرص أفلاطون قبل كل شيء على تنبيه الكبار إلى أنهم ينبغي أن يبدوا الاحتقار الكامل للموسيقى التي تهدف إلى إظهار البراعة الفنية في العزف على الآلات فقط، وتكون في الوقت ذاته بعيدة عن معنى الألفاظ. ولم يكن أفلاطون يثق كثيرا في قدرة المواطن العادي على تمييز الموسيقى الجيدة من الرديئة، أو في إمكان الوثوق من الجماهير في المسائل المتعلقة بالذوق الموسيقى؛ لذلك ينبغي أن يتلقى حراس الدولة تعليما موسيقيا أفضل من تعليم عامة الناس لا في العزف البارع على الآلات، وإنما في فهم طبيعة الموسيقى، وتأثيرها في سلوك؛ إذ إن الكبار هم الذين تقع على عاتقهم تلك المهمة الدقيقة، مهمة الاختيار بين الموسيقى الجيدة والرديئة.
أما أرسطو فكان في معظم الأحوال مرددا لنظريات أفلاطون في الموسيقى، وقد اهتم، مثل أفلاطون، بالجوانب العددية للأصوات الموسيقية. وكانت الأفكار التي قدمها عن التركيب النغمي وعلم الأصوات أكثر تقدما من أفكار أي يوناني آخر باستثناء تلميذه أرسطوكسينوس
Aristoxenus .
ولقد تجنب أرسطوكسينوس (الذي ولد في حوالي 354ق.م.) المشكلات الأخلاقية والتفسيرات الرياضية الخالصة للموسيقى التي تمسك بها كل من أفلاطون وأرسطو. وكان يعتقد أن الحس والعقل؛ أي القدرة على السماع والقدرة على التمييز، لا بد أن تتيح للمرء أن يحكم بنفسه على الموسيقى بأنها جيدة أو رديئة. صحيح أنه وافق على أن لبعض الأساليب الموسيقية أوجه شبه مع حالات أخلاقية معينة،
46
ولكن هذا التشابه ينبغي ألا يفهم حرفيا أو يبالغ فيه.
ولم يكن أرسطوكسينوس بدوره شديد الحماسة للتجديدات الموسيقية في عصره؛ فقد شكا من أن كثيرا من الأعمال الموسيقية الجديدة قد فقدت جديتها وبساطتها، وزادت الزخارف الصوتية حتى لم يعد من الممكن تمييز اللحن الأصلي، وكانت المقامات تتغير بسرعة زائدة، وتفتقر إلى الترابط والاتصال. أما الموسيقى المصاحبة فكانت تسير في طريقها الخاص، وكثيرا ما كانت صاخبة مليئة بالضجيج. ومن هنا فإنه وصف كثيرا من الأعمال الموسيقية الجديدة بالانحلال، كما فعل أفلاطون وأرسطو من قبله.
ولقد ميز أفلاطون في الكتاب السابع من «الجمهورية» بين «النظرة العملية» الخالصة إلى الموسيقى كما تتمثل لدى هؤلاء الأفاضل الذين يداعبون الأوتار ويعذبونها ويشدونها إلى مفاتيحها، والذين ينصب اهتمامهم على ضربات الريشة، وسورات الأوتار وهدوئها وإقدامها، وبين النظرة العلمية لدى الفيثاغوريين الذين «بحثوا في العلاقة القائمة بين هذه التوافقات المسموعة». وانتقد الأولين؛ لأنهم «أخضعوا عقولهم لآذانهم»، وبذلك جعلوا أنفسهم «مثارا للسخرية»، ولكنه انتقد الفيثاغوريين بدورهم؛ لأنهم «اكتفوا بقياس الأنغام والتوافقات التي تميزها الأذن واحدا مقابل الآخر، فأجهدوا بذلك أنفسهم دون جدوى»، وكان الأجدر بهم، في رأيه، أن «يعكفوا على بحث المشكلات، بقصد معرفة الأرقام المتوافقة والأرقام غير المتوافقة، وسبب هذا الاختلاف بينهما.»
47
كذلك انتقد أرسطوكسينوس آراء الفيثاغوريين، على أساس أن الرياضيات وحدها لا يمكنها أن تفسر الطبيعة الحقيقية للخلق أو التذوق الموسيقي. كما انتقد أبحاث العمليين أو التجريبيين الذين كانوا يهتمون بالأنغام الموسيقية المفردة أكثر مما كانوا يهتمون بالعلاقة اللحنية بين نغمة وأخرى.
48
وقد رفض أرسطوكسينوس الاعتماد على الأذن وحدها في تحديد الطابع الجمالي للعمل الموسيقي. كما رفض الرأي القائل بأن الأحكام الجمالية في الموسيقى هي أساسا عملية عقلية، فروى أن بعض السابقين عليه «أقحموا الاستدلال العقلي الذي ينتمي إلى مجال غير مجال الموسيقى، ورفضوا أن يعترفوا بالحواس؛ لأنها أدوات مصطنعة تفتقر إلى الدقة العقلية، فأكدوا أن حدة الصوت وانخفاضه يرجع إلى نسب معينة، واختلاف نسبي في مقدار التردد (الذبذبة)، وهي نظرية خارجة تماما عن الموضوع، تتعارض كل التعارض مع الظواهر، على حين أن غير هؤلاء، ممن استغنوا عن العقل والبرهان، قد اقتصروا على عبارات قطعية منعزلة، فلم ينجحوا بدورهم في تعداد الظواهر الخالصة. أما منهجنا فيرتكز آخر الأمر على ملكتي السمع والتعقل معا؛ فبالأولى نحكم على مقدار المسافات، وبالثانية نتأمل وظيفة الأنغام. وعلى ذلك فمن الواجب أن نعود أنفسنا التمييز الدقيق بين الجزئيات؛ ذلك لأن إرهاف الإدراك الحسي أساسي لدارس العلم الموسيقي، والمعرفة الموسيقية تقتضي معرفة عنصر متغير وثابت في آن واحد، وهذا ينطبق دون قيد أو شرط على كل فروع الموسيقى.»
49
وقد كتب «هنري س ماكران» في مقدمته لكتاب «الهارمونيات لأرسطوكسينوس» يقول: «كانت حدود العلم الموسيقي قد أسيء فهمها تماما طوال الوقت السابق على ظهور أرسطوكسينوس في الميدان. صحيح أنه كانت توجد مدرسة مزدهرة للفن الموسيقي، وكان هناك تفضيل واع لهذا الأسلوب في التأليف على ذاك، ولهذه الطريقة في الأداء على تلك، ولهذا التركيب للآلات على ذاك، وكانت العادات التي تكونت نتيجة لهذه التفضيلات تنقل بالتعليم. وتيسيرا لهذا التعليم، ومساعدة على الحفظ، كان يلجأ إلى الرسوم والتعميمات السطحية. أما المبادئ لذاتها فلم يكن الفنان، الذي كان تجريبيا عمليا، يعبأ بها على الإطلاق. وفي مقابل هؤلاء التجريبيين كانت هناك مدرسة من الرياضيين والطبيعيين، يزعمون أنهم دارسون للموسيقى، ويعدون فيثاغورس أستاذا لهم، كانوا يشغلون أنفسهم بإرجاع الأصوات إلى ذبذبات هوائية، وبمعرفة العلاقات العددية التي تحل عند العقل الرياضي محل التمييزات الحسية بين الصوت الحاد والمنخفض. هذه المدرسة كانت علمية بالمعنى الصحيح، وقد أثبتت الكشوف الحديثة صحة فروضها ودقة حساباتها. ومع ذلك لم يكن العلم الموسيقي ظهر لديها بعد؛ ذلك لأنه إذا كان الفنانون موسيقيين بلا علم، فقد كان الطبيعيون والرياضيون علماء بلا موسيقى؛ فتحت مجهر تحليلاتهم تتساوى كل التفضيلات الموسيقية، ويضحى بكل قيمة موسيقية، وترتد الأصوات والألحان الرفيعة الجميلة، شأنها شأن القبيحة المنحطة، إلى علاقات عددية وعلاقات بين العلاقات، يكون لكل منها من القيمة الزائدة أو الناقصة ما لأية واحدة أخرى. ولقد اهتم الفيثاغوريون بإيضاح السوابق الفيزيائية والرياضة للأصوات بوجه عام، إلى حد أنهم لم يدركوا أن لب الأصوات الموسيقية إنما يكون في علاقتها الدينامية بعضها ببعض. وهكذا لم تتكون لديهم الفكرة الصورية الصحيحة عن الموسيقى، وهي الفكرة التي كانت ماثلة دائما أمام ذهن أرسطوكسينوس، وأعني بها فكرة نسق الأصوات أو الكل العضوي الذي تكونه، والذي يكون وجود كل جزء فيه مرهونا تماما بما يفعله، ولا يمكن فيه للصوت أن يكون جزءا منه لمجرد أن هناك مكانا له، وإنما لا بد أن تكون له وظيفة يستطيع القيام بها.»
50
وربما كان أرسطوكسينوس أول المفكرين الموسيقيين الإنسانيين في الحضارة الغربية؛ فقد اتخذت فلسفته الموسيقية من الإنسان حكما وحيدا لما هو خير وما هو شر في الموسيقى. وكان يقدر تماما الدور الذي قام به التجريبيون والفيثاغوريون في أبحاثهم للتركيب الفيزيائي والرياضي للأنغام، ولكنه كان يرى أن الأنغام المفردة لا تكون بذاتها موسيقى، وأن معرفة العناصر العددية لأنغام معينة لا يؤدي بالضرورة إلى زيادة قيمة الموقف الجمالي الموسيقي؛ فمعرفة «الهارمونيات» شرط ضروري للفهم، ولكن أرسطوكسينوس كان يعتقد أن التقدير الصحيح للموسيقى يتجاوز نطاق فهم فيزياء الصوت ونظرياته العلمية، ولا بد أن يبلغ أوجه في الشعور العاطفي.
وبالكلام عن أرسطوكسينوس نقترب تاريخيا من نهاية الحضارة الأثينية والخلق الموسيقي اليوناني. وفي عصره ثبتت دعائم موسيقى الآلات الخالصة، وصمدت بعد استحداثها أمام صيحات الفلاسفة، كما طرأ تغيير هائل على دور المجموعة الغنائية (الكورس) في التراجيديا اليونانية؛ فقد كانت التراجيديا اليونانية عملا موسيقيا دراميا يستخدم الغناء والكلام معا. وكانت المجموعة تغني أو تنشد طوال المسرحية ، موضحة الأحداث الجارية، وكثيرا ما كانت تثير حالة انفعالية تمهد لحدوث كارثة أو بلوغ ذروة. كذلك كانت هناك أغان لأصوات منفردة مشتبكة في نسيج الرواية، وكانت هذه الأغاني تضفي تنوعا على الاطراد النغمي للدراما. وفي حوالي عصر أرسطوكسينوس، أخذ الغناء الإيقاعي السلبي للمجموعة يتضاءل؛ إذ إن أفراد المجموعة كانوا يعطون أدوارا إيجابية في التراجيديا.
إن معرفتنا بالموسيقى اليونانية التي كانت توجد فعلا في أيام أفلاطون وأرسطو وأرسطوكسينوس هي معرفة شحيحة مبنية على التخمين. وكثير من الكشوف الأثرية الموسيقية التي كان يظن أولا أنها يونانية، تبين فيما بعد أن لها أصلا متأخرا. ومعظم الألحان الأصلية التي نعرفها لا توجد منها إلا أجزاء فحسب. وأهم هذه الألحان هي «أنشودتان دلفيتان لأبولو
Hymns to “Two Delphic Apollo” ، وهما لحنان كشفا في ألواح مرمرية في خرائط دار الخزانة الأثينية في دلفي. وأولاهما ترجع إلى حوالي عام 138ق.م. وتعد ممثلة حقيقة للموسيقى اليونانية. ولدينا أيضا فقرة من رواية «أورست
Orestes » لأوريبيدس، يعتقد أنها أقدم قطعة موسيقية يونانية نعرفها. غير أن مراجعنا الأصلية للمعلومات التاريخية والنظرية هي كتابات الفلاسفة والمؤلفين النظريين اليونانيين؛ فمن هذه الكتابات جاءتنا أفكار عن موسيقى هذه الفترة تزيد على ما جاءنا من النماذج الباقية من هذه الموسيقى، وهي نماذج قليلة ناقصة على أحسن الفروض. وأغلب الظن أن جزءا كبيرا من هذه الموسيقى لم يسجل، على الرغم من أن اليونانيين الأولين كان لديهم نظام للتدوين الموسيقي، ونظرا إلى أن جزءا كبيرا من هذه الموسيقى كان يتداول شفويا، وكذلك لأن القصائد والأغاني كانت تؤلف أحيانا لمناسبة خاصة، ثم تطرح جانبا، فلنا أن نستدل من ذلك على أن الجزء الأكبر من الموسيقى اليونانية قد ضاع بتدهور الحضارة اليونانية.
القسم الخامس: العصر اليوناني الروماني
كان أبيقور (342-270ق.م.) المعاصر لأرسطوكسينوس، يدعو إلى أسلوب في الحياة مبني على الاعتدال والاتزان؛ فأرفع الفلسفات تلك التي توجه الإنسان إلى موقف عملي من الحياة وفهم لها من شأنهما أن يجعلا حياة الإنسان أهدأ وأسلم. وقد وافق أبيقور على التفسير المادي للطبيعة، كما ظهر في الأصل لدى ديمقريطس، كذلك كان يرى أن الآلهة في مقارها البعيدة لا تتأثر ببؤس البشر ولا يمكنها حتى لو شاءت أن تؤثر على أي نحو في حياة الإنسان. والنفس البشرية مادية، وهي تشارك الجسم مصيره. ولكن من الغريب أن أبيقور تابع أرسطوكسينوس في اعتقاده الفيثاغوري بأن النفس «انسجام» للجسم. أما «لوكريتيوس
Lucretius » (95-52ق.م.) وهو أفضل دعاة الأبيقورية، فقد سخر بعد قرنين من الزمان من فكرة تطبيق مصطلحات موسيقية كالانسجام على تركيب الجسم الإنساني ووظائفه، فكتب يقول: «لما كانت طبيعة الذهن وطبيعة النفس قد ثبت أنها جزء من الإنسان، بمعنى ما، فلتطرحوا اسم الانسجام جانبا، سواء أكان قد هبط للموسيقيين من قمم الهليكون
51
أم كانوا هم أنفسهم قد استمدوه من مجال آخر، ونقلوه إلى ذلك المجال الذي عندئذ في حاجة إلى اسم مميز. وأيا ما كان الأمر، فليحتفظ به الموسيقيون لأنفسهم.»
52
أما فيلوديموس
، وهو أبيقوري آخر كان معاصرا للوكريتيوس، فقد أضاف إلى ذلك قوله: «إن الموسيقى لا معقولة، ولا يمكنها أن تؤثر في النفس ولا في الانفعالات، وهي لا تفوق الطبخ من حيث هي فن تعبيري.»
53
وقد شن فيلوديموس حملة على الفلاسفة الذين جعلوا للأساليب الموسيقية اليونانية دلالة أخلاقية، مثل أفلاطون وأرسطو، ورفض أن يصدق أن الموسيقى تحاكي الظواهر الطبيعية أو تعبر عن حالات ذهنية. وهكذا انتهى فيلوديموس إلى أن الفلاسفة والنقاد الذين لا يمكنهم إجادة العزف أو الغناء هم وحدهم الذين يعزون إلى الموسيقى دلالة أخلاقية، وبذلك «يقعون فريسة حالات من النشوة ويشبهون الأنغام بالظواهر الطبيعية.»
والواقع أن كتاب لوكريتيوس «في طبيعة الأشياء»، ينطوي على خلاصة الفكر الأبيقوري. وهو يتضمن أيضا نظرية في أصل الموسيقى الغنائية وموسيقى الآلات؛ فقد تعلم الإنسان الغناء أولا بمحاكاة الطيور، ثم اخترع آلات تصاحب غناءه ورقصه في أوقات فراغه «غير أن تقليد الأصوات الواضحة للطيور بالفم كان شائعا قبل وقت طويل من تمكن الإنسان من الغناء في أبيات شعرية منغمة منسابة، ومن تشنيف الآذان بغنائه، كما أن صفير النسيم خلال ثقوب القصبات كان أول ما علم أهل الريف نفخ المزامير المفرغة، ثم تعلموا بالتدريج كيف يعزفون الأغاني العذبة الحزينة، التي تنبعت عن المزمار عندما تضغطه أصابع العازفين، والتي تسمع خلال الأحراش الكثيفة والغابات والمراعي، وعبر الديار المهجورة للرعاة والبيوت ذات الهدوء السماوي. هذه الأنغام كفيلة بأن تهدئ نفوسهم، وتبعث فيها الرضا عندما لا تكون بها حاجة إلى الطعام.»
54
وفي خلال حكم الأباطرة الرومان، ضم المذهب الأبيقوري بين صفوفه جماعة مستنيرة كانت تعارض البقية الباقية من مذهب تعدد الألوهية الوثني، بقدر ما كانت تعارض اللاهوت المسيحي. أما المدرسة الرواقية في الفلسفة، التي أسسها زينون (حوالي 350-258ق.م.) فكانت تمثل جماعة عقلية ظهرت في العهد الروماني المتقدم، وتسعى إلى إحياء بقايا العقيدة اليونانية، وقد رفض الرواقيون نظرية المثل عند أفلاطون، كما رفضوا فكرته في المعرفة الفطرية، وذهبوا إلى أن الحس هو المصدر المشترك لكل معرفة بشرية. وكان الشعار الرفيع للفلسفة الرواقية هو الفضيلة من أجل الفضيلة، وأسمى خير هو ذلك الذي يستمد من أداء المرء لواجبه بدافع البحث فحسب. وكانوا يرون أن الحكيم وحده هو الحر؛ لأنه تعلم كيف يقهر الميل إلى الكسب المادي وعبودية الشهوات؛ فالحكيم يستسلم تماما لكل ما قضت به الطبيعة والقدر، والعقل يدفع الحكيم إلى قبول هاتين القوتين، بوصفهما العاملين اللذين يتحكمان في كل تفكير وسلوك. وعلى ذلك فالواجب على الناس جميعا أن يتبعوا الطبيعة ويستسلموا تماما لها وللقدر الذي تخبيه لكل إنسان. ولما كان انسجام الموسيقى يقتدي بأنموذج الانسجام الطبيعي، فمن الممكن مساعدة الإنسان على أن يحيا وفقا للطبيعة إذا أسمعناه الأساليب والإيقاعات الموسيقية الصحيحة. وفي هذه النقطة كان الرواقيون متفقين مع أفلاطون.
وقد أنبأنا الرواقيان شيشرون (106-43ق.م.) وسنكا (4ق.م.-65م) أن الموسيقى قد ازدهرت في جميع أرجاء العالم الروماني قرب نهاية القرن الأول، وقد اهتم الرومان بالإيقاع اهتماما خاصا، وهناك من الدلائل ما يشير إلى أنهم استخدموا نوعا بدائيا من «البوليفونية» (تعدد الأصوات)، وكان هناك إقبال شديد على اليونانيين الجوالين الذين كانوا يقومون بتمثيل أدوار حركية، ويغنون ويعزفون على الآلات الموسيقية. وكانت الطبقات العليا من الرومان تشجعهم، وعامة الناس تعجب بهم كثيرا. ولما كان الرومان ينظرون إلى أنفسهم على أنهم دولة عسكرية عظمى، فقد توسعوا في استخدام الآلات النحاسية، مما يذكرنا بأرسطوكسينوس الذي رأى أن العمق الذي يتميز به النظام الموسيقي اليوناني يضيع في حضارة يحل فيها الكوليزيوم محل المسرح،
55
وتشيع فيها أبواق الجند أكثر مما تشيع مزامير الرعاة.
والمؤلف الشامل الوحيد الذي بقي لنا كاملا من العصر اليوناني الروماني هو كتاب أريستيدس كونتليانوس
Aristides Quintilianus ، الذي عاش في القرن الثاني الميلادي، والذي كان كتابه «في الموسيقى
Concerning Music » تلخيصا وتأييدا للآراء الموسيقية التي كانت تعلم في أكاديمية أفلاطون ولوقيوم (ليسيه) أرسطو. والواقع أن ما نعرفه بالفعل عن العادات الموسيقية للرومان قليل. كما أن موسيقاهم لم يبق منها شيء. غير أن هناك إشارات متعددة من الهجاء الشعري الموجه إلى الموسيقى وما فيها من ابتذال وإملال؛ فقد شكا «سيكا» من أن الفرق الموسيقية والمجموعات الغنائية قد تضخم حجمها إلى حد أنه كثيرا ما توجد في المسرح من المغنين والعازفين أكثر مما يوجد من المتفرجين، وأضاف شيشرون أن الموسيقى لم تعد تتميز ب «العذوبة الصافية» التي كانت سائدة في الموسيقى القديمة للمسرح الروماني، واستخلص من ذلك نتيجة فلسفية إلى حد ما، وهي أن الموسيقى في حالتها الراهنة لا تبعث إلا لذة صبيانية، وهي عديمة الجدوى من الناحية العملية؛ إذ إنها لا تقربنا على أي نحو من السعادة الدائمة.
56
وهكذا قال الأخلاقي كلمته في روما، كما في اليونان، فشكا من أن الألحان فيها نعومة وطراوة، ومن أن الموسيقى عامة قد أصبحت فنا منحلا.
ولم يسهم الرومانيون بالكثير في تقدم الموسيقى؛ فقد اقتبسوا النظريات والأساليب العملية اليونانية، وعدلوها تبعا لطريقتهم الخاصة في استخدامها، وقد أورد «فتروفيوس
Vitruvius » وهو مهندس معماري وأديب روماني عاش في عصر يوليوس قيصر وأغسطس، أورد في كتابه عن العمارة فصلا عن التوافق الموسيقي يتجلى فيه اعتماد الرومان على الموسيقى اليونانية؛ ففي هذا الفصل يرتفع صوته بالشكوى قائلا: «إن التوافق فرع صعب غامض من الآداب الموسيقية ، ولا سيما بالنسبة إلى الأشخاص غير العارفين باللغة اليونانية؛ فلو شئنا أن نشرحه لتعين علينا استخدام ألفاظ يونانية بعضها لا يوجد له مقابل في اللاتينية؛ لذلك فإنني سأترجم على قدر استطاعتي من مؤلفات أرسطوكسينوس.»
57
على أن العصر الروماني وإن افتقر إلى الأصالة، كان حافلا بالنشاط في ميدان الموسيقى؛ فقد كانت الأسر الراقية تدرج الموسيقى ضمن برامج التعليم الثقافي، مع البلاغة والديالكتيك والهندسة والرياضيات. وكان من مظاهر الروح العصرية أن تتعلم سيدات الطبقة الراقية العزف على القيثار والليرا. وعندما شاعت هاتان الآلتان بين الطبقات الدنيا، قررت سيدات الطبقة العليا التماس أنواع أخرى من الترفيه الموسيقي حتى يتميزن عن عامة الناس، فاستأجرن الموسيقيين اليونانيين المتجولين ليغنوا ويعزفوا لهن، وتخلين تماما بمضي الوقت عن عادة تعلم العزف على الآلات الموسيقية. وتطور المنشدون الجوالون إلى طبقة من أساطين العزف الموسيقي؛ إذ كان كل منهم يحاول التفوق على الآخرين في استعراض البراعة الفنية، وفي الأداء المثير للإعجاب، فاشتعلت بينهم المنافسة الرخيصة، وكان الهتافون المحترفون يستأجرون، والمحكمون يرتشون من أجل محاباة مغن على حساب آخر. وأخذت نساء المجتمع الروماني على عواتقهن مهمة رعاية مصالح الفنانين العباقرة الذين يعيشون تحت رعايتهن؛ إذ كان الأغنياء يأتون بالعبيد الموهوبين في الموسيقى ليعيشوا في بيوتهم، حتى يرفهوا بالغناء وبالعزف من الصباح إلى المساء.
ولقد كان المسرح يكون جانبا هاما من جوانب الحياة الثقافية للرومان، كما كان عند اليونان. وكما حدث في أواخر عهد المسرح اليوناني، فقد تضاءل دور المجموعة الغنائية في المسرح الروماني بالتدريج، لتحل محلها الأصوات المنفردة، سواء أكانت متحدثة أم مغنية، وكانت تصاحبها آلة تسمى بالمزمار
tibia . وعلى حين أن الشاعر والموسيقار كانا عند اليونان واحدا، فإن الشاعر الدرامي والهزلي الروماني لم يكن يؤلف موسيقاه، وإنما كان يكلف موسيقيا محترفا بالتلحين الإبداعي. وبينما كانت الموسيقى تلعب في المسرح اليوناني دورا رئيسيا؛ إذ تحفظ وحدة الأحداث وتزيد من واقعية الموضوع، فإن الممثل الروماني كان يستعرض فنه في مناظر متفرقة كانت تفتقر إلى الاتصال والواقعية في كثير من الأحيان. وكان دور الموسيقى في المسرح الروماني ثانويا، لا يزيد على ملء الفراغات بين الممثلين، أو على أحسن الأحوال مساندة أحد الممثلين ، على ألا يصل ذلك أبدا إلى حد التقليل من انتباه الناس إلى إلقائه الفردي.
وقد اتفق كونتليان
Quintilian (35م) مع معاصره سنكا في الإعراب عن قلق المثقف الروماني على موسيقى عصره: «... فالموسيقى التي أود أن أراها تعلم ليست موسيقانا الحديثة، التي أفسدتها الألحان الحسية التي تشيع في مسرحنا المخنث، والتي قامت بدور غير قليل في القضاء على البقية الباقية من خشونتنا وصلابتنا. كلا، وإنما أشير إلى موسيقى القدماء، التي كانت تستخدم في الإشادة بذكر الشجعان، وكان يغنيها الشجعان أنفسهم. إنني لا أقبل شيئا من آلاتكم الهوائية أو الوترية التي لا تليق حتى بصبية وضيعة. وإنما أود أن تعطوني معرفة مبادئ الموسيقى، التي لها القدرة على إثارة انفعالات البشر أو تهدئتها.»
58
ولعل عملا من الأعمال الأدبية القديمة لم يصور تدهور الموسيقى اليونانية بمثل الوضوح الذي صورها به هوراس في «فن الشعر
Ars Poetica » فقد عاصر في حياته فترة من أهم فترات التاريخ؛ إذ إنه عندما ولد (عام 65ق.م.) لم يكن الصراع بين بومبي وقيصر حول السيطرة على الإمبراطورية الرومانية قد بدأ بعد، ولكنه عندما بلغ الحادية والعشرين كان النظام القديم قد انهار وحل محله النظام الجديد، وتحولت الجمهورية إلى ملكية، وبالفعل إن لم يكن بالاسم. وجر هذا التغيير في السياسة تغيرات في الفنون. وفي الفقرة الآتية من «فن الشعر» وصف دقيق لحالة الموسيقى في ظل حكم قيصر:
في يوم العيد الصاخب،
حين لم يجد الناس غضاضة. بدأ حفلهم وقت الظهيرة،
انطلقت الموسيقى من عقالها،
وتحرر الشعر من كل قيد،
فأي ذوق تنتظر من جمهور مختلط كهذا،
يجمع بين المهرج والمواطن الجاد، ويجلس فيه الأجلاف مع الأشراف؟
وسرعان ما أضاف عازف الناي،
سحر الحركات إلى قدرة الغناء،
وعبر عن إحساسه بالمحاكاة الرشيقة،
وجرجر عبر المسرح أذيال ردائه الطائر،
ثم جلجلت أصوات الليرا خشنة مرتعشة،
تصب أنغامها في آذان منتعشة،
وتعلمت ربة الصوت كيف تطير،
وتكسب جناحها الجرأة على التحليق في أماكن لم تعهدها من قبل.
وعندما ألهبتها نار الوحي، طلبت إلى كل بيت من الشعر أن يحاكي في العنف نشوة الرقص في معبد دلف.
أما ذلك الذي وقف وسط العرض الجاد وأجهد حنجرته ليكسب الجائزة التافهة - عنزا كث الشعر -
فقد أتى على المسرح بعصابته من السوقة،
ونطق بالمزاح والتهريج أمام الجمهور،
ودون أن يتخلى عن النغمة الحزينة نهائيا،
أعمل أصابعه في أصوات مرحة عربيدة،
وحاول بأغان غريبة جديدة،
أن يجعل جمهورا مخمورا يتسمر في مجلسه،
مع إنهم لم يتحرروا من الطقوس الصاخبة إلا منذ قليل،
وكانوا متأهبين للهو المنحل، وممتلئين بمرح السكارى،
ومع ذلك نقلتهم الأنغام من الجد إلى الهزل،
وبلغ من قوة التأثير الدعابة اللاذعة،
أن كل إله وكل بطل،
كان قبل ذلك يخطر بأردية قرمزية ومهابة ملوكية،
تخلى عن كل وقاره في الكلام،
وتحول إلى لهجة السوقة ولغة العوام،
أو حلق إلى الأعالي في لهفة وتسرع،
فلم يمسك إلا سحبا خالية، ولم يبلغ إلا سماء الألفاظ الخاوية،
بينما ربة المأساة قد كسا وجهها الخجل،
وازدرت لغة السوقة وتهليل التافهين ...»
59
وفي إشارات أفلوطين (204-269م) إلى الموسيقى ظهر طابع الأفلاطونية المحدثة بوضوح «فلما كانت كل موسيقى تهتم أساسا باللحن والإيقاع، فلا بد أن تكون انعكاسا أرضيا للموسيقى التي تتمثل في إيقاع العالم المثالي. ويمكن القول عن الصنائع، كالبناء والنجارة، التي تضفي على المادة صورا وأشكالا، إنها فيما تقتدي به من نماذج تستمد مبادئها من ذلك العالم وما فيه من تفكير. أما في هبوطها بهذه النماذج وربطها إياها بالعالم المحسوس، فإنها لا تكون منتمية تماما إلى عالم المعقول، وإنما يرجع أصلها إلى الإنسان.»
60
وقد اتفق أفلوطين مع أفلاطون وأرسطو في الاهتمام بالقيمة الأخلاقية للموسيقى، ولكنه اختلف عنهما في أنه لم يجعل هذه القيمة مبنية على أساس سياسي، وإنما على أساس ديني؛ فبواسطة الجمال، وعن طريقه، يطهر الإنسان روحه، فينتقل بذلك في مدارج الخير واحدا بعد الآخر، فإذا كان الإيقاع في الموسيقى مظهرا أرضيا للإيقاع في العالم المثالي، كانت الموسيقى أقدر الفنون على الارتقاء بالإنسان إلى مراق أنقى وأصفى، ولكنه كان بدوره يخشى مثل أفلاطون من أن يؤدي هذا النبض الإيقاعي ذاته، بالمثل، إلى بث الشر في النفوس. ولقد بدأ أفلوطين حيث انتهى أفلاطون، ونسب الخلق الفني إلى قدرة الإنسان على محاكاة المثل الأعلى؛ فالوحي يأتي من أعلى، ولا بد أن يكون التكوين المزاجي للموسيقى معينا له على أداء هذه الرسالة في الحياة، فلا بد له أن يكون «سريع الاستجابة للجمال إلى أبعد حد»، منجذبا إليه إلى حد الافتتان به؛ بحيث تكون استجابته لدوافعه هو ذاته بطيئة إلى حد ما، أما استجابته للمثيرات الخارجية فتكون فورية مباشرة «وفضلا عن ذلك ينبغي أن يكون الموسيقي حساسا للأنغام والألوان، نفورا من الأصوات الخشنة غير الإيقاعية»؛ فالروح الموسيقية تهفو إلى «التناسق والأنموذج الجميل الصورة». «هذا الميل الطبيعي ينبغي أن يكون نقطة بداية مثل هذا الشخص؛ فلا بد أن يكون ممن يجتذبه النغم والإيقاع وجمال الصورة في المحسوسات. ولا بد أن يعرف التمييز بين الصور المادية وبين الوجود الحقيقي الذي هو مصدر كل هذا التطابق، ومصدر كل التنظيم المعقول في العمل الفني. وينبغي أن يعلم أن ما كان يسحره ليس إلا انسجام العالم المعقول، وما في ذلك المجال من جمال، وليس صورة معينة للجمال، وإنما الجمال الشامل والجمال المطلق، ولا بد أن تغرس فيه حقائق الفلسفة لكي تؤدي به إلى الإيمان بما يملكه في ذاته، وإن لم يكن على علم به.»
61
وعندما يتم تأليف الموسيقى، يكون في وسع الخلق الفني للملحن أن يسحر النفس البشرية إلى حد أن المستمع إلى الموسيقى لا يكاد يشعر عن وعي بتأثيرها الخلاب فيه؛ ففي استطاعة الموسيقى أن تثير في النفس أحوالا متعددة دون أن يملك السامع إلا الاستسلام لها.
62
ولقد كانت الموسيقى في نظر أفلوطين أشبه بالصلاة؛ إذ إنها تتيح للسامع أن يتحد بالملحن «فالصلاة تستجاب لمجرد أن الطرفين يتوافقان مع نغمة واحدة، كوتر موسيقي يغمز من أحد طرفيه فيتذبذب في الطرف الآخر بدوره. وكثيرا ما يؤدي عزف وتر إلى إثارة ما يمكن أن يعد إدراكا في وتر آخر، نتيجة لانسجامها وتناغمها في سلم موسيقي واحد، فإذا كانت ذبذبة «ليرا» تؤثر في «ليرا» آخر بفضل ما بينهما من تعاطف، فلا بد أن يكون هناك نظام لحني واحد في «الكل»، على الرغم من كونه مؤلفا من أضداد، هو التشابه والتقارب.»
63
وهكذا فإن النظرية الأخلاقية في الموسيقى، التي علت مكانتها عند أفلاطون، قد اكتسبت مزيدا من القوة الدافعة على يد أفلوطين، ثم أصبحت هي السائدة طوال تاريخ الفن في العصور الوسطى.
وبعد عامين من وفاة أفلوطين، ظهر قسطنطين إلى العالم ليجعل من المسيحية عقيدة الدولة في عهده. وقد أسهم فرفوريوس (233-305م) تلميذ أفلوطين، الذي ألف شرحا لكتاب «الهارمونيات
Harmonics » لبطليموس؛ أسهم بطريق غير مباشر في الموسيقى المسيحية؛ ذلك لأن أفلوطين لم يشر إلى المسيحيين في كتاباته، وربما كان قد تباعد عنهم بوصفهم طائفة ذات معتقدات غريبة تختلف عن معتقداته، أما فرفوريوس فقد كان مدافعا متحمسا عن الوثنية، وخصما لدودا للمسيحية، ولكن من الغريب مع ذلك أن دفاعه الحار عن الزهد قد أدى به إلى تأييد الموقف المسيحي بمهاجمته للمتعة الحسية التي تقدمها إلينا الموسيقى، وقد شبه تأثير المناظر الدرامية والرقصات، بما فيها من موسيقى، بتأثير سباق الخيل. وقد رأى فرفوريوس، مثل أفلوطين، أن الخلق الموسيقي يرجع أصله إلى مجال أعلى، ولا يصدر عن المسرح. ومن هنا فإن تدنيس الموسيقى بالهبوط بها إلى مستوى حسي أو إثقالها بأوزار الإثم إنما هو خطيئة في حق العالم المثالي. على حين أن التهذيب الموسيقي الصحيح كفيل بتقريب الإنسان من هذا المثل الأعلى.
على أن النظرية الأفلاطونية القائلة: إن النظام الموسيقي شبيه بالنظام الأخلاقي السائد في الكون، وإن الموسيقى تستطيع أن تهذب نفس الإنسان إذ اقتصر على سماع الموسيقى المعدة إعدادا سليما؛ هذا الرأي قد تعرض في العصر اليوناني-الروماني لانتقادات بعض الفلاسفة ذوي العقليات التجريبية، مثلما انتقده أرسطوكسينوس وثيوفراسطس في العصر اليوناني؛ ذلك لأن سكستس إمبريكس
Sextus Empiricus
الفيلسوف اليوناني الشكاك، الذي نشر تعاليمه حوالي عام 200 الميلادي، قد طرح هذه التشبيهات الأفلاطونية جانبا، بوصفها أساطير فلاسفة تأمليين، وكتب يقول: إن الموسيقى فن للأنغام والإيقاعات لا يدل على شيء عدا ذاته، والمعيار الوحيد الذي ينبغي أن يحكم به على الموسيقى هو المتعة الحسية التي تثيرها الأصوات الموسيقية فحسب.
ولقد ظهرت في القرون التالية شخصيات أخرى أعربت عن شكها في النظريات الأفلاطونية في الموسيقى، ولكن قليلا جدا من هؤلاء كانوا من الفلاسفة المعروفين الذين تركوا مؤلفات تاريخية لها قيمتها. ومن جهة أخرى فقد تولى أوغسطين وبويتيوس
Boethius ، وهما فيلسوفان بارزان في العصور الوسطى، مهمة نقل فلسفة أفلاطون الجمالية في الموسيقى إلى العالم الغربي بحماسة دينية وفلسفية. وكان الاختلاف مع آراء أوغسطين أو الشك في أفكار بويتيوس في الموسيقى مساويا للمروق من المسيحية وللجهل بالفلسفة.
الفصل الثاني
الموسيقى في العصور الوسطى
القسم الأول: آباء الكنيسة
إن ما نعرفه عن موسيقى الحضارة الغربية في الاثني عشر قرنا التي بدأت بميلاد المسيح، وامتدت حتى ظهور النزعة الإنسانية المدرسية في القرن الثاني عشر ليزيد عما نعرفه عن الموسيقى اليونانية في الاثني عشر قرنا التي بدأت بعصر هوميروس، وانتهت بتدهور الحضارة اليونانية. غير أن معرفتنا بالموسيقى الفعلية في القرون المسيحية الأولى أقرب إلى أن تكون ضربا من التخمين؛ إذ ليس لدينا من الموسيقى الدينية أو الدنيوية الحقيقة في هذه الفترة إلا القليل، إن كان لدنيا منها شيء على الإطلاق. غير أن حظنا أسعد إلى حد ما بالنسبة إلى الموسيقى الدينية والدنيوية التي حفظت لنا في صورة معدلة منذ النصف الأخير من العصر الوسيط. ولا جدال في أن ما تراكم لدينا من مخطوطات العصور الوسطى أوفر مما لدينا من سجلات الموسيقى اليونانية، التي لا نملك منها إلا شذرات قيمة قليلة العدد. ومع ذلك فمن واجبنا أن نرجع إلى كتابات آباء الكنيسة وفلاسفة العصور الوسطى في روما الوثنية، مثلما رجعنا إلى الفلاسفة اليونانيين في دراستنا للموسيقى القديمة، وإن شئنا أن نلم بخصائص الموسيقى في العصور الوسطى ودلالتها الجمالية. ولقد عرف عن العلماء المتخصصين في موسيقى العصور الوسطى أنهم كانوا يكرسون حياتهم كلها للبحث في بعض الفروع التي ستتناولها أقسام هذا الفصل. ومن هنا لم يكن لنا أن نأمل، في هذا الفصل الذي سنحاول فيه أن نتعرض بالترتيب الزمني لفترة من التفكير الموسيقى تقرب من ألف ومائتي عام، في شيء يزيد على تأكيد التيارات التاريخية، وتقديم عرض متواضع للآراء الموسيقية لأولئك اللاهوتيين والفلاسفة، الذين كتبوا عن طبيعة الموسيقى ومعناها في تلك الفترة.
ولقد كانت الموسيقى المسيحية الأولى من أصل يوناني وعبراني؛ ذلك لأنه لما كانت المسيحية قد نمت وتطورت عن اليهودية، فليس من المستغرب أن يجد قدر كبير من موسيقى المعابد اليهودية طريقة إلى الشعائر الدينية المسيحية. وقد روى القديس بولس أن الترنيمات المسيحية الأولى كانت مستمدة من الطقوس اليهودية. ومن جهة أخرى فقد اندمجت موسيقى اليونانيين والرومان في الموسيقى الدينية للعقيدة المسيحية، وذلك بموافقة كبار رجال الكنيسة حينا، ودون موافقتهم في معظم الأحيان. ولم يكن في الموسيقى المسيحية في البداية من مظاهر الإبداع إلا القليل؛ إذ كانت مزيجا من الشرق والغرب، ومن العبرية والوثنية.
كذلك احتفظ آباء الكنيسة الأوائل بنفس الموقف الفلسفي من الموسيقى الذي وقفه رجال الدين اليهودي من موسيقاهم ومن الموسيقى الوثنية اليونانية والرومانية، فلم ير هؤلاء الآباء في الموسيقى الوثنية إلا نفاقا وشهوانية فحسب. وكانوا يدركون بوضوح أن الموسيقى الوثنية الإباحية المحيطة بالمسيحيين تغري المؤمن العادي إغراء شديدا بأن يتخلى عن ذلك الوعد غير المضمون بالسعادة في المستقبل البعيد؛ لكي يعيش حاضرا يحفل بالمسرات. ولم يكن مركز المسيحية مأمونا، سواء من حيث هي عقيدة، ومن حيث هي قوة سياسية، حتى ذلك الحين. وفضلا عن ذلك، كان المسيحيون يتعرضون للإهانات، وكثيرا ما كانوا يواجهون خصومات لا تحتمل؛ إذ كان الرومان يزدرون هذه العقيدة الجديدة التي تؤكد خلاص الناس أجمعين في الآخرة، ويسخرون منها. ولم تكن هذه وحدها هي الصعوبات التي واجهها آباء الكنيسة، والتي كانت تهدد بإبعاد المسيحيين عن عقيدتهم، بل لقد تعين عليهم أن يواجهوا ويقهروا التأثير الهدام الذي يمكن أن يكون للألحان الفاسدة على الحياة الأخلاقية للمسيحيين.
ولقد كانت الموسيقى الوثنية ممثلة لمعتقدات الوثنيين الحضارية والاجتماعية والدينية. وهكذا فإن آباء الكنيسة عندما وصفوها بأنها منحلة كانوا في الواقع يعدون مقارنة بين الفلسفات الشائعة لدى الرومان والمسيحيين؛ فلا جدال في أن اهتمام العقيدة الرومانية بالجانب الحسي قد انعكس بوضوح على موسيقاها الدينية والغرامية. وفي مقابل ذلك كانت الموسيقى الرومانية تفتقر إلى تلك الأغاني المخلصة الشاكية التي كان المسيحي يغنيها تقديسا لربه؛ فقد اهتمت الموسيقى الرومانية بمشاعر غريبة عن المفاهيم اللاهوتية التي يتضمنها الفكر المسيحي. ولما كانت الموسيقى تصف المجتمع الذي يضمها، فإن أصل الداء هو أولا في الحضارة الرومانية الفاسدة، وثانيا في الموسيقي الوثني الذي كان يصور مجتمعه بنوع من الموسيقى يثير الانفعالات بعنف، وهي موسيقى يمكن أن يستجيب لسحرها الوثني والمسيحي معا. وإذا كان آباء الكنيسة قد وقفوا مكتوفي الأيدي أمام روما، فقد كان في وسعهم أن يحاولوا حماية أبناء طائفتهم من المؤثرات الشريرة المترتبة على الموسيقى الرومانية.
وكان آباء الكنيسة ينظرون بعين الاستياء إلى أي اتجاه إلى النهوض بموسيقى الآلات أو بالآلات الموسيقية ذاتها. ومن الجائز أن هؤلاء الآباء الذين عاشوا في القرون الأولى، وتحملوا عبء توجيه المسيحية في الطريق الصحيح، كانوا ينفرون من الآلات الموسيقية لما فيها من بقايا المظاهر الوثنية. وهناك احتمال آخر هو أن المسيحيين الأوائل كانوا مضطرين إلى الاجتماع سرا، ولم يكن في وسعهم استخدام الآلات في الصلوات الهامسة التي كانوا يقيمونها في تلك الاجتماعات، خوفا من أن يستدل عليهم خصومهم.
1
وفي خلال القرنين الأولين من المسيحية، أبدى آباء الكنيسة نحو الآلات الموسيقية أو نحو الموسيقى المصاحبة للطقوس الدينية نفس الارتياب الذي سبق أن أبداه حاخامات اليهود نخوها؛ فقد أشار كليمنت السكندري (
Clement of Alexandria ) حوالي (150-220م) إلى أن «الناي» إنما هو آلة يختص بها أولئك المؤمنون بالخرافات، الميالون إلى عبادة الأصنام. وكان أفلاطون قد نبه من قبل إلى أن لهذه الآلة (المزامير) طبيعة حسية شهوانية، كما استخدمها اليونان والرومان معا في شعائرهم الديونيزية المنتشية الصاخبة. ولم يكن هناك مفر من أن ينظر كليمنت إلى هذه الآلة بمثل هذا التوجس؛ إذ إنها أصلح للتعبير عن السورات الجسدية منها للتأمل الروحي، ولكن كانت هناك بعض الآلات التي لم يربطها كليمنت بالطقوس الوثنية، أو يعدها مفسدة للأخلاق؛ فقد اقتبس الإشارات الواردة في «العهد القديم» إلى عزف الليرا (
Lyre )، وتأثيره المهدئ في نفس الملك داود. كما أشار إلى تشبيه للفيلسوف اليهودي فيلون (ولد حوالي 20ق.م.) هو تشبيه «لسان الإنسان بقيثار يسبح بحمد الله». وكان فيلون قد نظر إلى الليرا على أنه آلة متحررة من كل نزعة حسية، تهدئ المشاعر وتقضي على الصراع داخل الإنسان، واتفق كليمنت معه في هذا الرأي.
ولقد كان كليمنت متأثرا بزميله السكندري فيلون، الذي كانت فلسفته مزيجا من النظريات الهلنستية والعبرانية. قد حاول فيلون أن يوفق بين الكتاب المقدس وبين آراء أفلاطون، وكان مثل أفلاطون لا يعد الموسيقى غاية في ذاتها، بل يراها إعدادا وتدريبا ذهنيا لدراسة الفلسفة. وبالمثل لم ينظر كليمنت إلى الموسيقى على أنها غاية في ذاتها، وإنما رآها وسيلة وجدانية منظمة لنشر العقيدة المسيحية.
وقد حفظ لنا التاريخ تعليقا للقديس يوحنا كريسوستوم («فم الذهب» في كتب الأقباط)
St. John Chrysostom
وصف فيه أحوال الموسيقى في أواخر القرن الرابع، وربما في أوائل القرن الخامس. في هذا التعليق ردد القديس يوحنا رأي الكنيسة القائل إن الموسيقى قدرة خاصة، لو استخدمت بطريقة فاضلة لساعدت كثيرا على غرس الخير في النفوس. ولكنه حذر آباء الكنيسة قائلا: إن عليهم أن يتنبهوا للقضاء على خطر أي نوع من الموسيقى يتصف بخصائص وثنية، وقد يثير الغرائز المنحطة في الإنسان. وقد أكد كريسوستوم أن أخلص حواريي المسيح قد عرف قيمة الموسيقى في غرس التقوى في نفوس الشباب. غير أن العصر قد تغير منذ أيام القديس بولس؛ ولذا هتف كريسوستوم شاكيا: «إن أبناءكم سيغنون أغاني، ويرقصون رقصات شيطانية، كالطباخين والندمان (الندل) والموسيقيين، ولم يعد أحد يعرف شيئا من مزامير «داود»، بل تبدو هذه أمرا مخلا، وأضحوكة تبعث على السخرية، ذلك هو مكمن الشر كله.»
2
وقد لاحظ كريسوستوم أن المربيات يهدهدن الأطفال الصغار بالأغاني لكي يناموا، كما أن الفلاحين يغنون وهم يجمعون الكروم ويعصرونها، وللنواتي أغانيهم البحرية، وللنساء أنشوداتهن أثناء النسج. ومن المؤكد أن النفس تتحمل المشاق والصعاب بمزيد من السهولة عندما تستمع إلى الأغاني والأناشيد.
ويواصل كريسوستوم كلامه قائلا: «لما كان هذا النوع من الاستمتاع فطريا مغروزا في نفوسنا، ولكيلا يتمكن الشياطين الذين يأتون بأغان شهوانية من إفساد كل شيء، وضع الرب المزامير (
psalms ) لكي يكون الغناء متعة معونة في آن واحد. إن الأغاني الغريبة تؤدي إلى الضرر والدمار وإلى كثير من النتائج المؤسفة الأخرى؛ إذ إن العناصر الشهوانية الشريرة في جميع الأغاني تستقر في أجزاء من النفس، فتجعلها أضعف وأشد رخاوة. أما المزامير الروحية ففيها الكثير من العناصر القيمة، المفيدة القدسية، وهي تشجع على الحكمة تشجيعا تاما؛ إذ إن الكلمات تطهر النفس، ويهبط الروح القدس سريعا على نفس المغني؛ ذلك لأن من يغنون عن فهم يستجلبون لطف الروح الإلهية.»
3
وقد كتب القديس هيرونيموس (جيروم)
St. Jerome (حوالي 340-420م)، الذي تعرف ترجمته اللاتينية للكتاب المقدس باسم «الفولجاتا»
Vulgate
يقول: «غنوا لله، لا باللسان، ولكن بالقلب. ولا تفعلوا كممثلي التراجيديا، حين يلطخون حناجرهم بعقاقير حلوة المذاق، حتى تسمع الألحان والأغاني المسرحية في الكنيسة، وإنما ليكن غناؤكم تقوى وعملا ومعرفة بالكتب المقدسة. وعلى الرغم من أن المرء قد يكون ناشز الصوت، كما يقول التعبير الشائع
Kakophonos ، فإنه يكون أمام الله مغنيا عذب الصوت بأعماله الصالحة، وليغن خادم المسيح، بحيث يكون في غنائه متعة، لا بالصوت، وإنما بما ينطقه من كلمات، حتى تطرد الروح الشريرة التي كانت تتملك شاءول من أولئك الذين يعانون نفس الاضطراب، وحتى لا تنبث في أولئك الذين يجعلون من بيت الله مسرحا شعبيا.»
4
وهكذا كان جل اهتمام الآباء بالموسيقى أخلاقيا بحتا طوال فترة نمو الكنيسة. وكانوا يعدون الموسيقى وسيلة لإثراء الصلوات، فحاربوا الاتجاه الموسيقي إلى التعبير الحر، دون أي أساس فني لقرارهم هذا. وترتب على ذلك أنه عندما ازدادت الكنيسة قوة وأصبحت أقل تسامحا، صارت قواعدها الموسيقية أوامر مطلقة. وإن جميع إشارات آباء الكنيسة إلى الموسيقى لتهدف، بلا استثناء، إلى تحديد أفضل طريقة لاستخدامها من أجل تحويل الوثنيين إلى زمرة المسيحيين أو لتقوية التهجد عند من يؤمون الصلوات، فإذا كانت الألحان التي تغنى بها المزامير (
psalms ) تجذب جماهير الناس، فعندئذ تكون هذه الموسيقى قد أدت غرضا مفيدا بحق. وقد ذهب القديس أوغسطين (354-430م) في الفترة الآتية المقتطفة من «الاعترافات» إلى حد القول، بكل صراحة: «... في بعض الأحيان تتملكني الرغبة في أن أطرح بعيدا عن أذني، وعن الكنيسة كلها أيضا، لحن الموسيقى العذبة التي تغنى بها مزامير داود غالبا ... فأستعيد بذهني الدموع التي ذرفتها عند سماع أغاني كنيستك، عند بداية فترة استرجاعي لإيماني، وفي هذه اللحظة التي لا أكون فيها متأثرا بالغناء، وإنما بالشيء الذي يتضمنه الغناء (عندما تنطلق الكلمات بصوت واضح، وبالتلحين المناسب)؛ عندئذ لا يكون أمامي مفر من الاعتراف بالخير العظيم الذي يجلبه هذا الفن. وهكذا أتأرجح بين مخاطر اللذة، وبين عادة مفيدة أقرها العرف، وإن كنت أشد ميلا إلى ترك طريقة الغناء القديمة التي جرى عليها العرف في الكنيسة على ما هي عليه (على الرغم من أن الرأي الذي أقول به في هذا الصدد ليس قطعيا)، وذلك يتيقظ في النفوس الضعيفة، بفضل المتعة التي تنقلها إليها الأذن، الشعور بالتقوى والخشوع. ومع ذلك فكثيرا ما كان يحدث لي أن أتأثر بالصوت أكثر مما أتأثر بالنشيد، وعندئذ أعترف لنفسي بأنني ارتكبت إثما كبيرا، وأتمنى في هذه اللحظات لو لم أكن قد سمعت الموسيقى قط.»
5
والواقع أن المزامير، التي افتتن بها الملك داود كل الافتتان، هي أقدم موسيقى عرفها المسيحيون، وإن يكن كرسوستوم قد أعرب عن قلقه؛ لأنها لا تلقى القبول الواجب من الناس، ولا تغنى كما يريد. كذلك أشار القديس باسيليوس
St. Basil (330-379م) إلى شيوع استخدامها بين الناس في جميع أرجاء العالم المسيحي، ودافع عن غناء المزامير، سواء منه التبادلي
antiphonal
والتجاوبي
responsory
6
بوصفه أسلوبا جذابا يضيف ألوانا متقابلة شقية إلى الشعائر الجدية. وقد تضمنت كتاباته فقرة تكشف بوضوح عن قيمة غناء المزامير في الحياة المسيحية، وفيها يقول: «عندما رأى الروح القدس أن البشر غير ميالين إلى الفضيلة، وأننا لا نتجه إلى حياة التقوى نظرا إلى ميلنا إلى المتعة، فماذا فعل؟ مزج بين تعاليمه وبين طرب الألحان، حتى نتلقى من خلال جمال الصوت وعذوبته، ما هو مفيد في الكلام دون أن نشعر، وذلك كما يفعل حكماء الأطباء، عندما يعطون الدواء المر للمريض في كوب يغطون حافته بالعسل؛ فألحان المزامير المتآلفة قد صنعت لنا لغرض معين، هو أنه عندما يغنيها الصبية أو الشبان، يغذون في واقع الأمر نفوسهم بالتعاليم المفيدة، وإن كانوا في الظاهر ينشدون؛ ذلك لأننا لا نجد أحدا من بينهم، ومن بين ذوي النفوس الخاملة، يحتفظ في ذاكرته بأي من تعاليم الحواريين أو الرسل، أما نبوءات المزامير فهم يغنونها في بيوتهم ويذيعونها على الملأ، فإذا ما وقع تحت تأثير سحر المزامير شخص يمتلكه الغضب كأنه وحش مفترس، تراه بعد سماعها ينصرف وقد هدأ اللحن سورة نفسه.»
7
وهكذا نظر كل من أوغسطين وباسيليوس وكريسوستوم إلى الموسيقى على أنها وسيلة لنشر الإيمان، كما حثوا الشباب المسيحي على ألا يتخلى عن المزامير في سبيل الموسيقى الوثنية، فالموسيقى في نظر آباء الكنيسة هؤلاء، كما كانت في نظر الفلاسفة اليونانيين، يمكن أن تؤدي إلى تأثيرين متعارضين؛ ففي وسعها أن تجعل النفس تنحط إلى الدرك الأسفل، مثلما تجعلها تسمو إلى أعلى المراتب، إلى هذا الحد وصلت القدرة التأثيرية للموسيقى في نظرهم.
ولقد كانت «مزامير داود» مصدرا زاخرا للشعر في الأدب الموسيقي؛ فلم تكن المزامير شعرا فحسب، وإنما كانت في الأصل أغاني محددة بمصاحبة آلات موسيقية. وحين أدمجت الكنيسة هذا الشعر التقليدي المستمد من التوراة في كيانها اتخذت منه نصا شعريا لموسيقاها. وكانت الطبيعة الشعرية للمزامير مقترنة بالعنصر الغنائي، ملائمة للطقوس الدينية، إلى حد أن الصلوات في الفترة المبكرة من تاريخ الكنيسة كانت تتألف أساسا من غناء المزامير.
ومن الأساليب التي كانت تغنى بها المزامير، الأسلوب المباشر؛ أي الذي يغنى فيه المزمور كله مباشرة دون أية «إضافة أو تعديل للنص ». أما الأسلوب الثاني، وهو الأسلوب التجاوبي
responsory ، ففيه كانت طريقة الإنشاد مماثلة لطريقة أدائها الأصلية في الكنيس اليهودي؛ حيث كان العريف يغني المزمور، ثم تجيب المجموعة بكلمة «آمين». ولقد كان العريف العبراني في غنائه للمزامير يفرط في استخدام الزخرف الغنائي، ولكن المسيحيين عندما أدمجوا المزامير في شعائرهم الخاصة حذفوا التطريب والغناء الزخرفي الذي كان المرتل اليهودي يؤديه، وطبعوا إنشادهم بطابع من الاستكانة التي تناسب عقيدة جديدة قوامها التبتل والخشوع. ومع ذلك فلم يمض وقت طويل، حتى بدأ المغنون المسيحيون، فرادى وجماعات، يغنون بطريقة تطريبية كانت تزداد تعقدا على مر السنين. أما الأسلوب الأخير من أساليب الإنشاد الثلاثة فهو التبادلي
antiphonal ، وفيه يستخدم نصفا مجموعة يتبادلان الغناء. وقد ترك لنا فيلون وصفا حيا جذابا لهذا الأسلوب.
8
وهناك نقطة طريفة أخرى تتعلق بالتطريب الذي كانت تغنى به «التهليلة
Alleluia »، وهي العبارة التي كانت ترد بها الطائفة على المغني المنفرد. والمعنى الحرفي لكلمة «أليلويا» أو «هليلويا» هو سبحوا بحمد الله (أو هللوا له). وكان غناؤها بطريقة التطريب، الذي اشتهر بأنه كان يطول أحيانا حتى يبلغ ربع الساعة، مع تفاوت في درجاته في الكنيسة البيزنطية. ويرجع استخدام التسبيحة
gubilus
إلى صورة الفرح التي كان يعبر عنها المقطع الأخير من الأليلويا، والتي كان يستخدم فيها التطريب أيضا. وقد عرف أوغسطين هذا الجزء (أي «التسبيحة»
Jubilus ) بأنه نوع من الحمد لله يعبر عن مشاعر إنسانية لا يمكن نقلها بالكلمات أو الحروف وحدها: «فمن يغني التسبيحة لا ينطق كلمات، وإنما هي أغنية فرح دون ألفاظ، وهي صوت القلب المفعم بالسرور، الذي يحاول التعبير عن شعوره على قدر استطاعته، حتى لو لم يكن يفهم المعنى، وعندما يطرب المرء حتى يغني التسبيحة، فإنه ينتقل من أصوات لا تنتمي إلى الكلام، وليس لها معنى خاص، إلى التسبيح دون ألفاظ؛ بحيث يبدو بالفعل أنه مبتهج، غير أن فرحه أعظم من أن تعبر عنه الكلمات.» وقد تساءل أوغسطين، مشيرا إلى المزمور الثاني والثلاثين: «ولمن تصلح هذه الفرحة الكبرى (
Jubilatio ) أكثر من الله الذي لا يحده لفظ؟ إن الله يجل عن التعبير؛ لأن اللغة أفقر من أن تصفه، فإن لم يكن الكلام يسعفك إزاء الله، وكنت في الوقت ذاته لا تود السكوت، فما الذي يتبقى أمامك سوى أن تسبح حتى يطرب قلبك دون كلمات تغنى، وحتى لا ينحصر فرحك الهائل في حدود المقاطع اللفظية؟» وقد أعرب القديس هيرونيموس (جيروم) عن رأي مماثل بصدد القيمة الجمالية والدينية لهذا الغناء التسبيحي (
Jubilus ) فقال: «نعني بالتسبيحة أن من المستحيل عن طريق الألفاظ أو المقاطع أو الحروف أو الكلام التعبير عن المقدار الذي يتعين به على الإنسان أن يسبح بحمد الله، ومن المستحيل فهمه.»
9
ربما كان آباء الكنيسة قد شعروا بأن من واجبهم أن يبرروا استخدام هذه العادة الشرقية؛ ذلك لأن المؤلفات الأدبية الشرقية حافلة بأمثلة الغناء التطريبي، وكذلك الحال عند العبرانيين. أما كيف وأين نشأت هذه الطريقة في الغناء أصلا، فهذا أمر ينبغي أن نترك التفكير فيه للمؤرخ.
وقد تحدث القديس أوغسطين في «الاعترافات» عن تعميده، وعن التأثير الانفعالي الهائل الذي أحدثته فيه إحدى الصور الموسيقية، وهي الأنشودة الدينية، فقال: «لكم بكيت، وأنا أسمع أناشيدك وترانيمك هذه ... وتأثرت لتوي بأصوات ... حقيقتك الخالصة، وهي تنساب برفق إلى قلبي، فتجعل أحاسيس تقواي تفيض، ودموعي تنهمر، وإذا بي أجد نفسي مغمورا بالسعادة.»
10
ولقد ذكرت الأنشودة الدينية
hymn
لأول مرة في تاريخ الموسيقى المسيحية، بعد القربان المقدس مباشرة، حين اشترك المسيح وحواريوه في أغنية. أما في العصر اليوناني فكانت هذه الأنشودة تمجيدا أو تقديسا لإله ما. وهذه بالضبط هي طبيعة أنشودتي أبولو اللتين تحدثنا عنهما في الفصل السابق. ولقد كان اليوناني ينظر إلى كل مدح أو شكر لآلهته على أنه أنشودة دينية، على شرط أن يتخذ صورة الغناء. وعندما انتقلت هذه الأنشودة إلى المسيحية، احتفظت بطبيعتها ذاتها، من حيث إنها أغنية تسبيح لله. وكانت نصوصها في الأساس أشعارا ليست مستمدة من المزامير.
ولقد كان القديس أمبروز (حوالي 340-397م) من الرواد في تطوير صورة الأنشودة الدينية. وليس في وسعنا أن نؤكد إن كان هو الذي ألف كل الأناشيد المنسوبة إليه، أم أنه اهتم قبل كل شيء بنشرها على نطاق شعبي، ولكن يكاد من المؤكد أن كثيرا من الأناشيد التي ألفت في عصره قد نسبت إليه بوصفها أمثلة لتلك الفترة، لا بوصفها من إبداعه هو ذاته. وقد أسهم آباء كثيرون للكنيسة، غير أمبروز، في تطويرها وفي جعلها مقبولة من حيث هي نوع من الأنواع الموسيقية، حتى أصبحت - في القرن الرابع ذاته - تعد أفضل من المزامير. وليس في وسعنا أيضا أن نحدد إن كان نفس الشخص هو الذي كان يكتب الموسيقى والنص الكلامي. وعلى أية حال، فإن بساطة الأنشودة الدينية جعلتها ملائمة للغناء الديني الجماعي. وربما كانت تكتب بأسلوب بسيط، حتى تستطيع المجموعة أداءها بسهولة. ولا جدال في أن سهولة تعلم الأنشودة الدينية كانت من أسباب ذيوعها إلى الحد الذي أصبحت فيه مقبولة ومستحبة في جميع أرجاء العالم المسيحي. على أن بعض الأسقفيات لم تكن تقبل الأنشودة الدينية، على أساس أنها لا ترضى بالتخلي عن نص المزامير حسبما جاء في «العهد القديم» في سبيل تأليف شعر دنيوي، هذا فضلا عن أن هذه الأشعار كانت تصاحبها ألحان بهيجة تعيد إلى الأذهان ذكرى الألحان الوثنية. ولعل هذا هو السبب الوحيد في أن الأنشودة الدينية لم تقبل ضمن الشعائر الدينية في روما إلا في القرن التاسع.
11
القسم الثاني: بويتيوس
Boethius
وصف أفلاطون خلق العالم في محاورة «طيماوس» بأنه بدا بأشكال هندسية، هي المثلثات المتساوية الساقين والقائمة الزوايا، وفسر حركات الأرض والنجوم تفسيرات رياضية معقدة. ولقد كانت هذه المحاورة هي التي تغلغلت في التفكير العقلي للعصور الوسطي؛ فقد كان للإحكام السحري للأعداد تأثير خلاب في نفس أوغسطين وغيره من آباء الكنيسة الأولين، وعن طريق الأعداد أمكن تفسير الموسيقى وملكة التذكر وخوالج النفس، بل إن الرب إنما خلق العالم بوضع الأعداد المناسبة معا. ولما كانت الأعداد ترمز إلى كل ما يعرفه الإنسان، فقد انتهى أوغسطين، كالفيثاغوريين وأفلاطون، إلى أن الموسيقى مبنية على قانون رياضي وتنظيم سليم. وإن صفات النظام والاتزان والجمال في العالم المادي لترجع جذورها إلى الأعداد، بل إن تركيب الكون بأسره مبني على علاقة رياضية منسجمة. وقد ظهر هذا التأثير الفيثاغوري والأفلاطوني في كتاب أوغسطين «في الموسيقى
De Musica » الذي يبحث أساسا في الوزن والشعر والنظريات المتعلقة بالأعداد؛ فالأبواب الخمسة الأولى من هذا البحث تتناول الإيقاع والوزن، أما الباب السادس فقد ناقش فيه أوغسطين النواحي الكونية واللاهوتية للموسيقى.
ولقد كان أوغسطين، كالفيثاغوريين، ينظر إلى الموسيقى على أنها مظهر أرضي للإيقاع الكوني، وكان مثل أفلاطون يرى لهذه الظاهرة دلالة أخلاقية. وقد حذر المسيحيين من الخلط بين رمز الإيقاع الموسيقي وبين ما يدل عليه هذا الرمز؛ فالجمال والموسيقى كانا في نظره محاكاة فنية لنظام أكمل أضفاه الفضل الإلهي على البشر. وقد نصح المسيحيين بأن يقتدوا، في نظرتهم إلى الموسيقى، بداود ملك بني إسرائيل؛ إذ إن داود كان «بارعا في الغناء، محبا للانسجام الموسيقي كل الحب، لا من أجل المتعة العابرة، بل بقلب عامر بالإيمان، وبالموسيقى عند ربه الإله الحق، بوصفها تمثيلا صوفيا لشيء عظيم؛ ذلك لأن التوافق المعقول المنظم بين مختلف الأصوات في التنوع المنسجم، يوحي بالوحدة المحكمة لمدينة إلهية يسودها النظام.»
12
كذلك كان لمحاورة «طيماوس» الأفلاطونية تأثير بالغ في الفيلسوف الروماني بويتيوس (480-524م)؛ فقد شارك أفلاطون آراءه التي أعرب عنها في هذه المحاورة؛ إذ كتب في مؤلفاته الخاصة يقول: إن نفس العالم تتحد بفضل التوافق الموسيقي؛ ذلك لأننا حين نعرف ما في الأصوات من وحدة منسجمة محكمة عن طريق ما نلمسه في أنفسنا من نظام وإحكام، ندرك أننا نحن أنفسنا نتوحد بفضل هذا التشابه.» وكان يروي أن هناك علاقة رياضية تربط بين النفس البشرية والنفس الكونية. وعلى ذلك فإن الموسيقى، التي هي في أساسها رياضية، تتخذ طابعا أخلاقيا؛ لأن في وسع النوع الملائم من الموسيقى غير المناسبة، فتفسد هذه العلاقة الرياضية، وتحط من نفس الإنسان وتحطم بدنه. وهكذا كان بويتيوس، في العالم الروماني، خير مدافع عن الرأي اليوناني في فلسفة الجمال، كما بدأه الفيثاغوريون وطوره أفلاطون، وهو الرأي القائل إن الموسيقى ترتبط بنا بحكم الطبيعة، وإن في وسعها صلاح الخلق أو إفساده.
ولقد بدأ الفيلسوف الروماني بويتيوس نشاطه في ميدان الموسيقى كواحد من أتباع المذهب الفيثاغوري والأفلاطوني، فاتفق مع هذين المذهبين الفلسفيين على أن الموسيقى في أساسها ذات طابع رياضي، وينبغي أن تستخدم وسيلة تمهد لدراسة الفلسفة. كذلك أيد بويتيوس الرأي القائل إن للموسيقى قيمة أخلاقية تحض الناس على التزود من العلم، وتساعد على تقريبهم من الحقيقة الحقة بتحريرهم من هذا العالم الخداع، عالم التغير المحسوس. وكان بدوره يؤمن بأن في مقدور الموسيقى أن تحط من معنويات الإنسان إذا كانت متجهة إلى إثارة انفعالاته. وكان بويتيوس يرى أن الإنسان قد وهب قدرات موسيقية فطرية، وأن في وسع المرء أن يتخلص من النواحي الحسية في هذا الفن الذي يثير الرغبات الحسية في كثير من الأحيان، بالانصراف إلى الدراسة النظرية للموسيقى بما تقتضيه من تفكير عقلي؛ إذ إن العقل أسمى من الحواس.
ولقد كان هذا الفيلسوف المبكر النضج في سن العشرين عندما أهدى كتابه في الموسيقى إلى من هم في مثل سنه، على أمل أن يثير فيهم حب الفلسفة، وإن يكن ذلك أملا ميئوسا منه، ولكن بويتيوس لم يتم كتاباته في الموسيقى، وكانت كل إشاراته إلى الموسيقى، خلال بقية سني حياته، تؤكد أهمية الجانب التعليمي فيها بوصفها مبحثا عقليا، وقيمتها في تحقيق حياة أخلاقية سليمة.
وقرب نهاية حياته، عندما كان قابعا في سجن ينتظر فيه موته السابق لأوانه، كتب عن ربة الموسيقى «موزي»، فوصفها بأنها عروس بحر «سيرينا»، تضلل كل من وقعوا تحت تأثير سحرها الخلاب، وأطلق على ربة الشعر والغناء اسم «بغي المأساة» التي تقدم إلى الإنسان «سما حلو المذاق»، بدلا من أن تعطيه بلسما فلسفيا شافيا يخفف به عن نفسه أعباء الحياة. وهكذا فإن الفلسفة وحدها، أم الربات «الموزي» جميعا، هي وحدها التي أقبلت على بويتيوس تقدم إليه السلوى، وهو راقد على فراش الموت.
13
ولقد كان الهدف الذي اختطه بويتيوس لنفسه في الأصل هو «التوفيق بقدر ما بين أفكار أرسطو وأفلاطون»، وكان تأثير فلسفته في موسيقى العصور الوسطى عميقا باقيا «فقد أعلن بويتيوس أن من الضروري، لكي يصل المرء إلى «قمة الكمال» التي لا نبلغها إلا بفضل الدراسة الفلسفية وحدها، أن يكون للمرء إلمام كامل بميادين تمهيدية للمعرفة ، هي العلوم الرياضية، أو الرباع
Quadrivium ، وهو لفظ يبدو أن بويتيوس ذاته هو الذي أدخله في اللغة اللاتينية ... وكان بويتيوس مقتنعا بأن كل من يهمل هذه الدراسات يظل إلى الأبد جاهلا بالفلسفة في مجموعها، ولا أمل له فيها. وليس لمثل هذا الإهمال دواء؛ إذ إنه يضيع إلى الأبد فرصة الفوز على الدارس الذي يتوق إلى بلوغ قمة الكمال؛ فمن لم يمر بدراسة الموسيقى داخل نطاق الرياضيات، فإن عالم الفلسفة يظل مغلقا في وجهه. وفي عبارة أخرى فإن اكتساب معرفة الرياضيات ضرورة لا غناء عنها. وهدف الدراسة وغاية التعليم هو الفلسفة في كل الأحوال، غير أن الطريق الوحيد الموصل إليها يمر عبر الرياضيات.»
14
وهكذا فإن الموسيقى، بوصفها جزءا من الرياضيات، تسهم في تدريب الذهن، وتعد مبحثا يمهد لدراسة الفلسفة.
وكان بويتيوس يرى أنه نظرا إلى القيمة الأخلاقية الكامنة في دراسة الموسيقى، فإن هذه الدراسة أقدر من أي مبحث آخر في «الرباع» «الكوادر يفيوم» على تشكيل النفس والجسم. وقد ردد رأي أفلاطون قائلا إن للموسيقى القدرة على أن «ترفع معنويات الإنسان أو تحط منها»، وأشار إلى أن النفوس الشهوانية تستمتع بالألحان الشهوانية، على حين أن النفوس الجادة تجد لذتها في أساليب أقوى تأثيرا؛ إذ إن الناس يتعلقون بالأساليب المشابهة لطبائعهم، ولكنه انتهى إلى أن الناس جميعا معرضون للفساد؛ إذ تصاب النفوس الضعيفة بالفساد والرخاوة، وحتى النفوس القوية ذاتها قد تعجز أحيانا عن المقاومة. واستطرد بويتيوس قائلا: إن أفلاطون كان على حق في تحذيره من التحديدات الموسيقية؛ إذ إن من شأن الأساليب الموسيقية المتغيرة ذات الطابع الأخلاقي المريب أن تحط قطعا من نفوس الناس. وهكذا قال: «إن الموسيقى تظل عفيفة متواضعة ما دامت تعزف على آلات بسيطة، ولكن نظرا إلى أنها قد أصبحت تعزف على أنحاء متباينة، وبطرق مضطربة، فإنها فقدت صفات الجد والفضيلة ، وكادت أن تنحط إلى مرتبة الوضاعة دون أن يبقى لها من جمالها الغابر إلا أثر ضئيل.»
والواقع أن بويتيوس لم يقتصر على نقل آراء القدماء إلى مفكري العصور الوسطى، بل إنه كان هو ذاته مسئولا عن تشكيل الفلسفة الجمالية الموسيقية للحضارة الغربية طوال قرون عديدة بعد وفاته؛ فقد كان اللاهوتيون المسيحيون راضين كل الرضا عن رأيه القائل إنه لما كانت الموسيقى في أساسها رياضية البناء وأخلاقية القيمة، فمن الضروري أن يكون التأليف الموسيقى دقيقا دقة العلم، حتى لا يفسد الطابع الأخلاقي للموسيقى، وكانت النتيجة النهائية لآرائه، كما عدلها أتباعه ووسعوها، هي أن القيمة الأخلاقية للموسيقى متوقفة على العلم، وانتهى الأمر بعلم الموسيقى إلى اتخاذ قوالب محددة لا يخرج عنها. وهكذا رأى رجال الكنيسة أن أي خروج على القوالب الموسيقية التقليدية، أو على الموسيقى الكنسية المسموح بها، هو أمر خارج على العلم وعلى الدين معا، ولقد كان رجال الكنيسة يعلمون حق العلم أن هذا الرأي موجود بصورة ضمنية عند أفلاطون، ومع ذلك كان مما يدعم موقفهم أن يستطيعوا الإهابة بسلطة أي مفكر آخر، حتى لو كان وثنيا رومانيا، يقول بآراء يمكنهم استخدامها لصالحهم. ولقد كان دستور البابا يوحنا الثاني والعشرون (الذي شغل منصبه من سنة 1316م إلى 1334م) وهو الدستور الذي كتب بعد ثمانمائة عام من وفاة بويتيوس السابقة لأوانها، والذي كان يتضمن هجوما على الموسيقى الجديدة في ذلك العصر، كان هذا الدستور متأثرا بفلسفة بويتيوس الجمالية في الموسيقى، إلى حد أن كاتبي هذه الوثيقة البابوية آثروا أن يقتبسوا من كتاباته في دفاعهم عن الموسيقى الدينية في الكنيسة المسيحية؛ فقد اقتبس رجال الكنيسة من بويتيوس نصا توجهوا به إلى دعاة الموسيقى الحديثة، سواء منهم صانعوها ومتذوقوها، يقول فيه: «إن الشخص الذي هو بطبيعته ميال إلى الحسيات، يستمتع بالاستماع إلى هذه الألحان الفاسقة. ولا بد لمن يثابر على الاستماع إليها أن تضعف أخلاقه، وتفقد روحه صلابتها.»
وهناك فيلسوف آخر معاصر لبويتيوس، شارك بدوره في تعريف مفكري العصر الوسيط بالفلسفات الموسيقية لليونانيين، وهو كاسيودورس
Cassiodorus (485-580م) الذي كان في حياته أسعد حظا من بويتيوس. وقد نظر بدوره إلى الموسيقى على أنها مبحث رياضي، وتأثر بالطابع الأفلاطوني في آرائه الأخلاقية في الموسيقى، فكتب في رسالة إلى بويتيوس يقول : «إن المقام الدوري
Dorian
يؤثر في العفة والحياء»، واتفق مع أفلاطون على أن المقام الفريجي «يستفز الرغبة في النضال ويثير الغضب»، أما المقام الأيولي
Aeolian
فإنه «يهدئ عواصف النفس، وينزل الكرى في أجفان النفس الهادئة»، أمام المقام الرابع من أساليب القدماء وهو الإياستي
Iastic ، فإنه «يجعل البصيرة الخاملة حادة، ويجعل الذهن الدنس يتطلع إلى الأمور السماوية». وأما المقام الأخير وهو الليدي، فلم ينظر إليه كاسيودورس بطريقة أفلاطونية خالصة، وإنما رأى فيه أسلوبا موسيقيا ذا قيمة علاجية؛ إذ إن هذا المقام الليدي «يخفف من الأعباء الثقيلة على النفس، ويزيل الضيق بالترويح الممتع عن النفس»، وللموسيقى في فلسفته قيمة روحية هي تقريب الناس من الله، كما أن للموسيقى القدرة على إثارة أحوال متفاوتة في النفس، وهي أيضا صورة فعالة من صور التطهر
Katharsis ، تزيل في رأيه الضيق وتهدئ الانفعالات.
القسم الثالث: الأناشيد الجريجوريانية
كانت الكنيسة المسيحية، منذ نشأتها الأولى، تشن حملات منتظمة للقضاء على الوثنية. ولقد كان من الضروري للقضاء على عقيدة الوثني، تحطيم معابده ومحو آثار فنونه. وترتب على ذلك حدوث تدمير واسع النطاق للمعابد الوثنية التي كانت تضم أصنام الكفرة وتعاويذهم، وكانت أذهان المسيحيين المتمسكين تجد لذلك المبرر الكامل في أن هذه الأفعال إنما هي تنفيذ للإرادة الإلهية، ولكن هؤلاء المتمسكين وجدوا أنفسهم عاجزين تماما عن القضاء على الموسيقى الوثنية؛ إذ لم تكن هناك مخطوطات تحرق أو موسيقيون يعاقبون. ولم تكن الموسيقى ذاتها تمثل شيئا ملموسا، وإنما كانت تمثل أفكارا وتعبيرات فحسب، فأنى للمرء أن يقتل الأفكار والتعبيرات؟
ومنذ عهد مبكر، يرجع إلى وقت أوغسطين، كانت هذه العداوة الدينية للفن قد رسخت بالفعل؛ فقد اجتاحت رجال الكنيسة في القرن الرابع موجة عارمة من المعارضة حتى للفن المسيحي ذاته. وبحلول القرن السادس كان جريجوريوس الأكبر الذي ولد عام 540م، وتولى منصب البابوية من عام 590م إلى عام 604م، قد أمر، وهو لا يزال أسقفا لمرسيليا، بنزع وتدمير كل الصور المقدسة داخل نطاق أسقفيته. وكانت تصرفاته مبنية على الاعتقاد بأن هناك فارقا بين تقديس الصورة ذاتها وبين النظر إليها على أنها رمز. وكان جريجوري يخشى أن يبدأ الإنسان العادي في تقديس الرمز بدلا من الموضوع المرموز إليه. وكانت نفس هذه المشكلة تتمثل في الموسيقى، فإذا كان الشخص العادي الذي يؤم الكنيسة يفتتن بالطابع الحسي للموسيقى الدينية إلى حد نسيان أن الموسيقى لا ترمي إلا إلى تجميل النص المقدس فحسب، فلا بد عندئذ من تبسيط الموسيقى وتأكيد النص.
ومن الجائز جدا أن البابا جريجوري قد تذكر تحذير أوغسطين الموجه إلى المسيحيين بألا يخلطوا بين رمز الإيقاع الموسيقي وبين ما يمثله الرمز؛ إذ إن الجمال والموسيقى ليسا إلا محاكاة فنية لنظام أعلى أضفاه فضل الله على البشر. ولا بد أن جريجوريوس قد تأثر أبلغ التأثر بعبارة أوغسطين القائلة: «ويل لمن يحبون إشاراتك بدلا منك، ويضلون طريقهم وسط آثارك»، وما كان من الممكن أن تجد آراء أوغسطين عن الموسيقى في الحياة المسيحية نظيرا أكثر تحمسا من البابا جريجوري.
وربما كان جريجوري الأكبر أشهر شخصية في تاريخ البابوية. وقد صوره التاريخ تارة على أنه شغوف بالفن، وتارة أخرى على أنه شخصية قوية تفتقر إلى كل إحساس أو خيال فني. وقد امتدحه كثير من الكتاب في العصور الوسطى بوصفه رجلا عظيما فاضلا من رجال الكنيسة، دون أن يعبئوا بالتفرقة بين عبقرية البابا جريجوري الدينية في دعم الكنيسة، وبين احتقاره للعلوم والفنون، وعزا إليه هؤلاء الكتاب نظريات متحررة كانت بعيدة كل البعد عن فلسفته، ولكن من المفارقات العجيبة أن الأجيال التالية لم تعد تعرفه بفضل مقدرته السياسية والتنظيمية الفذة، بل بفضل الموسيقى التي ارتبطت باسمه.
ولكي يتأكد البابا جريجوري من أن المبادئ والتعاليم المسيحية لا توضع موضع الشك، أو تتعرض لتفنيد المارقين، فقد حرم التعليم الدنيوي، وأضفى على الدراسات اللاهوتية أهمية لم تكن لها من قبل على الإطلاق، واستبعد العلم والفن من التعليم الديني، ولكن لما كان العرف الشائع في العصور الوسطى قد جرى على النظر إلى الموسيقى على أنها فرع من الرياضيات، فقد أدرجت ضمن الرباع التعليمي، الذي يتألف من الحساب والهندسة والفلك والموسيقى .
ولما لم يكن جريجوري يعبأ كثيرا بالتعليم الدنيوي، فليس من المستغرب أن نجده ينفر من الاتجاهات الموسيقية اللادينية، التي كانت في حاجة إلى قمع مستمر. ولقد بلغ من صرامته في إدارة شئون الدين أنه عاقب أصحاب المناصب في الكنيسة، بعد خمس سنوات من توليه منصب البابوية؛ لأنهم استمعوا إلى نوازع الشر في نفوسهم، ودربوا أصواتهم على أداء الجزء الموسيقي من الصلاة، وقضوا في ذلك وقتا كان ينبغي أن يكرسوه لأغراض أشرف؛ ومن ثم فقد أمر جريجوري بأن يقتصر القساوسة على غناء الإنجيل، ويغني مساعدوهم بقية الجزء الموسيقي من الصلاة. وقد اتخذ الخطوات اللازمة لتوفير هؤلاء المساعدين، بتشييد معاهد دينية إضافية، وإنشاء مدرسة للغناء «سكولا كانتوروم» زودت فرق الإنشاد البابوية بالمغنين.
ولقد حذا جريجوري حذو أوغسطين، فرأى في الموسيقى مجرد عامل مساعد في أداء الصلاة. كذلك التزم معتقدات أوغسطين المتأخرة، فحظر كل ما له صبغة وثنية، ويمكن أن يكون له تأثير في المسيحيين. وهكذا محي الفن والموسيقى من الوجود بوصفهما نشاطا حضاريا، واستعيض عن العلم والبحث، مهما كان ضيق نطاقهما، بالنظام الصارم والعزوف والتبتل. ومع ذلك فإن البابا جريجوري الأكبر هذا هو نفسه الذي نسب إليه دور خلاق في تلحين جزء من القداس، هو الجزء التبادلي، وتنظيم الطقوس الدينية، ولكن هناك من الأسباب ما يدعو باحثي الموسيقى إلى الاعتقاد بأن هذه النسبة خيالية أكثر منها واقعية.
15
وللأناشيد الجريجورية أصول متعددة؛ فهي قد تطورت من الموسيقى الشرقية والعبرية واليونانية، ومن صورة سابقة عليها وأبسط منها هي الأناشيد الأمبروزية (نسبة إلى القديس أمبروز) ومن الأسباب التي تساق لتعليل ظهور الأناشيد الجريجورية أنها نشأت نتيجة شكاو متعددة تقدم بها رجال الإكليروس، من أن الموسيقى الكنسية تؤدى بطريقة غير صحيحة، وبانفعال مفرط. ويقال إن جريجوري قد جمع مختلف الأنواع التي تغنى في الكنائس، وصنفها وعدلها، ووضع - على ما يقال - ألحانا جديدة، ثم أصدر أمرا حدد فيه بدقة طريقة أداء كل جزء من الموسيقى وموقعها في شعائر الصلاة، وبذلك استن سنة أدت إلى تثبيت الطقوس الدينية بدقة مع تنويعها.
وتنقسم الأناشيد الجريجورية إلى ثلاث فئات من الألحان؛ المقطعية
syllabic ، والتطويلية
neumatic ، والتطريبية
melismatic ؛ ففي المجموعة الأولى كان كل مقطع من النص يطابق نغمة واحدة فحسب، وقد يحدث أحيانا أن يطابق مقطع واحد نغمتين أو ثلاثا، ولكن الألحان كانت على الدوام بسيطة في طابعها. أما في النوع التطويلي فكانت بعض المقاطع تستخدم لنغمة واحدة، ولكن العادة المتبعة كانت استخدام مقطع واحد لأداء مجموع من نغمتين أو ثلاث أنغام. وأما النوع الثالث وهو التطريبي، فكان أسلوبا مزركشا، يغنى فيه مقطع وحيد بطريقة زخرفية خالصة.
وكانت الألحان الجريجورية تبنى في البداية على نظام نغمي من أربعة مقامات. وعلى الرغم من أن أصل هذه المقامات يرجع إلى المقامات الشرقية والعبرانية، فقد سميت بالمقامات الكنسية لارتباط طابعها اللحني الخاص بالغناء الديني. وكانت المقامات الأربعة الأصلية تسمى بالمقامات الرئيسية، ولكن كان الأغلب تسميتها بالمقامات الأصلية
authentic . وعندما أضيفت إليها أربعة أخريات كان يطلق عليها اسم المقامات البلاجالية
plagal ، وقد استخدمها الملحنون لأصوت الرجال فحسب.
ولم يؤلف الموسيقيون الجريجوريون الأوائل موسيقى مبتكرة، وإنما كرسوا جهودهم لاقتباس الألحان القديمة أو أجزاء منها، ثم تعديلها بحيث تلائم جزءا معينا من الشعائر المنوعة؛ أي إن الجهود الفنية لهؤلاء الموسيقيين قد تركزت كلها في إعادة تعديل قالب الألحان القديمة وصياغتها من جديد. وقد بلغوا في هذا التنظيم قدرا كبيرا من البراعة، والدليل على ذلك تمكنهم من تنويع ذلك العدد المحدود من الألحان الذي كانت تبنى عليه الموسيقى الكنسية في العصور الوسطى، في قوالب عظيمة التباين. ولقد كان لدى الموسيقي الكنسي صبر لا ينفد استمده من حياة الرهبنة في الأديرة، وأتاح له ذلك أن يوجه أعظم عنايته لتحقيق توازن بين النص والموسيقى، بحيث لا يضحي بالنص، ولا تصبح الموسيقى جوفاء. وعندما يتكرر استخدام نص معين في أجزاء مختلفة من الشعائر، كان الملحن يمله بلحن مقابل يلائم وظيفته الجديدة. ولقد بلغ هؤلاء الملحنون من الإبداع في كتابة الألحان المنفردة ما جعل أعمالهم تظل مصدرا للإلهام الفني لكل من يكتبون الموسيقى.
وفي خلال القرون التالية ظهرت مقادير غير قليلة من الأناشيد التي تنتمي إلى النمط الجريجوري خارج روما، فبتوسع الكنيسة توسعت أناشيدها أيضا، وانتقلت هذه الأناشيد إلى إنجلترا في عهد مبكر جدا عن طريق المبعوثين البابويين «القاصدين الرسوليين»، وعملت أديرة كثيرة في أيرلندا بجهد لا يكل في سبيل تنمية هذا النوع من الموسيقى، وشجع شرلمان على قبولها في فرنسا وألمانيا؛ ذلك لأنه كان حاكما ذا عقلية عملية، سعى إلى بعث الوحدة بين جميع أرجاء مملكته، وكان حكيما في تشجيعه للأناشيد الكنسية حتى يستغلها بوصفها رباطا قويا للوحدة. ويقال إن الغاليين لم يستطيعوا تذوق الصفاء الجمالي لهذه الأناشيد؛ نظرا إلى جلافتهم الطبيعية، وأصروا على أن يضيفوا إلى الموسيقى الكنسية أجزاء من أغانيهم الخاصة التي لم تكن مستساغة.
وكانت الأناشيد الجريجورية تستخدم نظاما من العلامات «النومس»
neumes
كوسيلة للتدوين، وهذه العلامات التي يمكن العثور عليها في المخطوطات الجريجورية التي حفظت لنا منذ عهد بعيد يرجع إلى القرن التاسع، لم تكن تقدم للمغني إلا تلميحا تقريبيا عن مجرى اللحن. أما الألحان والقوالب ذاتها، فكانت تنقل من جيل إلى جيل بالسماع؛ إذ إن العلامات لم تكن تصلح إلا للتذكرة فحسب. ومع ذلك امتد نظام العلامات «النومس» هذا إلى التدوين الحديث مباشرة؛ لأنه كان يستطيع أن يدل المغني على اتجاه الخط اللحني نحو الارتفاع أو نحو الانخفاض. وقد حدث في وقت ما، من هذه القرون، أن توصل أحد الرهبان إلى فكرة التدوين الموسيقي، واختار لسبب ما، خطا أفقيا لتمييز ارتفاع صوت معين عن الآخر، وبعد ذلك بوقت قصير أضيف خط ثان، حتى إذا ما جاء القرن الحادي عشر ظهرت في المخطوطات أو الخطوط الموسيقية المعروفة، فكان الخط الأحمر يدل على النغمة «فا
F »، والخط الأصفر (وأحيانا الأخضر) يدل على «دو
C »، وأدى إلى ذلك تكوين مفتاحي فا ودو ابتداء من القرن الثاني عشر، ثم أعقبها مفتاح صول
G ، وأدخل الراهب البندكتيني «جويدو داريتسو
Guido dArezzo » (995-1050م) تحسينات على طريقة التدوين، ومن المعتقد أنه تقدم بنظريات جديدة في التدوين إلى البابا يوحنا التاسع عشر في أوائل القرن الحادي عشر.
القسم الرابع: فيلسوف العصر الوسيط والموسيقى
يرجع أصل كثير من القوالب الموسيقية الكنسية إلى نصوص دنيوية، بل إباحية في أحيان غير قليلة، كانت لها ألحان سهلة الحفظ. كذلك كان للموسيقى الكنسية بدورها تأثير مباشر في الموسيقى الدنيوية. وطوال الفترة الأولى من تطور الكنسية كان المسئولون من رجال الدين يرقبون عن كثب تلك الموسيقى الدنيوية، وما كانوا يعدونه دنسا فيها. ومع ذلك فقد وجدت الأغنيات القومية المحلية طريقها إلى المعابد المقدسة، واجتذبت الموسيقى الدنيوية في ذلك العصر جمهور المتعبدين، والكهنة المشرفين على العبادة بدورهم. وترتب على ذلك أن التحذيرات التي كانت تأتي من روما كانت موجهة إلى رجال الدين ورعيتهم في آن واحد، وكانت الكنيسة تشعر بأن من واجبها ألا تستسلم في أي ميدان، أو تتردد في تفسيراتها، إذا شاءت أن تحتفظ بمواقعها، بل أن تظل قلعة ثابتة راسخة تقف في وجه الهرطقة والمؤثرات الوثنية الكافرة.
ولقد رأينا من قبل أن المزامير التي ورثها العبرانيون للمسيحيين، كانت في تطور القوالب الموسيقية، أقدم لون من ألوان الموسيقى الكنسية، وكان المسيح يعرف شعائر المعابد اليهودية معرفة كافية، بدليل أنه عندما ودع حوارييه حدد معالم الجو الديني للعشاء الأخير بغناء المزامير. وفيما تلا ذلك من السنين، عرف الوثنيون والمنتصرون الذين كانوا غيورين على ممارسة شعائر الكنيسة، أو الذين أقبلوا عليها بحماسة، أناشيد المزامير، ولما كانت إحدى الطوائف تفر من مضطهديها، كانت تحمل معها المزامير حيثما وجدت ديارا جديدة. وهكذا انتشرت المزامير في الفترة التالية إلى حد أنها كانت من جهة قيدا على حرية الطوائف المسيحية، وكانت من جهة أخرى مصدرا زاخرا للموسيقى، يستمد منه المؤمنون من القوة والعزاء الروحي ما يكفل لهم الصمود خلال أوقات المحن.
وقد أعلى القديس أمبروز وأتباعه قيمة الأنشودة الدينية
hymn
في الموسيقى الكنسية. وليس في وسعنا أن نجزم إن كانت الألحان المستخدمة في هذه الأناشيد من أصل شعبي فحسب، أم أن جزءا غير قليل منها كان من تأليف القساوسة أنفسهم. وعلى أية حال فإن القالب اللحني للأنشودة القديمة كان بسيطا، مما ساعد دون شك على قبولها في الكنيسة، وذيوعها بين الناس. ولضمان أعظم قدر من البساطة كان كل مقطع في النص الكلامي تخصص له نغمة واحدة من الموسيقى.
ولقد كان اللحن، في الأناشيد الجريجورية، خاضعا للنص الكلامي، ولما كان الإنشاد يستخدم إطارا لحنيا لنص مقدس، فقد تعين على اللحن ألا يكون معقدا، وأن يكتفي بالقيام بدور الأساس الخلفي لذلك النص. وتضمنت الأناشيد كثيرا من الألحان العبرانية التي أخفيت فيها ببراعة، كما حملت الأناشيد الجريجورية آثار النظام الموسيقي اليوناني، أما أصل العلامات (النومس)
neumes
المستخدمة في الأناشيد، فما زال سرا إلى حد ما، ونحن نعلم أن العبرانيين قد استخدموا إشارات المقاطع المتحركة في غناء تراتيلهم، ولكنا لا نعلم إن كان ذلك قد أثر في المسيحيين، أم أنهم وضعوا نظامهم الخاص في العلامات (النومس)، أو كيف ومتى وضعوا هذا النظام.
وقد ذكر إيزيدور الإشبيلي
Isidore of Seville (570-636م) أن قدرا كبيرا من الموسيقى المعروفة في عصره كان يحفظ عن ظهر قلب، وينقل بالتلقين إلى أجيال أخرى، ولولا ذلك لضاع إلى الأبد. ولم يخترع التدوين إلا بعد أربعة قرون، على يد جويدو داريتسو
Guido dArezzo ، الذي قال: «إن أي نتيجة فيزيائية لا تكون لها قيمة موسيقية ما لم تؤيدها الأذن.» والذي اخترع أيضا أول أشكال السلم كما نعرفه اليوم. وقد اختلف المؤرخون حول تحديد دوره بدقة، ولكن في وسعنا أن نفترض، دون أن نخشى الوقوع في الخطأ، أن جزءا كبيرا من الأعمال المنسوبة إليه صحيح تاريخيا؛ فقد وضع جويدو نظاما أدى إلى «السولفيج» الذي نستخدم فيه مقاطع لفظية لقراءة المدونات، وقد أخذ أنشودة القديس يوحنا المعمدان، واستمد المقطع الأول من كل بيت للدلالة على درجة مختلفة في السلم والنص اللاتيني لهذه الأنشودة هو:
Ut queant laxus Resonare Fibris
Miea gestorum Famuli tuorum
Solve pollute Labii reatum
Sancte Joannes
وهناك صوت كامل يفصل بين «أوت» وهي دو فيما بعد و«ري» و«مي»، وبين «فا» و«صول» و«لا»، ونصف صوت بين «مي» و«فا»، وقد تغيرت «الأوت» فيما بعد إلى «دو»، وجمع بين الحرفين الأولين في كلمتي البيت الأخير، بعد عصر جويدو، ليكونا المقطع «سي»
16
حتى تكتمل دورة السلم. وكان جويدو قد وضع في الأصل صوتا زائدا قبل «أوت» مستخدما الحرف اليوناني «جاما»، الذي يكون بعد إضافته إلى «أوت» لفظ «جاموت
gamut »، وقد أصبحت كلمة «جاموت» تدل في السنوات التالية، على التركيب الكامل للسلم.
كذلك اهتم جويدو بحالة الموسيقى من الوجهة الأخلاقية في عصره، فوجه إلى كثير من رجال الدين نفس التهمة التي كان البابا جويجوري الأكبر قد وجهها إليهم قبل ذلك بأربعمائة عام، بناء على موقفهم من الموسيقى «وأخطر الأمور جميعا، أن كثيرا من القساوسة والرهبان يتجاهلون المزامير، والقراءات المقدسة، والتراتيل الليلية ... على حين أنهم يعكفون بجهد أحمق لا يكل ولا يمل على دراسة علم الغناء ...»
ومن المعتقد أن فن «الاسترسال» (السيكونسة
sequence ) أو وضع نص للمقطع الأخير من «التهليلة
alleluia » قد ظهر أصلا في شمال فرنسا في القرن التاسع. وكان القديس أوغسطين والقديس أمبروز قد امتدحا، قبل حوالي 500 عام، تطويل غناء التهليلة أو التسبيحة
Jubilus ، بوصفه حمدا لله دون كلمات. على أنه لم يكن من السهل حفظ التسبيحة، ومن هنا بدأت تظهر فكرة إضافة نص كلامي لمساعدة المغنين على تذكر الألحان الطويلة، وفي البداية كان يوضع لكل نغمة مقطع واحد، ولكن السيكونسة (الاسترسال) أصبحت بمضي الوقت من التعقيد، واكتسبت من الشعبية ما جعلها تشكل خطرا على الطابع الديني للشعائر. وهكذا فإن الكنيسة لم تنظر بعين الرضا إلى هذا التطور لفن «السيكونسة» (الاسترسال)، ولا لفن التروبة (الفواصل) (
troping ) أيضا، والتروبة هي ما يقحم بين الأجزاء التي تغنى من القداس.
ولقد كان فن «السيكونسة» (الاسترسال)، والتروبة (الفواصل) مقتصرا في البداية على الأديرة، ولم ينتقل إلى النشاط الموسيقي للأبرشية الدنيوية للكنيسة إلا فيما بعد، وعندئذ أدخل القساوسة بالتدريج فواصل باللغات المحلية في الشعائر الدينية؛ لكي يشرحوا لجمهور المصلين الأجزاء الغنائية من القداس اللاتيني التقليدي للشعائر الدينية. ولما كان أقطاب الكنيسة لم يعترفوا قط بهما بوصفهما جزأين رسميين من الشعائر الدينية، ونظرا إلى أن مجمع ترنتينو
Trent (1545-1563م) قد اعترض على قيمتهما في الشعائر، وعلى ما فيهما من تحرر شعري، فقد أصدر البابا بيوس الخامس أمرا يحظر فيه استخدام كل «السيكونسات» ما عدا القليل منها، في الشعائر الرسمية للكنيسة، ويحرم تماما استخدام طريقة «التروبة» في هذه الشعائر. أما «السيكونسات» القليلة التي لم يتناولها قرار الحظر، فما زالت محتفظة بمكانتها في الشعائر الدينية إلى اليوم.
ولقد كان لفلاسفة العصور الوسطى تأثير كبير في مجرى الموسيقى، سواء أكان هذا التأثير مباشرا أم غير مباشر؛ إذ كان القديس أوغسطين يؤمن بحرارة بأن من الخير حظر الموسيقى الوثنية والأدب الوثني حظرا تاما، حتى لا يؤديا إلى إغراء المسيحيين على قراءة الشعراء الرومان، أو حضور المسارح الرومانية. كذلك كان هناك جانب صوفي في تقديره للموسيقى؛ ذلك لأنه كان يؤمن بالمبادئ الفيثاغورية التي كانت ترد ظاهرة الموسيقى إلى علاقات عددية خاصة، وتحاول تفسيرها من خلال هذه العلاقات، وهكذا رأى أوغسطين أن الله قد خلق الكون بأن جمع كل العناصر بالنسب الصحيحة بدقة، حتى يتم التوازن المنسجم، والتوافق بين كل عنصر وبين جميع العناصر الباقية وفقا للمشيئة الإلهية. ومن ذلك استنتج أنه إذا كان عنصر الإيقاع في الموسيقى نسخة محاكية لأنموذج كوني، فلا بد أن الموسيقى تمثل الحركة الكونية ذاتها على نطاق محدود. ولقد كانت هذه النظرة أفلاطونية، رددها أفلوطين قبل أوغسطين. كذلك مضى بويتيوس بهذه الحجة خطوة أخرى في طريق التأمل الفلسفي؛ إذ جعل من النظرية الأفلاطونية أساسا لتقيم الموسيقى بوجه عام، ولكن مهما كان الفلاسفة نظريين في تقديرهم للموسيقى، فلسنا بحاجة إلى تفكير طويل لكي ندرك مدى تأثير نظرياتهم الميتافيزيقية والأخلاقية في مجرى التطور الموسيقي.
ولم يكن الفلاسفة الكاثوليكيون الذين عاشوا في القرون التالية للألف عام الأولى من المسيحية يقلون عن الفلاسفة السابقين عليهم تزمتا في آرائهم الأفلاطونية في الموسيقى. من الجائز أن مواقفهم الفلسفية كانت في بعض الحالات أقرب إلى النزعة الإنسانية من مواقف السابقين عليهم، غير أن نظرتهم إلى الموسيقى ظلت تماثل نظرة هؤلاء الأخيرين في طابعها الصوفي. وهكذا فإن الاتجاه الإنساني الذي نجده كامنا في فلسفة أبيلار
Abelard ، وفي إيمان القديس فرنسيس
St. Francis (الأسيزي) ولاهوت القديس توما الأكويني؛ هذا الاتجاه لا يمتد إلى كتاباتهم في الموسيقى، وطرأ تغيير كبير على الآراء التي كان أبيلار والقديس فرنسيس يقولان بها عن الموسيقى وهما بعد طالبان للعلم، عندما انخرطا في السلك الرسمي للكنيسة؛ ذلك لأنهما عندما أصبحا من رجال الكنيسة، صارا ينظران إلى المتعة الحسية التي كانت الموسيقى تجلبها لهما في شبابهما على أنها ذات طابع لا ديني؛ إذ إن موسيقى أيامهم الخوالي كانت توحي باللذة أكثر مما توحي بالتوبة، وتهيب بالجسد لا بالروح.
وقد وجد القديس أوغسطين وبويتيوس تشابها بين النظام الموجود في الموسيقى، وبين النظام الأخلاقي الذي يسود جميع أرجاء الكون. وذهب هذان الفيلسوفان، اللذان كان أحدهما مسيحيا والآخر وثنيا، إلى أن الموسيقى المتناسقة تحاكي نظام الكون، ورأى الاثنان معا أن للموسيقى القدرة على رفع مستوى أخلاق الإنسان أو الحط منها. كذلك أيد أوغسطين وبويتيوس النظرية الأفلاطونية القائلة إن الموسيقى نوع من الرياضة يمكنه أن يساعد على تهذيب العقل، وإن الرياضيات بالمثل تبعث نظاما متوافقا في الكون. وقد فسر أتباع بويتيوس هذا الرأي الأفلاطوني بأنه يعني أن الموسيقى علم تسري عليه نفس القوانين الرياضية التي تبعث النظام في الكون، والانسجام بين الأفلاك، وعلى ذلك فمن الواجب ألا تقل صرامة علم الموسيقى عن صرامة القوانين الرياضية التي يسير بمقتضاها الكون. وقد قدر لرأي بويتيوس هذا أن يسيطر على التفكير الجمالي في الموسيقى طوال قرون عديدة تالية.
ولقد عرف عن أبيلار (1079-1142م) في شبابه أنه موسيقي بلغ من البراعة في التأليف والعزف على العود
lute
حدا اشتهر معه شهرة واسعة بأنه الشاعر المغني
Minstrel . والواقع أننا لا نذكر عن أبيلار في العادة سوى أنه رجل كنيسة، وصاحب نزعة إنسانية، وكاتب رومانتيكي في رسائله إلى إلويزا
Heloisa
ومؤلف لأغان باللغة العامية كان طلاب باريس ينشدونها ، ولكننا كثيرا ما ننسى أنه لحن أو أعاد توزيع عدد من الأناشيد الدينية للكنيسة،
17
وأنه كان ينظر إلى الفلسفة على أنها وسيلة لجعل التعاليم المسيحية معقولة ومفهومة.
كذلك ألف القديس فرنسيس في شبابه، كبقية الشبان المختالين في أيامه، أغاني وأشعارا ، ولكنه عندما تقدم به العمر، وأحس بأن أي عذاب لا يعادل ما عاناه المسيح في حياته، كتب «أنشودة للشمس
Hyman to the Sun » وهو قابع يترقب الموت في زنزانة تغشاها الفيران، ولو كان أي مسيحي أقل منه شأنا هو الذي كتب أنشودة للشمس لعدت أغنية وثنية، غير أن نزعة القديس فرنسيس في شمول الألوهية (أو وحدة الوجود)، التي تتسع لحب كل مخلوقات الله، كانت في إيمانها وتقواها بمنأى عن كل شك.
ولقد كانت القرون الثمانية التي تفصل بين القديس توما (حوالي 1225-1274م) وبين القديس أوغسطين، تمثل البداية والنهاية التقريبية لفلسفة العصور الوسطى. والواقع أن من المستحيل فصل الفلسفة عن اللاهوت في العصور الوسطى؛ إذ إن المفكرين المدرسيين قد استنفدوا طاقاتهم في تشييد مذاهب استدلالية منطقية تؤدي إلى البرهنة بطريقة استنباطية واستقرائية على وجود الله وألوهيته. ولقد اختلف الموقف الفلسفي لكل من أوغسطين وتوما، وهما العملاقان العقليان لهذه الفترة، في المسائل النظرية. أما في الموسيقى فلم يكن هناك اختلاف بين آرائهما. وقد شارك القديس توما رأي أوغسطين القائل إن علم الموسيقى مبني على مبادئ تحددها الرياضيات «وعلى ذلك فكما أن الموسيقى تقبل سلطة المبادئ التي يلقننا إياها علم الحساب، فكذلك يقبل العلم المقدس المبادئ التي يوحي بها الله.»
18
وعلى الرغم من أن الفلاسفة الكاثوليك كانوا يعلمون أن «العهد القديم» تضمن وصفا لموسيقى الآلات وللغناء، فقد اتجهوا إلى الربط بين الآلات والطقوس الوثنية واللذات الجسدية، بل إن الفلاسفة الكاثوليك والأشد تمسكا بعقيدتهم قد أضفوا على الآلات الموسيقية دلالة رمزية؛ فقد نظر القديس أوغسطين إلى الطبلة والسنطور (
psaltery ) على أنها تذكر المرء بجسد المسيح مشدودا على الصليب «فالجلد يشد على الطبل، والوتر يشد على السنطور، وفي كلتا الحالتين يصلب البدن».
19
وهكذا لم يكن في وسع القديس أوغسطين أن ينظر إلى هاتين الآلتين بنفس الروح المرحة التي نظر بها إليهما العبرانيون، والتي تدل عليها هذه الآية في «العهد القديم»: «فليغنوا لله مزمورا بالطبل والسنطور.»
ولقد كان فلاسفة العصور الوسطى المسيحيون الذين تحدثنا عنهم أعضاء في الكنيسة بصفة رسمية أو بأخرى . ولآرائهم في الموسيقى أهمية عظمى بالنسبة إلينا اليوم؛ فآباء الكنيسة قد وضعوا بالفعل معيارا للقيم بالنسبة إلى الموسيقى الدينية كان مبنيا على الفلسفة اليونانية واللاهوت العبراني، وهما التياران اللذان تبلورا في كتابات القديس أوغسطين. وقد أسهم الفلاسفة المسيحيون في معرفتنا بالموسيقى، بما تركوه لنا من أوصاف وتقديرات لمعنى الموسيقى وطبيعتها في عصرهم. أما فلاسفة الرومان فقد احتفظوا بآراء اليونانيين في صورتها الأصلية، ولم يعدلوا الفلسفات اليونانية في الموسيقى وفقا للحاجات الدينية، كما فعل آباء الكنيسة الأوائل. وقد لخص أرستيدس كونتليانوس
Aristides Quintilianus
الفلسفات الموسيقية التي كانت تعلم في الأكاديمية الأفلاطونية واللوقيوم (الليسيه) الأرسطي، وحاول بويتيوس أن يقوم ب «التوفيق بين آراء أرسطو وأفلاطون إلى حد ما». وقد كان للفلاسفة المسيحيين والرومان معا تأثيرهم في مجرى الفلسفة الجمالية للموسيقى؛ إذ إنهم لخصوا الفلسفات الموسيقية للحضارة الهلينية السابقة عليهم، وقدروا هذه الموسيقى وعدلوها وفقا لحاجات الإنسان الغربي. وسواء قبلنا تقديرهم للموسيقى التي ورثوها من اليونان القديمة وطريقتهم في استخدامها أم رفضناهما، فإن حقيقة الأمر هي أنهم أعطونا مجموعة من المبادئ الجمالية لا تزال الكنيسة والدولة تتخذها أساسا ضروريا للحكم على الموسيقى في أيامنا هذه.
القسم الخامس: الدراما الشعائرية
كانت الدراما الشعائرية مسرحية دينية تولدت عن الفن الموسيقي في العصر الوسيط. وقد بدأت بوصفها وسيلة مبسطة لتفسير الكتب المقدسة لأفراد الكنيسة الأميين، ولكنها تدهورت بمضي الزمن، حتى أصبحت مسرحية ذات طابع ديني مشكوك فيه، وشوهت قداسة الكنيسة التي كانت تعرض فيها. وهناك وجه شبه تاريخي غير واضح المعالم بين أصل الدراما الشعائرية في العصور الوسطى وبين ذلك التفسير الرومانتيكي الذي قدمه الفيلسوف «نيتشه» لنشأة الدراما اليونانية في كتابه «ميلاد التراجيديا من روح الموسيقى اليونانية»؛ فقد كان نيتشه يرى أن الدراما اليونانية قد نشأت من روح الموسيقى اليونانية، ثم تدهورت في المسرح الروماني إلى استعراضات سطحية تافهة. وبالمثل نشأت الدراما الشعائرية من فن «التروبس» (الفواصل) الموسيقي، ثم تدهورت فأصبحت عروضا تافهة للحياة في عصور الكتاب المقدس وحكاياته.
ولقد كان آباء الكنيسة ينظرون إلى المسرح على أنه لون حسي مبتذل من ألوان الفن. وقد شكا المتحدث الرئيسي باسمهم، وهو القديس أوغسطين، من أن الشبان قد افتتنوا بخرافات هوميروس التي يعرضها عليهم كتاب المسرح من الرومان،
20
وفي الكتاب الثاني من «الاعترافات» قال إن المسيحيين يجدون لذة خاصة عندما يشعرون إزاء المحبين الآثمين والمجرمين الكبار في المسرح بأسف يفوق ذلك الذي يشعرون به إزاء نفوسهم المضطربة والتعساء الموجودين بينهم،
21
كذلك ورد ذكر المسرح الوثني والموسيقى الدينية في كتابات ترتوليان
Tertullian (حوالي 155 وحوالي 222م)، ذلك المتدين الشديد التمسك بعقيدته، الذي تخلى عن كنيسته الأصلية لينضم إلى طائفة غريبة الأطوار وجدها أكثر تمشيا مع المسيحية الزاهدة؛ فقد وصف ترتوليان المسرح الروماني بأنه معبد وثني يأوي شيطاني الثمالة والشهوة، باخوس وفينوس، وأرجع أصل المسرح إلى المعبد الوثني والمذبح الذي كان الوثنيون يحرقون البخور فوقه، وسط أنغام المزمار والأبواق الصارخة، ويقدمون القرابين إلى آلهتهم الحقارى.
22
وقال إن العروض المسرحية التي ترجع إلى أصل كهذا لا يمكن أن تعد جديرة، من الوجهة الأخلاقية، بالموسيقى المسيحية الصالحة التي كان المؤمنون يغنونها فيما بينهم؛ فالمزامير
psalms
والأناشيد الدينية تزيد الإنسان قربا من الله. أما المسرح الوثني فيهبط بالإنسان إلى الشيطان.
غير أن الكنيسة كانت تتميز بالقدرة الفائقة على قهر العقبات التي تحول دون تقدمها الديني وطموحها السياسي. وكانت بارعة إلى أبعد حد في رفع التناقضات الفلسفية حتى تبعث الانسجام في لاهوتها، وأظهرت مقدرة مماثلة في الطرق التي اتبعتها من أجل ضم الوثنيين إلى صفوفها؛ فهي قد اقتبست الموسيقى الوثنية في البداية، كلما كان ذلك ضروريا ومفيدا، واستخدمت ألحانها لأغراضها الخاصة. وبعد انقضاء عدة قرون بدأت الكنيسة تنظر بعين الرضا على القيمة التعليمية للتصوير الرمزي. ولم يتبق من بين الفنون الأصلية سوى المسرح الذي لم يكن قد انضم بعد إلى الثالوث الفني، وقد تحقق ذلك بفضل الدراما الشعائرية.
ولقد كانت للدراما الشعائرية ثلاثة عناصر، هي الدين والموسيقى والنص الكلامي؛ ففي البداية كانت هذه الدراما مجرد محاورة درامية تطورت عن «التروبس» (الفواصل) التي أقحمت في الشعائر لشرح الأجزاء التي تغنى في القداس لجمهور المصلين. وقد ظلت الشعائر الدينية تؤدى باللغة التقليدية، وهي اللاتينية، على الرغم من سيادة الجهل في ذلك العصر الذي كان يحول بين المسيحي العادي وبين معرفة اللغة اللاتينية الكلاسيكية. وترتب على ذلك أن عددا قليلا جدا من رواد الكنائس هم الذين كانوا يفهمون الشعائر. وبظهور «التروبس» (الفواصل) استطاع هؤلاء على الأقل أن يتتبعوا المعاني الأدبية الرئيسية للقداس. وقد حدث هذا التحول الثوري بإدخال شروح تروي باللغة الشعبية مغزى الصلاة. وكان معنى ذلك أن فهم القداس لم يعد مقتصرا على الأقلية المتعلمة، بل إن المسيحي العادي يستطيع أن يستمتع بفهم «التروبس» (الفواصل) المشروحة من الصلاة، وبلغ من شعبية هذه «التروبس» (الفواصل) أن مؤلفيها لم يكتفوا بأن تكون مجرد محاورة، وإنما أضافوا العنصر الثالث، وهو الإيقاع والنظم المقفى.
ولقد كانت «التروبس» (الفواصل) تؤدى في الأصل بصورة تجاوبية؛ فكان أحد أعضاء الإكليروس يرتل، أو يقرأ فقرة من الإنجيل، أو من إحدى الرسائل الدينية باللاتينية، فيرد عليه قسيسان أو ثلاثة بغناء شرح أو تلخيص باللغة المحلية للفقرة التي قرئت. وبعد أن أضيف الإيقاع والنظم إلى هذا الحوار، ظهر شكل جديد من أشكال الدراما، كانت له إمكانات درامية أوسع كرواية القصص الديني المبني على المعجزات وأسرار العقيدة المسيحية وحياة القديسين ومناقبهم. وكانت الخطوة التالية في تطور الدراما الشعائرية هي إدخال المناظر؛ لكي تبدو الأحداث أكثر واقعية.
وقد اتسع بالتدريج نطاق الأحداث في الدراما الشعائرية حتى استنفد الإمكانات المحدودة لهيئة القساوسة، ولم يعد هناك مفر من الاستعانة بجمهرة المتدينين والطلاب الجامعيين لكي يؤدوا أدوارا محددة في هذه الدراما، وعندئذ بدأ استخدام اللاتينية في هذه المسرحيات الدينية يتضاءل؛ لأن كثيرا من الممثلين الذين ينتمون إلى الطبقة العلمانية (أي الخارجين عن نطاق رجال الدين الرسميين) لم يكونوا يتكلمون هذه اللغة أو يفهمونها، وبالإضافة إلى هذه الصعوبة، فإن الممثلين العلمانيين، وكذلك القساوسة ذاتهم وصبية المجموعات الغنائية المشتركين في الدراما، بدءوا يرتجلون الأجزاء الخاصة بهم، ويقحمون كلمات ونغمات «دارجة»، بحيث إن سلطات كنسية متعددة أفتت بأن الممثلين العلمانيين مسئولون عن انحلال هذه المسرحيات المقدسة، وينبغي منعهم من الاشتراك في الدراما الشعائرية، التي بدأت في الأصل بوصفها تروبس (فواصل) في الأديرة، ثم أصبحت عاملا يساعد على شرح الصلاة في كنيسة الأبروشية، قد أصبحت الآن عاملا من عوامل تشجيع صبية الممثلين في هذه المسرحيات على إدخال الموسيقى الدنيوية في بيت العبادة، وعزف هذه الموسيقى البعيدة عن القداسة أمام المذبح ذاته. وهكذا فإن أقطاب الكنيسة لو كانوا في حاجة إلى ما يذكرهم بألا يخففوا من وطأة رقابتهم على الموسيقى والأخلاق، فإنهم كانوا يجدون المبرر الكافي لسياستهم كلما شاهدوا الممثلين العلمانيين يقتحمون ميدان الدراما الشعائرية.
ولقد ظهرت الدراما الشعائرية في حوالي القرن العاشر، عندما بدأ القساوسة يمثلون لأهل أبروشياتهم في الكنائس مسرحيات مسيحية جعلوها جزءا هاما من الطقوس الدينية، وكان التمثيل في البداية باللغة اللاتينية، ثم أصبحت اللغات المحلية تستخدم بدورها في القرن الحادي عشر، وبمضي الزمن تحولت هذه المسرحيات الدينية إلى أعمال ضخمة معقدة، وتزايد عدد مشاهديها، واتسع نطاق هذه المسرحيات، وازدادت شعبيتها، إلى حد أنها أصبحت تمثل خارج الكنيسة فضلا عن داخلها، وأصبحت تؤدى ب «اللغة الدارجة».
وبمضي الوقت أخذ النظارة يحضرون لمشاهدة هذه المسرحيات الشعائرية بقصد التسلية، أكثر مما يحضرون بقصد التزود من التعاليم المسيحية، وأصبحوا يتوقعون من الممثلين أن يقدموا إليهم عرضا ترويجيا. وازداد العنصر الهزلي في الدراما الشعائرية، كما ازدادت المسرحيات «دنيوية»، وبتدهور نص الدراما الشعائرية تدهورت الموسيقى بدورها. وهكذا فإن ما كان يتخذ في البداية مظهر أسلوب لتعليم العقيدة المسيحية باستخدام «تروبس» (فواصل) موسيقية، قد انحط حتى أصبح مسرحية مصحوبة بالموسيقى، تهتم بمبدأ أكثر مما تهتم بالإرشاد الديني.
القسم السادس: الموسيقي الجوال
تبددت في مطلع القرن الحادي عشر مخاوف كان مبعثها خرافة سائدة في الأزمنة الوسيطة، هي أن نهاية العالم وشيكة الوقوع تمهيدا لعودة المسيح في سنة ألف، فعندما لم تتحقق هذه الظاهرة، بدأ الناس مرة أخرى يبنون ويبدعون ويضعون الخطط للمستقبل؛ إذ إن العالم باق على أية حال، والله قد استجاب لصلوات المسيحيين وتراتيلهم الدينية ، وشاءت رحمته أن يؤجل يوم الحساب. وعندئذ أشارت الكنيسة إلى أن على الشباب أن يتمسكوا بإيمانهم، وبالموسيقى المقدسة عند أسلافهم، حتى يرضى الرب الواسع الرحمات الذي يرعى المسيحية عن أغانيهم، ويستجيب لصلواتهم، مثلما رضي عن الموسيقى الدينية لآبائهم، واستجاب لدعواتهم.
ولم تكن فترة تقديم الشكر هذه على دوام حياة البشر قد انتهت بعد، في مطلع القرن الحادي عشر، عندما بدأ الطلاب وصغار رجال الدين يهاجرون من مدينة جامعية إلى أخرى. وظلوا يجوبون أرجاء أوروبا حتى أوائل القرن الثالث عشر، وذلك على الأرجح بوصفهم لاهوتيين ناشئين باحثين عن المعرفة والحقيقة، ولكنهم قبل انصرافهم التام إلى الزهد، أو ارتدائهم ثياب الكهنوت، كانوا يشعرون بالرغبة في الشرب من كأس المتع الدنيوية حتى الثمالة، مما كان يؤدي بالبعض إلى التعجيل بالاعتراف الكامل بذنوبهم، وبالعض الآخر إلى التحول عن الكنيسة تحولا نهائيا. وسرعان ما تدهور هؤلاء الطلاب الرحل إلى طائفة من الجوالين أو الصعاليك، ويعرف هؤلاء عادة باسم «المطربين
goliards »، وقد ظهر نشاطهم وتأثيرهم أوضح ما يكون في ألمانيا، وبدرجة أقل في فرنسا وإنجلترا. وفي الأوقات التي لم يكن فيها هؤلاء مشغولين بالسكر أو الاحتيال على الفلاحين السذج، كانوا يؤلفون عددا لا حصر له من الأغاني الساخرة التي تقلد النصوص المقدسة، أو يستخدمون ألحانا شعائرية مع نصوص بذيئة ترمي إلى السخرية من الدين والأخلاق، وفي خلال تجوالهم في أرجاء كثيرة من أوروبا، متنقلين من جامعة إلى أخرى، كان هؤلاء الطلاب الرحل والمتطلعون إلى سلك الكهنوت يؤلفون الموسيقى ويعزفونها، والأهم من ذلك أنهم كانوا يتبادلون الأفكار. وعندما كان معين الخلق عندهم ينضب، لم يكونوا يجدون غضاضة في اقتباس الألحان الرئيسية من الأناشيد والتراتيل والقداسات الدينية مباشرة. هكذا أصبحت الألحان والكلمات المقدسة معرضة للسخرية، وللتفسيرات المستخفة ، وأصبحت الموسيقى الدينية بأسرها ضحية للمجون، ومحاكاة هؤلاء الطلاب لها بطريقة خارجة عن الدين. وكلما ازداد هؤلاء الطلاب انحلالا من حيث هم فئة، ازدادت كلمات أغانيهم المعدلة وضاعة، وازدادت ألحانهم المؤلفة والمقتبسة سخرية. ولما كانت الكنيسة غاضبة على سخريتهم ومرتابة في إخلاصهم الديني، فقد أبت عليهم الدخول في مناطقها المحرمة.
ولقد قامت الفئة المسماة بالشعراء الجوالين الفرنسيين
23
French jongleurs
بدور أكبر من ذلك الذي قامت به الفئة السابقة ذاتها، في الإبقاء على جذوة الفن الموسيقي مشتعلة في العصور الوسطى. وكان بعض هؤلاء الشعراء الموسيقيين المتجولين صعاليك لم يتلقوا تعليما منظما، يكسبون قوت يومهم بخفة اليد وزلاقة اللسان، فتراهم على استعداد لإحياء عرس ريفي بموسيقاهم، أو أداء حركات بهلوانية في مولد صاخب تماما، كما هم على استعداد لتمثيل الأدوار الرئيسية في المسرحيات الدينية. وكانت رحلاتهم تحملهم من إقليم إلى آخر، حيث كانوا يرفهون عن الناس بالدعابات والأحاديث والأغاني. ولقد كان هذا المغني الجوال بالنسبة إلى عامة الشعب بمثابة الجريدة اليومية والمسرح ومنشد الأغاني،
24
وكان الضحك يسير في ركابه حيثما حل، ولكنه كان أحيانا يأتي معه بأنغام حزينة. وكان الناس يحبونه لبذاءته وخفة روحه وموسيقاه، ولكنهم كانوا مع ذلك يخافون لسحره الطاغي، ولتلك «القوى الخارقة للطبيعة» التي كان يستطيع أن يخلبهم بها.
ولقد كانت توجد من الشعراء الجوالين أيضا فئة مثقفة، كانوا في بعض الأحيان من أسر عريقة، وهؤلاء كانوا يجدون لهم طريقا إلى قصور الإقطاع وبلاط الأمراء بوصفهم مغنين وشعراء ورواة للأقاصيص الكلاسيكية القديمة. وكان مثل هؤلاء الشعراء يظلون في القصور كأفراد دائمين، أو يتنقلون بين باحات القصور منشدين أغانيهم وراوين أشعارهم لجمهور من المستمعين يقدرهم على الدوام، وكان أصحاب المناصب الدينية الكبيرة، والنبلاء، وكبار أعيان المدن، يحتفلون بضيوفهم هؤلاء، ويقيمون الحفلات الباذخة للاستمتاع بموسيقى وأشعار تلك الشخصية الفذة، شخصية الشاعر الجوال.
ولقد كان أصل هؤلاء الشعراء الجوالين (
jongleurs ) غامضا، وإن يكونوا قد أثبتوا وجودهم بوضوح في القارة الأوروبية في القرن التاسع. ومن الجائز أن يكون أصلهم راجعا إلى المهرج اللاتيني (
Latin mime ) الذي كان بدوره جوالا، وكثيرا ما كان يسير في أعقاب الجحافل الرومانية ليرفه عن جنود قيصر وعن الشعوب المهزومة التي كانت ترغم على الدخول في حومة الإمبراطورية. وقد سار الشاعر الجوال في العصور الوسطى في أعقاب الصليبيين، لا لأنه كان متحمسا دينيا لطرد المسلمين من الأراضي المقدسة، بل لأنه كان ينتفع، كالمهرج اللاتيني، من أية حملة مغامرة تتيح له إيجاد متنفس لروحه غير المستقرة، وفرصة لبيع بضاعته الموسيقية. ولقد كان الشاعر الجوال كالمهرج شخصية هزلية متجولة تجنبها مؤرخو الأدب الكاثوليكي وتجاهلوها. وكانت الكنيسة تعدهم أشخاصا مغضوبا عليهم بوجه خاص؛ لأنهم أقرب الناس تمثيلا للحضارة الوثنية، ولأنه كان في وسعهم أن ينفثوا «سحرهم المسموم» في الأخلاق المسيحية عن طريق الغناء.
ولم يكن دور الشعراء الجوالين في العصور المظلمة متسقا تماما أو واضحا؛ فقد كانوا شعراء وموسيقيين أصليين إلى حد بعيد. وعلى الرغم من أن الكنيسة كانت تنبذهم رسميا، فإنه لم يكن من المستغرب أن تجد مغنيا بارزا منهم ضمن أفراد بيت واحد من أقطاب رجال الدين، بل إن الأديرة ذاتها كانت تستضيف الشاعر الجوال أحيانا؛ ليحيي لها حفلات خاصة. ومن الواضح أن رجال الكنيسة لم يكونوا في حياتهم الخاصة يلتزمون دائما مختلف الأوامر والمراسم التي أصدرتها مجامع دينية متعددة ضد الشعراء الجوالين. أما رجل الشارع، فكان من جانبه يستمتع بدعابات هؤلاء الشعراء في الحفلات الدينية، ويعجب لبراعتهم في إضفاء الحيوية على الاحتفالات التي تقام تكريما لقديس ما. ومع ذلك يعتقد بسذاجة أن هذا الشاعر ذاته يحمل خميرة الشيطان وإباحيته.
ولما كانت الكنيسة تدرج هؤلاء الشعراء المغنين ضمن فئة السحرة والآثمين، فقد عدتهم خطرا على سلطة الدين، وكانت أحيانا تأبى عليهم طقوس التناول والأسرار القدسية. ولقد كانت الكنيسة تنظر إلى هؤلاء الشعراء، فيما بين القرن الحادي عشر والقرن الثالث عشر، على نفس النحو الذي كان آباء الكنيسة الأوائل ينظرون به إلى المهرجين اللاتينيين؛ أي بوصفهم خطرا داهما على الأخلاق المسيحية. والمهم في الأمر أنه مثلما كان المهرجون هم حفظة الموسيقى والشعر الدنيويين في أيامهم، فكذلك عمل الشاعر الموسيقار المتجول على إبقاء جذوة الموسيقى والشعر، وربما الأدب - في أنواعها شبه الدينية أو اللاتينية - مشتعلة خلال الجزء المتأخر من العصور الوسطى.
ولكن كيف كان هؤلاء الموسيقيون يتعلمون فنهم؟ المفروض أنه كانت هناك مدارس يتعلم فيها الناشئون منهم فنون العزف والغناء. وكان هؤلاء الموسيقيون الشعراء يجتمعون بانتظام في موسم الصوم، وهو الوقت الذي يمنعون فيه من ممارسة فنونهم أمام الجمهور. وكانت هذه الاجتماعات تتيح لهم فرصة مناقشة المشاكل المشتركة، وتبادل أشعارهم وأغانيهم بعضهم مع بعض.
ولقد كان معظم الفرسان النبلاء من فئة «التروبادور
troubadours » يضمون واحدا من الشعراء الجوالين إلى بطانتهم،
25
وكانت مهمة الشاعر الجوال هي تنظيم موسيقى الفارس الذي يعمل في خدمته، وزيادة حصيلته من الأغاني بألحان أو أشعار جديدة، بل تزويده بالموسيقى المعزوفة أيضا. ولم يكن الشاعر الجوال في واقع الأمر يصاحب الفارس عند غنائه، وإنما كان على الأرجح يعزف بقوسه على آلة وترية، ربما كانت الفييلا (
vielle
وهي من أسلاف الفيولينة الحالية) فيعزف مقدمات ولازمات
interludes
وختامات
postludes
26
كذلك كان يطلب إلى هؤلاء الموسيقيين الجوالين إنشاد الأغاني الجديدة التي ألفها أسيادهم كلما استدعت الظروف ذلك. وكان المطلوب من الموسيقي الشاعر أيضا أن يعوض نواحي النقص في فن سيده؛ فالتروبادور الفارس الذي يؤلف أشعارا رقيقة، ولكنه يضع ألحانا ضعيفة كان يستعين بخدمات موسيقى شاعر بارع في التلحين، والعكس بالعكس. أما التروبادور الذي يستطيع تأليف الشعر والموسيقى معا، والذي يستطيع الغناء والعزف في آن واحد، فإنه يكون أقل اعتمادا على الشعراء المتجولين. ولقد كان هناك قانون أخلاقي صارم ينزل بمقتضاه أرفع فرسان التروبادور إلى مرتبة الشاعر المتجول إذا جعل فنه تجاريا أو اتخذه وسيلة لكسب العيش. ومن جهة أخرى كان في وسع الشاعر المتجول، إذا كانت مواهبه خارقة للمألوف، كما في حالة كولان موزيه
Colin Muset
أن يرقى إلى مرتبة التروبادور.
ولقد أطلق البعض على هؤلاء الشعراء الجوالين اسم «البوهيميين الأصالى» في عالم الفن بالعصور الوسطى. وبالفعل كانت هذه الفئة، خلال الجزء الأكبر من تاريخها، تتألف من جماعة غير منظمة من الأفراد ذوي المواهب المتنوعة. وكان هناك تمييز اجتماعي بين الشاعر المتجول الأمي وبين زميله الأكثر ثقافة، الذي كان في كثير من الأحيان يغشى أوساط البلاط، أو يعيش في قصر نبيل من النبلاء؛ حيث يكون له في أحسن الأحوال مركز الخادم المميز. وكان هندامه العجيب ، ومظهره «الكوسموبوليتاني» يتيح له الاندماج بأرقى الأوساط الاجتماعية وأدناها. وبحلول أواخر القرن الثالث عشر أو أوائل القرن الرابع عشر، أصبح لهؤلاء الشعراء الجوالين مركز اجتماعي معترف به. وفي حوالي هذا الوقت أصبح الاسم الشائع الذي يطلق على كل الشعراء الجوالين هو «منستريل
minstre ».
ولقد كان موطن التروبادور هو جنوب فرنسا، ولكن أشعاره وأغانيه انتقلت في النصف الثاني من القرن الثاني عشر من المقاطعات الجنوبية إلى الشمالية. وكان من أسباب ذلك الحملة الصليبية في عام 1147م، التي جمعت بين فئات من الحجاج ينتمون إلى شمال فرنسا وجنوبها، كما كان من أسبابه الزيجات الملكية التي جمعت بين أسر من المنطقتين معا. وقد اتخذ شاعر التروبادور في الشمال اسم التروفير
trouvere
تمييزا له من زميله في الجنوب.
وقد وضعت ألحان متعددة لبعض أشعار التروبادور و«التروفير» المتعلقة بالحب والدين والسياسة، ولكنهم لم يكونوا يبيحون استخدام اللحن الواحد لأي نصين مختلفين. ولقد كانوا يقبلون أي تغيير طفيف يطرأ على اللحن الأصلي، فيعدونه شيئا جديدا، أما تكرار نفس اللحن فإنه يشوه سمعة المغني والأغنية. ولقد كان صاحب أعظم موهبة موسيقية بين أفراد «التروفير» المعروفين هو «آدم دلاهال
Adam de la Halle »، والذي ألف موسيقى «روبان وماريون
Robin et Marion »، وهي أقدم مسرحية نعرفها عن المجتمع الفرنسي في العصور الوسطى، تتناول موضوعا دنيويا ملحنا.
وكانت البساطة هي أساس النظرة الجمالية للتروبادور إلى الموسيقى؛ فقد كانوا يبدون اهتماما متساويا بالنص الشعري واللحن الموسيقي. وكان التروبادور ينظر إلى شعره وغنائه على أنهما شكل واحد من أشكال الفن، ولم يكن يفرق في العادة بين أحدهما وبين الآخر، وقد لخص دانتي فلسفتهم في «الكوميديا الإلهية» بتلك الحكمة الموجزة التي قالها على لسان التروبادور «فولكير دي مارسي (من مدينة مرسيليا)
Folquert de Marseilles » «شعر بلا موسيقى كطاحون بلا ماء.»
وبعد فترة ما من الغزو النورماندي عام 1066م حمل التروبادور و«المنستريل» فنهم معهم عبر بحر المانش إلى إنجلترا. وكانت إليانور أميرة أكويتانيا
Eleanor d’ Aquitaine
قد أدخلت في البداية فن التروبادور إلى شمال فرنسا عندما تزوجت من لويس السابع وقت أن كان أميرا. ولقد كانت إليانور مشغوفة بالموسيقى ، حتى إن شعراء التروبادور في أكويتانيا كانوا يعدونها ملهمتهم وراعية أغانيهم. وعندما نزلت شمال فرنسا بعد زواجها أتت معها بالتروبادور المشهور «برنار دي فنتادورن
Bernard de Ventadorn »؛ لكي يدخل موسيقى المقاطعات الجنوبية إلى الشمال.
27
وفي عام 1152م أبطل زواجها بلويس السابع، فتزوجت من بعده ب «هنري دانجو
Henri d’ Anjou »، وهو أول فرد من أسرة الأنجفينيين يتولى الحكم في إنجلترا. ويقال إنها ضمت إلى بلاطها «برناردي فنتادورن» مرة أخرى؛ لكي يدخل فن التروبادور إلى إنجلترا. ولقد بلغ من تأثير حياة البلاط النورماندي على الأنجليين
Anglicans
أن اللغة الفرنسية أصبحت لغة الدولة الرسمية، وأصبح الأدب والموسيقى الفرنسيان موضع إعجاب المثقفين والنبلاء.
وقد امتد تأثير الفن الفرنسي في اتجاه آخر، هو ألمانيا. وفي هذه الحالة بدورها أدى شغف امرأة بالموسيقى إلى التأثير في الحياة الثقافية لأمة بأسرها؛ فعندما تزوجت «بياتريس دي بورجونيا
Beatrice de Bourgogne » من فردريك بربروسا أحضرت معها «التروفير» «جويودي بروفان
Guiot de Provintes » إلى ألمانيا. وبفضل جهودهما المشتركة اصطبغ الفن والفكر الألمانيان بصبغة الموسيقى والأدب الفرنسيين. وكان الجوالون الصعاليك
vagantes
قد طبعوا الشعب الألماني بطابعهم الخاص في الموسيقى. وأدى إدخال الأفكار الفنية الفرنسية، ممتزجة بشعر المغنين الجوالين وأغانيهم، إلى خلق تراث موسيقي حافل مهد الطريق لظهور فئة أخرى من الشعراء والموسيقيين الجوالين، هي «المينيزنجر
Minnesinger »، وكانت موسيقى «المينيزنجر» الألمان وشعرهم، شأنها شأن موسيقى «التروفير» الفرنسيين وشعرهم، تدور حول الحب والدين والسياسة والمغامرات.
ولقد أصبح «المينيزنجر»، بفضل أغانيه وأشعاره، نبي الألمان. وكان الجو السياسي يموج بشيء فسره الخيال المرهف ل «المينيزنجر» بأنه تغير وشيك الوقوع، ولا جدال في أنه كان يلقى في ذلك تأييدا من أسرة «هوهنشتاوفن
Hohenstaufen » المالكة؛ فقد تشكك المينيزنجر في قداسة البابوية وفي سلطاتها الاجتماعية. وكان ذلك كفيلا بإحداث صدع تام في بناء المسيحية في ألمانيا لولا أن البابا «أنوتشنتي الثالث» رد للكنيسة السلطة التي كانت لها في البداية، وأصبح مسيطرا على الموقف السياسي، غير أن الفنان كان قد أشعل شرارة الخيال الثائر بين العناصر المفكرة في جميع أرجاء ألمانيا والنمسا؛ ولذلك فعلى الرغم من أن سلطة البابا قد عادت إلى السيطرة على الولايات الألمانية، فإن عجلة التغير لم تكد تتوقف حتى ظهر فنان آخر، أشد تعصبا وتحمسا من أفلاطون، انشق نهائيا على روما.
كان المينيزنجر «فالتر فون در فوجلفيده
Walther von der Vogelweide » من أسرة عريقة، بحيث إن مركزه في بلاط «الهوهنشتاوفن» الحافل بالمؤامرات والدسائس، لم يكن مهددا من الوجهة الاجتماعية، أو متوقفا على عبقريته من حيث هو شاعر غنائي وموسيقار. وقد وصف بأنه شاعر موسيقار من طبقة الفرسان، ومن المعتقد أنه كان يجوب أرجاء الولايات الألمانية متنكرا في ثوب موسيقي جوال (
minstrel ). وكان فالتر مفكرا رومانسيا مثلما كان شاعرا وموسيقيا ساخرا، كرس فنه لخدمة الحركة المعادية للبابا، التي كان فردريك الأول قد أعطاها الدفعة الأولى. وقد أخذ الشعراء والموسيقيون الألمان على عاتقهم فصل الإمبراطورية الألمانية عن روما، وأطلقوا على البابا اسم «المسيح الدجال». وهكذا أجريت تفرقة نظرية بين المسيحية وبين حكم البابا لأول مرة بعد ألف ومائتي عام. وأصبح فالتر هو النصير القوي والمرشد الروحي للفنانين. غير أن فردريك مني بهزيمة عسكرية، ولكي يستعيد ما يمكن استعادته من نفوذه، سار حافي القدمين على الجليد، وركع خاضعا تائبا أمام البابا «ألكسندر الثالث»، وعادت لروما السيطرة مرة أخرى. وقد شهد «فالتر فون در فوجلفيده» هذا التحول المؤسف لمجرى الأحداث، وكان كل ما يستطيع أن يفعله هو أن يقف عن بعد، ويرقب البابا التالي «أنوتشنتي الثالث»، وهو يمهد الطريق لانهيار الإمبراطورية الألمانية.
لقد كان شعراء التروبادور يتخطون الحواجز الجغرافية، وينشرون نوعا جديدا من الفن متحررا تماما من رقابة الكنيسة وسلطانها في جميع البلدان المحيطة بفرنسا. ومع ذلك فإن شعر التروبادور وموسيقاهم كان فنا أرستقراطيا لا يشارك فيه بالضرورة جميع الفرنسيين أو أفراد الطبقات الدنيا في مختلف أرجاء أوروبا. وكانت موسيقاهم تنطوي على نغمة أساسية متكررة ، هي النزاع الاجتماعي الذي يرجع إلى صراع مرير على السيطرة بين البابا والملك. وقد استعان التروبادور بالألحان الشعبية، وعلى الرغم من أنهم عدلوها بحيث تلائم أغراضهم، فإنهم ساعدوا على حفظها ونشرها. أما الكنيسة فقد سلكت طوال القرون مسلكا مخالفا، فحرمت الألحان الشعبية وتجاهلتها، فكانت النتيجة أن هذه الألحان لم تسجل، وليس هناك من سبيل إلى معرفة عدد ما فقد منها. ولو كانت هذه الألحان قد دونت بنفس العناية التي دونت بها الموسيقى الكنسية، لازدادت معرفتنا بموسيقى العصور الوسطى ثراء إلى حد بعيد، ولكن الكنيسة كانت تنظر إلى الموسيقى الشعبية على أنها سوقية لا تستحق التسجيل.
والواقع أن ما تبقى لنا من الإنتاج الموسيقي لمختلف فئات الشعراء الجوالين، وهم «التروبادور» و«المينيزنجر» و«الجونجلور» (الأدباتية)
jonglieur
و«الجوليار (المغزلكون)
goliards » قليل للغاية، وأغلب الظن أنهم لم يكونوا يتجشمون عناء تدوين موسيقاهم. ولقد كانت ألحانهم متكررة، ولما كان حفظها سهلا، فالأرجح أن منشدي العصور الوسطى لم يهتموا دائما بتدوينها، ومن الجائز أنهم لم يعرفوا وسيلة التدوين. ولعل ذلك هو السبب في أن ما لدينا من أشعارهم الفعلية أكثر مما لدينا من موسيقاهم ذاتها. وقد أعيدت كتابة بعض الألحان الرئيسية لهؤلاء الموسيقيين الوسيطيين بطرق التدوين الحديثة. وعلى الرغم من جسارة هذه المحاولة وجرأتها، فإنها عاجزة عن أن توحي إيحاء تاما بالروح الأصلية التي كانت هذه الموسيقى تؤدى بها.
الفصل الثالث
الفيلسوف والموسيقى في العصر القوطي وعصر النهضة
القسم الأول: الفيلسوف والكنيسة والبوليفونية في العصر الوسيط
كانت الفترة المتأخرة من العصور الوسطى فترة صراع فلسفي هائل بين مختلف مذاهب الفكر في الكنيسة. ولقد رأينا من قبل أن الفترة المتقدمة في العصور الوسطى قد عرفت أفلاطون بوصفه مؤلف محاورة «طيماوس» التي وصف فيها بطريقة أسطورية أصل العالم بروح صوفية مماثلة لروح الفيثاغوريين. كذلك عرفت هذه القرون المتقدمة ذاتها أرسطو بوصفه عالم منطق؛ أي إن الباحثين الغربيين لم يكونوا يعرفون من كتابات أفلاطون وأرسطو في ذلك الحين إلا أقل القليل؛ ومن ثم كانت معرفتهم بهذين الفيلسوفين القديمين مقتصرة على حفنة من الترجمات من اليونانية إلى اللاتينية، ولكن الغرب اللاتيني عرف، في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، كتابات الفلاسفة العرب واليهود الذين حافظوا على مؤلفات اليونانيين خلال القرون التي كانت فيها المسيحية تكافح التجديف العقلي والفني للوثنيين. أما قبل ذلك فلم يكن الباحثون المسيحيون يعرفون اليونانيين - أعني أفلاطون وأرسطو - إلا كما فسرهم آباء الكنيسة، وهو تفسير كان دائما متعاطفا مع العقيدة المسيحية. كذلك عرف الباحثون المسيحيون الفلسفات الموسيقية القديمة كما فسرت وأدمجت في كتابات أوغسطين وبويتيوس.
وقد ترجمت مؤلفات الفيلسوف العربي «الفارابي» (المتوفى 950م) إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر. وساعد العرض الذي قدمه الفارابي لفلسفة أرسطو على تعريف العالم المسيحي بالمذهب المشائي في التفكير، وهو المذهب الذي كان ينطوي ضمنا على الفلسفة الجمالية للموسيقى اليونانية. كذلك دعا «أبيلار
Abelard » في القرن الثاني عشر إلى مزيد من الروح الإنسانية في المسيحية، ووازن بين الدور الذي ينبغي أن يلعبه كل من الإيمان والعقل في الحياة الدينية. وفي القرن الثالث عشر انحاز مفكر أقرب إلى النزعة التجريبية، هو روجر بيكن
Roger Bacon ، إلى جانب العلم الأرسططالي ضد الأسطورة الأفلاطونية. وفي القرن نفسه تولت فلسفة توما الأكويني
Thomas Aquinas
مهمة الجمع بين أفلاطون وأرسطو، والإيمان والعقل، والأسطورة والعلم، والتوفيق بين هؤلاء جميعا وبين المسيحية.
وكان أرسطو قد سخر من قبول أفلاطون لنظرية الفيثاغوريين في انسجام الأفلاك، غير أن مفكري العصور الوسطى لم يكونوا على استعداد للتخلي عن هذه العلاقة المثيرة للخيال، بين الموسيقى وبين مجموعات الأفلاك الصداحة، وكذلك كان موقف خلفائهم طوال السبعمائة عام التالية. ولقد كان الدور الذي أسهم به الفيلسوف في تاريخ الموسيقى من القرن الثاني عشر إلى القرن الرابع عشر هو دور المدافع النظري عن اسمي أفلاطون وبويتيوس الموقرين. ومن الجائز أن المثقفين المسيحيين قد انقسموا على أنفسهم، في مجال اللاهوت، بين المثالية الأفلاطونية والنزعة الطبيعية الأرسططالية، ولكن لما كان أرسطو قد أخذ بآراء أفلاطون في الموسيقى، ورددها مع تعديلات طفيفة، فإن هذه الحقيقة قد أدت بأصحاب النزعة الإنسانية في العصور الوسطى إلى إبداء المزيد من الثقة والإيمان بصحة التفكير الجمالي اليوناني في ميدان القيم الموسيقية، بل إن مفكرا إنسانيا صريحا مثل أبيلار الذي كان الطلاب في باريس يرددون أغانيه الدنيوية التي ألفها في شبابه، قد وافق بوصفه رجل كنيسة، على رأي أوغسطين القائل إن المسيحي الصالح ينبغي عليه ألا يقرأ أشعار الوثنيين، أو يستمع إلى موسيقاهم، كذلك فإن فيلسوفا أرسططاليا مخلصا مثل بيكون
1
الذي كانت آراؤه في دور الموسيقى في التعليم تقدمية بلا جدال، وقد أصدر على التجديدات في الموسيقى الدينية أحكاما تشوبها روح التحمس للأفلاطونية.
والواقع إنه لم يتبق لنا الآن إلا القليل من الموسيقى الفعلية للعصور التي تسمى بالعصور المظلمة في العالم الغربي؛ ففي تلك المرحلة من الحضارة المسيحية كما هي الحال بالنسبة إلى الحضارة اليونانية، لا بد لنا من الاعتماد على الدراسات العلمية التي حفظها لنا التاريخ حتى الآن. أما الفترة الممتدة من القرن الثاني عشر إلى القرن الخامس عشر، فإن ما تبقى لنا من موسيقاهم أكثر إلى حد ما، ولكن ما زال على الدارس الحديث للتاريخ أن يرجع في بحثه لأحوال الموسيقى، إلى دراسات الفلاسفة واللاهوتيين في العصر الوسيط، الذين كانوا في واقع الأمر فئة واحدة.
ومن المؤكد أنه لو لم يكن الباحثون الإسلاميون والعبرانيون قد حافظوا على كتابات اليونانيين لتضاءلت معرفتنا بالفلسفة والموسيقى القديمة إلى حد بعيد، ولقد كان المسيحي البيزنطي في الشرق الأدنى أكثر إلماما بفلسفة اليونانيين من المسيحي الغربي، كما أنه كان يعد نفسه شخصا أكثر ثقافة، وأرفع عقلا من نظيره في الغرب. غير أن الفتاوى التي كانت الكنيسة تصدرها عن الموسيقى كان لها تأثيرها في المسيحية بأسرها؛ فالكنيسة كانت تنظر إلى الموسيقى على أنها نوع من الإرشاد الديني، وكما أن هناك عقيدة واحدة لا تتزعزع، يتعين على المسيحية بأسرها أن تؤمن بها، فكذلك كان من الواجب أن تكون موسيقى الكنيسة الكاثوليكية واحدة لا تتغير.
ومن الجائز أن فلسفة اليونانيين لم تزدهر خلال قرون سيادة المسيحية هذه، غير أن تطور الموسيقى كان أسعد حظا دون شك ؛ فقد أدخل فن توزيع الأدوار الغنائية المختلفة في الصلاة الدينية عن طريق ارتجال لحن بسيط يغنى في مقابل إنشاد اللحن الجريجورياني الجاد. ومن هذه البداية المتواضعة صوتين كل منهما في مقابل الآخر نشأ فن البوليفونية، الذي كان بالنسبة إلى التطور التاريخي للموسيقى خطوة لا تقل في أهميتها عن اختراع «جويدو داريتسو» للتدوين الموسيقي. وإذن فالموسيقي في العصر الوسيط قد بدأ بإعطاء الموسيقى نظاما خاصا من علامات الأصوات، كان يشير أساسا إلى اتجاه اللحن. وكان العمل الثاني الذي أنجزه هو إدخال طريقة غناء الأسطر اللحنية المختلفة في الوقت الواحد، ومن الجائز جدا أن هذه الطريقة قد أخذت عن حضارات أخرى، ولكن الموسيقي الكنسي هو الذي نماها، وإن لم يكن ذلك قد حدث في كل الأحوال بطريقة يرضى عنها المدافعون عن العقيدة المتحمسون لها.
والبوليفونية هي موسيقى تكتب، بحيث تجمع بين لحنين أو أكثر يؤديان في وقت واحد بالصوت البشري أو الآلات أو بهما معا. وليس أصل الموسيقى البوليفونية معروفا، ومن هنا كان أقصى ما يستطيع مؤرخونا الموسيقيون أن يفعلوه هو التخمين بالمكان والزمان اللذين ظهرت فيهما هذه الموسيقى لأول مرة في العالم. ونحن نعلم أن الموسيقى اليونانية كانت مونوفونية؛ أي إنها كانت تتألف من سطر لحني واحد يعنى بمصاحبة الموسيقى. ومع ذلك فإن كتابات أفلاطون تتضمن إشارة إلى نوع محدد من الموسيقى، يغني فيه المغني نغمة، ويعزف بالآلة الموسيقية نغمة أخرى. ومن سوء الحظ أن أفلاطون لم يتوسع كثيرا في شرح هذه الطريقة الموسيقية القديمة، كما أننا لا نعرف مؤلفا آخر للفلاسفة اليونانيين تضمن إشارة إلى هذا الغناء المزدوج الأدوار، الذي يوحي بوجود نوع بدائي من البوليفونية. ولقد كان أفلاطون يشير إلى أنغام تعليم الليرا
lyre
عندما نصح المربين بتجنب التعقيد في الأنغام والإيقاعات على النحو الذي كان يشوه الموسيقى اليونانية في جمالها وبساطتها. وفي هذا الصدد قال: «وتبعا لهذا الرأي، ينبغي على المعلم والدارس أن يستخدما أصوات الليرا؛ لأن أنغامه صافية، بحيث يعزف المعلم وتلميذه نغمة مقابل نغمة في اتفاق صوتي
unison ، أما التعقيد وتنويع الأنغام، عندما تعزف الأوتار صوتا ويغني الشاعر أو الملحن صوتا آخر، وكذلك عندما يحدثان توافقات يجمع فيها بين مسافات صغيرة وكبيرة، وبين أنغام بطيئة وسريعة، أو مرتفعة ومنخفضة - أو عندما ينوعون الإيقاعات بطريقة معتقدة، ويلائمون بينها وبين أنغام الليرا - كل هذه أمور لا تلائم أولئك الذين يتعين عليهم أن يكتسبوا معرفة سريعة مفيدة بالموسيقى في ثلاث سنوات؛ ذلك لأن المبادئ المتضاربة تبعث على الحيرة، ويكون من الصعب تعلمها ...»
2
وتوجد في كتابات فلاسفة العصر الوسيط فقرة أسلوبها صوفي رفيع، كتبها الفيلسوف الأيرلندي جون سكوتس إريجينا
John Scotus Erigena (800-877م) عن البوليفونية البسيطة، وفيها شبه اللحن المؤلف من أسطر لحنية متعددة بالعناصر المتباينة التي تؤلف عالما منسجما، ومضى في كتابه «تقسيم الطبيعة
divisione naturae » يقول: «إن جمال الكون الكامل المؤلف من أشياء متشابهة وأشياء متباينة، قد صيغ بانسجام رائع من أجناس متعددة، وصور متباينة بتنظيمات مختلفة للجواهر والأغراض، جمعت سويا في وحدة لا سبيل إلى التعبير عنها؛ ذلك لأن اللحن المنظم المؤلف من أصوات تختلف كما وكيفا يدرك نغمة نغمة، بحيث تفصل بين كل منها والأخرى نسب مختلفة من الارتفاع والانخفاض، ولكن هذه الأنغام متوافقة فيما بينها تبعا للقواعد المعقولة المقررة في الفن الموسيقي، بحيث تبعث عذوبة ورقة طبيعية.»
3
ولقد كان أقدم نوع من الموسيقى البوليفونية سجله التاريخ في الغرب هو ذلك النوع المعروف في العصر الوسيط ب «الأورجانوم
organum »، الذي مر بمراحل متعددة في التطور، من تأليف موسيقي بسيط يتألف من سطرين لحنين إلى تأليف معقد متعدد الأصوات، وذلك خلال الفترة الممتدة من القرن التاسع إلى القرن الثالث عشر. وكانت «الموتيت
motet » هي أرقى أنواع الموسيقى البوليفونية في أواخر العصر الوسيط وفي العصر القوطي، وعصر النهضة. وفي القرن السادس عشر كانت البوليفونية هي مصدر عظمة «القداس» عند بالسترينا، وبلغت البوليفونية المتأخرة أوج كمالها الفني في «الفوجة
fugue » عند باخ بعد مائتي عام.
وهناك إشارات إلى البوليفونية في الفترة الواقعة بين القرن التاسع والقرن الثالث عشر، ولهذه الإشارات أهمية عملية لكل من يريد تتبع التطور التاريخي للموسيقى البوليفونية في الحضارة الغربية. وقد خلف لنا كاتب مجهول من القرن التاسع بحثا في البوليفونية بعنوان
Musica enchiriadis ، وصف فيه أنواع الأورجانوم التي كانت مستخدمة في أيامه. وبعده بثلاثة قرون قال كاتب إنجليزي اسمه «جون كوتن
John Cotton » إن الموسيقى البوليفونية تعزف في القرن الثاني عشر على أنحاء متعددة. ثم قال : «ولكن أسهل الطرق فهما هي تلك التي تكون فيها للحركة المضادة أهمية خاصة؛ أي عندما يهبط سطر الأورجانوم على حين يصعد اللحن الثابت «كانتوس فيرموس
Cantus firmus »، والعكس بالعكس.»
4
كذلك قدم إلينا جيرالدوس كامبرنسيس
Giraldus Cambrensis (حوالي 1147-1220م) وصفا للغناء المتقن المؤلف من أسطر لحنية متعددة، والذي وجد أهل ويلز يؤدونه بسهولة كبيرة، فقال: «إنهم في حفلاتهم الموسيقية لا يغنون في اتفاق نغمي كما يفعل سكان البلاد الأخرى، وإنما يوزعون الغناء على أسطر لحنية عديدة متباينة، بحيث إنك تسمع في فرق المغنين، التي يصادف المرء الكثير منها في ويلز، من عدد الأسطر اللحنية الموزعة والأصوات بقدر ما يوجد من عدد المغنين، ثم يتحد هؤلاء جميعا آخر الأمر في صوت واحد متناغم، تمثله الرقة الناعمة لنغمة «سي بيمول»، وفي المنطقة الشمالية من إنجلترا، فيما وراء نهر الهمبر، وعلى حدود يوركشير، يستخدم الأهالي نفس النوع من الأصوات المتوافقة المنسجمة، ولكن في تنوع أقل؛ إذ يوزعون الغناء على سطرين لحنين أو صوتين فقط؛ أحدهما يلغط في القرار، والآخر يرفع عقيرته بصوت حاد أو رفيع.»
5
على أن فن البوليفونية لم يكن أسعد حظا في الوثائق البابوية، أو في كتابات اللاهوتيين من الموسيقى المقدسة في أواخر العصر الوسيط، وفي عصر النهضة، فقد وجهت سلطات الكنيسة إلى البوليفونية نفس النقد الذي وجهه أفلاطون في «القوانين» إلى الموسيقى الموزعة على سطرين لحنين. صحيح أن اللاهوتيين قد وجهوا هذا النقد لأسباب مختلفة، ولكن أسس هذه المعارضة كانت متشابهة؛ ذلك لأن أفلاطون كان ساخطا على إدخال التجديدات الموسيقية للشعراء المغنين اليونانيين في تعليم الشباب الأثيني. وكان يعتقد أن عزف سطرين لحنين مختلفين في آن واحد أو بطريقة شبه متقطعة (
staccato-like fashion ) يعبر عن وجود مبادئ متعارضة تبعث في النفس الاضطراب، تؤدي آخر الأمر إلى الانحلال الأخلاقي؛ وعلى ذلك فإن الشاب الذي يتلقى هذا النوع من التعليم الموسيقي يجد صعوبة في استيعاب مبادئ الموسيقى، بل إنه يتعرض لخطر الاضطراب النفسي بفعل هذا الفن المتنافر الذي يمكنه أن يتغلغل في أعمق أعماق النفس، ويؤثر في الجسم بدوره. وعلى ذلك فمن الواجب على حراس الدولة أن يراقبوا عن كثب تعليم الصغار، حتى يتأكدوا من أن الأساليب والإيقاعات التقليدية هي وحدها التي تعلم؛ إذ إن ما تتسم به طبيعتها من بساطة ووحدة كفيل بأن يبث النظام والطاعة في نفس التلميذ.
أما الكنيسة الكاثوليكية، فقد شعرت بالقلق تجاه الموسيقى البوليفونية نظرا إلى الاعتقاد السائد بين كثير من القادة المسيحيين بأن هذه الموسيقى تزعزع الإيمان، وتبعث الغموض في النص الكلامي، وتولد الاضطراب بدلا من أن تبث في المؤمنين شعورا بالسلام والطمأنينة أثناء أداء الشعائر الدينية. ولسنا نعلم على وجه التحديد متى أدخلت البوليفونية لأول مرة في موسيقى الكنيسة، ولكنا نعلم أن الكنيسة ظلت طوال القرون تعرب عن استيائها من الموسيقى المعقدة التي وجدت طريقها إلى دور العبادة. ولقد كانت الكنيسة تخشى من أن تحل هذه الموسيقى الدنيوية الجديدة محل التراتيل التقليدية البسيطة الجادة التي تبعث بالتداعي حالة من التقوى في نفس المتدين؛ فهذا الأسلوب الجديد من الموسيقى المعقد، الذي لا توجد له ارتباطات دينية في ذهن المسيحي، لا يجلب إلا الاضطراب للمصلين الذي يحاولون أن يتتبعوا البوليفونية المعقدة، وهو فضلا عن ذلك يشوه طابع القداسة الذي تتسم به الصلاة. وقد سبق أن أشار أفلاطون إلى أن ترك حبل التجديد على الغارب في ميدان الموسيقى هو نذير شؤم بقرب حدوث تغير في قوانين الدولة، وبالمثل رأت الكنيسة أن الموسيقى الدنيوية التي لا تتمشى مع التراث إذا سمح لها بأن تعزف في الكنيسة، فقد تشجع على إدخال بدع جديدة تؤدي آخر الأمر لا إلى تعريض الصلاة والتعاليم المقدسة للخطر فحسب، بل إلى تهديد سلطة الكنيسة ذاتها.
ولم يقتصر تطبيق الفلسفة الكاثوليكية في الموسيقى على العدد القليل من المتحمسين في الكنيسة، وإنما كان هناك رأي ذائع بين المؤمنين المخلصين بأن البوليفونية تصرف أذهان المؤمنين عن التقوى بما فيها من غناء موزع الأدوار، ومن خط لحني متقطع بدلا من الخط اللحني المتصل.
وقد احتج الفيلسوف المدرسي وأسقف شارترجون أوف سالسبري
John of Salisbury (حوالي 1115-1180م) قائلا: «إن الموسيقى تسيء إلى الصلاة؛ ذلك لأن صخب الأصوات الفوضوية، وحرصها على استعراض قدراتها، وتصنعها المخنث في تقطيع الأنغام والجمل، لا بد أن يفسد النفوس البسيطة الورعة لجمهور المصلين وهم في حضرة الرب ذاته، وفي نفس الحرمات المقدسة للمعبد»، «ولو قدر لك ذات مرة أن تستمع إلى هذا الأداء المثير للأعصاب الذي تستخدم فيه كل أساليب الفن، لظننته فرقة من عرائس البحر «السرينات» لا من البشر، واندهشت من عدم اكتراث المغني، الذي لا يعادله عدم اكتراث البلبل أو الببغاء، أو أي كائن آخر أوغل في هذا الباب منهما؛ ذلك لأن عدم الاكتراث هذا يتجلى في تطويل الصعود والهبوط، وفي تقسيم الأنغام أو مضاعفتها، وفي تكرار الجمل، وتصادم الأصوات، بينما النغمة العالية في السلم، أو حتى أعلى أنغامه، تختلط خلال هذا كله بالنعمة الأدنى أو بأدنى النغمات، إلى حد تكاد الأذن معه تفقد قدراتها على التمييز.»
6
ولم يكن لاهوتيو القرن الثالث عشر أقل سخطا على البوليفونية من أسلافهم في القرن الثاني عشر، على أن درجة معارضة أقطاب الكنيسة للبوليفونية كانت متفاوتة؛ فكثير منهم لم يعترضوا على استخدام فن التوزيع الغنائي في الصلاة، ولكنهم وافقوا من الوجهة الرسمية على أن من الأفضل تعديل البوليفونية بحيث تلائم المسيحية. وحتى ذوو النزعة الإنسانية من أفراد السلك الكهنوتي كانوا يصرون على ضرورة تقويم مفاسد معينة في البوليفونية، ولدينا على ذلك الدليل في كتابات روجر بيكون (حوالي 1214-1294م) رجل الكنيسة والفيلسوف والعالم؛ فقد كان لديه إدراك واقعي لقيمة الموسيقى في العبادة والتعليم. وقد نصح رجال الكنيسة بأن يحصلوا معرفة بأساسيات الموسيقى؛ حتى لا يجهلوا فائدة الموسيقى الكنسية وقيمتها. كذلك أشار إلى القيمة التربوية للموسيقى في التعليم الدنيوي، وأوضح أن «الأطفال يتعلمون الحقائق الرياضية بطريقة أفضل وأسرع، كما يتضح في الغناء ...»
7
ولقد كان بيكون من أوسع رجال الدين في القرن الثالث عشر ثقافة، ولا بد أن آراءه في القيمة النفسية للموسيقى في العبادة والتعليم كانت في الوقت ذاته آراء من هم أعلى منه مرتبة في الكنيسة. كذلك فإن رأي بيكون القائل إن التراث الجاد للصلوات يتعرض للفساد بفعل التأثير الضار للموسيقى البوليفونية، لا بد أن يكون قد حظي بموافقة أصحاب المراتب العالية في الكنيسة أيضا.
وفي عام 1247م أصدر مجمع ليون عدة مراسيم لتقييد هذه الموسيقى الجديدة التي وصفها «جون أوف سالبري» بكل هذه النعوت السيئة، ثم أصدر البابا يوحنا الثاني والعشرون في عام 1324-1325م، أمرا من مدينة «أفينيون» ندد فيه باستخدام القوالب والأساليب الموسيقية الجديدة التي كانت تحل محل الأنغام والأساليب التقليدية. وقد رددت هذه الوثيقة ذلك القانون الذي لم تتزحزح عنه الكنيسة، والقائل إن الموسيقى التي تستخدم في الشعائر الدينية ينبغي لها أن تحافظ على سلامة النص باستعمال ألحان بسيطة، ثم تقول هذه الوثيقة البابوية عن الموسيقى الدينية: «غير أن بعض أنصار المدرسة الحديثة، ممن لا يفكرون إلا في قوانين الإيقاع المحدد بدقة يؤلفون ألحانا جديدة من ابتكارهم، بنظام جديد من الأنغام، ويفضلونها على الموسيقى التقليدية القديمة، وهكذا يغنون ألحان الكنيسة مستخدمين «الروند» و«البلانش»
8
وزخارف الإيقاع. وكان البعض يجزئون الألحان ب «التقطيعات
hochetis » أو يسلبونها رجولتها بالغناء من سطرين (ديسكانتوس) (
discantus ) أو من ثلاثة أسطر
triplis
مع إدخال عنصر خطير مبعثه غناء أجزاء من النص باللغات المحلية. كل هذه المفاسد أساءت إلى سمعة الألحان الرئيسية لكتاب الصلوات اللاتيني الرئيسي والفرعي (الأنتيفونال والجرادوال) (
Antiphonal and Gradual )، والواقع إن هؤلاء الملحنين، الذين لا يعلمون شيئا عن الأساس الحقيقي الذي ينبغي أن يبنوا عليه، يجهلون المقامات، ويعجزون عن التمييز بينها، ويحدثون اضطرابا عظيما. وإن عدد الأنغام وحده في هذه الألحان ليخفي عنا اللحن الغنائي الواضح بما فيه من ارتفاعات وانخفاضات بسيطة منظمة يدل على نوع المقام. أما هؤلاء الموسيقيون فيجرون بلا توقف، ويخلبون الأذن دون أن يرضوها، ويضفون على النص حركات تمثيلية. وبدلا من أن يدعموا الإيمان، يقضون عليه بإيجاد جو حسي يفتقر إلى الطهر والنقاء.»
9
وهكذا لم يكن اللاهوتيون في الجزء الأخير من العصر الوسيط، وفي عصر النهضة، أقل خوفا من الموسيقى الجديدة، التي كانت في رأيهم خطرا يهدد الكنيسة، من آباء الكنيسة في القرون الأولى للمسيحية، ومن الفلاسفة اليونانيين القدماء، موقفهم من الموسيقى وعلاقتهم بالدولة. على أن المراسيم المتعددة التي أصدرها رجال الكنيسة في القرن الثالث عشر للحد من تأثير الموسيقى الجديدة، وكذلك الأمر البابوي الذي أصدره البابا يوحنا في القرن الرابع عشر ضد الموسيقى الجديدة التي تخفي عنا اللحن الغنائي الواضح بما فيه من ارتفاعات وانخفاضات بسيطة منظمة؛ كل هذا لم يكن له تأثير دائم؛ إذ إن مجمع ترنتينو
Trent
قد عاد، مرة أخرى، في القرن السادس عشر، إلى بحث مسألة البوليفونية. وكان من الواضح أن الإشراف والرقابة على التعليم والبحث أيسر بالنسبة إلى السلطات الدينية من توقيع جزاءات فعالة على التجديدات الموسيقية الدنيوية التي كانت تقحم في الشعائر الدينية.
القسم الثاني: الموسيقى، والكنيسة، والبوليفونية في العصر الوسيط
كانت توجد في العصور الوسطى أنواع متعددة من الآلات صنعت، بحيث يتسنى لها إحداث أصوات في وقت واحد؛ فقد كان في وسع الأرغن المائي (
Organ hydraulic ) الذي سبق أن عرفه الرومان والبيزنطيون، أن يحدث صوتين في وقت واحد. وكذلك الحال في «القرب» (
bagpipe ) الاسكتلندية التي ترجع إلى تاريخ قديم، والتي يمكن تتبع أصلها - مع اختلاف في أسمائها - إلى فترات موغلة في القدم من عصور الموسيقى الغربية، وفي هذه القرب يؤدي خروج الهواء من القربة وحدها إلى إحداث ذبذبات هوائية في القصبة التي تعزف صوت الاصطحاب الطنيني (
drone ) لصوت المزمار الذي يؤدي نفخه إلى إحداث الأنغام المختلفة، بل إن الموسيقي المتجول (
Jongleur ) ذاته، الذي كان يصاحب أشعارا قصصية لتربادور والمينسترل بالفيلا (
vielle ) كان يدعم لحنه بمجموعة متعاقبة من التآلفات الهارمونية المبتسرة.
وإنا لندين بمعرفتنا للآلات الموسيقية في العصور الوسطى - إلى حد بعيد - لأولئك الفنانين القوطيين الذي نقلوا إلينا أشكال آلات عصرهم بالتصوير والنحت، ووصفوها نغما وشعرا؛ فالتصوير والنحت القوطي قد تركا لنا صورة واضحة لهذه الآلات، كما حدد الشعر طريقة استخدامها، وأهميتها بالنسبة إلى مجتمع العصور الوسطى المتأخرة. كما إننا نعلم أن آلات العصور الوسطى هذه كانت تستخدم مستقلة، كما كانت تستخدم بمصاحبة الغناء، ولكي تؤدي سطورا لحنية في مخطوط موسيقي إذا ما طلب إليها ذلك. ولقد كان الأرغن أرقى الآلات في العصور الوسطى وعصر النهضة، وكان يمتاز بأنه الآلة الأولى والأساسية للكنيسة؛ ومن هنا فإن اللاهوتيين، الذين احتجوا على ضياع هيبة الموسيقى الدينية، كانوا عادة يدرجون الاستعمالات الجديدة للأرغن في شعائر الصلاة، ضمن المؤشرات السيئة التي يكافحونها.
وقد مر توزيع الأصوات والتدوين الموسيقي بعدة مراحل في تطوره؛ فالتدوين قد مر بثلاث مراحل متميزة؛ ففي نظم التدوين المستخدمة في الموسيقى اليونانية والرومانية، وكذلك المسيحية المتقدمة، لم تكن رموز الأنغام تدل على مدتها الزمنية؛ إذ إن اللحن كان خاضعا للنص الكلامي، وكان الوزن الشعري هو الذي يحدد طول النغمة وقصرها، وما على الخط الموسيقي إلا أن يتبع النص ارتفاعا وانخفاضا، وفي مرحلة ثانية تالية كانت هناك إشارة غير مباشرة إلى المدة الزمنية باستخدام نظام «النومس»
neumes (العلامات) الذي نجده في الأناشيد الجريجورية منذ القرن التاسع. وفي المرحلة الثالثة كانت المدة الزمنية توضح برموز مناظرة لها. وهكذا فإن هذه المرحلة الثالثة هي وحدها التي يمكن أن يقال إنه قد وجد فيها نظام قياسي يحتوي على علامات تدل على مدد زمانية محددة المعالم.
والواقع أن قياس الموسيقى كان أمرا ضروريا لكي يتقدم توزيع الأصوات الموسيقية على سطور لحنية مختلفة تؤدى في وقت واحد؛ ذلك لأن العزف أو الغناء المنفرد كثيرا ما كان يشجع على إطلاق العنان لحرية الموسيقى. أما عندما تنضم عدة أصوات في أغنية، كما هي الحال في البوليفونية، فعندئذ لا يكون هناك مفر من تنظيم طريقة سير كل مغن، حتى يتسنى مزج صوته بالأصوات الأخرى؛ وعلى ذلك فإن توزيع الأصوات الموسيقية كان يتقدم كلما بعث الموسيقار مزيدا من النظام والضبط في مدوناته عن طريق ما توافر لديه من مختلف القيم الرمزية.
وقد حفظت لنا دراسة قام بها باحث إنجليزي مجهول في فرنسا، قرب بداية القرن الثالث عشر، أطلق عليه اسم «المجهول الرابع
Anonymous IV »، وفي هذه الدراسة سجل المؤلف تاريخ بعض مشاهير الموسيقيين، وتطور فن توزيع الأصوات الموسيقية في مدرسة كاتدرائية نوتردام بباريس. ويروي لنا «المجهول الرابع» أنه كان هناك موسيقيان شهيران أسهما بدور هام في فن البوليفونية لمدرسة نوتردام، هما «ليونان
Leonin » و«بيروتان
»، وكان ليونان - حسب رواية هذا الباحث الإنجليزي - يعيش في القرن الثاني عشر، وقد ألف مجموعة كاملة من مقطوعات الأرغن في مصنف يحمل عنوان «كتاب الأرغن الكبير
Magnus Liber Organi »، وقد كان لموسيقى اليونان تأثير بالغ في نفس هذا الباحث الإنجليزي، حتى إن هذا الأخير وصف ذلك الموسيقي بأنه عريف المنشدين بكاتدرائية نوتردام، وبأنه «أعظم مؤلف للأرغن»، أما بيروتان فلا نعرف عنه إلا القليل، ومما نعرفه أنه كان رائد مدرسة نوتردام فيما بين عامي 1180م، 1236م.
وقد كتب «جاكوبوس لييج
Jacobus de Liege » مؤلف كتاب «مرآة الموسيقى
Speculum Musical » قرب نهاية القرن الثالث عشر يقول إن «المحدثين (من أبناء جيله) لا يستخدمون إلا الموتيت
motet
والكانتلينا
cantilena »، أما هذا الموتيت الذي تحدث عنه جاكوبوس فهو أرقى أنواع الموسيقى البوليفونية، وبالتالي أرقى أنواع الفن الموسيقي المتعدد الأصوات، ولكنه مع ذلك تعرض لأعنف نقد من سلطات الكنيسة. ولقد كانت هناك أنواع أخرى من الموسيقى البوليفونية في القرن الثالث عشر، كالنوع المسمى «كوندكتس
Conductus »،
10
ولكن الموتيت، بما كان يتميز به من طابع شديد التعقيد، كان مصدر إزعاج اللاهوتيين، على الرغم من أن «العصريين» في أواخر العصر الوسيط كانوا يفتتنون بمزاياه الجمالية. وعلى أية حال فليس قلق اللاهوتيين على مشكلات الموسيقى بالأمر الذي يدعو إلى الاستغراب، وذلك إذا علمنا أن نوع «الموتيت» الذي لقي إقبالا شديدا من الناس في ذلك الحين، كان هو ذلك الذي تغنى فيه ثلاثة ألحان مختلفة، لكل منها نص كلامي خاص، في وقت واحد، وبإيقاعات مختلفة مقابل لحن جريجوري، فمن المشكوك فيه أنه كان من الممكن سماع الأنشودة الجريجورية فوق الموسيقى التي تحدثها ثلاثة أصوات تغنى بلغات مختلفة. وقد أبدى «جون أوف سالسبري» والبابا يوحنا الثاني والعشرون، بوجه خاص، استياءهما من تشويه هذا النوع من الموسيقى للأنشودة الشعائرية، أو تقطيع أوصالها إلى حد يستحيل معه التعرف عليها، مما يؤدي إلى القضاء على الطابع المقدس للموسيقى الدينية.
ولقد كان النوع الفرنسي هو أطرف أنواع «الموتيت الدنيوي»؛ فقد كان مؤلف هذا النوع البوليفوني يتحدث فيه عن المشكلات الاجتماعية المعاصرة له، ويلوم رجال الدين وينتقد النبلاء؛ كل ذلك في قالب «الموتيت»، وكانت هذه «الموتيت» في بعض الحالات تمجيدا للحب، وفي حالات أخرى تغنيا بمتعة الشراب، على أنها كانت في حالات أخرى تشيد بمناقب قديس أو ملك بطريقة عاطفية.
ومن الطريف أن نلاحظ أنه كما انتقد رجال الدين الموسيقى، فإن الموسيقيين بدورهم قد انتقدوا رجال الدين من خلال مؤلفاتهم؛ فقد كانت الكنيسة تعارض البدع البوليفونية التي ظهرت عند موسيقيين مثل بيير دي لاكروا
Croix (نهاية القرن الثالث عشر) الذي أضاف إلى الموتيت صوتا ثالثا ثم رابعا، بحيث كان لكل صوت استقلاله اللحني والإيقاعي ونصه الكلامي الخاص به. كذلك لم ينس رجال الدين أن كثيرا من تلك الألحان التي كانت تغنى في مقابل الأنشودة الدينية في «الموتيت» كان أصلها يرجع إلى الشعراء الجوالين (التروفير)؛ ومن ثم فإن لها ارتباطا مباشرا بالنزوات الغرامية. ومن جهة أخرى فقد غضب رجال الدين بوجه خاص من أنواع «الموتيت» الدينية التي كان الموسيقيون والشعراء يسخرون فيها من حياة أقطاب الكنيسة في العصر الوسيط وعصر النهضة، بما فيها من إقطاعيات شاسعة ومعيشة باذخة. على أن الكنيسة لم تنجح في محاربة هذه المظاهر الدنيوية للتمرد في ميدان الموسيقى، أكثر مما نجحت في الوقوف في وجه الاتجاهات الموسيقية التي كانت تهدد قداسة الشعائر الدينية.
ولقد كان «فليب دي فيتري
Vitry » (1291-1361م) باحثا وسياسيا يذكره التاريخ بوصفه موسيقيا بوليفونيا موهوبا، وأسقفا قديرا، وقد ظل متمسكا بالرأي القديم القائل إن الموسيقى فرع من الرياضيات. وكان روجر بيكون قد أشار، في القرن السابق، إلى أن الحقائق الرياضية تتكشف للصغار من خلال فن الموسيقى. وكذلك كان «فيتري» يؤمن بالرأي الأفلاطوني القديم القائل إن الموسيقى انعكاس للنظام المثالي الذي يتكشف للباحث من خلال دراسة الفلسفة. وقد اتفق مع البابا يوحنا الثاني والعشرين على أن من الممكن القضاء على البدع الموسيقية المنتشرة في القرن الرابع عشر لو أخضع المؤلف موسيقاه لنظام محدد، بدلا من أن يؤلف متجاهلا التراث تجاهلا تاما؛ لذلك ألف دي فيتري مقطوعات من نوع «الموتيت» كانت كل الأصوات فيها مستقلة لحنيا، ولكنها كانت تتساوى طوال الوقت في القيم النغمية وتتماثل في الوزن.
أما «جيوم دي ماشو
Guillaume de Machaut » (1300-1377م)، فكان أشهر الموسيقيين في القرن الرابع عشر. وهناك وجه شبه بين حياته الشخصية وبين حياة الشاعر الجوال (التروفير) من حيث إنه كان رجل دين تحول إلى الدنيا، وكان صاحب نزعة إنسانية واضحة، وقد ألف مقطوعات من نوع «الموتيت» بنفس الأسلوب الملتزم للنظام الذي استحدثه دي فيتري، ثم انتقل إلى استخلاص الإمكانات البوليفونية للأقصوصة الغنائية (
ballad ) عند الشعراء الجوالين، وكان بعض هذه الأقاصيص الغنائية يتحدث عن انشغال الشاعر المتجول بالحب، وبعضها الآخر كانت له رنة اجتماعية؛ إذ كان فيها إيحاء إلى رجال الدين بأن يتنازلوا بشرف عن بعض أراضيهم، بدلا من أن تؤخذ منهم قسرا، كذلك ألف ماشو قداسا بوليفيونيا يظن أنه أول قداس ألفه موسيقي واحد.
ولقد كانت المؤلفات النظرية في الموسيقى خلال العصور الوسطى تحمل عادة طابع التأثير ببويتيوس؛ ذلك لأن بويتيوس كان حلقة بين الفلسفة اليونانية الموسيقية وبين عالم العصر الوسيط؛ إذ إنه شبه الموسيقى بالرياضة، ثم أدرج الموسيقى ضمن «الرباع» (الكواد ريفيوم) التعليمي بوصفها مبحثا عاليا، وتشهد كتابات روجر بيكون بمدى قوة تأثير بويتيوس في الفلسفة التعليمية السائدة في عصره.
كذلك احتفظت العصور الوسطى في مرحلتها المتأخرة بالثنائية الميتافيزيقية التي تجعل من الموسيقى فنا محاكيا للنظام الإلهي،
11
وقد أجرى الفيلسوف «إريجينا
Erigena » هذا التشبيه بالنسبة إلى البوليفونية، وردده الموسيقار «دي فيتري» بعد أربعة قرون، على أنه كان هناك أيضا من الموسيقيين والباحثين النظريين من لم يعبئوا كثيرا بالتعاليم القديمة أو بالصيحات المستمرة التي كانت الكنيسة تشكو فيها من انحطاط الموسيقى لخروج الموسيقيين عن التراث القديم. ولقد كان نمو فن البوليفونية، الذي بدأ على الأرجح في الموسيقى الدينية بوصفه ارتجالا لكنترابنط بسيط على لحن ديني، أو نشيد جريجورياني، وتحول هذا الفن إلى قالب عظيم التعقيد يبعث في النفس متعة جمالية، كان هذا النمو دليلا على أن القدرة الخلاقة لا تستسلم بسهولة لمذهب فلسفي أو أمر ديني صادم. صحيح أن موسيقي العصور الوسطى كان يؤلف موسيقى للدعوة الدينية، غير أن قدرا كبيرا من هذه الموسيقى كان من حيث الإيقاع واللحن يرجع إلى أصل دنيوي، وأدخله إلى الكنيسة موسيقيون دينيون تأثروا بهذه المصادر الدنيوية.
وإذا كان موسيقي العصور الوسطى قد تجاهل تعاليم بويتيوس، فإن قلة نادرة من الباحثين هي التي تجرأت على تحدي سلطته. ومن هؤلاء يوهانس دي جروكيو
Johannes de Grocheo (حوالي 1300م) الذي رفض نظرية العدد الفيثاغورية، وكذلك فلسفة بويتيوس لأنه أبى أن يعترف بأن الإبداع الموسيقي إنما هو ترديد عددي وإيقاعي للنظام الكوني. وقد شك جروكيو في صحة رأي بويتيوس القائل إن الموسيقى علم رياضي. واختلف مع بويتيوس وأتباعه الذين أكملوا عرض فلسفته الموسيقية في الفكرة القائلة إن قوانين الموسيقى ينبغي أن يكون لها من الصرامة ما لنفس القوانين التي أضفت على الطبيعة نظاما وتناسقا. وقد أكد جروكيو في كتاباته قيمة الموسيقى من الوجهة الشعبية والحضارية، واستبق كتابات مفكرين ظهروا بعده مثل مونتني وروسو وهيردر؛ إذ أشار إلى أن الموسيقى تختلف باختلاف عادات الشعوب ولغاتها.
ولقد كانت هناك على الأقل ثلاثة شواهد على عداوة الكنيسة للتجديدات الموسيقية خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر. ولنذكر في هذا الصدد أولا أن الشاعر المغني اليوناني لم يكن يستخدم نظاما من العلاقات الإيقاعية والزمنية؛ لأن موسيقاه كانت مرتبطة بالشعر، فكان يؤدي أغنيته بأسلوب ألماني. وبالمثل كانت الأغنية الدينية في العصور الوسطى معتمدة على النص الكلامي، مع إيقاعات منسابة بهدوء، لا تقتضي إلا قليلا من التغيير في أزمنة الأنغام. ومن هنا فإن البابا يوحنا الثالث والعشرين عندما أعلن احتجاجه في مرسومه من أن «الموسيقى الكنسية تؤدى الآن بعلامات «الروند» و«البلانش»، وتقطع بهذه الأنغام القصيرة» لم يكن في واقع الأمر يعلن تحريمه للموسيقى ذات الإيقاعات المطابقة لنصوص مختلفة، وإنما كان الوقت ذاته يحمل على تجزيء الأنغام الطويلة المتصلة إلى أنغام ذات أزمنة أقصر، بل إلى نغمات تتعدى النبر الإيقاعي (
syncopated )، كما في حالة التقطيع
hocketting ، ومن الملاحظ ثانيا أن الموسيقيين - في حقبة ما يعرف بالفن الجديد «
ars nova »، وهو القرن الرابع عشر - كانوا يزدادون ميلا إلى تغيير الإيقاعات التقليدية على خلاف موسيقى القرن الثالث عشر، التي كانت تسمى بالفن القديم
ars antiqua ، وكان الإيقاع الثنائي أو الزمن المزدوج محرما أصلا في موسيقى الكنيسة لأسباب أخلاقية هي أن للعدد «ثلاثة» علاقة «بالثالوث الديني». ومن هنا كانت الكنيسة تبدي عدم رضائها على أية محاولة يبذلها موسيقي القرن الرابع عشر لاستخدام إيقاع ثنائي بدلا من الثلاثي. ويلاحظ أخيرا أن الموسيقى اليونانية ومن بعدها موسيقى العصور الوسطى، كانت مبنية في الأصل على الجواب «الأوكتاوف» والدرجتين الرابعة والخامسة. وفي القرن الثالث عشر بدأ الموسيقيون الفرنسيون يقتدون بالإنجليز في استخدام هذه المسافة الثالثة. ومن الغريب أن الإكليروس الفرنسي اعترض على استخدام المسافة الجديدة التي تطرب الأذن، على الرغم من أنها مبنية على الرقم «ثلاثة» لا لشيء إلا لأنها غيرت التقاليد الموسيقية الماضية.
القسم الثالث: أكاديمية فلورنسا
ظل المسيحيون اليونانيون البيزنطيون، شأنهم شأن العرب، يبدون اهتماما كبيرا بالحضارة والآداب الكلاسيكية اليونانية والرومانسية؛ فقد أدرج العلماء البيزنطيون أفلاطون وأرسطو ضمن دراساتهم خلال تلك السنوات، التي لم تكن فيها اللغة اليونانية إلا لغة ميتة في نظر المثقفين الغربيين. وقد أعجب بعض الصليبيين، الذين اتصلوا مباشرة بالحضارة البيزنطية، بهذه اللغة إلى حد أنهم جلبوا معهم إلى الغرب هذه الدراسات اليونانية. أما روما فلم تنظر إلى هذا التطور بعين الرضا؛ إذ إن رجال الكنيسة لم يروا في هذه الاتجاهات الكلاسيكية في التعليم والثقافة إلا تجديفا. وقررت كنيسة روما أن من الضروري اتخاذ تدابير حاسمة لمواجهة تغلغل الفكر اليوناني البيزنطي المجدف في لاهوتها، فأرسل البابا إلى القسطنطينية الفيلسوف اللاهوتي نيكولاس دي كوزا
Nicholas de Cusa (1401-1464م ) لكي يضع أساس وحدة ممكنة بين الكنيستين الشرقية والغربية، وناشد هذا الكنيسة الشرقية، في سبيل مصلحة المسيحية، أن تزيل الخلافات بينها وبين الكنيسة الكاثوليكية، بحيث تكونان كنيسة كاثوليكية عالمية، غير أن الكنيسة اليونانية أبت أن تتنازل عن سلطتها إلى الحد المطلوب منها، على الرغم من أنها كانت تتوقع غزوا تركيا للقسطنطينية، وكانت تدرك أنه سيتعين عليها أن تستنجد بروما لإيقاف زحف المسلمين.
ومع ذلك، فقد كان العلماء البيزنطيون يسافرون إلى الغرب، ولا سيما فلورنسا، وأغلب الظن أن الكنيسة الشرقية بدورها قد أرسلت عددا كبيرا منهم ليستطلعوا إمكان اتحاد الكنيستين على أسس مشتركة. وعلى الرغم من أن هذا الاندماج بين الكنيسة اليونانية وكنيسة الروم الكاثوليك لم يتحقق، فقد كان العلم الكلاسيكي الذي يحمله العلماء والشعراء البيزنطيون معهم ينتشر بسرعة حيثما حلوا.
وبعد أن فتح الأتراك القسطنطينية، وقضوا على الإمبراطورية البيزنطية عام 1453م، فر بقية علمائها اليونانيين إلى إيطاليا لاجئين إلى أكاديمية فلورنسا. وكانت هذه الأكاديمية قد تأسست، تحت رعاية كوزيمو دي مديتشي
Cosimo de Medici
على يد «جيمسطوس
Gemisthus
» وهو مبعوث يوناني بيزنطي كان قبل سقوط القسطنطينية بثلاثة عشر عاما يعتبر سفيرا لدى المجلس الذي عقد في فلورنسا لمحاولة توحيد الكنيستين اليونانية والرومانية، وهي محاولة لم يقدر لها النجاح. وكان الهدف من هذه الأكاديمية الحديثة العهد هو تعريف العالم الغربي بفلسفة أفلاطون، ومكافحة الفلسفة الأرسططالية المزعومة التي أصبحت هي المسيطرة على عقيدة الكاثوليك وتفكيرهم. وقد أصبح نيكولاس دي كوزا نفسه، بعد أن صار كاردينالا من أشد المعجبين بتعاليم أفلاطون، حتى إنه طلب إلى علماء روما أن يعيدوا النظر في علاقة أفلاطون بالمسيحية على ضوء الكتابات الأصلية لمؤسس الأكاديمية «أفلاطون» حتى لا يضلل العالم الغربي بالمعتقدات المعوجة التي خرجها رجال الكنيسة من فلسفته تعسفا.
وقد لقي الكاردينال في موقفه هذا تأييدا من الفيلسوف مارسيليو فيتشينو
Marsilio Ficino (1433-1499م)، وهو من تلاميذ أكاديمية فلورنسا، فذهب إلى أن الفهم الصحيح لأفلاطون هو وحده المؤدي إلى استعادة روح المسيحية التي فقدتها الكنيسة منذ زمن بعيد، وقد لقيت آراء نيكولاس دي كوزا وفيتشينو قبولا لدى الكثير من أقطاب الكنيسة، بل لقد كان لها تأثير ملحوظ في الفكر والفن في عصر النهضة.
وقد احتفظت فلسفة الكاردينال كوزا الموسيقية بالتصرف الفيثاغوري والأفلاطوني؛ إذ إنه شبه فن البوليفونية بانسجام الأفلاك «ذلك لأن العقل الأزلي يخلق كما يفعل الموسيقي الذي يرغب في التعبير عن صوره الباطنة وتمثيلها؛ فهو يتناول الأجزاء الموسيقية المتنوعة، ويفرض عليها قواعد القياس الدقيق التي تؤدي إلى التوافق، وهذا التوافق يفيض رقة وكمالا.»
12
وقد ردد الفكرة اليونانية القائلة إن الموسيقى البشرية إنما هي أنموذج للموسيقى السماوية، ولكنه أضاف إلى ذلك أن آباء الكنيسة قد اتخذوا من الموسيقى رمزا فحسب، لكي يشبهوا موسيقى البشر بصنعة الإله، وفيما وراء الرمز ذاته يوجد نظام علوي، أو بتعبير نيكولاس «إن نفس الأمور الروحية التي نعجز عن فهمها مباشرة، تبحث من خلال واسطة هي الرمز ...» وعندما تستخدم الرموز الموسيقية بوصفها تشبيهات تفسر أنغام الأفلاك السماوية «فإن علامات الفرح هذه المستمدة من التوافق الموسيقي ... التي أتت إلينا من كتابات آباء الكنيسة بوصفها رموزا معروفة لقياس السعادة الأزلية، ليست إلا رموزا مادية بعيدة الصلة بالأصل، تختلف اختلافا هائلا عن تلك الأفراح الروحية التي لا يرقى إليها خيالنا.»
13
ولقد كان هدف التفكير الجمالي في القرن الخامس عشر هو كشف الصيغ السحرية لليونانيين؛ أي الصيغ الرياضية الدقيقة التي تؤدي إلى كشف أشكال «فيدياس» من جديد؛ فقد كان هدف الحياة الفنية هو الاستنباط الرياضي للتماثل والتناسق والمنظور. وكان نيكولاس مسايرا لروح عصره عندما اتفق مع أفلاطون على أن الرياضة هي أساس الموسيقى، وعلى أن الرياضة مبحث عقلي صرف.
ويقول نيكولاس إننا عندما نستمع إلى الموسيقى «ندرك الأجزاء المتوافقة بحواسنا ونقيس المسافات والتوافقات بعقولنا، وبمساعدة خبرتنا الموسيقية. وهذه الملكة (أي العقل والقدرة على الانتفاع من التعليم) لا توجد في الحيوانات ... ولذا لم يكن في استطاعة الحيوانات تعلم الموسيقى، وإن كانوا يدركون الأصوات ب «الحواس» مثلنا، ويطربون للأصوات المتوافقة. وعلى هذا الأساس يحق لنا أن نصف روحنا بأنها عاقلة؛ لأنها قادرة على القياس والعد وتدرك ما يقتضي تمييزا دقيقا، وعندما تستمع آذاننا إلى توافقات موسيقية جميلة تطرب لها. وهكذا فإن العقل حين وجد أن التوافق مبني على العدد والتناسب، قد اخترع النظرية العقلية للتآلفات الموسيقية المبنية على نظرية الأعداد.»
14
وقد عاد نيكولاس إلى نظرية المشاعر اليونانية، وأشار بوصفه رجل كنيسة إلى أن الانفعالات «زائلة، والانطباعات الحسية لا تكون جميلة، إلا بقدر ما تمس الأفكار الروحية أو الجمال الروحي»
15
كما تمثل المذهب الأخلاقي الأفلاطوني في كتابات نيكولاس؛ لأنه اهتم ببحث تأثيرات الإيقاعات والمقامات الموسيقية في النفس، ولكنه من حيث هو شخصية تنتمي إلى عصر النزعة الإنسانية قد تخلى عن الاعتقاد القديم القائل إن المؤلف الموسيقي وسيط بين الله وبين الإنسان، وإنه ينقل رسالة الإرادة الإلهية إلى الأرض؛ فقد انتقد نيكولاس فكرة أفلاطون القائلة إن الفنان شخص يتلقى الوحي من ربات الفن «الموزي»، وكثيرا ما يتصف بالهوس، ولا يخلق إلا بإلهام يأتيه من أعلى، وأكد في مقابل ذلك الرأي السائد في عصر النهضة بأن الفنان مبدع بقواه الخاصة.
وعلى حين أن نيكولاس دي كوزا أقل تعمقا في الموسيقى منه في الفنون الأخرى، فإن اهتمام مرسيليو فيتشينو بالموسيقى كان أعمق من اهتمامه بالفنون الأخرى. ويقال إنه كان يعزف إحدى الآلات الموسيقية، ويقدم عروضا كثيرة أمام مجموعات كبيرة من أصدقائه. كذلك فإنه تحدث بإقناع تام عن تأثيرات الموسيقى في النفس، وردد آراء أفلاطون في اعتقاده بأن أساس جمال الأصوات هو التوافق الذي ربطه بمفهوم التناسب. وفي رأيه أن هذه الموسيقى تصدر من أعمال روح المؤلف الموسيقي، ومن هنا كان في وسعها أن تؤثر في نفس السامع. وقد اتفق مع أفلاطون على أن الموسيقى تستطيع أن تغلغل في الأغوار الباطنة للنفس البشرية، وتؤثر في مجرى السلوك الجسمي «فلما كانت الأغنية والصوت يأتيان من التفكير الذهني، ومن تأثير الخيال، ومن انفعال القلب، ولما كانت تقوم بمساعدة الهواء الذي يتكون ويتذبذب نتيجة لها بتحريك الروح الشبيهة بالهواء لدى السامع، والتي هي حلقة الاتصال بين النفس والجسم، فإن من السهل عليها أن تحرك الخيال، وتؤثر في القلب، وتتغلغل في أبعد أغوار الذهن»
16 «إن الموسيقى الجادة تحفظ توافق أجزاء النفس وتستعيده، كما يقول أفلاطون وأرسطو، وكما جربنا نحن أنفسنا مرارا.»
17
وقد ذكر فيتشينو أن للموسيقى تأثيرا علاجيا يزيل الكآبة والكدر. كذلك تستطيع الموسيقى أن تبعث حالة تأملية تزيد المرء قربا من الله «... كثيرا ما كنت أتحول إلى الألحان والأغاني الجدية بعد دراسة اللاهوت أو الطب، حتى أنصرف عن اللذات الحسية الأخرى، وأتخلص من متاعب النفس والجسم، وأسمو بالعقل إلى الأمور العليا، وإلى الله على قدر استطاعتي.»
18 «ولقد كان فيتشينو يعود أحيانا إلى الفكرة الفيثاغورية في انسجام الأفلاك رغبة منه في تأكيد المعنى والأصل الميتافيزيقي للموسيقى؛ فالأفلاك السماوية التي تتناغم سويا تبعا لقواعد التآلف
consonance
تحدث موسيقى إلهية تستطيع سماعها، ولما كانت الموسيقى البشرية محاكاة أرضية للأصوات السماوية، فإنها تحض النفس بتأثيرها الخلاب، على أن ترقى بذاتها إلى عالم الانسجام السماوي، فعن طريق الأذن تدرك النفس توافقات وإيقاعات عذبة معينة، وهذه الصور تحضها وتحثها على النظر إلى الموسيقى الإلهية بحاسة عقلية أشد إرهافا وتحمسا.»
19
ولقد كان تقويم فيتشينو للشعر وثيق الصلة بالموسيقى؛ إذ إن الشعر بدوره يخاطب الأذن، وكثيرا ما يتضمن لحنا، كما أن فيه على الدوام إيقاعا، بالإضافة إلى ما يستخدمه من كلمات. غير أن الشعر أرفع من الموسيقى؛ إذ إنه لا يقتصر على مخاطبة الأذن، بل يخاطب الذهن بدوره مباشرة عن طريق الكلمات؛ وعلى ذلك فإن أصله لا يرجع إلى انسجام الأفلاك، وإنما إلى موسيقى العقل الإلهي ذاته، وفي إمكانه، بفضل ما له من تأثير، أن يوصل السامع إلى الذات العلية مباشرة.
20
ولقد كان فيتشينو يختلف عن نيكولاس دي كوزا، ويتفق مع أفلاطون في القول إن الشاعر لا يستجيب للخاطر العفوي للفكر البشري، وإنما هو يتلقى إلهاما إلهيا. وقد علل القدرة الخالقة الملهمة للموسيقى في ضوء نظرية الجنون الإلهي التي عرضها أفلاطون في محاورتي «أيون» و«فيدروس».
وإذن فقد كانت نظريات فيتشينو في الموسيقى تقليدية في أساسها، تسير على نهج نظريات أفلاطون وأوغسطين. أما من حيث إنه موسيقي يمارس هذا الفن عمليا، فقد نظر إلى مسافة «الثالثة» على أنها صوت متآلف. وكان القدماء، فضلا عن الموسيقيين النظريين في عصره، ينظرون إلى «الجواب» و«الخامسة» والرابعة على أنها هي وحدها المسافات المتآلفة، أما هو فقد أكد أن الأفلاطونيين لم يفهموا الموسيقى كما فهمها المحدثون؛ إذ إنهم لم يدركوا المتعة الناشئة عن «الثالثاث» التي عدوها تنافرا ... مع أنها أكثر التآلفات إمتاعا، وهي ضرورية إلى حد أن موسيقانا بدونها تكون مفتقرة إلى أروع مظاهر جمالها، ويكون الكنترابنط (
counterpoint ) لا طعم له، وسائرا على وتيرة واحدة.
21
ولم تصبح إيطاليا مركز الحياة الموسيقية إلا بعد مضي قرن آخر من عصر فيتشينو، ولكن كلامه عن «الثالثاث» بوصفها متآلفة يعني أن استخدامها قد عرف في موسيقى عصر النهضة الإيطالية. أما إذ شئنا أن نبحث عن المكان الذي تطورت فيه الموسيقى في القرن الخامس عشر، فعلينا أن نلتمسه في الأراضي الواطئة لا في إيطاليا. ولنستمع في هذا الصدد إلى ما قاله «ألبرخت دورر
Albrecht Duerer » في اليوميات التي سجل فيها أسفاره عن رحلته إلى الأراضي الواطئة في تاريخ متأخر هو 5 من أغسطس عام 1520م: «إن كنيسة نوتردام في أنفرس من الضخامة، بحيث تغنى فيها عدة قداسات في وقت واحد دون أن يختلط أحدها بالآخر. وتغدق على الموسيقى هناك هبات سخية، بحيث يستخدمون أحسن من يمكن الحصول عليهم من الموسيقيين.» ولا شك أن تقلبات الحروب تفسر لنا السبب في تدهور باريس من الوجهة الفنية في القرن الخامس عشر، بعد أن كانت أعظم مراكز الموسيقى خلال القرون الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر.
القسم الرابع: الفلسفة الجمالية لموسيقى عصر النهضة
أصبح لفن البوليفونية، الذي وضعته المدرسة الفرنسية، أهمية جمالية كبرى في مدرسة «كامبري
Cambrai ». وفي هذه المدرسة، التي تحكمت في الأذواق الموسيقية لأوروبا طوال قرن من الزمان، ظهرت شخصيات لامعة مثل «بانشوا
Binchois » و«دوفي
Dufay »، وأصبحت بلدة «كامبري» في بورجونيا، مركز الموسيقى في القرن الخامس عشر. وهناك في بلاط بورجونيا، كان يعيش «شارل الجسور
Charles the Bold » في أروع وأفخم بلاط في أوروبا كلها. وكان شارل راعيا سخيا للفنانين، كما كان هو ذاته موسيقيا ذا شأن. وكانت مدرسة كاتدرائية كامبري هي المصدر الذي يجلب منه البابا والملك الموسيقيين الموهوبين.
وكان جيوم دوفي (حوالي 1400-1474م) أبرز شخصيات المدرسة البورجندية. وقد تلقى تدريبه مع المجموعة الغنائية (الشمامسة) لكاتدرائية كمبري، ثم انضم إلى المجموعة البابوية. وبفضل أسفاره في مراكز موسيقية هامة أخرى بأوروبا عرف مختلف الاتجاهات الموسيقية لموسيقيين كثيرين ملتحقين بخدمة الملوك أو الكنيسة. وقد أثرت كل هذه الاتجاهات في موسيقاه هو وفي النظرة الجمالية البورجندية بوجه عام. وبفضل إرشاده تشربت المدرسة البورجندية بروح التحرر الذهني والحساسية التشكيلية التي كانت تتميز بها الحياة الإيطالية في عصر النهضة. كذلك فإن الموسيقي، في بورجونيا، كان يؤلف ألحانه في جو يشجع على الانفصال القاطع بين موسيقى الكنيسة وبين الموسيقى الدنيوية.
وكانت الموسيقى البورجندية تختلف في نواح كثيرة عن الموسيقى القوطية. صحيح أن جذور المدرسة البورجندية ترجع إلى الموسيقى القوطية التي سبقتها، غير أن الموسيقي البورجندي كان يكتب موسيقاه على أسس وقواعد أدق وينفر من فكرة «الارتجال»، التي كانت سائدة في التفكير الجمالي للقرن الرابع عشر. وهكذا كان الموسيقي البورجندي يؤلف موسيقاه في قالب تقليدي يقتضي من العازف التزاما دقيقا للمدونة الموسيقية. وكان لبحث عصر النهضة عن القوالب الفنية اليونانية تأثير مباشر في الموسيقي، الذي أراد بدوره أن يداري روح العصر. وهكذا أصبح احترام القالب والتصميم الشكلي واضحا في الموسيقى بقدر ما كان واضحا في التصوير والنحت.
وقد ابتعد الموسيقي البورجندي عن تلك الأنغام القوطية التي كان يعدها أنغاما خشنة عتيقة، وكان الموسيقي القوطي قد استخدم الجواب «الأوكتاوف» والرابعة والخامسة بالطريقة التقليدية حتى استهلكها. وأما الموسيقي البورجندي فلجأ إلى الثالثة، بل وإلى السادسة، مما أرسى موسيقاه على مقامية أكمل. ومن المظاهر الأخرى للتضاد بين التفكير الموسيقي الجمالي للمدرستين القوطية والبورجندية، خشونة موسيقى المدرسة الأولى وجمودها، وانسياب موسيقى المدرسة الثانية وطابعها الغنائي العذب. وأتاح هذا الطابع الغنائي في الموسيقى البورجندية للمؤلف أن يستغل الإمكانات الموسيقية للصوت البشري.
وكانت الموسيقى التي يكتبها المؤلف البورجندي تزيد النص الكلامي ثراء، على حين أن المؤلف القوطي كثيرا ما كان يتجاهل العلاقة بين الموسيقى والنص. وكان المؤلف القوطي أميل إلى إظهار اهتمامه بعرض براعته ومقدرته الفنية التكنية منه إلى تنمية الحساسية بجمال التصميم والشكل على النحو الذي تميزت به أعمال الموسيقيين البورجنديين. وكان الأسلوب الشائع في الموسيقى القوطية - وهو وضع عدة ألحان متضادة لعدد من النصوص المتباينة - جريئا من الوجهة الموسيقية بقدر ما كان استعراضيا. غير أن مظاهر التقابل والاستعراض هذه كانت بعيدة كل البعد عن الأفكار الجمالية الموسيقية في المدرسة البورجندية، ومع ذلك فإن الطبيعة الهادئة للموسيقى البورجندية قد ضيقت نطاق إمكاناتها العاطفية؛ إذ كانت بطبيعتها عاجزة عن التعبير عما فيه بطولة وفخامة وجلال، وانعكست عليها فلسفة عصر النهضة؛ لأنها استسلمت للروح التأملية السائدة في ذلك العصر. كان الموسيقي البورجندي أفلاطونيا دون أن يدري في نظريته الجمالية إلى الموسيقى؛ إذ إنه إلى اهتمامه الزائد بالقالب وبملاءمة الموسيقى للنص، كان يطبق بالبداهة رأي فيتشينو القائل إن النشاط الفني شأنه شأن سائر مظاهر الحياة الروحية، مبني على الاعتدال والتأمل.
وكان جان فان أوكيجيم
Jan Van Ockeghem (1430-1495م) موسيقيا بارزا سيطرت شخصيته على النصف الثاني من القرن الخامس عشر. وقد درس على «روفي»، وكان هو ذاته أستاذ أعظم موسيقيي عصر النهضة «جوسكن دي بريه
Josquin des Pres » (1450-1521م)، الذي أشار إليه مارتن لوثر باحترام عميق، وتحدث عن فنه على أنه ينطوي على كل ما هو رائع في الموسيقى.
وقد أسهمت إنجلترا أيضا بنصيبها في موسيقى عصر النهضة، فكان الموسيقيون الإنجليز يجرون تجارب واسعة في المسافات والألحان الموسيقية، بل إننا نجد في كتابات «دنستبل
Dunstable » (المتوفى عام 1453م) إدراكا غامضا للعلاقة الهارمونية بين تآلف هارموني وآخر، بدلا من الطريقة التقليدية في استخدام كل تآلف هارموني دعامة للحن فحسب. ولم يرتفع موسيقي آخر بين الإنجليز في عصر النهضة إلى مكانة تعلو على مكانة دنستبل سوى بيرد
Byrd (1542-/3-1623م).
وفي إيطاليا كان الأفلاطونيون لا يزالون صامدين في مواقعهم في ميدان الفلسفة والفن، بعد أن أفادوا كل الفائدة من تلك الآفاق الأدبية الجديدة التي فتحتها أمامهم دراسة اللغة اليونانية، بل إن خصومهم الأسططاليين ذاتهم قد ثاروا واعترضوا على التفسير المتحجر الذي كانت الكنيسة تفرضه على مؤسس اللوقيوم «أرسطو»، وعندما حل القرن السادس عشر لم تطق الكنيسة صبرا على هؤلاء الخوارج، وقدمت عددا منهم لمحاكم التفتيش، حتى يتراجعوا عن معتقداتهم أو يواجهوا الموت. غير أن الكنيسة لم تستطع أن تقضي على هذا الاتجاه إلى النزعة الإنسانية ، لا في المجال العقلي ولا في المجال الفني. ولما كان الموسيقي قد تأثر بدوره بهذا الاتجاه في تفسير الفلسفة الأفلاطونية، فقد بدأ يؤكد أهمية النص ويضحي بالكنترابنط (
counterpoint ) واللحن، لا لأن الكنيسة كانت تحبذ مثل هذه الفلسفة الموسيقية، بل لأن المثل الأعلى للنزعة الإنسانية، وهو محاكاة اليونانيين، كان مبنيا على القاعدة القائلة إن على الموسيقى أن تضفي على النص الشعري ثراء. والواقع أن موسيقي عصر النهضة قد أصبح أفلاطونيا تماما، وأكد الفكرة القائلة إن وظيفة الموسيقى هي تجميل الكلمة المكتوبة، واستخلاص كل إمكاناتها العاطفية في سياقها الأدبي؛ بحيث يكون لكل بيت شعري أقوى تأثير ممكن في السامع، وفي هذا نجد الأساس الجمالي لفن «الغناء آكابلا
a cappella »
22
في عصر النهضة.
وفي عام 1532م نشر أحد تلاميذ جوسكان، اسمه «أدريان بتي كوكليكوس
Adrian Petit Coclicus » (حوالي 1500-1563م) مؤلفا أطلق عليه اسم «الموسيقى بالأسلوب الجديد
Musica Reservata » ونسبه إلى أستاذه الفلمنكي المشهور. وأساس هذا الكتاب مذهب جمالي يؤكد «فكرة المشاعر» وزيادة الكلمة المكتوبة عمقا عن طريق الموسيقى. وترجع جذور «فكرة المشاعر» هذه إلى كتابات أفلاطون وأرسطو. كما بحثت في مؤلفات نكولاس دي كوزا في أوائل عصر النهضة. وقد ظلت هذه الفكرة متغلغلة في الدراسات الفلسفية للقرون التالية، وإن لم يظل لفظ «المشاعر
affections » يستخدم دائما بنفس المعنى الذي كان يستخدمه الفلاسفة القدماء في عصر النهضة.
وقد أصبحت روما مركزا للموسيقى الدينية في القرن السادس عشر، واجتذب مقر البابا أشهر المواهب الموسيقية في أوروبا، في نفس الوقت الذي كان يحارب فيه الوثنية الدنيوية للنزعة المتحررة في عصر النهضة وحركة الإصلاح الديني البروتستانتية. وقد تأثر الموسيقي الهولندي أورلاندو دي لاسو
Orlando di Lasso (حوالي 1532-1594م) وزميله الإيطالي العميق التدين بالسترينا
Oalestrina (حوالي 1525-1594م) بحركة مقاومة البروتستانتية، وكانت تلك فترة تطهير داخلي عام في الكنيسة الكاثوليكية، من الوجهتين الفلسفية والفنية. وكما أن مجمع لاودقيا قد قام، في السنوات الأولى للمسيحية، بدور عظيم الأهمية في تحديد طبيعة موسيقى الكنيسة البيزنطية، بتحريمه استخدام الآلات، واشتراك مهرة المصلين في غناء التراتيل، فكذلك تحكم مجمع «ترنتينو» (1545-1563م)، والمجلس البابوي الخاص (1564م) في المجرى المقبل لموسيقى الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر؛ فقد اعترض رجال الكنيسة على البوليفونية لتجاهلها للنص، وتأكيدها للجانب الدنيوي في الموسيقى، ورددوا ما قيل في مجمع لاودقيا، وأضافوا إليه أن الكنيسة تستخدم في الشعائر آلات تزيد عما ينبغي استخدامه، وكرروا شكوى رجال الكنيسة السابقين من أن المغنين لا يبدون الاحترام اللازم للكلمات، وإنما يضحون بالنطق الصحيح لها، حتى يمكنهم أن يستعرضوا قدراتهم الصوتية.
ولسنا ندري تماما ما هي النتائج التي وصل إليها الكرادلة، ولكنا نعلم أنهم ذهبوا إلى أن كل موسيقى لا تتفق مع جلال الصلاة وتقاليدها ينبغي أن تحرم. وهكذا فإن الفواصل والاسترسالات «التروبس» و«السكوينسات»
torpes and sequences
قد حذفت من مجال الموسيقى الشعائرية، باستثناء القليل من مقطوعاتها المحببة إلى النفوس. ولم تكن البوليفونية في عمومها مرضيا عنها؛ إذ إنها كانت منذ بداياتها الأولى عاملا من عوامل فقدان وقار موسيقى الكنيسة وبساطتها، وصبغها بصبغة دنيوية. وقد بحث الكرادلة الفكرة القائلة إن مصلحة العقيدة المسيحية تستدعي استبعاد كل موسيقى من شعائر الصلاة فيما عدا التراتيل الدينية، ولكنهم لحسن الحظ لم يأخذوا بهذه الفكرة.
وفي الوقت الذي كانت الكنيسة فيه تحارب المؤثرات الدنيوية التي كان يعتقد أنها تؤدي إلى إفساد شعائر العبادة، كانت الرغبة في التعبير العقلي والفني تزداد انتشارا، وتتجاوز الباحثين النظريين والفنانين الممارسين إلى عامة الناس. وقد كتب الفيلسوف «مونتني» (1533-1592م) عن أسفاره في إيطاليا يقول إنه دهش إذ رأى الفلاحين في توسكانيا «يمسكون العود في أيديهم، وإلى جانبهم الرعاة ينشدون أشعار أريوستو
Ariosto ،
23
التي يحفظونها عن ظهر قلب، وهذا أمر يمكن أن يراه المرء في جميع أنحاء إيطاليا.» وقد ازدهرت فرق العازفين والمغنين في كل أرجاء أوروبا في القرن السادس عشر. وأصبحت الآلات الموسيقية من الكماليات البهيجة التي يحرص الناس العاديون على اقتنائها في بيوتهم، وانتشرت الاجتماعات الموسيقية الارتجالية، وكان ذلك عصرا ألم فيه العامة أنفسهم بأسرار الموسيقى، وفي جو التنوير والثقافة الذي ساد عصر النهضة هذا، ظهر فن «المدريجال
madrigal »، وتطور بوصفه شكلا متقدما من أشكال البوليفونية الغنائية.
ولم يكن الباحثون النظريون في عصر النهضة يعرفون الكثير عن الموسيقى اليونانية ذاتها، ولقد أرادوا بعث الروح اليونانية الكلاسيكية من جديد، ولكنهم لم يكن لديهم من الموسيقى اليونانية الفعلية ما يسترشدون به؛ فقد بنوا نظرياتهم الجمالية على كتابات الفلاسفة اليونانيين وفلاسفة العصر اليوناني الروماني. وقد أكدت الأبحاث الفلسفية من العصور القديمة أهمية الجوانب الرياضية والأخلاقية للموسيقى، ورددت المذهب الميتافيزيقي في انسجام الأفلاك، وهو المذهب الذي ربط فيه الفيثاغوريون بين الموسيقى وبين الانسجام الكوني.
وقد أراد الموسيقي في عصر النهضة أن يحاكي الشاعر والمغني اليوناني، وكان أفلاطون قد ذكر أن هذا الشاعر المغني اليوناني كان في العصر الذهبي لليونان يؤلف ألحانه على إيقاع النص الشعري ووزنه. وهذا عين ما فعله موسيقي عصر النهضة في فورة تحمسه لإيجاد توازن مثالي بين النص الكلامي وبين الموسيقى. وهكذا أعلن «هيرمان فنك
Hermann Fink » في كتابه «ممارسة الموسيقى
Musica » (1556م) أنه «إذا كان الموسيقيون القدماء قد برعوا في معالجة الأساليب القياسية المعقدة، فإن الموسيقيين الأحدث عهدا قد فاقوهم في جمال اللحن
euphony ، وهم حريصون كل الحرص على أن يوائموا بين الأنغام وألفاظ النص، حتى يعبروا عن معناها وروحها بأكثر قدر من الوضوح.»
24
وقد ميز بيترو آرون
Aron (حوالي 1490-1545م) تمييزا واضحا بين مفهوم التأليف الموسيقي الخلاق في عصر النهضة، وبين الأساليب الحالية للموسيقيين القوطين، فكتب (في عام 1523م) يقول: «إن موسيقى المحدثين أفضل من موسيقى الأقدمين؛ لأنهم ينظرون إلى جميع الأسطر اللحنية ككل، ولا يؤلفون لصوت بعد آخر.»
25
وقد ظهر في موسيقى «دنستبل» مجهود غير واع في اتجاه التأليف بواسطة تآلفات هارمونية رأسية، ولكن كان لا بد من الانتظار حتى الفترة المتأخرة من عصر النهضة، لكي ينصرف الموسيقي بطريقة واعية عن الكتابة الأفقية لأسطر لحنية تؤدى في وقت واحد (أي كنترابنطية) إلى الكتابة لتآلفات هارمونية رأسية؛ ففي الأشكال القديمة للموسيقى كان الموسيقي يؤلف ألحانه بالأسلوب الأفقي التقليدي الذي يقوم على كتابة أسطر لحنية لأصوات متعددة تؤدى في وقت واحد؛ أي بالأسلوب الكنترابنطي. غير أن موسيقي عصر النهضة قد بدأ يفكر في الموسيقى، ويستمع إليها، لا على أنها أصوات مستقلة أو سطور لحنية ، بل على أنها مجموعات نغمية منظمة في تآلفات هارمونية رأسية ترتبط توافقيا بما يسبقها وبما يليها.
ولقد كرس أدباء عصر النهضة وكتابه فنهم ومواهبهم لتمجيد الماضي، وحفزهم على ذلك اعتقادهم بأنهم لو تجاهلوا التراث القديم المجيد لضاع هذا التراث في زوايا النسيان ألف سنة أخرى. وهكذا نجد الباحث هنيريخ لوريس
Heinrich Loris (1488-1563م) أو جلاريا نوس
Glaseanus ، يمتدح «جوسكان دي بريه» بوصفه تجسيدا لروح النزعة الإنسانية، ويحذر من أن أي تغيير في أسلوبه يكون انحرافا عن الروح الحقيقية للمذهب الكلاسيكي. كذلك فإن الموسيقي والباحث النظري جوزيفو زارلينو
Gisoseffo Zarlino (1517-1590م) الذي عاش في فينيسيا، يرسم صورة مثالية لموسيقى العالم القديم، ويفخر بما صنعه عصره من أجل بعثها من جديد، ويرفض صراحة موسيقى العصور الوسطى التي تبدو في نظره ضربا من السفسطة الفنية وهو ينظر إلى الموسيقى على أنها محاكاة للطبيعة، ويحاول أن يستخلص تعاليمه من القانون الطبيعي. ولقد كان هو أول من عالج الهارمونية من خلال فكرة «الثلاث
triad » (أي التآلف الهارموني المكون من ثلاث نغمات) لا المسافة (
niterval )، وأول من أدرك أهمية التضاد الأساسي بين الديوان الكبير (
major ) والديوان الصغير
minor ، وأول من حاول تقديم تفسير عقلي للقاعدة القديمة التي تمنع استخدام الخامات والأوكتافات المتوازية، وبناء على اقتراحه شرع في إصدار أول طبعة لكتاب «الهارمونيات لأرسطوكسينوس» (في ترجمته اللاتينية).
26
ولقد كان تلميذه «نكولا فيتشنتينو
Nicola Vicentino » (1511-1572م) أكثر تحمسا من أستاذه ذاته في محاولة إقامة فلسفة جمالية للموسيقى تربط بين أساليب عصر النهضة وبين الفلسفات الموسيقية لليونانيين. وقد ميز بين الموسيقى الدينية والموسيقى الدنيوية ؛ فالموسيقى الدينية في رأيه ينبغي أن تكون مبنية على نص ديني، وأن تكون ألحانها ذاتها مشجعة على التقوى والعبادة، فيجب أن تبدأ بداية وقورة تبث الخشوع في النفس، ويجب أن يكون تركيبها بوليفونيا رنانا لكي يكون في صوتها جلال وفخامة، ويكون لها من الهدوء ما يطمئن النفس الحائرة. وكان تأثير أفلاطون وأوغسطين مسيطرا على تعاليمه الجمالية، فوجد لدى القدماء حلا لمشكلة التزاوج الكامل بين الكلمات والألحان. ولقد رأينا أن أفلاطون الوثني وأوغسطين المسيحي يعتقدان أن اللحن يجب أن يكون معتمدا على النص، وأن الموسيقى ينبغي أن تكون أداة في يد المؤلف يجمل بها بيتا شعريا أو نصا دينيا. وها هو ذا فتشنتينو، ابن عصر النهضة، يقتدي بالقدماء في قوله إن الكلمة والمفهوم الفكري ينبغي أن يسيطرا على اللحن؛ فمهمة الموسيقى هي إثراء النص وبعث الحياة في الكلمة المكتوبة.
الفصل الرابع
الموسيقى البروتستانتية
القسم الأول: لوثر
كان مارتن لوثر (1483-1546م) في الأصل رجل علم أصبح راهبا، ثم تحول إلى مصلح عندما ثار على الأساليب الفاسدة التي يتبعها كبار رجال الكنيسة الكاثوليكية. وقد قسم الديانة المسيحية للحضارة الغربية إلى شعبتين في نفس اليوم الذي ثبت فيه قضاياه الخمس والتسعين الشهيرة على باب كنيسة فتنبرج
Wittenberg
في 31 من أكتوبر عام 1517م؛ فبهذا العمل الذي تحدى به لوثر السلطة القائمة في روما كشف مساوئ رجال الكنيسة الكاثوليكية لجمهور الناس في ألمانيا، وبذلك أصبح مارتن لوثر أول وأعظم قائد لحركة الإصلاح البروتستانتية، وذلك من الناحيتين اللاهوتية والنفسية معا. وقد تركت رحلته الأصلية إلى روما، التي قام بها لأمور تتعلق بطائفته، انطباعات لاهوتية وموسيقية عميقة في نفسه؛ ففي روما أدرك بوضوح مدى التعارض بين انغماس البابوية في الأمور الدنيوية وبين مبادئ الرهبنة التي كان يتمسك بها. وفي هذه المدينة البابوية أيضا اتصل بمشاهير الموسيقيين الذين كان البابا قد دعاهم إلى روما. وعرف موسيقى «جوسكان دي بريه» الذي قال عنه فيما بعد: إن جوسكان دليل على أن الرب يدعو إلى الكتاب المقدس بالموسيقى؛ إذ إن ألحانه تنساب في سهولة ويسر ورقة وتلقائية، وهي كشدو البلبل لا تتقيد بقاعدة أو تلتزم بقانون.
وقد كتب لوثر في كتابه «مدح الموسيقى
Eulogy of Music » يقول: «إن الموسيقى لتثير كل انفعالات قلب الإنسان؛ فلا شيء في العالم أقدر من الموسيقى على أن يجعل الحزين فرحا، أو الفرح حزينا، وعلى أن يكسب اليائس شجاعة، ويجعل المغرور متواضعا، ويخفف مشاعر الحسد والكراهية.»
1
وفي رسالة كتبها في موضع آخر يقول: «هناك دون شك، بذور من الفضائل الرفيعة في قلوب أولئك الذين تحركهم الموسيقى، على حين أن أولئك الذين لا يتأثرون بها ينبغي أن يوصفوا بأنهم صخور وأحجار جامدة، وإنا لنعلم أن الشيطان يكره الموسيقى ويخشاها، ولكني لا أتردد في القول إنه لا يوجد بعد اللاهوت فن يمكن أن يعد نظيرا للموسيقى؛ فالموسيقى واللاهوت هما وحدهما القادران على إسعاد النفوس القلقة وبث الطمأنينة فيها. وهذا يثبت بوضوح أن الشيطان، الذي هو مصدر كل شقاء وهم يهرب من الموسيقى مثلما يهرب من اللاهوت؛ ولهذا السبب مارس الأنبياء فن الموسيقى كما لم يمارسوا أي فن آخر؛ فهم لم يربطوا بين لاهوتهم وبين الهندسة أو الحساب أو الفلك، وإنما ربطوه بالموسيقى، وعن طريق الموسيقى دعوا إلى الحقيقة بالترتيل والمزامير.»
2
وكان لوثر يرى أن القديس أوغسطين كان يحس بتأنيب الضمير كلما اكتشف أنه قد وجد في الموسيقى لذة وسعادة؛ إذ كان يعتقد أن في مثل هذه المتعة خطيئة وإثما. لقد كان تقيا بمعنى الكلمة، ولكنه لو كان يعيش اليوم لاتفق معنا على أن ...
3
وكان لوثر يعزف على العود والناي ويستمتع بغناء الأناشيد الجريجورية والقداسات «والموتيت» والأغاني الموزعة توزيعا كنترابنطيا. وكان يعجب بفن البوليفونية أيما إعجاب، وفيه يقول: ما أعجب وما أروع أن يغنى صوت نعمة بسيطة لا تعقيد فيها أو نغمة التينور كما يسميها الموسيقيون! وفي نفس الوقت تغنى ثلاثة أصوات أو أربعة أو خمسة أخرى؛ بحيث إن هذه الأصوات تدور حول النغمة الأولى، وتلهو حولها في طرب ومرح وتزينها وتجملها بفن متنوع وبصوت رنان، وتجمعها الأنشودة السماوية في لقاء وعناق جميل؛ بحيث إن من لديه أبسط قدر من الفهم لا بد أن يتأثر ويعجب أيما إعجاب، ويدرك أنه لا شيء أنفس في العالم من أغنية يزينها مثل هذا العدد من الأصوات. أما من لا يستمتع بهذه الأصوات، ولا يتحرك قلبه لهذه الروعة فلا بد أن يكون فظا غليظ القلب، غير جدير بمثل هذه الموسيقى الخلابة، وخير لشخص كهذا أن يستمع إلى نهيق الحمير في الكورال (الجريجوري)، أو إلى نباح الكلاب والخنازير، لا إلى مثل هذه الموسيقى.
4
وكان لوثر، كأسلافه الكاثوليكيين، لا يعترض على تحويل الأغاني الدنيوية إلى أغان دينية تلائم الحاجات البروتستانتية. كما أنه عدل شعائر الصلاة الكاثوليكية، وأدخل تراتيل دينية بسيطة باللغات القومية ينشدها جمهرة المصلين، حتى يتيح لكل فرد منهم فرصة الاشتراك إيجابيا في هذه الشعائر. وهكذا كتب إلى جيورج شبالاتين
George Spalatin
في عام 1524م يقول: لقد استقر عزمنا على أن نحذو حذو الأنبياء وآباء الكنيسة، ونؤلف أغاني ألمانية للشعب الألماني، حتى تتردد كلمة الرب في غناء الشعب، ونحن بسبيل البحث عن شعراء وموسيقيين من كل مكان لتحقيق هذا الغرض، وإني لأسألك أن تتعاون معنا في هذا الموضوع، وتحاول ترجمة بعض المزامير وإعدادها للغناء، وستجد مع خطابي هذا نسخة من أنشودتي «في محنتي أستنجد بك
Aus tirfer Not Schrei ich zu dir ». ومع ذلك فإني أرجوك أن تتجنب الألفاظ الجديدة والمصطلحات المعقدة، حتى يفهما الناس بسهولة، فلتكن الألفاظ بسيطة بقدر الإمكان، ولتكن في الوقت ذاته نقية مناسبة، وعليك أن تراعي أن يكون المعنى واضحا وقريبا من المزامير بقدر الإمكان؛ ولذلك فإني أترك لك حرية التصرف في هذا الموضوع، وتحديد المعنى الأصلي ثم ترجمته بحرية.
5
وبعد عام من ذلك التاريخ، أضاف لوثر في كتابه «ضد الأنبياء السماويين» قوله: «على الرغم من استعدادي للسماح بترجمة النصوص اللاتينية للموسيقى الغنائية، وموسيقى المجموعة إلى اللغات القومية مع الاحتفاظ بالأنغام الأصلية والإطار الموسيقي، فإني أعتقد أن النتيجة لا تبدو مرضية أو ملائمة؛ فمن الواجب أن يكون النص، والعلامات والنبرات والنغمة، وكذلك التعبير الخارجي بأكمله، امتدادا أصيلا للنص الأصلي ولروحه، وإلا لكان كل شيء أشبه بالتقليد الأعمى.»
6
ولم يقتصر لوثر على التعلق بموسيقى الكنيسة الأم، بل إنه كان يقتبس كثيرا من الأغاني الكاثوليكية لكي يثري العقيدة البروتستانتية فنيا. وقد اعترف صراحة، في تعليق له على مجموعة من تراتيل الجنازات ظهرت عام 1542م: «لقد أردنا أن نضرب لغيرنا مثلا طيبا، فاخترنا بعض قطع من الموسيقى والأناشيد الجميلة المستخدمة في البابوية، في التسابيح وقداسات الموتى والجنازات، ونشرنا بعضا منها في هذا المجلد ... ومع ذلك فقد غيرنا النصوص، ولم نحتفظ بتلك التي تستخدم في البابوية ... والواقع أن الأغاني والموسيقى جميلة حقا، وإنه ليكون أمرا يؤسف له لو اندثرت.»
7
وكثيرا ما كان لوثر ينضم عندما كان طالبا إلى رفاقه الشبان في غناء الأناشيد المدرسية. وكان دائما ذا ذوق رفيع في حبه للموسيقى، ومنذ أيام دراسته كان في كثير من الأحيان يغني ويعزف مع أصدقائه ألحان كبار الموسيقيين الفلمنكيين والألمان، بصوته «التينور» الجميل والآلة الموسيقية الأثيرة عنده، وهي العود
lute ، وكان يطرب للموسيقى الدنيوية حتى وهو راهب، ولكن نظرته إلى الموسيقى كانت تتضمن من فلسفة أوغسطين قدرا أعظم مما جرؤ على الاعتراف به، وذلك في حملاته المتعددة على ما اعتبره أغنيات دنيوية حسية فاسدة في أيامه. وقد تتبع، بوصفه رائد البروتستانتية، الدور التاريخي الهام الذي قامت به الموسيقى في سبيل دعم المسيحية، ولخص المهمة التي رأى أن على الموسيقى أن تضطلع بها من أجل نشر المذهب البروتستانتي، فكتب يقول: «إن كل مسيحي يعلم أن عادة غناء الأناشيد الروحية نافعة ترضي الله؛ إذ إن الجميع يتعلمون أن الغناء لم يقتصر على أنبياء بني إسرائيل وملوكهم (الذين كانوا يسبحون بحمد الله بموسيقى الصوت البشري والآلات، وبالأغاني والعزف على الأوتار)، بل إن المسيحيين الأوائل، الذين كانوا يغنون المزامير على الأخص، كانوا يستخدمون الموسيقى في المراحل الأولى من تاريخ الكنيسة، بل إن القديس بولس قد شجع استخدام الموسيقى (1-14) وأكد في رسالته إلى «القولوسيين» أن على المسيحيين أن يقفوا أمام الرب بالمزامير والأغاني الروحية الصادرة عن القلب، حتى يتسنى بفضل هذه الموسيقى تعليم كلمة الرب وتعاليم المسيحية والدعوة إليها وممارستها. ولقد قمت، واضعا كل هذا نصب عيني، بجمع عدد من الأغاني الروحية بالاشتراك مع عدة أفراد آخرين، حتى يتسنى البدء في إعداد هذه المادة وجمعها، وحتى نشجع غيرنا، ممن هم أقدر منا على هذا العمل، على القيام به. وقد وزعت الموسيقى في أربع أسطر لحنية تؤديها الأصوات في وقت واحد. وهذا ما أريده لصالح الشباب خاصة؛ إذ إن من الواجب أن يتلقى هؤلاء تعليما في الموسيقى وفي غيرها من الفنون إذا شئنا أن نصرفهم عن الأغاني الحسية الشهوانية ، ونجعلهم يتعلقون بما هو خير ونافع؛ فبهذه الطريقة وحدها يتعلمون - كما ينبغي أن يفعلوا - أن يحبوا ويتذوقوا ما هو خير في ذاته، وأنا لست من أصحاب الرأي القائل إن الكتاب المقدس وحده يكفي، وإن من الواجب رفض كل الفنون واستبعادها نهائيا، كما يقول أصحاب المذهب المخالف، وإنما أود أن تستخدم الفنون كلها، ولا سيما الموسيقى، في خدمة الإله الذي وهبنا إياها وخلفها.»
8
وكان لوثر يدعو إلى أن يحصل كل طفل بروتستانتي على تعليم موسيقي، فكتب يقول: «إنني، من جانبي، أقول إنه لو كان لدي أطفال، وكان في مقدوري تنفيذ هذا الأمر، لأصررت على ألا يقتصر تعليمهم على اللغات والتاريخ، بل يشتمل أيضا على الغناء، والموسيقى والرياضيات جميعها. أليست هذه كلها ملائمة لسن الطفولة، وهي التي كان اليونانيون يدربون عليها أطفالهم في سالف الأزمان، ثم يشب هؤلاء الأطفال رجالا ونساء ذوي مقدرة هائلة، يصلحون لمواجهة كل مقادير الحياة؟»
9
ولقد كانت الأهمية الأخلاقية التي نسبها لوثر إلى الموسيقى - وهي أحد الفنون الحرة - متمشية بدورها مع النزعة الأخلاقية اليونانية؛ فقد كان لوثر بدوره يعد الموسيقى مبحثا عقليا. وظلت الموسيقى في نظر لوثر، كما كانت في نظر أوغسطين، وسيلة لرياضة النفس وتهذيبها أخلاقيا، كفيلة في رأيه بأن تجعل الناس «أرق وأهدأ، وأقوى ضميرا، وأرهف إحساسا».
10
وقد أوصى لوثر أولئك الذين يعدون أنفسهم لسلك التدريس أو الوعاظ بقوله: «ينبغي أن يكون المدرس قادرا على الغناء وإلا لما اعترفت به، كما ينبغي ألا يقبل الشبان في سلك الوعاظ ما لم يكونوا قد مارسوا الموسيقى، وتعلموها في المدارس.»
11
كذلك أشار لوثر إلى فكرة يونانية أخرى هي وحدة الأغنية والرقص والحركات، وهي الفكرة التي اقترحها الفرنسسكاني «روجر بيكون» من أجل تدريب الأطفال الكاثوليك في برنامج التعليم الحر، فكتب لوثر يقول: «عندما تنصرف الفتيات والشبان إلى الرقص الشعبي مع الموسيقى والحركات المناسبة، فإن هذا يكون مظهرا إنسانيا أطرب له أشد الطرب.»
12
وبالمثل فإن الرمزية الأخلاقية التي ينسبها لوثر إلى مختلف المقامات الموسيقية تذكرنا بالأفكار الجمالية الموسيقية عند أفلاطون وأوغسطين . وقد انتهى لوثر من بحثه للأناشيد الجريجورية وطبيعة المقامات الثمانية إلى أنه «لما كان المسيح ربا رحيما، ولما كانت كلماته رقيقة، فإنا نود أن نستخدم المقام السادس للإنجيل، ولما كان بولس حواريا جادا، فإنا نود أن نستخدم المقام الثامن لرسالته.»
13
وقد أضاف في موضع آخر يقول: «إن النغمة الرئيسية في الموسيقى هي الإنجيل، والأنغام الأخرى هي القانون، ولما كان الإنجيل يبعث الهدوء والرقة في القانون، فإن الإنجيل يسود الأنغام الأخرى، وهو أعذب الأصوات.»
14
كذلك ترددت عند لوثر عادة أخرى ترجع إلى المسيحية الأولى، وهي تفسير الآلات الموسيقية تفسيرا أسطوريا، ولكنه لم يربط بين الآلات الموسيقية وبين جسد المسيح وعذابه، وإنما ربط بين مختلف الآلات وبين غاية الحياة المسيحية. وقد شجع لوثر على استخدام موسيقى الآلات في الشعائر الدينية، ولكنه أكد أن من الضروري أن تكون بسيطة وملائمة من الوجهة الجمالية للشعائر البروتستانتية.
القسم الثاني: كالفان
بدأ على يد المصلح السويسري «أولريخ تسفنجلي
Urich Zwingli » (1484-1531م) رد فعل محافظ على آراء لوثر الفنية في الموسيقى. ولقد كان تسفنجلي شاعرا وموسيقيا لحن أغنيتين من تأليفه هو ووزعهما على أربعة سطور لحنية لأربعة أصوات، بل لقد كان يعزف على الآلات كلها تقريبا. ومع ذلك فإن طبيعته الشاعرية، وبراعته الموسيقية الفائقة لم تمنع روحه الدينية الصارمة من أن تتعمد ترك الأرغن في زوريخ يحطم، بينما وقف عازف الأرغن يشاهد المنظر وهو يبكي عجزا. وقد ازداد كالفان تطرفا في هذا الموقف السلبي عن الموسيقى حين أخذ على عاتقه تقويم نظريات لوثر في وظيفة الموسيقى في الكنيسة والبيت، وكان تسفنجلي وكالفن معا يخشيان أن تؤدي الموسيقى إلى تحول أنظار المؤمنين عن الهدف الحقيقي للدين.
وتتلخص فلسفة «جان كالفان
Jean Calvin » (1509-1564م) الموسيقية في قوله إن الموسيقى «لو أديت على الوجه الصحيح لأتاحت للناس الترويح عن نفوسهم، ولكنها يمكن أن تؤدي إلى إثارة الشهوات ... وعلينا أن ننتبه جيدا، حتى لا تؤدي بنا الموسيقى إلى إطلاق العنان لروح الانحلال، أو إلى بعث الطراوة والرخاوة في نفوسنا حين تغرق في متع لا ضابط لها.» وعلى حين أن لوثر لم يستبعد تماما، في أي وقت من الأوقات، الشعائر الموسيقية للكنيسة الرومانية، فإن أتباع كالفان لم يسمحوا بأية موسيقى دينية في صلواتهم فيما عدا غناء جمهرة المصلين. وكانت الأغاني الشعبية الفرنسية والإيطالية والألمانية، التي كانت في معظم الأحيان ذات طبيعة حسية مثيرة للغرائز، قد وجدت طريقها إلى قداسات الكنيسة الكاثوليكية، حتى فترة متأخرة من القرن السابع عشر. ومن هنا فإن أتباع كالفان لم يكتفوا بالقول إن مثل هذه الموسيقى، مهما عدلت وفقا لمقتضيات الشعائر، لا تساعد أبدا على إثارة الأفكار والمشاعر الدينية، بل لقد ذهبوا إلى أنها شريرة أصلا؛ إذ إنها تؤكد العنصر الجسدي والدنيوي بدلا من العنصر الروحي المقدس.
وهكذا أخذ المتعصبون الدينيون وأعداء البابوية في سويسرا يهاجمون الكنائس والأديرة لتطهيرها من آخر آثار «الكاثوليكية»، فحطموا آلات الأرغن حتى يستحيل العزف عليها ثانية، ومحوا رسوم المذابح والجدران، حتى لا يخلط المؤمن بين الرمز التصويري وبين ما يمثله الرمز بالفعل، وحطموا التماثيل حتى لا يعبد المؤمنون صورا منحوتة، بل لقد سجنوا الموسيقي «لويس بورجوا
Louis Bourgeois »؛ لأنه غير ألحان عدة مزامير دون إذن.
ولقد كانت ثورة لوثر على الكنيسة الكاثوليكية راجعة إلى فوارق نظرية وعملية في المسائل اللاهوتية، ولكن لم يمض وقت طويل، حتى أدى التعارض السياسي والاجتماعي بين الكاثوليك والبروتستانت إلى تقسيم أشد حدة للمسيحية إلى جماعتين تعادي كل منهما الأخرى، وقد طبق رجال الدين البروتستانت على الموسيقى نفس المقاييس الصارمة حاولوا بها فرض القوانين الأخلاقية، وتنظيم ملابس أفراد طائفتهم وعاداتهم.
وقد نمت لدى أتباع كالفان كراهية متزايدة للقداس والأرغن، وامتد تأثير هذه الكراهية بمضي الوقت إلى اللوثريين. وكان الكالفنيون يتسامحون مع الموسيقى على مضض، بل إنهم أصبحوا ينظرون إليها بمضي الوقت، على أنها نكبة ولعنة بابوية. وبينما ظلت الشعائر اللوثرية تسمح بغناء الألحان الدينية بنصوصها الدنيوية دون أي قيد، فإن الكالفنيين رفضوا هذا النوع ذاته من الألحان، وبدءوا يؤلفون أناشيدهم الدينية الخاصة على أساس المزامير وحدها.
وقد حبذ كالفان، في مقالاته لإصلاح الكنيسة عام 1537م، قيام جمهور المصلين بغناء المزامير في الصلوات العامة. وبعد أن طرد من جنيف في عام 1538م استوطن مدينة ستراسبورج؛ حيث حاول مجاراة لوثر بجمع مجموعة من الأناشيد والمزامير الدينية لكي تستخدم في كنيسته. وكان كالفان يرى أن شعائر الكنيسة الإصلاحية ينبغي أن تتركز حول الموعظة، حتى يمكنه بالموعظة تعليم الكتاب المقدس وتفسيره. ولما كانت المزامير جزءا من الكتاب المقدس، فقد وجد كالفان لها مكانا في شعائر الصلاة؛ إذ كان يدرك أن الكتاب المقدس يمكن أن يصبح عن طريق الإنشاد أكثر تشويقا للإنسان منه عن طريق الموعظة. وقد حرص كالفان بشدة على أن يحمي الكنيسة الإصلاحية من أن تقع ضحية الطقوس المسرحية للكنيسة الكاثوليكية، فأكد أن من الواجب أن تخلو الصلاة من أي زخرف فني، وأن تقتصر، من الوجهة الموسيقية، على غناء الموجات المنظومة للمزامير وغيرها من فقرات الكتاب المقدس. وقد ظل كالفان متمسكا بالرأي القائل إن من الواجب أداء الصلوات باللغات القومية، حتى يفهمها كل من أقبل ليصلي ويتعلم.
وعلى الرغم من أن كالفان رفض أن يعترف بأي نوع من الموسيقى فيما عدا الغناء البسيط لجمهور المصلين، فقد سمح ببعض التلحينات البوليفونية للنصوص الدينية، وهذه لا يسمح بغنائها إلا في البيت، ومع الأسرة والأصدقاء، لا لمجرد المتعة الفنية، بل لأغراض الإرشاد والتسبيح بحمد الله. وقد دعا كالفان جميع الموسيقيين البروتستانتيين إلى تكريس مواهبهم لإعلاء كلمة الله بتلحين المزامير موسيقيا. غير أن الشروط الجمالية الدينية الصارمة التي فرضها كالفان على الملحنين أدت في معظم الأحيان إلى قصر جهود الموسيقيين الخلاقة على وضع تآلفات هارمونية بسيطة للمزامير.
وقد أكد كالفان ضرورة غناء المزامير بصوت موحد، ودون مصاحبة الآلات، كما ألغى المجموعة الغنائية المتخصصة (الشمامسة)، حتى تكون الشعائر أكثر ديمقراطية، ويتسنى لجمهرة المصلين بأكملهم أن يغنوا مسبحين لله بأفواههم. وعندما كتب الموسيقي الهوجنوتي (أي البروتستانتي الفرنسي) «جوديمل
Goudimel » (حوالي 1505-1572م) الذي كان من أشهر موسيقيي عصره، تلحينا للمزامير موزعا على أربعة أصوات مختلفة، لم ينظر كالفان إلى هذه المحاولة بعين الرضا؛ فهي في رأيه «أعقد من أن تتمكن من غنائها جمهرة المصلين، وإن نفس جو تركيبها التوافقي (الهارموني) لكفيل بأن يحول الانتباه إليها»، وقد كتب كالفان بلهجة تذكرنا بأوغسطين يقول: «من المؤكد أن الغناء إذا ما وجه إلى ذلك الجلال الذي يليق بحضور الله والملائكة، فإنه يضفي على الأفعال المقدسة مهابة ورقة، ويكون له تأثير فعال في بعث روح الإيمان الحق وحرارته في النفوس. ومع ذلك فلا بد من توخي الحذر الشديد، حتى لا يكون انتباه الأذن لمجرى الأنغام أعظم من انتباه الذهن للمدلول الروحي للألفاظ ... إن أية موسيقى تلحن لكي تطرب الأذن وتسرها فحسب، لا تليق بجلال الكنيسة، ولا يمكن أن تحظى برضاء الله على الإطلاق.»
وكان كالفان يعتقد أن كل فن جدير بهذا الاسم إنما هو هبة من الله للإنسان؛ فالفنون التي تحمل إرادة الله على الأرض فنون صالحة، أما تلك التي لا تقدم إلا المتعة الحسية، ولا تساعد على إعلاء دعوة المسيحية، فما هي إلا أساليب لقهر الإنسان. ولم يكن كالفان يسمح بعزف الآلات الموسيقية في الشعائر الدينية، وقد حرم استخدام الأرغن في الصلوات بالكنيسة لئلا تؤدي موسيقى الأرغن إلى تحويل الأنظار عن معنى الأنشودة الدينية البسيطة. وقد يتجه العازف المغرور للأرغن إلى استعراض براعته في العزف، ويزخرف الموسيقى البسيطة، وهو ما يتنافى مع فكرة كالفان عن الموسيقى الشعائرية؛ ذلك لأن كالفان قد أكد أن الكلمة المقدسة، لا اللحن ولا التوزيع، هي أهم ما في الصلاة. وينبغي ألا تحول آية عقبة دون انصراف جمهور المصلين بكليتهم إلى العبادة.
وقد أثرت فلسفة كالفان الموسيقية في المذهب البروتستانتي بأسره، بحيث أخذ الموسيقيون يكتبون موسيقى لا تحول الانتباه عن التقوى والإيمان؛ فمن حيث الأسلوب نقلت النغمة الغنائية من الصلوات «التينور» التقليدي إلى أحد الأصوات؛ أي السوبرانو. كما اهتموا باللغات القومية، وأكدوا عنصر البساطة، وحذف أي نوع من الزخرف الفني. ومع ذلك فإن العناصر البوليفونية الغنية التي أضافها «كلود لوجين
Claude Le Jeune » (حوالي 1528-1600م) إلى البروتستانتية كانت مناقضة بالفعل لروح الزهد والبساطة الكاليفونية؛ ففي البروتستانتية كما في الكاثوليكية، وكما سنرى في اليهودية بعد قليل، كان الموسيقيون، على ندرتهم، يطلقون العنان لمشاعرهم، ويرفضون التقيد بتلك التعاليم الجمالية التي وضعها أناس متدينون نصبوا أنفسهم متحدثين باسم الإرادة الإلهية في مجال الموسيقى. ومع ذلك فإن آراء كالفان اللاهوتية والموسيقية مارست ضغطا قويا على العالم اللوثري، وأصبح لها بمضي الوقت تأثير متزمت في نظرة أنصار لوثر أنفسهم إلى العبادة، وإلى الموسيقى.
وقد أدت روح كالفن النارية إلى التحكم في مجرى موسيقى الهوجنوت في فرنسا، وكان لمجموعات الأغاني الدينية الهوجنوتية، التي كان يوجد منها ما يربو على مائة طبعة فرنسية في القرن السادس عشر، تأثير هائل في أوروبا البروتستانتية كلها، وفي المستعمرات الأمريكية؛ ففي إنجلترا عارض كثير من أقطاب البروتستانتية، بنفس القوة، إدخال الفنون في مجال العبادة، وقيدت حرية الأديرة، ودمرت آلاتها الموسيقية بلا رحمة. وقد حاول هنري الثامن (1491-1547م) بعد انشقاقه عن كنيسة روما أن يحتفظ بالطقوس الكاثوليكية. غير أن رجال الدين المتحمسين الذين أيدوا انفصاله عن الكنيسة الأم، لم يقبلوا أن يحول شيء دون إتمامهم لرسالتهم في تخليص إنجلترا من النفوذ البابوي، فذهبوا إلى أن الموسيقى الكاثوليكية تشجع على استعراض البراعة الفنية، ولا تؤكد كلمة الله. ووصفوا الموسيقى الكاثوليكية بأنها معقدة تتحدث بلسان أجنبي. وقد لخصت مطالبهم الفنية في رسالة بعث بها رئيس الأساقفة كرانمر
Cranmer (1489-1556م) إلى هنري الثامن يقول فيها، مشيرا إلى موسيقى الكنيسة: «ينبغي ألا يكون الإنشاد مليئا بالأنغام، بل إن من الواجب - بقدر الإمكان - أن يكون لكل مقطع نغمة، حتى يمكن غناؤه بوضوح وخشوع.» وهكذا كان أقطاب البروتستانتية، شأنهم شأن آباء الكنيسة الأوائل، متفقين على نوع الموسيقى اللازمة للصلاة والعبادة.
وقد قام «المتطهرون» الإنجليز (
) بتسريح المجموعات الغنائية الكاثوليكية، ودمروا آلات الأرغن بالكنائس، وكذلك كتب الغناء الجماعي حيثما وجدوها؛ وذلك تعبيرا منهم عن كراهيتهم المتعصبة للأساليب الموسيقية البابوية، التي ظلت آثارها باقية في شعائر الصلاة، وكانت أفعالهم هذه مبعث أسف شديد في نفس أوليفر كرومويل
Oliver Cromwell (1599-1658م) الذي أظهر مع كثير من أتباع إعجابه بالموسيقى علنا، وكان يدرك بوضوح حاجة الإنسان في حياته إلى التعبير والتذوق الفني. غير أن كرومويل ومساعديه كانوا متفقين تماما مع أتباعهم الأشد تعصبا، على أن الموسيقى إن لم تستبعد من شعائر الصلاة، فمن الواجب على الأقل ألا تؤكد على حساب تهذيب الروح بالكتب المقدسة. وقد أغلق المتطهرون المسارح؛ لأن الموسيقى التي تعزف فيها دنسة تحض على الخطيئة، واعترضوا على عزف الموسيقى وسماعها يوم الأحد، وعلى استخدام الموسيقى المعقدة في شعائر الكنيسة. أما الموسيقى التي تعزف في البيوت فلم يعترضوا عليها، بشرط ألا يكون فيها ما يسيء إلى الفضيلة المسيحية.
وقد وصف إدوارد ونسلو
Edward Winslow (1595-1655م)، وهو أحد مؤسسي «نيو إنجلند»،
15
رحيل الحجاج (المهاجرين) من ليدن في عام 1620م، قائلا: إن جمهرة الناس، في تأثرهم الشديد، أخذوا يغنون المزامير «إذ كان الكثير من أبناء طائفتنا ذوي إلمام عظيم بالموسيقى»، غير أن المطالب المعنوية والصعاب المادية كان لها تأثيرها في الحياة الفنية للمستوطنين وأسرهم؛ فقد جلب الآباء والمهاجرون معهم معرفتهم الموسيقية بالمزامير، وعندما وجد هؤلاء المنشقون على الكنيسة الإنجليزية ملجأ دينيا لهم في عالم جديد، بدأ رد الفعل لديهم على العناصر «البابوية» التي كانوا يعيبونها على البروتستانتية الإنجليزية. وكان القادة الأشد تحمسا للمستوطنين المتطهرين عازمين على استئصال أي أثر للروح الكاثوليكية من كنيستهم، بل لقد كان الكثيرون منهم يعتقدون أن من الواجب عدم غناء المزامير؛ لأنها لم تنزل بوحي إلهي، ورأوا أن تحريمها عمل يرضي الله، ومن هنا حرم المتطهرون الأرغن، واستبعدوا الموسيقى كلها تقريبا، سواء منها الدنيوية والدينية والغنائية والمعزوفة.
والواقع أن مصاعب الحياة العصامية الرائدة، التي أرغمت المستوطنين الأوائل على استغلال كل ذرة من طاقتهم في صراعهم من أجل البقاء لم تترك لهم وقتا للترفيه الدنيوي، وإنما استنفد المتطهرون كل طاقاتهم في اقتلاع الغابات وتمهيد الأرض، وحماية أنفسهم من أعدائهم الهنود الحمر المتربصين بهم. وهكذا أصبح العمل والحذر هو الشعار الذي ينبغي الالتزام به إذا ما شاءوا أن يشيدوا كنيسة في العالم الجديد، بينما نظروا إلى الكسل واقتطاع الوقت من العمل للتسلية على أنه خطيئة. ولقد كان المتطهرون يقرنون الموسيقى بالفراغ، ويرون أن الوقت الضائع في اللهو أو الغناء يمكن الإفادة منه على نحو أفضل في زيادة كفالة الأمن للمتطهرين حتى يعلوا كلمة الرب في الأرض.
وعلى الرغم من أن المتطهرين الأشد تحمسا قد تبرءوا من الموسيقى بكل أنواعها، فلا شك في أن الموسيقى ظلت تعزف وتغنى في البيوت، بل إن العداء الذي كان بعض المتطهرين يبدونه نحو غناء المزامير لم يمنع جماهير المصلين من استخدامها في أدائهم لشعائرهم. وقد ظهرت في أواسط القرن السابع عشر طريقة مبسطة لغناء جماهير المصلين للمزامير.
وفي السنوات التالية أصبحت الموسيقى جزءا لا يتجزأ من شعائر العبادة في المذهب البروتستانتي بجميع طوائفه تقريبا، أما عداء الكالفنيين للموسيقى فكان في الأصل جزءا من رد الفعل الفني على التبهرج الديني للكنيسة الكاثوليكية، على حين أن لوثر كان أميل إلى الطقوس والموسيقى الكاثوليكية من تسفنجلي أو كالفان، وكان ينظر إلى الموسيقى على أنها نغمة سماوية يستطيع بها الإنسان أن يتوجه بالصلاة والشكر لخالقه. ومع ذلك فإن الكالفنيين لم يتخلوا تماما عن التراث الموسيقي الماضي، وإنما كانوا راضين عن موسيقى الفنان الكاثوليكي أورلاندوا دي لاسو، يستخدمونها كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. ومن جهة أخرى فإن الجزويت (اليسوعيين) الذين قادوا حركة الإصلاح المضادة في الكنيسة الكاثوليكية آثروا أن يتمشوا مع الروح الديمقراطية للشعائر البروتستانتية، حتى لو كان ذلك مؤديا إلى التنازل عن بعض تعاليم «لويولا
Loyola »
16
التي أعرب فيها عن ازدرائه للموسيقى . وقد اعترف أتباع لويولا بأن استخدام البروتستانتيين للغات القومية كانت له قيمة نفسية هائلة؛ لذلك رأوا أن من المفيد للكاثوليكية بنفس المقدار تقديم كتب للأغاني الدينية إلى أشياع طائفتهم. وعلى ذلك فقد كانت الموسيقى وسيلة فعالة في أيدي الكاثوليك والبروتستانت معا.
القسم الثالث: أوجه الشبه الجمالية في الموسيقى البروتستانتية والكاثوليكية واليهودية
17
هناك تشابه مؤكد في المفاهيم للموسيقى البروتستانتية والكاثوليكية واليهودية؛ فالموسيقى البروتستانتية والكاثوليكية ترجع جذورها الجمالية إلى الفلسفة الأفلاطونية واللاهوت العبراني. وقد احتفظ البروتستانت بالمفاهيم الموسيقية الأساسية للكاثوليك. كما أن الكاثوليك أنفسهم لم يتخلوا أبدا عن التراث الموسيقي الذي آل إليهم من أسلافهم العبرانيين . ومن الواضح أن هناك روحا أخلاقية وجمالية واحدة تجمع بين تحذيرات الحاخامات اليهود من الأغاني اللاأخلاقية وبين النصائح التي وجهها أفلاطون إلى حراس الدولة.
وهكذا فإن ما كان يبدو مجرد نظرية جمالية في محاورات أفلاطون قد تحول إلى واقع فني فعلي في العصور الوسطى. وقد تم هذا الانتقال من النظرية الجمالية اليونانية إلى التطبيق العملي في العصور الوسطى عندما قام بعض آباء الكنيسة بإدخال أفلاطون في المسيحية الأولى بوصفه حجة معصوما من الخطأ ينبغي أن تتخذ آراؤه في الموسيقى معيارا للحكم في مجال الموسيقى الدينية، فضلا عن الموسيقى الدنيوية. وقد أكد آباء الكنيسة سمات معينة في الآراء الأفلاطونية، هي: (1)
أن للموسيقى تأثيرات أخلاقية قوية. (2)
أن الموسيقى وسيلة عظيمة الفعالية لبلوغ أية حالة انفعالية منشودة. (3)
العلاقة التقليدية بين النص والنغم. (4)
الحملة على التجديد الموسيقي.
على أن هذه النظريات الجمالية الأربع في الموسيقى لم تظل وقفا على الكاثوليك، بل إن التأثير الجمالي الذي مارس التعاليم الأفلاطونية على أفلاطون في العصر اليوناني الروماني، ثم على القديس أوغسطين، كان له صداه في النظريات الموسيقية الجمالية عند لوثر وكالفان بدورهما.
ولقد كان الجانب الذي يهم أفلاطون من الموسيقى هو الجانب الأخلاقي قبل كل شيء. والحق أن التأثير الذي خلفته فلسفته الموسيقية في الأجيال اللاحقة كان هائلا. وإذا لم تكن هناك شواهد على تأثير الموسيقى العبرانية به مباشرة، فإن موسيقى الشعائر الكاثوليكية والبروتستانتية ما زالت تحمل الطابع الأفلاطوني على صفحاتها. وهذا التأثير الأفلاطوني الدائم يمكن أن يؤدي إلى تلك المفاهيم الموسيقية الأربعة التي ذكرناها من قبل، والتي دافع عنها مؤسس الأكاديمية في كتاباته.
ولقد تغلغلت الموسيقى اليونانية في فلسطين، وأصبحت محببة إلى نفوس المثقفين فيها، وهو أمر كان يستاء له قادتها الروحيون كل الاستياء، ولا بد أنها قد أثرت في الحياة الثقافية لليهود في فلسطين تأثيرا هائلا؛ إذ إن القادة الدينيين لجوديا (أرض اليهودية) قد جهروا بالشكوى، قبل هدم «المعبد» من أن الاتجاهات الدنيوية للوثنيين اليونانيين تمارس تأثيرا أخلاقيا فاسدا في الشعب اليهودي. وقد أنذر الزعماء الروحيون لجوديا شعبهم، تحت تهديد العقاب الإلهي ذاته، بالتخلي عن الأغاني اليونانية «اللاأخلاقية» المثيرة للشهوات، والعودة إلى ألحانهم الدينية الخاصة حتى في مناسبات الفرح والابتهاج.
18
كذلك لم يكن آباء الكنيسة، الذين راعوا المسيحية في فترة طفولتها غير المستقرة، أقل حرصا واهتماما بالأوجه الأخلاقية للموسيقى من العبرانيين؛ فقد كان القديس أوغسطين أفلاطونيا إلى حد بعيد في دعوته المسيحيين الأوائل إلى أن يحذروا الأنغام الإباحية المنبعثة عن المسرح الروماني، والتي قد تصرفهم عن الحياة الأخلاقية النقية. وقد أصبح أوغسطين، بعد تحوله المتحمس إلى المسيحية، يعتقد أن الألحان الجذابة التي تسمع في الشوارع والمسارح إنما رجس من عمل الشيطان؛ ومن ثم فإن حكمها حكم الخطايا. وكانت الموسيقى الصالحة الوحيدة في نظره هي الموسيقي الدينية التي تقرب الإنسان من الله بفضل اجتماع الغناء والعبادة في وحدة واحدة. وقد تجلت روح القديس أوغسطين بعد أكثر من ألف سنة في الفلسفة الموسيقية لجان كالفان.
والمسألة الثانية هي الدور الذي قامت به الموسيقى بوصفها وسيلة نفسية لبلوغ غاية انفعالية ودينية واجتماعية منشودة في الفلسفة القديمة والوسيطة، وكان أفلاطون يرى أن الموسيقى ينبغي أن تكون إحدى الوسائل التي ينبغي استخدامها في إقرار الفضيلة والروح الأخلاقية.
ولقد كان أنبياء بني إسرائيل بدورهم ينظرون إلى الموسيقى على أنها أداة لنقل الأفكار، فقالوا لأمتهم: «إن الأغاني المدنسة تدعو إلى الحب والشهوة تكفي لدمار العالم، وإن أغاني بني إسرائيل الدينية كفيلة بإنقاذه، وعلى ذلك فلو كان لديك صوت عذب، فلتسبح للرب بتلك الهبة التي منحك إياها، ولتنشد الشيما
19
Shema ، وتؤم الناس في الصلاة.»
20
وكانوا يرون أن الموسيقى الدينية هي وحدها القادرة على عبور الهوة بين الله والإنسان. وهناك نصوص كثيرة في العهد القديم تتحدث عن الطبيعة الدنيوية للموسيقى، غير أن هذا النوع يميز عادة عن الموسيقى الدينية. وعندما هزمت جوديا (أرض اليهودية) في السنوات المتأخرة أصبحت الموسيقى الدينية والدنيوية للإسرائيليين واحدة لا انفصال فيها، وصارت الموسيقى تقدم للعبراني عزاء عاطفيا يعبر به عن أساه وحنينه؛ فلم تكن تلك الموسيقى تعبيرا عن حالة شعب حر خلاق، وإنما كانت وسيلة للابتهال إلى الرب «ياهوا» لكي يخلصهم من العبودية.
كذلك كان أكثر ما يهتم به أوغسطين، في مجال الموسيقى، هو قدرتها على إدخال الوثني في حظيرة الدين، وإمكان استخدامها وسيلة نفسية تساعد على تقوية الحماسة الدينية للمؤمن العادي، فإذا كانت الموسيقى التي تغنى بها «مزامير داود» تجذب الناس إلى الكنيسة فعندئذ تكون الموسيقى، في رأي القديس أوغسطين، قد أدت غرضا نافعا.
وكان لوثر ينظر إلى الموسيقى على أنها لغة إيقاعية لها قدرة تفوق قدرة النثر على تعليم الناس، وتقريب فكرة الله إلى أفهامهم. وعلى الرغم من أن لوثر ذاته كان موسيقيا «أصيلا» فإن نظرياته الجمالية كانت تحفل بآراء لاهوتية تذكرنا تماما بالقديس أوغسطين. صحيح أن التفكير الموسيقي البروتستانتي، في مرحلته المتقدمة، كانت له عقيدته الفنية، غير أن هذه العقيدة، كانت مبنية على حاجات دينية وتنظيمية قريبة الشبه من أساليب الكنيسة الكاثوليكية إلى حد كبير؛ فقد كان على قادة حركة الإصلاح، شأنهم شأن أسلافهم الكاثوليك، أن يستغلوا كل وسيلة ممكنة للانتفاع بالقوى الانفعالية والنفسية في الإنسان من أجل تحقيق أغراضهم، وكان لوثر يرى في الصلات الكامنة للموسيقى وسيلة هامة لمساعدة الحركة البروتستانتية على النجاح في ألمانيا.
أما المسألة الثالثة فهي علاقة اللحن بالنص الكلامي في موسيقى القدماء والعصور الوسطى. وقد ظل أفلاطون متمسكا على الدوام بالرأي اليوناني التقليدي القائل إن الشعر والنغم ينبغي ألا ينفصل أحدهما عن الآخر، وأكد القيمة الأخلاقية للنص عن طريق إخضاع القالب الموسيقي للشعر.
كذلك كان الفلاسفة في عمومهم يعدون اللحن خاضعا لمقتضيات النص؛ ففي الموسيقى اليهودية كانت الأهمية الأولى للنص، وكان الاستخدام الرئيسي لموسيقى الآلات هو مصاحبة الغناء وتجميله، بل إن الحاخامات كانوا ينظرون إلى الآلات الموسيقية بعين الارتياب؛ لأن هذه الآلات تتيح للمغنين والراقصين اليهود محاكاة أشكال العبادة الوثنية في المعبد. كما رأى الحاخامات أن الكتب الدينية أهم في العبادة من البدع اللحنية الزائفة والموسيقى المصاحبة لهذه النصوص.
وقد أكد القديس أوغسطين أنه يفضل الاقتصار على استخدام نصوص التوراة والإنجيل في الموسيقى الدينية، وبرغم أنه لم يحرم رسميا استخدام نصوص التوراة والإنجيل بعد تعديلها وفقا للألحان الشعبية السائدة في أيامه، فقد كان يدرك بوضوح أن اللحن الذي يسهل تداوله يمكن أن يرى بين الجماهير بسرعة. وعلى ذلك فالفضيلة الوحيدة التي يمكن أن تشفع للألحان الشعبية أو الأغنيات المتداولة في الطرقات هي ارتباطها جماليا بفقرة من النصوص الدينية على نحو يتيح للمسيحي العادي أن يزداد معرفة بالنص الروحي أو الديني. وإذن فقد كان آباء الكنيسة يرون أن للنص الأفضلية على اللحن، وقد ظل المدرسون في القرون التالية متمسكين بهذا الرأي.
ولقد كانت التعاليم الموسيقية التي فرضها كالفان على البروتستانتية الفرنسية بما فيها من تزمت وإنكار للذات، مثلا من أبرز أمثلة التزييف في التاريخ الحضاري لفرنسا؛ فقد كانت فرنسا هي أول بلد تطور فيه فن «الأورجانوم
Organum » حتى أصبح نوعا من الكتابة البوليفونية الراقية. وكان «الموتيت» على الأرجح هو أشهر شكل من أشكال الأسلوب الكنترابنطي استحدثته مدرسة كاتدرائية نوتردام بباريس في أواخر القرن الثاني عشر وفي القرن الثالث عشر. ومع ذلك كله فبعد حوالي ثلاثمائة عام من اعتلاء فرنسا عرش الموسيقى في أوروبا، نرى موسيقى الهوجنوت (البروتستانت الفرنسيين) تنحط إلى مرتبة الدعابة التبشيرية التي تهدف إلى نشر العقيدة البروتستانتية الجديدة؛ فقد طلب كالفان من الموسيقيين البروتستانت أن يقصروا جهودهم الخلاقة على وضع تآلفات هارمونية للمزامير، ولم يسمح إلا بأبسط أنواع الغناء لجمهور المصلين بقصد أداء الشعائر فحسب. وقد أباح على مضض، بعض التوزيعات البوليفونية للنصوص الدينية، وإن يكن قد اشترط أن يغنى هذا النوع المعقد من الموسيقى داخل البيوت وبين الأصدقاء، وحتى في هذه الحالة الأخيرة حذر كالفان الناس قائلا إن عليهم أن يتذكروا أنهم إنما ينشدون الكلم الديني.
أما آخر المفاهيم الأربعة فيتعلق بعنصر التغير في موسيقى العصور القديمة والوسطى. ولقد كانت حملة طاليس القديمة المشهورة على أساطير هوميروس من حيث هي تشويه للحقيقة أقدم مثال نددت فيه الفلسفة السابقة على سقراط بالتحرر والجديد الفني؛ فقد رأى أبو الفلسفة القديمة أن الفيلسوف أقدر من الفنان على تمييز الطبيعة الأصلية للحقيقة من البطلان، ولكن الذي حدث، على العكس من ذلك، هو أن الفيلسوف والكاهن كانا في معظم الأحيان حائلا يقف في وجه تطور التيارات الفنية على مر القرون. وأثبت الزمن أنهما نبيان زائفان، على حين أن الفنان الذي نددا به ب «حكمتهما» لم تقتصر مقدرته على التبصر بحقيقة عصره، بل لقد استطاع أن يستبق حاجات المستقبل ويتكهن بها.
ولقد كان كبار رجال الدين اليهود يرتابون بالمثل في المؤثرات المارقة التي يمكن أن تؤثر في الشريعة والطقوس اليهودية، وسرعان ما فرضوا رقابتهم على الأفكار الجديدة في ميادين الفن والفلسفة واللاهوت، ولكن القادة الروحيين لليهود لم ينجحوا تماما في وأد الاتجاهات الجديدة، سواء في الفترة السابقة على المسيحية أم بعد أن أجبر اليهود على أن يتشردوا في البلاد الأخرى. ولقد كان للحضارات الأجنبية تأثيرها القوي في هؤلاء اليهود المشردين، كما أثر اليهود بدورهم في البلاد التي آوتهم. ومع ذلك فقد ظل حاخامات اليهود يحضون أبناء طائفتهم على ألا يحاكوا أساليب البلاد التي وجدوا أنفسهم فيها، فانطلقت أصوات هؤلاء الحاخامات محذرة من أن ابتعاد الموسيقى الغربية الأجنبية عن الحياة اليهودية ليس أقل من ابتعاد اللاهوت المسيحي عن «العهد القديم» (التوراة). ولقد كان أشد ما استاء منه الحاخامات، خلال سنوات التشرد الطويل هذه، هو تلك الاتجاهات الدنيوية المتحررة التي كانت تتسلل من آن لآخر إلى الشعائر اليهودية. وكان إدخال أناشيد جديدة إلى الكنيس يثير في كل الأحوال موجة من السخط على التجديد وتحدي التقاليد، بل إننا نجد الحاخامات في ألمانيا يشكون مر الشكوى، في عهد متأخر هو القرن السادس عشر، من أولئك المنشدين الذين أخذوا يتخلون عن الألحان الدينية القديمة الموروثة عن آبائهم.
وقد أعرب أوغسطين عن قلقه الشديد من أن تؤدي التغيرات الشعبية في الموسيقى الشعائرية بمضي الوقت إلى التأثير في قداسة الشعائر ذاتها. وكان يعتقد أنه لما كانت الأنغام والألحان الشعبية والاتجاهات التجديدية في الموسيقى ترجع في أصلها إلى مصادر وثنية، وإلى الجماهير الجاهلة، فلا بد أن يؤدي إدخال هذه الألحان الدنيوية في الطقوس الدينية إلى رفع شأن الفن الوثني بدلا من الفضيلة المسيحية. وهكذا انتهى أوغسطين إلى أن من واجب مؤلفي الموسيقى الدينية أن يقصروا مواهبهم الخلاقة على القوالب الكنسية الخالصة إذا شاءوا أن يخدموا أغراض المسيحية. وقد بلغ من إعجاب البابا جريجوري الأول بهذه الحجة الأوغسطينية أنه استهل حملة للمحافظة على الموسيقى الكنسية التقليدية بحمايتها من جميع المؤثرات الخارجية التي قد تتسم بطابع جسدي أو لا ديني.
أما لوثر فلم يكن معارضا للتغيير في الموسيقى، ولكنه كان يؤكد ضرورة تمشي هذا التغيير مع حاجات المذهب البروتستانتي. ولقد كانت لديه فكرة واضحة عن نوع الموسيقى الذي تحتاج إليه الكنيسة البروتستانتية لكي تتحرر تماما من المؤثرات البابوية، فإذا شاء أن يلقى استجابة مباشرة من الشعب الألماني، فعندئذ لن تعود اللغة اللاتينية ولا الأناشيد الجريجورية هي أفضل الوسائل للوصول إلى قلب الإنسان العادي. ولتحقيق هذا الهدف أحل لوثر اللغة الألمانية محل اللغة اللاتينية المستخدمة في الشعائر الكاثوليكية، واختار بدلا من الأناشيد الجريجورية المعقدة موسيقى أبسط وأقل تبهرجا وأقرب إلى الأغاني الشعبية الألمانية.
وهكذا نجد أن الأقطاب الإسرائيليين كانوا متفقين مع اليونانيين في معارضتهم للمؤثرات الأجنبية؛ فقد كانت الدولة والعقيدة شيئا واحدا في نظر اليونانيين واليهود، وأية بدعة دينية يمكن أن تهدد الدولة بالخطر، فلا غرو إذن أنهم حافظوا على الموسيقى في معابدهم بنفس الحرص الذي كان حراسهم يرقبون به كل دخيل عليهم.
وقد دأب آباء الكنيسة على نصح رعيتهم بأن تعير أذنا صماء للألحان الرومانية التي تحط قدر المسيحية الحقة. وعملت الكنيسة، منذ أول عهدها حتى القرون المتأخرة، على محاربة كل اتجاه من الجماهير إلى إدخال ألحان دنيوية في شعائر الصلاة، غير أن الشعوب أصرت على إدخال الألحان الشعبية في دور العبادة، وتعلم رجال الدين الكاثوليك كيف يحنون رءوسهم، ويقبلون التيارات الموسيقية الجارفة. وإذا كانت الكنيسة أكدت ضرورة التمسك بالتراث والبساطة، فإن موسيقييها المدنيين أنفسهم لم يملكوا إلا أن يوجهوا بعض طاقاتهم الإبداعية لخلق قوالب جديدة.
ولقد كان القديس أوغسطين أقدر آباء الكنيسة جميعا في الدفاع عن الاتجاه الأفلاطوني الذي تغلغل في موسيقى الكنيسة في عهدها المبكر. وقد سبق أن لاحظنا أن أفلاطون كان فنانا مبدعا أصدر على الموسيقى أحكاما كانت قاسية متزمتة في كثير من الأحيان. ومثل هذه المفارقة التي يتسم بها الفيلسوف الميال بطبيعته إلى الفنون تتمثل بصورة أعنف، ولكنها أكثر واقعية، عند أوغسطين؛ ذلك لأن النظريات الفلسفية التي عرضها أفلاطون في الجمهورية و«القوانين» وغيرها من المحاورات لم توضع موضع التنفيذ في عصره، أما عندما نصل إلى القرون الأولى للمسيحية، فإنا نجد أوغسطين يدافع عن هذه النصائح الأفلاطونية الصارمة إلى حد أنها أصبحت بفضله أنموذجا للمبادئ الأخلاقية التي تميزت بها موسيقى العصور الوسطى، حتى وقت ظهور النزعة الإنسانية في الحضارة الغربية بعد حوالي ثمانمائة عام من ذلك.
ولقد كان أوغسطين في شبابه معلما للبلاغة، ثم أصبح من شراح الشعر المشهورين. وقبل تعميده بوقت ما بدأ يكتب بحثا «في الموسيقى» اتسم بلهجة صوفية رفيعة، وخصص قبل كل شيء لبحث الوزن والنظم والنظريات المتعلقة بالأعداد. وقد حاول أوغسطين قرب نهاية ذلك الكتاب الذي يتألف من ستة أبواب أن يحلل الموسيقى بطريقة يمكننا في أيامنا هذه أن نسميها بالطريقة النفسانية. واللهجة العامة للبحث تجمع بين الفيثاغورية في بحثه للعلاقات العددية، وبين الأفلاطونية في تعاليمه الأخلاقية السطحية. وفي هذا البحث، وكذلك في الملاحظات الأخلاقية المتعلقة بالموسيقى في كتاب «الاعترافات»، تبلور الفكر الكاثوليكي الرسمي بشأن وظيفة الموسيقى في الكنيسة والدولة.
ولقد انتهت الروح الإنسانية التي سادت العالم الغربي نتيجة لبعث تعاليم أرسطو من جديد، انتهت نهاية مؤسفة من الوجهة الموسيقية بانعقاد مجمع «ترنتينو
Trent » والمحفل البابوي في عام 1564م. وأغلب الظن أن أقطاب الكنيسة الكاثوليكية أرادوا تطهير صفوفهم فنيا ولاهوتيا، وهذا يعني العودة إلى الأساليب البسيطة المستخدمة في الماضي. هكذا رأى الجمع أنه إذا كان أرسطو يخدم أغراض الكنيسة في شئون اللاهوت، فإن من الواجب، في مجال الموسيقى، سماع صوت أفلاطون كما تردد صداه عند القديس أوغسطين. وكانت النتيجة هي الإبقاء على الموسيقى البوليفونية المستخدمة لأغراض العبادة، غير أنهم جعلوا استمرارها في الشعائر مرهونا بتحفظات عقلية معينة. وهكذا لجأت الكنيسة مرة أخرى إلى أسلوب الحلول الوسطى نحو تلك الاتجاهات الفنية التي لم يكن يسعها إلا قبولها. وقد مرت البروتستانتية بنفس المراحل من الأخطاء التي ترتكب في حق الموسيقى، وكررت هذه المغالطات الجمالية المدرسية بدلا من أن تتخلص منها.
ولقد واجه لوثر موقفا محرجا في محاولته جمع قائمة من الألحان الشعائرية والبروتستانتية؛ فعلى الرغم من أنه كان دون أدنى شك متحمسا ثوريا في مجال الدين، فإنه لم يكف أبدا عن الإعجاب بالموسيقى البوليفونية الفنية في المذهب الكاثوليكي؛ لذلك اقتبس ألحانا من التراتيل الأمبروزية ومن «السكوينسات» (
sequences ) الشائعة في العصور الوسطى، ومن الأناشيد الجريجورية للكنيسة الكاثوليكية. وقد أعيد تشكيل هذه الألحان، وبسطت وغيرت، بحيث تلائم أغانيه الكورالية الفخمة. كذلك أخذ لوثر الألحان الشعبية الألمانية وأدمجها بالموسيقى الروحية للعقيدة البروتستانتية. ولسنا نعلم عن يقين إن كان لوثر وضع بنفسه هذه الموسيقى أم أشرف على توجيه ذلك النشاط الموسيقي، ولكن لا بد أنه قد أظهر فهما وحبا عميقا للموسيقى، وهو أمر تكشف عنه كتاباته بوضوح.
أما كالفان فكان يرتاب في نظريات لوثر المتحررة في الموسيقى. وكما حذر آباء الكنيسة المسيحيين الأولين من الألحان الوثنية، كذلك أخذ كالفان على عاتقه، بروح متعصبة، أن يمحو من الوجود كل ما تبقى من آثار الموسيقى الكاثوليكية في المذهب البروتستانتي، وبذلك ارتكب خطأ لا يغفر، هو خنق الملكات الإبداعية، وإرجاع موسيقى الهوجنوت إلى أكثر القوالب بدائية. وهكذا فإن فلسفته الموسيقية، التي كانت تستهدف العودة إلى روح البساطة المسيحية الأصلية وتخليص البروتستانتية من الشعائر والطقوس المعقدة، قد بلغت من التزمت ما بلغته من قبل فلسفتا أفلاطون والقديس أوغسطين.
الفصل الخامس
الفلسفة الجمالية للموسيقى في عصر
الباروك
القسم الأول: الأوبرا والدراما اليونانية
في كل انتقال من عصر موسيقي إلى آخر يحدث دائما انقسام في الرأي بين مبدعي الموسيقى وبين نقادها؛ ففي سنة 1600م ألف ناقد وباحث موسيقي نظري وقسيس اسمه «جوفاني ماريا أرتوزي
Giovanni Maria Artusi » كتابا بعنوان «بحث في نقائص الموسيقى الحديثة»، وفي هذا الكتاب أعرب عن أسفه لانقضاء عهد الموسيقى التقليدية. وبعد عامين وصف الموسيقي والمغني جوليو كاتشيني
Giulio Caccini (المولود سنة 1550م) المجموعة التي ألفها من «المادريجالات» و«الكانزونيتات
canzonets » بأنها موسيقى حديثة
Nuove Musiche
وبعد ذلك بثلاث سنوات كتب «كلاوديو مونتيفردي
Claudio Monteverdi » (1567-1643م) الذي ألف أول أوبرا تستحق الاهتمام، والذي ربما كان أعظم من ألف «المادريجال» حتى اليوم، يقول في كتابه الخامس من المادريجالات إنه لم يتبع تعاليم المدرسة القديمة، وإنما استرشد بما أسماه بالاتجاه الثاني أو المدرسة الجديدة. وكان مونتيفردي في ذلك يرد على حملة الناقد «أرتوزي» على الفلسفة الموسيقية الجديدة؛ فقد أكد أرتوزي، في دفاعه عن الموسيقى التقليدية، أن مونتيفردي اهتم أكثر مما ينبغي بدور التنافر الهارموني (
dissonance ) في موسيقاه. أما مونتيفردي فرد بقوله: إن المعايير الجمالية للمدرسة الأولى أو القديمة لا يمكن تطبيقها عند تقدير المدرسة الجديدة أو الثانية.
1
ومهما كان من أمر الخلاف بين أنصار المدرسة القديمة؛ أي مدرسة عصر النهضة، وبين التقدميين من أنصار الفلسفة الموسيقية الجديدة في عصر الباروك، حول موضوع القواعد اللحنية، فقد بنى الفريقان معا أفكارهما الجمالية على النظرية الأفلاطونية القائلة إن الفن محاكاة للطبيعة؛ أي إن موسيقيي عصر النهضة وعصر الباروك قد اتبعوا هذا المذهب القديم، وحاولوا خلق مجموعات موحدة من الأنغام الموسيقية تحاكي الانفعالات البشرية والظواهر الطبيعية. وكان أرسطو في كتابه «السياسة»، وكذلك نيكولاس دي كوزا في أوائل عصر النهضة، قد كتبا عن مذهب المشاعر في صلته بالموسيقى، فاستخدم موسيقيو عصر النهضة هذا المذهب بحذر، ببساطة واضحة، أما موسيقيو الباروك فقد ذهبوا إلى حد التطرف في الطريقة التي عبروا بها عن المجموعة الكاملة للمشاعر تطبيقا لهذا المذهب. كذلك ذهب موسيقار عصر الباروك في تأكيده للكلمات الهامة في النص عن طريق التنافر النغمي والأنغام الكروماتية إلى أبعد مما بلغه موسيقار عصر النهضة. كما أدت البراعة المتزايدة في العزف وتطور الآلات الموسيقية، إلى إتاحة وسائل أفضل يستطيع بها الموسيقي في عصر الباروك أن يجمل الكلمة المكتوبة، ويؤكد معناها عن طريق زيادة المشاعر حدة.
وفي عام 1581م نشر فينشنزو جاليلي
Vincenzo Galilei
أبو العالم الطبيعي المشهور (جاليلو جاليلي) بحثا بعنوان «محاورات في الموسيقى القديمة والموسيقى الحديثة
Dialogo della. Musica antica e della moderna » ولخص هذا البحث الفلسفة الموسيقية لجماعة أدبية تسمى «الكاميراتا»
camerata
وهي جماعة كانت قد آلت على نفسها أن تطبق المثل العليا الجمالية للفلسفة اليونانية على الموسيقى الإيطالية، وقد تزعمها الكونت جوفاني باردي
Giovanni Bardi
والكونت جاكوبو كورسي
Jacopo Corsi ، وكانت تضم من بين أعضائها المشاهير الشاعر أوتافيو رينوتشيني
Ottavio Rinuccini
والموسيقارين جاكوبو بيري
Jacopo Peri (1561-1633م) وكاتشيني
Caccini . وقد ذهب جاليلي في بحثه إلى أن فن البوليفونية هو علة تدهور الموسيقى، ولا بد من التخلص منه، كما كان يعتقد أن الموسيقى الوصفية غير واقعية، وهي تحفل بالمحاكاة الزائفة. وقد عبر جاليلي عن الفلسفة الموسيقية لجماعة الكاميراتا بقوله إن من الضروري إيجاد أسلوب جديد موحد النغمات (مونودي) إذا شاءت الموسيقى الإيطالية أن تتمشى مع المثل العليا الأفلاطونية للموسيقى اليونانية.
ولم يكن جاليلي موسيقارا واسع العلم، ولكنه كان رغم ذلك متعدد المواهب. ويبدو من حملته على الاتجاهات الحديثة في الموسيقى، بما فيها من تأكيد للبوليفونية، أنه كان أهم شخصيات هذه الحركة عند بداية ظهورها. وقد هاجمت جماعة الكاميراتا الطريقة التي تعامل بها الكلمات في موسيقى عصر النهضة بقولها إن الموسيقى الكنترابنطية تؤدي إلى «تقطيع أوصال» الشعر؛ لأن الأصوات الفردية تغنى ألحانا مختلفة في آن واحد، وأكدت هذه الجماعة أن من الواجب في الموسيقى محاكاة معنى فقرة كاملة لا كلمة واحدة. وهكذا أنشئ أسلوب التلاوة «الريتشيتاتيفو» (
recitative )، والذي تترك فيه الكتابة الكنترابنطية جانبا تماما، حتى تضع الموسيقى للكلمات، وتتحكم الكلمات في الإيقاع الموسيقي، وفي القفلات (
cadences ) كما هي الحال في الأسلوب المثالي عند اليونانيين.
2
ولقد كان أعضاء جماعة الكاميراتا يعتقدون حقا أن اليونانيين كانوا يغنون النص الكامل لمسرحياتهم. ولما كانوا هم ذاتهم أنصارا لأفلاطون يمجدون الماضي، فقد سعوا إلى إحياء ما اعتقدوا أنه فن مفقود من العصر اليوناني القديم؛ لذلك كرسوا جهودهم الخلاقة لاستحداث نوع من أنواع الفن تعمل فيه الموسيقى على تجميل الكلمة المنطوقة، وعلى دعم الحركات الدرامية للممثل، بحيث يؤدي الزواج الروحي بين الموسيقى والدراما إلى بعث المثل الأعلى اليوناني لفلسفة أفلاطون الجمالية. وقد وجد أعضاء هذه الجماعة في كشف جاليلي لأنشودة «ميزميدس
Mesomedes » أول دليل على أصالة الموسيقى اليونانية، ولكن لما كان أعضاء هذه الجماعة الأدبية قد عجزوا عن فك رموز التدوين اليوناني، فإنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئا سوى التكهن بما عسى أن يكون مضمونها. وقد أصبح «رينوتشيني» أول كاتب لنص أوبرا، وذلك حين لبى طلب جماعة «الكاميراتا» في كتابة تراجيديا مبنية على المبادئ الجمالية اليونانية، فألف قصيدة درامية عنوانها «دافني
Dafne » وضع موسيقاها «بيري
»، وعرضت في بيت الكونت كورسي في فلورنسا حوالي عام 1594م. ولم يبق لنا من «دافني» الأصلية سوى النص فحسب؛ إذ إن الموسيقى للأسف قد فقدت، ثم ألف رينوتشيني وبيري، وقد شجعهما نجاح الأوبرا الأولى، عملا ثانيا هو «أوريدتشي
Eurydice » بالاستعانة بتوزيعات موسيقية قام بها كاتشيني. وقد عرضت هذه الأوبرا الأخيرة عام 1600م؛ احتفالا بزواج هنري الرابع (ملك فرنسا) من ماريا دي مديتشي في فلورنسا.
وقد استحدثت جماعة الكاميراتا فن «التلاوة الريتشيتاتيفو
recitative » على أساس الاعتقاد القائل: «إن الموسيقى ينبغي أن تحاكي طريقة كلام الخطيب وأسلوبه في تحريك مشاعر الجمهور.» وكان كاتشيني مخلصا لرأي أفلاطون القائل إن الموسيقى كلام وإيقاع أولا ولحن أخيرا.
3
كذلك رأى بيري أن على الموسيقي أن يحاكي الشخص المتكلم في الأغنية. وقد ذهب جاليلي وباردي إلى أن من واجب الموسيقار أن يتعلم من الخطيب كيف يحرك المشاعر، وكتب بيري في مقدمته ب «أوريديتشي» يقول إنه كان يحاول تعديل الموسيقى الغنائية تبعا للكلام البشري.
وكان مارسيليو فيتشينو، الأفلاطوني الصميم في أكاديمية فلورنسا، قد أعرب عن الرأي القائل إن الشاعر والخطيب يتخذان من الموسيقار أنموذجا لهما. وفي هذه الحالة كان فيتشينو منتميا إلى عصر النهضة أكثر مما كان أفلاطونيا متحمسا. كذلك دافع «زارلينو
Zarlino » عن الفلسفة الجمالية لعصر النهضة، ولكنه ذهب إلى أن فن الشعر والموسيقى طريقتان مستقلتان من طرق التعبير. وقد وجدت آراء زارلينو في فن البوليفونية قبولا لدى جماعة الكاميراتا؛ إذ إنه كتب يقول إن الموسيقى البسيطة لصوت واحد تحرك القلب على نحو أعمق مما يحركه «الكنترابنط» المعقد. غير أن زارلينو كان يختلف عن جماعة الكاميراتا الفلورنسية في رأيه عن علاقة الموسيقى بالشعر؛ ذلك لأن موسيقار عصر النهضة كان يرى أن «التلاوة» (الريتشيتاتيفو) هي في أساسها موسيقى غنائية وضعت لنص كلامي، ولكن موسيقي عصر الباروك كان يرى أن التلاوة هي قبل كل شيء نص كلامي تحمله الموسيقى. أما زارلينو فرأى أن الموسيقى ينبغي أن تثير من المشاعر ما تثيره الكلمات، ولكنه أكد وجود فارق أساسي بين أسلوب الشاعر وأسلوب الموسيقي.
4
وهكذا كانت الأفكار الجمالية لفيتشينو وزارلينو تمثل الآراء التقليدية لعصر النهضة، وكانت آراء أعضاء جماعة الكاميراتا تمثل الفلسفات الموسيقية في أوائل أيام عصر الباروك.
على أن الدراما الموسيقية الجديدة التي استحدثتها جماعة الكاميراتا لم تكن نسخة مطابقة للتراجيديا الكلاسيكية أو بعثا لها من جديد؛ فقد كانت الأوبرا الأولى بالفعل مسرحية ريفية وضعت لها موسيقى. وكان أعضاء الكاميراتا يعتقدون بالفعل أنهم قد حرروا الموسيقى من سيطرة البوليفونية. وقد يبدو عند إمعان التفكير في الأمر أن أعضاء الكاميراتا انتقلوا من موقف متطرف إلى موقف متطرف متضاد؛ إذ إنهم خلقوا فنا تسيطر عليه الكلمات، وتقتصر فيه مهمة الموسيقى على دعم الكلمة المنطوقة، فكانت النتيجة أن أوبرات جماعة الكاميراتا كانت كلها تقريبا تلاوات
recitatives
مطولة، حاولت أن تلائم بين الكلمة المنطوقة وبين الموسيقى المصاحبة لها.
وقد ذهب أنصار الاتجاهات التقليدية إلى أن جماعة الكاميراتا الفلورنسية كانت بالفعل تؤخر تطور الموسيقى؛ لأنها تعمدت تجاهل فن بالسترينا والقواعد المعمول بها في البوليفونية. وقال أصحاب هذا الرأي إن إغفال التأثيرات الفنية التي حققها بالسترينا عن طريق البوليفونية التقليدية لا يمكن إلا أن يؤدي إلى إرجاع الفن والأسلوب الموسيقي لجماعة فلورنسا، وكذلك قدرتهم الخلاقة، إلى الوراء. وانتهى أنصار الاتجاهات التقليدية، الذين كان أرتوزي هو المتحدث باسمهم، إلى أن من الواجب أن تكتب الموسيقى، لا على أساس نظريات كتلك التي وضعتها هذه الجماعة، بل على أساس قواعد مبنية على التوافقات والإيقاعات التقليدية.
وقد حل موتيفردي الصراع بين أنصار الاتجاهات التقليدية وأنصار الاتجاهات الحديثة عن طريق اتباعه للأسلوب المحافظ في إبقائه على الموسيقى البوليفونية، وفي الوقت ذاته اتجه اتجاها ثوريا لا شك فيه، في طريقة استخدامه لها «فهو مثل جماعة الكاميراتا قد أكد مبدأ أسبقية الكلمات الهارمونيا، ولكن هذا المبدأ أدى لديه إلى نتيجة مضادة تماما؛ لأنه طبقه على البوليفونية لا ضدها كما فعلت جماعة فلورنسا.»
5
وهكذا كان كلاوديو مونتيفردي، لا جماعة الكاميراتا الفلورنسية، هو الذي أحيا، فنيا، روح التراجيديا القديمة، وخلق دراما موسيقية في الحضارة الغربية، وقد شغل مونتيفردي أولا وظيفة رئيس أو عريف الشمامسة وقائد الفرقة الموسيقية في كاتدرائية سان مارك بفينيسيا عام 1612م. ولم تكن الأوبرا قد دخلت فينسيا بعد في وقت وصوله، بل إن افتتاح أول أوبرا للجمهور في فينسيا لم يتم إلا في عام 1637م، وفي السنوات الواقعة بين وصول مونتيفردي إلى سان مارك وبين بداية عهد الأوبرا في فينسيا اضطلع بمهامه في قيادة الفرقة الموسيقية للكاتدرائية المشهورة، وتأليف موسيقى كنسية. وفي عام 1630م اجتاح جمهورية البندقية الواقعة على البحر الأدرياتي وباء شديد، لم يترك مجالا كبيرا للاستمتاع بالفن أو إبداعه. وبعد عامين، رسم مونتيفردي قسيسا بالكنيسة، غير أن اعتزاله العالم في مجموعه لم يكن إلا اعتزالا مؤقتا؛ ذلك لأن دخول الأوبرا في حياة فينسيا قد لقي من الإقبال والحماسة ما كان من المستحيل معه أن تظل القوى الخلاقة في نفس مونتيفردي خاملة.
ولقد كان مونتيفردي يصور في موسيقاه آلام البشر وعجز الإنسان عن السيطرة على انفعالاته. وكانت مؤلفاته الموسيقية تنصب على عواطف الإنسان ومشاعره وآلامه، ولكي يحقق هذا الغرض استخدم من الإيقاعات والتوافقات ما أثار حفيظة أنصار القديم، فهاجمه «أرتوزي» على هذه التجديدات، ولا سيما على التجائه إلى استخدام التنافر الهارموني
dissonance
دون أن يتبعه بتآلف يعتبر حلا له. وأدت به آراءه الأفلاطونية إلى أن يكتب عن موسيقى مونتيفردي قائلا إنها «بقدر ما أدخلت قواعد جديدة ومقامات جديدة، وصياغات جديدة للعبارات الموسيقية، كانت خشنة لا تسر الأذن، وما كان لها أن تكون غير ذلك؛ إذ إنها بقدر ما تخرج عن القواعد السليمة - وهي القواعد المبنية من جهة على التجربة، وهي أصل الأشياء جميعا، والتي تلاحظ من جهة أخرى في الطبيعة، ويثبتها البرهان من جهة ثالثة - فمن الواجب أن نرى فيها تشويها للطبيعة وللتوافق المنشود، بعيدا كل البعد عن غاية الموسيقى ...»
6
على أن مونتيفردي بدوره قد وجد في كتابات أفلاطون تبريرا فلسفيا لأفكاره الجمالية الجديدة، فقال: «لقد وجدت، بعد إمعان الفكر، أن الانفعالات الرئيسية التي تنتاب نفوسنا ثلاثة؛ الغضب، والاعتدال، والتواضع أو التوسل
supplication . هذا ما أعلنه أفضل الفلاسفة، وما تثبته طبيعة صوتنا ذاته بما فيها من طبقة مرتفعة وطبقة خفيضة، وطبقة وسطى. كما يدل فن الموسيقى على ذلك بوضوح في استخدامه للألفاظ ب «قلق
agitato » وب «عذوبة
dolce » وب «اعتدال
moderato ». والحق أنني وجدت في كل أعمال الموسيقيين السابقين أمثلة ل «العذب» و«المعتدل
moderato »، ولكني لم أجد أبدا أمثلة ل «القلق
agitato »، مع أنه وصفه أفلاطون في الكتاب الثالث من «الخطابة»
7
بقوله: «لتأخذ ذلك الانسجام الذي يصلح لمحاكاة أقوال ولهجة رجل شجاع مشتبك في حرب.» ولما كنت أدرك أن الأضداد هي أقدر الأشياء على تحريك نفوسنا، وأن هذا هو الهدف الذي ينبغي أن تتجه إليه كل موسيقى جديدة - كما أكد بويتيوس حين قال: «إن للموسيقى صلة وثيقة بنا، وهي إما أن تزيد شخصيتنا نبلا أو فسادا.» - فقد أخذت على عاتقي، بجهد وعناء غير قليل، أن أكشف هذا النوع من جديد.»
8
وقد توسع مونتيفردي في استخدام التآلفات (الهارمونيات) في التعبير عن النصوص الشعرية. وكان يعتقد أن على الهارمونيا أن تحاكي مفهوم النص، ولا سيما حين يكون الأمر متعلقا بانفعالات بشرية. وقد استخدم التآلفات والاصطحاب الهارموني، لا من حيث هما غاية في ذاتها، بل لتحقيق علاقة تعبيرية بين النغم والكلام. وعلى حين أن موسيقى جماعة الكاميراتا الفلورنسية كانت تخدم النص، فإن مونتيفردي قد استخدم الموسيقى لإظهار المعنى الكامن في النص على نحو أكمل، وكان يعتقد أن الموسيقى ينبغي أن تتشكل وفقا لمعنى الألفاظ. وكانت طريقة مونتيفردي في فهم وظيفة النص متمشية مع آراء جميع موسيقيي عصر الباروك؛ إذ إنه وضع مجموعة من التعبيرات الموسيقية لتصوير انفعالات وأفعال بشرية محددة.
ولقد أصبح «مذهب المشاعر
affections » السائد في القرن السادس عشر أوضح ظهورا في الأبحاث الخاصة بالفلسفة الجمالية الموسيقية في الفترة المتأخرة من عصر الباروك. وعلى حين أن الفلاسفة والباحثين النظريين بوجه عام قد اهتموا بالطبيعة العملية والوظيفة الأخلاقية للموسيقى، فإن الموسيقيين أكدوا أن العنصر الهام إنما هو صوت الموسيقى وطريقة استجابة السامع لها.
ولقد استخدم موسيقي عصر الباروك «مذهب المشاعر» في البداية لتأكيد دلالات النص الكلامي، وزيادة فعالية اللحن الموضوع. غير أن «مذهب المشاعر» ازداد بمضي الوقت ثباتا وتشابها، حتى أصبح الموسيقيون يستخدمون تعبيرات موسيقية موحدة لإثارة انفعالات معينة، وبعث صور متوهمة في النفوس. وقد أدت هذه الطريقة العقلية في خلق فئة من المؤثرات الموسيقية لوصف الحب والشفقة والكراهية، أو بعث حالة نفسية تتلاءم مع الأفعال المطلوب تصويرها، أدت هذه الطريقة إلى تشويه التوازن الذي وضعه اليونانيون بين النص واللحن. وكان تأكيد أعضاء جماعة الكاميراتا لوجوب إخضاع الموسيقى للألفاظ في الأوبرا مظهرا من مظاهر هذا الافتقار إلى التوازن بين النص واللحن. ولو كانت النظريات الجمالية لجماعة الكاميراتا قد طبقت إلى آخر مداها، لكان من الجائز أن تصبح الموسيقى الخالصة مجرد تابع للدراما. على أن مونتيفردي كان يدرك هذا الخطر بوضوح؛ لذلك أخذ على عاتقه مرة أخرى - بوصفه موسيقيا خلاقا - أن يدفع عن الموسيقى تلك الأضرار التي جلبتها على الموسيقى آراء فلاسفة جماعة «الكاميراتا» ومفكريها الجماليين.
القسم الثاني: الأسس الجمالية للأوبرا الإيطالية
أصبحت إيطاليا مركز العالم الموسيقي في عصر الباروك. ولقد كانت الأهداف البسيطة لجماعة الكاميراتا، وهي تطهير الموسيقى الغربية من البوليفونية المعقدة بالعودة إلى الأساليب الموسيقية للقدماء؛ كانت هذه الأهداف فاشلة وناجحة في آن واحد؛ ذلك لأن الموسيقي الإيطالي، من جهة، لم يشارك هذه الجماعة تحاملها على الشرور الجمالية للبوليفونية، وفضلا عن ذلك فقد وجد أن من العسير عليه تقييد نزوعه الخلاق في الموسيقى بحدود نص معين. ومن جهة أخرى فقد نجحت جماعة الكاميراتا في إدخال نوع موسيقي جديد، بدأ بوصفه مسرحية ريفية وضعت موسيقى بسيطة واحدية الصوت (مونوفونية
monophonic ) وتطور بمضي الوقت إلى نوع جمع كل الفنون في وحدة واحدة هي الأوبرا.
والواقع أن أوبرات مونتيفردي ومؤلفاته من نوع «المادريجال» والأنغام الزاخرة التي تتم بها الموسيقى الغنائية والمعروفة، الدينية منها والدنيوية، عند جوفاني جابرييلي
Giovanni Gabrieli (1557-1612م) تتميز بفخامة نشعر إزاءها بالتبجيل، حتى في أيامنا هذه. وقد كانت جودة الصنعة، التي تتمثل في مؤلفات هذين الموسيقيين وجرأة أفكارهما، متناقضة مع نظريات جماعة الكاميراتا القائلة إن خلاص الموسيقى في المستقبل مرهون بالالتجاء إلى الماضي.
ولقد كانت للموسيقي الإيطالي في عصر الباروك مبادئ جمالية محددة قد تفوتنا اليوم ونحن نستمع إلى موسيقاه؛ فهو قد حاول تأكيد الكلمات الهامة في النص بألحان تبرز أهميتها، وسعى إلى بلوغ أكبر قدر من التأثير للنص. وقد انفصل انفصالا واعيا من عصر النهضة باستخدامه للتنافر الهارموني
dissonance ، والتلوين الكروماتي. كما أنه حاول إثراء تآليفه للآلات بتجمعات نغمية يحصل بواسطتها على أصوات موسيقية لم يعرفها موسيقي عصر النهضة. وأهم من ذلك كله أنه كان يقدر اللحن ذاته. وفي هذا الصدد نجد أن موسيقيين كبيرين هما جاكومو كاريسيمي
Giacomo Carissimi (1604-1674) ولويجي روسي
Luigi Rossi (1558-1653م) قد استحدثا طريقة اسمها «التتابع اللحني» تقدم فيها جملة لحنية، ثم تكرر بطبقة أعلى وأخرى أكثر انخفاضا منها مرات متعددة، لتأكيد استقلال اللحن عن النص.
وقد تبدو موسيقى الباروك لعصرنا الحالي هادئة رزينة، ولكن الأمر الذي عابه عليها أرتوزي هو أنها صاخبة مدوية مختلطة، جريئة أكثر مما ينبغي في استخدام التنافر الهارموني والتلوين الكروماتي. ولم تصدق نبوءة أرتوزي عندما توقع أن يكون فساد الموسيقى على أيدي المحدثين من أمثال مونتيفردي. والحق أنا نذكر أرتوزي اليوم؛ لأنه كان ناقدا هاجم موسيقارا عظيما، أكثر مما نذكره لأي سبب آخر.
وقد افتتحت أول دار للأوبرا في فينسيا عام 1637م. وكان الأمراء والأغنياء هم الذين يرعونها، ومنهم كان يتألف معظم جمهورها، ثم أصبحت الدار تستقبل فيما بعد كل من كان يمتلك ثمن الدخول، ولكي يجتذب المشرفون عليها أكبر عدد ممكن من المشاهدين، تعاقدوا مع أحسن المطربين في أوروبا ليغنوا في فينسيا، وبفضل اجتذاب هذه المواهب الموسيقية الفريدة إلى فينسيا ضمن هؤلاء المشرفون ربحا ضخما لاستثماراتهم، كما أنهم في الوقت ذاته قد جعلوا من فينسيا مركز النشاط الموسيقي في إيطاليا.
وقد خلف مونتيفردي في قيادة أوبرا فينسيا تلميذه الموهوب فرانشسكو كافالي
Francesco Cavalli (1602-1676م) ومعه مارك أنطونيو تشيسي
Marc Antonio Cesti (1620-1669م)، وكان مونتيفردي قد تعمد حفظ التوازن بين الموسيقى وبين النص الشعري لأوبراته. أما هذان المؤلفان الموسيقيان التاليان له، فقد زادا من اهتمامهما بالموسيقى وقللا من اهتمامهما بنص الأوبرات. وكان للتقدير الذي لقيه كافالي وتشيستي في الأوساط الموسيقية في فينسيا تأثيره السريع في مركز الأوبرا ذاتها في تلك المدينة الإيطالية؛ ذلك لأن تأكيدهما أهمية الموسيقى فوق النص الشعري أدى إلى إضعافهما للعنصر الدرامي في أوبرات فينسيا، مما أخل بالتوازن الذي بذل مونتيفردي جهدا كبيرا في حفظه بين الكلمات واللحن، على عكس جماعة الكاميراتا التي أكدت النص على حساب اللحن.
وقد استحدث تشيستي وكافالي ما بدا لهما أنه أوبرا قائمة على استقلال اللحن، ولكن هذه قد تحولت بمضي الوقت إلى أسلوب من الاستعراض الغنائي كاد أن يقضي على تكامل القالب الأوبراتي. ولا بد أن تشيستي كان مغرما بالموسيقى الغنائية؛ إذ يقال عنه إنه أول من أدخل أسلوب الغناء الزخرفي
bel canto
بفقراته الطويلة المتصلة وأنغامه التي تشنف الآذان، وذلك نتيجة للطريقة التي كان يؤلف بها الفواصل الغنائية المطولة داخل الأوبرا. وقد امتد التأثير الذي مارسه تشيستي وكافالي على الأوبرا في فينسيا، إلى جميع أرجاء أوروبا.
ولقد أدت الروح الديمقراطية التي سادت دار الأوبرا في فينسيا إلى نتائج تتجاوز مجرد دعوة من يملكون ثمن الدخول لحضور الأوبرا بأسلوب كافالي وتشيستي؛ فليس المهم أن نعرف الأسباب الأساسية التي دعت المشرفين على هذه الدار إلى فتح أبوابها للجمهور، وإنما المهم حقا أن فتح الأبواب للجمهور كان يعني بداية انقضاء عهد الأوبرا بوصفها عرضا مقتصرا على القصور وأهلها، واستهلال عهد جديد أصبحت فيه الأوبرا أحب الفنون الموسيقية إلى قلوب الجماهير.
9
ولقد كانت أوبرا فينسيا تعني نهاية أليمة لآمال جماعة الكاميراتا وأمانيهم في قيام أوبرا مبنية على الأفكار الجمالية للمسرح اليوناني؛ فقد نبذت المثل العليا لهذه الجماعة، وأصبحت الأوبرا في فينسيا نوعا من الحل الوسط من الوجهة الفنية، فصارت تهتم أيضا بإرضاء نزعات الترف والرغبة في الترفيه. ولم يعد النص يدور حول شخصيات، وإنما حول أنماط، وقد أطلق موسيقيو فينسيا على دراماتهم الموسيقية اسم الأوبرا الجادة
Opera Seria ، غير أن هذه تسمية غير منطبقة؛ إذ إن الأوبرا نادرا ما كانت تنتهي نهاية محزنة، وإنما كان الجمهور يطالب بنهاية سعيدة. كذلك ضربت أوبرا فينسيا عرض الحائط بالوحدات الثلاث المعروفة في المسرح اليوناني؛ إذ إن كثيرا من هذه الأوبرات كانت أقصر من أن يمكن الانتفاع منها عمليا؛ ولذلك عمد مديرو المسرح إلى إقحام فواصل لإطالة مدة العرض. وكانت الألحان زخرفية إلى حد بعيد، ولم يكن في وسع أحد سوى كبار المغنين من «الخصيان
castrati » أن يحكم أداء السطور اللحنية التي قد ترهق العازف الموسيقي البارع.
ولقد كانت موسيقى فينسيا الدينية ثورية بقدر ما كانت الموسيقى الدنيوية في المسرح؛ إذ إن الموسيقيين كانوا يتجهون إلى الكتابة بأسلوب واحد في الموسيقى الدينية والدنيوية معا. ولم يكن من النادر أن يجد المرء نصا شعائريا يؤدى في صلاة دينية بلحن «آريا» من «آريات» الأوبرا. ولم يقبل رجال الكنيسة بارتياح إقحام الألحان الغنائية الدنيوية في الصلوات الدينية، وإدخال موسيقى معزوفة في الكنيسة. غير أن عدوى التجديد هذه قد انتقلت إلى روما بدورها.
10
فألف موسيقيوها قداسات تنعكس عليها فخامة عصر الباروك. وكان جيرولامو فرسكوبالدي
Girolamo Frescobaldi (1583-1643م) عازف الأرغن الشهير بكاتدرائية القديس بطرس في روما يستخدم الأرغن والمجموعة الغنائية بالتبادل في البداية، ثم انضمت بعد ذلك مجموعات ضخمة من المغنين يدعمهم «أوركسترا» يعزف مستقلا، أو مع الأصوات الغنائية، لزيادة تأثير شعائر الصلاة. كذلك احتل موسيقيو روما مكانة بارزة في عالم الأوبرا، غير أن روح القديس أوغسطين سرعان ما تجلت في البابا أنوتشنتي الثاني عشر (الذي تولى البابوية من 1691م إلى 1700م)، وهو مصلح صارم عارض الطابع السوقي للمسرح، وأمر بهدم دار الأوبرا في المدينة البابوية.
وقرب نهاية القرن السابع عشر ، بدأت نابولي تتجه إلى أن تصبح مركز العالم الموسيقي. ولقد أصابت الموسيقى، خلال عهد سيادة نابولي، أضرار ومنافع؛ فقد كان أهل نابولي يمجدون الصوت البشري، وأصبح هدفهم هو الوصول إلى أكبر قدر من البراعة الغنائية، وترتب على ذلك الإساءة إلى النص الشعري للأوبرا. وصارت كل اتجاهات الأوبرا في عصر الباروك المتأخر تهتم بجودة الغناء وصفاء أصوات المغنين. ولم يعد المغنون يعبئون كثيرا باللحن الموسيقي المدون، بل كانوا يستعيضون عن «الآريات» الأصلية بمؤلفات من عندهم، تظهر مقدرتهم الغنائية في أحسن أحوالها. ولقد كان هذا الاهتمام البالغ بإظهار البراعة والمقدرة الفنية في الغناء هو السبب الرئيسي في تدهور الأوبرا إلى نوع غريب من أنواع الفن؛ فالمغني الذي كان يحب «آريا» معينة كان في كثير من الأحيان يستخدم نفس لحنها لكلمات مختلفة، وأدى ذلك إلى طغيان شخصية المغني على الملحن وقائد الفرقة الموسيقية؛ بحيث أصبح المؤلف الموسيقي والمسئول عن الأداء تحت رحمة المغني، يستجيبان لنزواته، ويتقيدان بطريقته الخاصة في الأداء. وكان في وسع المغني أن يعدل الموسيقى المكتوبة كما يشاء، ويزخرفها حسب هواه. وفي هذا المجال الاستعراضي الغنائي بلغت أصوات الخصيان
castrati
11
قمة مجدها، وكانت الطبقات الغنائية التي تبلغها أصواتهم عالية إلى حد مذهل، حتى إن النساء اللاتي كن يغنين بصوت «السوبرانو» (الرفيع) عادة كن يضطررن إلى الغناء بطبقات منخفضة، حتى لا تجرح كبرياؤهن لعجزهن عن تجاوز أصوات الخصيان أو مجاراة بهلوانياتها الغنائية، ولكن دور الخصيان في الأوبرا بدأ يتضاءل منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر.
وكانت نابولي هي موطن موسيقيين موهوبين هما «ألساندور سكارلاتي
Alessandro Scarlatti » (1659-1725م) وهو أبو دومنكو سكارلاتي
Domenico Scarlatti (1685-1757م)، وقد ألف الأول أكثر من مائة أوبرا حرص فيها كلها على إظهار جمال اللحن وفن الغناء. وكانت الفلسفة الموسيقية لسكارلاتي الأب والابن مضادة تماما لفلسفة جماعة الكاميراتا في فلورنسا، وهي الجماعة التي ابتدع أفرادها في نهاية القرن السادس عشر دراما موسيقية كانوا يظنون أنها تقتدي بالأسلوب اليوناني؛ إذ إنهم أخضعوا الموسيقى للنص الكلامي، حتى تكون الكلمة المنطوقة واضحة دون لبس، وتجنبوا الأساليب البوليفونية المعقدة الشائعة في أيامهم، حتى تكون أوبراتهم - على ما يعتقدون - متمشية مع الروح اليونانية الحقيقية. وفي أوائل القرن السابع عشر تخلى مونتيفردي عن الأفكار الجمالية المتزمتة لدى جماعة الكاميراتا، بإعطائه للموسيقى دورا أهم، وزيادة قوة الحركة الدرامية. أما ألساندرو سكارلاتي، فكان أكثر اهتماما بالموسيقى منه بالنص الكلامي أو الحركة الدرامية. وكانت أوبراته، التي تحولت في القرن التالي إلى «الأوبرا الجادة»
Opera Seria
تتألف من مؤامرات أسطورية، ومن نصوص كلامية سطحية، وعدة فواصل غنائية غير مترابطة يغنيها خصيان بارعون، وهي كلها أمور يطرب لها الإيطاليون. ويمكن القول إن كل موسيقي أجنبي وفد إلى نابولي قد حمل معه عند مغادرتها شيئا من تأثير سكارلاتي؛ بحيث إن أوبرات سكارلاتي كانت أنموذجا للموسيقيين الأوروبيين في القرن الثامن عشر.
وقد حقق جوفاني برجوليزي
Giovanni Pergolesi (1710-1736م) ل «الأوبرا الهازلة»
Opera Buffa
نفس ما حققه سكارلاتي للأوبرا الجادة. وهكذا تطور هذان النوعان من الأوبرا في وقت واحد. ولم يقف الطابع شبه الشعبي والحوار المضحك للأوبرا الهزلية عند حد التسلية الخاصة، بل لقد أصبح أداة فعالة للسخرية والهجاء عن طريق الموسيقى.
القسم الثالث: الموسيقى في فرنسا وإنجلترا وألمانيا
كانت الروح المسيطرة على الموسيقى الفرنسية في القرن السابع عشر تشبه إلى حد بعيد روح جماعة الكاميراتا الفلورنسية في القرن السابق ؛ فقد كان الشعراء والموسيقيون يحاولون إحياء الدراما اليونانية، وكانوا يتفلسفون حول التمييزات الدقيقة الكفيلة بتحقيق توازن سليم بين الموسيقى والنص. وأدخلوا الرقص بوصفه العنصر الثالث في المسرح، آملين بذلك أن يبعثوا من جديد الجو الحقيقي للعصر اليوناني القديم. وقد شارك موليير (1622-1673م)، الذي سخر من الحياة الاجتماعية في أيامه، في تلك الروح الجمالية السائدة في عصره، فأدخل عنصرا موسيقيا جديدا في كوميدياته، وذلك بتوحيد المسرحية الهزلية بالموسيقى، ثم إضافة الرقص إليها.
وكان جان بابتيست لولي
Jean Baptiste Lully (1632-1687م)، الذي تعاون مع موليير في مسرحياته، من أنصار المبدأ الأفلاطوني القائل بضرورة خضوع الموسيقى للشعر. وبلغ من تزمته في ألحانه الموسيقية التي وضعها لنصوص مكتوبة أنه جعل الخط اللحني معتمدا على نبرات المقاطع وقافية النص الشعري ووزنه. ومن الجائز أن هذا الالتزام الحرفي للنص قد زاد من أهمية الكلمة المنطوقة، ولكنه أدى في الوقت ذاته إلى الحد من قدرة اللحن. ولقد كان لولى صارما مع القائمين بأداء ألحانه بقدر ما كان صارما مع نفسه، فكان يفرض على المغنين والعازفين قواعد دقيقة، مثلما فرض نظاما صارما على نشاطه الخلاق وفقا لآرائه الجمالية الخاصة. ولم يكن يمسح للمغنين أو العازفين المنفردين بالتحرر في تحديد سرعة الأداء، أو بالإغراق في زخارف أو «تقاسيم» من ابتداعهم لا لشيء إلا لكي يستعرضوا براعتهم الفنية. وقد ساعد حرص لولى على التزام الموسيقى المكتوبة بدقة على إزالة التأثير الذي تركه غرور المغنين الإيطاليين، وتحررهم في المسرح الفرنسي. ومن الجائز أن شروطه الدقيقة في التزام النص الموسيقي قد حالت دون تدهور المسرح الفرنسي إلى ذلك الطابع الشبيه ب «الفودفيل» السطحي، الذي أصبحت تتسم به الأوبرا الإيطالية.
كذلك كان للنزعة العقلية الفلسفية في فرنسا تأثيرها في الموسيقى؛ فقد أدى ذلك العنصر الأفلاطوني الذي كان كامنا على الدوام في النزعة العقلية الفرنسية، إلى تطبيق الفكرة اليونانية في محاكاة الطبيعة على الفن عامة، والموسيقى خاصة. وكانت جماعة الكاميراتا قد أكدت أهمية الدور الذي ينبغي أن تلعبه الموسيقى في إبراز معاني الكلمات، وزيادة تأثير الدراما، وبالمثل أصبحت الفلسفة الجمالية للموسيقى في فرنسا عقلية إلى حد بعيد. ولم يقتصر العقليون الفرنسيون على جعل الموسيقى تابعة للنص، وإن كانوا بالفعل قد وضعوا الموسيقى المعزوفة في مرتبة أدنى من مرتبة الموسيقى الغنائية، وإنما حكموا على الموسيقى بطريقة اليونانيين، فاستنتجوا منطقيا أن الموسيقى لما كانت تثير الانفعالات، فلا بد أن تكون لها قيمة فلسفية أقل من قيمة الأفكار العقلية التي تعبر عنها الكلمات.
كذلك كان أصحاب النزعة العقلية الفلسفية يعتقدون أن موسيقى الآلات أقل قيمة من الموسيقى الغنائية؛ لأن الأولى لا تستطيع بذاتها أن تعبر عن المشاعر تعبيرا دقيقا أو كاملا، ولكن العالم والموسيقار الألماني يوهان ماتيسون
Johann Mattheson (1681-1764م) قد خالف هذا الرأي بأن أدرج استخدام الآلات الموسيقية ضمن تطبيقه الخاص ل «مذهب الشاعر»؛ ففي كتابه «الأوركسترا المستحدثة
Das neu-eroffnete Orchestre » (1713م) طرح جانبا الآراء الموسيقية العتيقة بقوله إن اللحن ينبغي أن يكون تعبيرا عن عاطفة، لا محاكاة لروح إلهية، وبجعله الإنسان نفسه حكما على ما هو خير وشر في الموسيقى. وإن لهجته لتذكرنا بلهجة أرسطوكسينوس في أيامه، حين دعا إلى الحكم على الموسيقى من خلال العقل والحس؛ أي حاسة السمع. وقد كتب يقول: «إن الأعداد ليست المتحكمة في الموسيقى، وإنما هي توجهها فحسب، وحاسة السمع هي الطريق الوحيد الذي ينقل من خلاله تأثيرها إلى النفس الباطنة للسامع المنتبه ... والهدف الوحيد للموسيقى ليس كونها تسر العين، أو ما يسمى بالعقل على الإطلاق، وإنما كونها تسر الأذن فحسب.»
12
ولم يكن ماتيسون يعتد كثيرا بآراء أولئك الفلاسفة الذين اعتقدوا في أيامه أن الطريقة الصحيحة للحكم على قيمة الموسيقى هي مقارنتها نغميا وإيقاعيا بأنواع الأمثلة الموسيقية التي عرضها أفلاطون وأرسطو فيما كتباه عن الموسيقى. كذلك لم يكن ماتيسون يحفل كثيرا بآراء أصحاب العقليات الميالة إلى الصنعة في الموسيقى، الذين يبدون بعلم الصوت اهتماما يفوق اهتمامهم بالموسيقى ذاتها، كما فعل الفيثاغوريون في أيامهم. وقد تجلت بوضوح روح النزعة الإنسانية في تفكير ماتيسون الموسيقي، وذلك في قوله إن المثقف المستمع إلى الموسيقى يستطيع أن يصدر حكما سليما على ما يسمعه، بناء على معرفة فنية بالموسيقى، مقترنة بالقدرة على التمييز بين ما هو جميل وقبيح فيها من خلال ذوقه الخاص. وهكذا تنبأ ماتيسون بعهد جديد للموسيقى يكون مبنيا على التنوير والتعليم.
ولقد أعلن فيلسوف إنجليزي معاصر لماتيسون، هو فرانسس هتشسون
Francis Hutcheson (1694-1747م) أن «للموسيقى غايتين؛ الأولى أن تطرب الحس، والثانية تحريك المشاعر أو إثارة الانفعالات. والواقع أن الأوبرا الإنجليزية كانت بالفعل تطرب الحواس، ولم تكن تثير الانفعالات إلا بطريقة غير مباشرة؛ إذ إنها كانت في المحل الأول مسرحية رومانية ذات موسيقى تصويرية.»
وبالمثل انتقد جوزيف أديسون
Joseph Addison (1672-1719م) الاتجاه إلى إصدار أحكام جمالية مسبقة على الموسيقى، وذلك في كتاباته في مجلة «سبكتيتور
Spectator » إذ قال: «ينبغي على الموسيقى والعمارة والتصوير، فضلا عن الشعر والخطابة، أن تستمد قوانينها وقواعدها من الحس المشترك والذوق العام للبشر، لا من مبادئ تلك الفنون ذاتها، أو بعبارة أخرى، ينبغي ألا يتكيف الذوق تبعا للفن، وإنما الواجب أن يتكيف الفن تبعا للذوق.»
وقد كتب جون درايدن
John Dryden (1631-1700م) وهو أمير الشعراء الإنجليز
13 (1679م)، وزميل هنري بيرسل
Henry
(حوالي 1658-1695م) في مجموعة أعمال فنية؛ كتب في مقدمته لألبيون وألبانيوس
Albion and Albanius
يقول: «إن الأوبرا رواية شعرية تمثلها الموسيقى الغنائية والمعزوفة، وتزينها مناظر وآلات مسرحية ورقص. والشخصيات المزعومة في هذه الدراما الموسيقية هي عادة شخصيات خارقة للطبيعة كالآلهة والإلهات والأبطال ...»
وقد أدخل بيرسل وأستاذه جون بلو
John Blow (1648 / 49-1708م) على الألحان الجادة للكنيسة الإنجليزية بعض الخصائص المليئة بالحيوية، التي كانت تتسم بها الموسيقى الإيطالية والفرنسية، ولكنهما وصفا بعدم احترام الكنيسة نظرا إلى جهودهما هذه. وأدخل بيرسل بعض العناصر الإيطالية والمؤثرات الجمالية الفرنسية في أوبرا «ديدو وأينياس
Dido and Aeneas » التي قدم بها إلى إنجلترا أولى أوبراتها وأروعها في تلك الفترة، ولكن كان يوجد مقابل كل فيلسوف ذي ذهن عملي وكل موسيقي خلاق، عدد غير قليل من أنصار التراث الأفلاطوني الذين ظلوا حتى القرن السابع عشر والثامن عشر يدافعون عن موسيقى الماضي المجيد، وكان تبجيل الأقدمين هو أعظم فضيلة يمكن أن يتصف بها الشخص الغيور على الموسيقى.
14
وقرب نهاية عصر الباروك ، استقدمت الطبقة العليا الإنجليزية جورج فريدرك هيندل
Handel (1685-1759م) إلى إنجلترا لكي يؤلف لهم أوبرا على الطراز الإيطالي. غير أن الأوبرا الإيطالية لم تحظ بنجاح في إنجلترا، على الرغم من جهود وعبقرية شخصية مثل هيندل. وقد كتب أديسون في مجلة «سبكتيتور» يقول: «لا جدال في أن أحفاد أحفادنا ستتملكهم الرغبة الشديدة في معرفة السبب الذي كان يدفع أجدادهم القدماء إلى الجلوس سويا، وكأنهم جمع من الغرباء في وطنهم ذاته، ليستمعوا إلى مسرحيات كاملة تمثل أمامهم بلغة لا يفهمونها ... والحق أنه لا شيء كان يروع نظارتنا الإنجليز أكثر من فواصل التلاوة (الريسيتاتيف) الإيطالية عندما أديت على المسرح لأول مرة؛ فقد دهش الناس كثيرا لسماعهم قوادا يصدرون أوامرهم العسكرية بالنغم وسيدات يبلغن رسائل بالموسيقى. ولم يتمالك مواطنونا أنفسهم من الضحك عندما سمعوا محبا ولهانا ينشد رسالة غرام، بل إن عنوان الرسالة ذاته كان ملحنا ...»
15
ولقد كان أديسون يسلم بأن الأوبرا يمكن أن تكون مليئة بالزخارف؛ لأن وظيفتها هي إرضاء الحواس، وجذب انتباه المشاهدين، ولكنه لم يكن يقر التصنع المسرحي الإنجليزي إلى ما يشبه «السرك» الروماني.
وفي عام 1728م أنتج «جون جي
John Gay » (1685-1732م) و«جون كرستوفر بيبوش
John Christopher Pepusch » (1667-1752م) «أوبرا الشحاذ
Beggar’s Opera » التي سخرا فيها من الأوبرا الإيطالية. وقد كانت هذه عملا بديعا ساخرا كان إلى جانب سخريته من الأوبرا الإيطالية، يتهكم على الاتجاهات الاجتماعية والسياسية في عصره. وقد بلغ من نجاح هذا العمل أنه عجل بسقوط الأوبرا الإيطالية في إنجلترا. ولقد كانت «أوبرا الشحاذ» بأغانيها البسيطة، وأنغامها الراقصة التي ترجع إلى أصل شعبي، وموسيقاها التي يتخللها حوار يتدفق حيوية؛ كان هذا العمل مضادا تماما للأوبرا الجادة (أوبرا سيريا) الإيطالية. ولقيت بساطة هذه الموسيقى والنص والغناء وطابعها المألوف إقبالا ساحقا من الإنجليز. وقد تأثر هيندل بهذا الشعور العدائي الذي أظهره الإنجليز نحو نوع من الفن الموسيقي لم يكن غريبا تماما عن حضارتهم وأفهامهم، وبلغ من تأثره أنه كف عن تأليف الأوبرات وتحول إلى «الأوراتوريو».
وقد طبق هيندل الأسلوب الإيطالي للآريا الدرامية
16
على النص في الأوراتوريو. وعن طريق هذا النوع الموسيقي روى هيندل التاريخ الديني والتقدم الإنساني للبشر، واستخدم الكنيسة ذاتها مسرحا له. وقد أصبح الأوراتوريو، بفضل جهوده، يحتل عند الإنجليز المكانة التي تحتلها الأوبرا عند الإيطاليين.
وفي ألمانيا كانت الأوبرا في عصر الباروك المتقدم تعتمد على معونة الأمراء الحاكمين، الذين كانوا يجلبون الإيطاليين لعرض أوبرات يستمتعون بها في بلاطهم. أما الشعب الألماني، الذي أنهكته الحروب الدينية، وأشعرته بالمرارة، فقد وجد عزاءه في الموسيقى الدينية. وقد يبدو لأول وهلة عندما أتيح للشعب الألماني أخيرا أن يشاهد الأوبرا الإيطالية في ألمانيا الكاثوليكية (أي في الجنوب) أن أذواق موسيقيي فينسيا ونابولي وروما كانت قادرة على الانتشار بينهم، ولكن الذي حدث فعلا هو أن اللغة الإيطالية كانت عاجزة عن نقل معنى النص إلى الألمان. وكانت الحرية اللحنية في الأوبرا الإيطالية شيئا جديدا كل الجدة بالنسبة إليهم. كما بدا افتقار الأوبرا الإيطالية إلى الواقعية، في نظر العقلية الألمانية، إساءة إلى الثالوث المسرحي في الوحدة والعقدة والحدث. وهكذا بدا فن الإيطاليين غريبا في نظر الألمان، كما بدا في نظر الإنجليز، ومن هنا كان مآله إلى الإخفاق السريع.
ومن الجائز أن الآثار الجمالية لموسيقى الأوبرا الإيطالية قد خيبت آمال الشعب الألماني، غير أن موسيقى الإيطاليين قد حازت أعظم الإعجاب لدى الموسيقيين الألمان المنتمين إلى الشمال البروتستانتي، مثلما أعجب بها الموسيقيون المنتمون إلى الجنوب الكاثوليكي، وكان لها صداها في أفكارهم وأساليبهم الموسيقية. وقد حاول هينريخ شوتس
Heinrich Schutz
أن يمزج الألحان الإيطالية بالموسيقى الدينية، كما امتزجت الروح الإيطالية بالألمانية في موسيقى هانز ليو هاسلر
Hans Leo Hassler (1564-1612م) وميخائيل بريتوريوس
Michael
(1571-1621م) ويوهان كونار
Johann Kuhnau (1660-1722م) وراينرت كايزر
Reinhard Keiser (1673-1739م) وجيورج فيليب تليمان
Georg Philipp Telemann (1681-1767م).
وقد بدأت موسيقى الباروك الألمانية، تاريخيا، على يد هينريخ شوتس (1585-1672م)، وانتهت بيوهان سباستيان باخ
Bash Johann Sebastian (1685-1750م)، وقد نظر شوتس، بطريقة رومانسية، إلى الكلمة المنطوقة على أنها موضوع ينبغي أن تغزوه روح الموسيقى. وكان شعار فلسفته الفنية هو أن من الممكن زيادة تأكيد معنى الكلمة بتوافقات موسيقية تتكرر على أنحاء شتى. وقد كرس حياته الموسيقية لإيجاد مركب من الموسيقى الدينية والدنيوية، آملا أن يتمكن، عن طريق إدخال العناصر الإيطالية في الموسيقى الألمانية الدينية، من أن يخلق فنا موسيقيا أكثر توازنا من ذلك الذي نتج عن رد الفعل البروتستانتي على الموسيقى الكاثوليكية.
وبالمثل كانت الرغبة تتملك باخ في إدخال عناصر دنيوية مستمدة من الإيطاليين في الموسيقى الدينية لعصره. وقد كان يشارك شوتس آراءه التي أعرب عنها منذ حوالي قرن من الزمان، وهي أن الموسيقى البروتستانتية الألمانية تفتقر إلى الاتزان جماليا، وإذا كان لها طابع يغلب عليها، فذلك هو طابع الرتابة والإملال. كما لقي باخ نفس المصير الذي لقيه شوتس؛ فقد اشتبهت السلطات الدينية في دوافعه الجمالية، وشكت في تصرفاته الموسيقية، وتجاهل أبناء باخ موسيقاه بقدر ما تجاهلها معاصروه؛ لأن الجميع لم يفهموا آراءه الجمالية في الموسيقى. وفي النهاية مات باخ كما مات شوتس من قبله، وحيدا تملأ المرارة نفسه، حزينا على تجاهل الناس له.
ولقد كان باخ مسيحيا تقيا يؤمن بأن معرفة اللاهوت والإخلاص في العقيدة الدينية شرطان ضروريان لمؤلف الموسيقى الدينية. وكان يرى أن دراسة التأليف الموسيقي، والنظريات الموسيقية، ليست في ذاتها كافية لإنشاء موسيقى دينية؛ فالتعليم الفني يصقل الذهن، ويجعل المرء عارفا بأصول صنعة الفنان، ولكن الإيمان الديني العميق، بالإضافة إلى معرفة أصول الصنعة الفنية، هو الذي يتيح للموسيقي تأليف موسيقى بروتستانتية تزيد المسيحي قربا من خالقه. وكان باخ ذاته يعتقد أنه في حاجة إلى مزيد من الإلمام بأسس اللاهوت، حتى يعبر في موسيقاه عن أكبر قدر من الروحانية، ومع ذلك فإن الجيل الذي عاصره، وعدة أجيال تالية له، قد وجدت موسيقاه باردة فنيا، ومفرطة في معقوليتها، وذات طابع رياضي، ولم تعترف لها أبدا بصفة الحرارة والحماسة الدينية.
وقد كرس باخ حياته لإصلاح الموسيقى البروتستانتية، فكتب يقول: «إن هدفي النهائي هو أن أعيد تنظيم موسيقى الكنيسة.» كما كان يأمل أن يتيح للإنسان، بفضل موسيقاه، أن يصبح مسيحيا أفضل، وكان أهم آلات التعبير الموسيقي عنده هو الأرغن. والقالب الذي امتاز فيه هو قالب «الفوجة
Fugue »، وعن طريق الغنائية «الكانتاتا
cantata »
17
أساسا ، وكذلك الكورال، أدخل على الشعائر البروتستانتية أفكارا جمالية هي المبادئ التي بنى عليها ذلك الإصلاح الذي طالما دعت الحاجة إليه، لموسيقى الكنيسة البروتستانتية.
ولم تلق حماسة باخ لإصلاح الموسيقى البروتستانتية فنيا استجابة كبيرة؛ إذ إن الكنيسة سجلت عليه أن طريقته في عزف الأرغن، وكذلك موسيقاه «تبلبل خواطر جمهرة المصلين بأنغام أجنبية غربية» وعندما أصبح عريفا (
cantor ) في كنيسة القديس توما في ليبزج عام 1722م، اشترط عليه في العقد الذي وقعه أن تكون موسيقاه ملائمة للشعائر، وألا يكون عزفه طويلا إلى حد لا يتناسب مع هذه الشعائر تناسبا معقولا، وألا يدخل موسيقى الأوبرات الإيطالية في الشعائر، وأن يتذكر دائما أن وظيفة عازف الأرغن بالكنيسة هي خدمة الصلاة عن طريق الموسيقى، وليست صرف الأنظار عن العبادة بالاستعراض غير المجدي لمقدرته في العزف على الأرغن أثناء أداء هذه الشعائر. وكانت عقود الموسيقيين في عصر الباروك تشترط عليهم البقاء داخل المدينة، وعدم مغادرتها بدون إذن. وقد أدت هذه القيود المفروضة على حرية باخ المادية، فضلا عن تلك المفروضة على حريته الموسيقية، مقترنة بما لقيه من تجاهل، إلى جعل السنوات الأخيرة من عمره أتعس سنوات حياته.
لقد بدأ عصر الباروك بإدخال الأفكار الجمالية اليونانية في الموسيقى الإيطالية، وانتهى بموت باخ في ألمانيا. وفي تلك الفترة التي تقل عن قرنين، والتي تفصل بين اجتماعات أفراد جماعة الكاميراتا وبين موت الموسيقي الألماني الكبير، ظهرت واختفت مذاهب متعددة في الفلسفة الجمالية للموسيقى؛ فقد خلق فن الأوبرا في إيطاليا على أساس فهم خاطئ لطريقة اليونانيين في أداء الفن الدرامي، وصحح مونتيفردي المفاهيم الخاطئة لجماعة الكاميراتا عن طريق إيجاد علاقة أكثر توازنا بين النص والموسيقى، وزيادة أهمية ودور الأوركسترا. وبعده بوقت ما، عمل فرانشسكو بروفنسالي
Francesco Provenzale (المتوفى سنة 1704م) وسكارلاتي الأب على جعل الأوبرا، بكل ما فيها من نقائص جمالية، فنا للغناء واللحن. وقد كتب أركانجلو كوريلي
Arcangelo Corelli (1653-1713م) مقطوعات للفيولينة والهاربسيكورد بأسلوب واضح وقالب بسيط. أما أنتونيو فيفالدي
Antonio Vivaldi (1680-1743م) ذلك الموسيقي الفذ، فقد لون موسيقى الآلات في أواخر عصر الباروك الإيطالي، وأضفى عليها رونقا ما زال محتفظا بتأثيره الانفعالي حتى اليوم. وفي فرنسا أعاد لولى جزءا من التأثير الأفلاطوني إلى الأوبرا، وحد في الوقت ذاته من الأساليب التي لا طائل منها، والتي كان يلجأ إليها مغنو الأوبرا. وفي إنجلترا مزج بيرسل الموسيقى الإيطالية بقالبه الخاص في الأوبرا، وكذلك بالموسيقى الدينية. ثم انتقل لواء الإبداع الفني من إيطاليا إلى ألمانيا، وإن يكن شوتس وباخ قد ظلا يعودان من آن لآخر إلى الموسيقى الإيطالية التي كانت تعزف في جنوب ألمانيا، لكي يقتبسا منها وحيا لحنيا يثريان به الموسيقى اللوثرية في شمال ألمانيا.
ولقد كانت الأوبرا في عصر الباروك المتقدم معارضة من الوجهة الفلسفية، ومن حيث الأسلوب للكنترابنط. ومن جهة أخرى كانت تهتم بالكلمة المنطوقة اهتماما مبالغا فيه. وعلى حين أن الباحثين النظريين مثل أرتوزي، كانوا يشكون من استخدام التنافر الهارموني
dissonance
فإن الموسيقيين الأصالى، مثل مونتيفردي، ظلوا يثرون الموسيقى الغربية بتجمعات نغمية جديدة. ولم يكن النظام الهارموني، كما عرفناه فيما بعد، قد تطور بعد، وإنما كان عليه أن ينتظر ظهور باخ ورامو
Rameau . وقد انتظمت المقامات الغامضة التي كانت معروفة في الموسيقى الأقدم عهدا، في تآلفات متتابعة أضفت على الموسيقى اتصالا هارمونيا، وأتاحت ظهور قوالب موسيقية أطول مدى. وعلى حين أن جماعة الكاميراتا كانت قد رفضت فن البوليفونية على أساس أنه مضاد للتعاليم الأفلاطونية، فإن هذا الفن أصبح في مؤلفات يوهان سباستيان باخ هو الدعامة الأساسية لموسيقى ذات تركيب هارموني محكم، وجمال لحني رائع.
الفصل السادس
المذهب العقلي، والتنوير، والعصر الكلاسيكي في الموسيقى
القسم الأول: من ديكارت إلى كانت
لا تعكس الفلسفة والموسيقى روح العصر في كل الأحوال؛ فالتجديدات الموسيقية التي تهاجم بشدة في عصرها تصبح في كثير من الأحيان الأساليب والنماذج المقبولة في عصور تالية. كذلك فإن فلسفة الأمس قد أصبحت علم اليوم، وقد يصبح الكثير من تأملاتنا الفلسفية الحالية علما في الغد. والواقع أن الفلاسفة والفنانين هم أقدر الناس على التطلع إلى المستقبل. غير أن الفيلسوف والفنان نادرا ما يشتركان في طريقة تعبيرهما عن روح العصر، وكثيرا ما يتشكك أحدهما في آراء الآخر.
فقد كان أفلاطون أشهر فيلسوف انتقد الفنانين نقدا لا يعرف هوادة، ومع ذلك فإن التفكير الجمالي للحضارة الغربية في الموسيقى، إنما ترجع جذوره إلى كتابات أفلاطون. ولقد كان تقديره للموسيقى، الذي أعرب عنه في محاورتي «الجمهورية» و«القوانين» أساسا، تقديرا أخلاقيا قبل كل شيء. وقد تابع المدرسيون أفلاطون في معظم نظرياته الموسيقية، وطبقوها تطبيقا عمليا دقيقا على طريقة الحياة والعبادة المسيحية. وحذا قادة عصر الإصلاح الديني حذو أسلافهم في العصور الوسطى؛ إذ أبدوا نفس القدر من التزمت، بل زادوا عليه في كثير من الأحيان، وذلك باستخدامهم الصفات الانفعالية للموسيقى من أجل دعم المذهب البروتستانتي. وطوال هذه القرون كان للموسيقى دور متفاوت الأهمية في مذاهب الفلاسفة الغربيين الذين كانوا يفتقرون - باستثناء عدد قليل جدا منهم - إلى الخبرة الفنية أو المعرفة النظرية التي تتيح لهم تقدير قيمة الموسيقى بوصفها وسيلة للتعبير الجمالي. وترتب على ذلك أنهم جعلوا لها مركزا متواضعا بين الفنون الأخرى، حتى نهاية القرن الثامن عشر، وحتى في ذلك العهد المتأخر، كان الفلاسفة ينظرون إلى الموسيقى باستخفاف، ويقدرونها على طريقة القدماء؛ أي من خلال الاعتبارات الميتافيزيقية أو الرياضية أو الأخلاقية، لا بوصفها فنا مستقلا يبرر وجوده بذاته.
وحتى بعد بداية عصر الكشوف العلمية في أوروبا في القرن السابع عشر ظل عالم مثل يوهان كبلر
Kepler (1571-1630م) يربط بين الأنغام والمسافات الموسيقية وبين حركات الكواكب بطريقة مشابهة للطريقة التي استخدمها أفلاطون في وصف نظرية انسجام الأفلاك الفيثاغورية، كما احتفظ رينيه ديكارت
Descartes (1596-1650م) بالفكرة الأفلاطونية القائلة إن الموسيقى رياضية في أساسها. وينبغي أن تستخدم مبحثا يمهد لدراسة الفلسفة، وقد تحدث أيضا - شأنه شأن مؤسس الأكاديمية واللوقيون - عن المشاعر الموسيقية، وجعل للإيقاعات قيما أخلاقية؛ إذ إن لها تأثيرا مباشرا في النفس البشرية؛ لذلك أعرب ديكارت عن إيثاره للإيقاعات التي لا تهيج المشاعر أو تثيرها بعنف كالإيقاعات البسيطة، لا المعقدة، والإيقاعات الهادئة المعتدلة. كما أكد ضرورة استخدام النسب البسيطة في المسافات النغمية، وردد الشكوى التي سبق أن أعلنها أفلاطون، فحمل على عدم تناسق المقامات الموسيقية التي كان يستخدمها الموسيقيون المعاصرون له في أساليبهم الكنترابنطية. وكان ديكارت متمشيا مع المذهب القديم في إخضاع المشاعر للعقل، حتى لا تؤدي حاسة السمع إلى تضليل الروح، أو يفسد العقل بالشطحات الجامحة للخيال.
1
أما اهتمام بندكت دي اسبينوزا
Spinoza (1632-1677م) بالموسيقى، فقد بدأ وانتهى بملاحظته القائلة إن «الموسيقى تنفع المكتئب، وتضر المحزون، أما الأصم فلا تنفعه ولا تضره.»
2
وبالمثل وصف جوتفريد فلهلم ليبنتس
Leibniz (1646-1716م) الموسيقى بأنها مظهر للإيقاع الكوني تتألف ماهيته الباطنة من عدد ونسبة، فقال: «مثلما أنه لا شيء يسر حواس الإنسان أكثر من الانسجام في الموسيقى، فكذلك لا يوجد شيء يسر (العقل) أكثر من الانسجام الرائع للطبيعة، الذي لا تعد الموسيقى بالنسبة إليه سوى بادرة ضئيلة ودليل بسيط.»
3
ويضيف ليبنتس على ذلك قوله إنه مهما كان من سحر الموسيقى لنا «فإن جمالها لا يكون إلا في انسجام الأعداد».
4
وعلى ذلك فالموسيقى في مذهب ليبنتس هي حساب لا شعوري، أو هي علاقة محسوسة بين أعداد مرتبة حسب مسافات وأنماط صوتية تبعث المتعة في النفس. ولقد حرص ليبنتس بوجه خاص على أن يشير إلى أن الموسيقى إنما هي مظهر للإيقاع الذي يسود الكون، وأن النفس تستجيب لتأثيرها دون وعي منها؛ فالموسيقى تعكس نظام الكون وتنوعه، وعن طريق إيقاعاتها النابضة وتوافقاتها السارة نشعر عيانيا بأن الله خلق العالم وفقا لأفضل خطة ممكنة؛ أي إنه خلق العالم، بحيث يجمع بين أعظم تنوع ممكن وأعظم نظام ممكن. مثل هذا العالم، في رأي ليبنتس، هو الذي صوره كبار الموسيقيين بما في موسيقاهم من تنافر وانسجام.
5
وقد أعلن أديسون
Addison
في القرن الثامن عشر، مذهبا جماليا في الموسيقى ترجع جذوره إلى الامتزاج الفيثاغوري بين الرياضة والصوت؛
6
فهو يؤمن بأن المتعة التي نستمدها من الموسيقى، أو السرور الذي تبعثه الأنغام الموسيقية بما تثيره من خيال، هما بالفعل حسيان، ولكنه انتهى من ذلك إلى أننا عندما ندرك الجميل بالحدس، فإن تلك هي إحدى الوسائل التي يتبعها الخالق لكي يكشف لنا صنعته المحكمة، وإذن فالموسيقى ذاتها وسيط حسي للتعبير، ينطوي على مضمونات أخلاقية تبعث على التأمل الديني.
ولقد كان فولتير
Voltaire (1694-1778م) وأديسون متفقين في كراهيتهما للأوبرا الإيطالية السائدة في أيامهما، فقد وصفها أديسون بأنها فن يفتقر إلى الوحدة والتآلف. ورأى فولتير أن من المضحك أن يستمع المرء إلى البطل، وهو يغني «آريا» طويلة في الوقت الذي تنهب فيه مدينة، ثم كتب يقول: «وأي شيء أسخف من أن يختم كل منظر بواحدة من هذه الآريات التي لا علاقة لها بما قبلها أو بعدها ... والتي تقضي على اهتمامنا بالدراما، لكي تتيح الفرصة لحنجرة مخنثة، حتى ترفع عقيرتها بالترعيش والتقطيع، على حساب الشعر والذوق السليم.»
7
ولعل فولتير كان يتجه بذهنه إلى مثل هذه المظاهر في الأوبرا عندما ذكر أن كل ما يبلغ من السخف حدا يحول بينه وبين التعبير عنه الكلام، كان نصيبه أن يغنى. غير أن أروع ما في سخرياته البارعة هو تشبيهه للفيلسوف الميتافيزيقي براقصي «المنويتو» الذين يقبلون وقد تحلوا بأبهى زيناتهم، وينحنون بضعة مرات، ويخطرون برشاقة عبر القاعة كاشفين عن سحرهم الطاغي، ويتحركون دون أن يتقدموا خطوة واحدة، بحيث ينتهي بهم الأمر إلى نفس البقعة التي بدءوا منها.
8
وكان اللورد تشسترفيلد
Chesterfield (1694-1773م) يعتقد أنه على الرغم من أن الموسيقى تسمى فنا حرا، فهي أقل قيمة من النحت والتصوير، أما علو مكانة الموسيقى في إيطاليا، فدليل على انحطاط هذا البلد، فكتب يقول: «من الصحيح تماما أن يوصف النحت والتصوير بأنهما من الفنون الحرة؛ لأن الشرط الأساسي للتفوق فيهما هو خصب الخيال وقوته، بالإضافة إلى دقة الملاحظة، وهو أمر أعتقد أنه لا يلزم في الموسيقى، وإن تكن تسمى فنا حرا ... فالنحت والتصوير مرتبطان بالتاريخ والشعر، أما الموسيقى فلا ترتبط فيما أعلم، بأي شيء سوى رفاق السوء.»
9
ولقد كان «دني ديدرو
Denis Diderot » (1713-1784م) يرى في الموسيقى محاكاة للانسجام الكوني. وكما أن الطبيعة ذاتها لا تخطئ في تقديراتها أبدا، فكذلك يتألف الجمال في الموسيقى من نسب صحيحة. وقد امتدح فيثاغورس؛ لأنه وضع أسس علم الموسيقى بأن استخلص النسب والعلاقات الرياضية الدقيقة من الطبيعة، وبذلك أنشأ أول مذهب في علم الأصوات، ومع ذلك فقد اعترض على التفكير الجمالي الميتافيزيقي عند «رامو»، الذي ذهب إلى أن «الهارمونيا» هي المبدأ البديهي، الذي يستطيع الفيلسوف والموسيقي بواسطته أن يتوصلا إلى فهم للمبادئ الأساسية للطبيعة والموسيقى. وحاول ديدرو أن يقنع رامو بأن الموسيقى أكثر من مجرد علم للصوت مبني على حسابات هندسية؛ فالجمال في الموسيقى لا يتألف من علاقات أو نسب صحيحة فحسب، وإنما يستحيل في رأي ديدرو الفصل بين الموسيقى والشعر. ومن الواجب أن تراعى مقتضيات النص عند وضع اللحن والهارمونيا.
أما «جان فيليب رامو
Jean Philippe Rameau » (1583-1674م) مؤسس نظامنا الهارموني الحديث، فقد وضع مذهبا جماليا في الموسيقى مبنيا على فلسفة ديكارت. ولقد كانت المشكلة الأساسية في نظر ديكارت هي تطبيق المنهج الهندسي على الميتافيزيقا من أجل جعلها علما دقيقا. وقد اتفق رامو مع ديكارت على أن الموسيقى مبنية أساسا على الرياضة، فقال في كتابه «دراسة في الهارموني
Traite de l’harmonie »: «إن الموسيقى علم ينبغي أن تكون له قواعد معينة، وهذه القواعد يجب أن تستمد من مبدأ واضح بذاته. ومن المحال أن نعرف نحن هذا المبدأ إلا بمساعدة الرياضيات.»
10
وكان رامو يعتقد أن الفنون الجميلة تتميز بعلاقة يحكمها نفس المبدأ، أعني مبدأ الانسجام، ولكن الطبيعة فضلت الموسيقى على سائر الفنون؛ لأن الانسجام يتمثل في الموسيقى أوضح ما يكون. وهو يذكرنا من بعيد بأرسطوكسينوس في الفقرة التي يقول فيها: «لا يجوز لنا أن نحكم على الموسيقى إلا من خلال حاسة السمع، وليس للعقل من سلطة فيها إلا بقدر ما يتفق مع حكم الأذن. وفي الوقت ذاته، فلا يمكن أن يكون هناك ما هو أكثر إقناعا لنا من اتفاق الأذن والعقل في الأحكام التي نصدرها؛ ذلك لأن الأذن ترضي طبيعتنا، والعقل يرضي روحنا، فعلينا إذن ألا نحكم على شيء إلا بهما معا متضامنين.»
11
كذلك احتفظ رامو ب «مذهب المشاعر»، فقال: «من المؤكد أن في وسع الهارمونيا أن تثير فينا انفعالات تختلف باختلاف التآلفات الهرمونية المستخدمة؛ فهناك تآلفات حزينة، وأخرى ناعمة ورقيقة وسارة ومرحة، ومؤثرة، كما أن هناك تعاقبات معينة للتآلفات الهارمونية تعبر عن هذه الانفعالات.»
12
وأضاف إلى ذلك «كارل فيليب إمانويل باخ» (1714-1788م) ابن يوهان سباستيان باخ قوله: «... لما كان من المستحيل على الموسيقي أن يحرك مشاعر الناس إلا إذا تحركت مشاعره هو ذاته، فمن الضروري أن يكون في استطاعته أن يبعث في نفسه كل الانفعالات التي يود أن يثيرها في نفوس سامعيه؛ فهو ينقل مشاعره، وبذلك يكون من أيسر الأمور أن يثير فيهم مشاعر متعاطفة.»
13
ولقد اكتسبت نظرية المحاكاة
mimesis ، القائلة إن الفن تقليد للطبيعة، أهمية كبيرة في الأبحاث الفلسفية في القرن الثامن عشر؛ فقد كان ذلك عصرا انتشرت فيه دعوة العودة إلى الطبيعة والانصراف عن حياة المدينة. وبالطبع لم يكن الموسيقي الخلاق يعبر عن هذه الحركة في مؤلفاته تعبيرا كاملا؛ إذ إن الموسيقى ليست دائما انعكاسا مباشرا لروج العصر. ومع ذلك ظل الفلاسفة يرددون الفكرة اليونانية القائلة إنه لما كان الفن محاكاة للطبيعة، فيترتب على ذلك منطقيا أن تكون الموسيقى انعكاسا للإيقاع الذي يسود الكون، وعلى ذلك فإذا أمكن أن يستمع الإنسان إلى الإيقاعات الموسيقية الصحيحة دون سواها، فعندئذ يستطيع أن يتعلم كيف يعيش وفقا للقانون الطبيعي، ويتحد مع الطبيعة.
وقد اتفق جان جاك روسو (1712-1778م) مع ديدرو في رأيه القائل إن الموسيقى محاكاة للطبيعة، ودفعته روحه النازعة إلى الإصلاح إلى أن يحمل على استخدام اللغة الفرنسية في الموسيقى الغنائية، وذلك بناء على نظريته غير المؤكدة القائلة إن اللغة الفرنسية لا تصلح للنطق الغنائي كما تصلح اللغة الإيطالية، فكتب يقول: «إن لهجة اللغات هي التي تحدد الألحان في كل أمة، واللهجة هي التي تجعل الناس يتكلمون وهم يغنون ...»
14
وكان روسو يعتقد، على عكس أديسون وفولتير، أن الموسيقى الإيطالية تعبر عن انفعالات الشعب الإيطالي ومشاعره. أما اللغة الفرنسية فهي لغة فكرية جافة، مما يجعل الموسيقى الفرنسية تعاني على الدوام صعوبات فنية ناتجة عن طبيعة الصعوبات اللغوية «فليس في الموسيقى الفرنسية وزن ولا لحن؛ لأن اللغة تفتقر إليهما . وهناك حقائق لا سبيل إلى الشك فيها، هي أن الغناء الفرنسي صراخ مستمر، لا تطيقه الأذن المنصفة، وأن هارمونياتها خشنة خالية من التعبير، ولا توحي إلا بموضوع إنشاء تافه لتلميذ صغير، وأن «الآريات» الفرنسية ليست آريات والريسيتاتيف (التلاوة) الفرنسي ليس ريسيتاتيف. ومن هذه الحقائق استنتج أنه ليس للفرنسيين ولا يمكن أن تكون لهم موسيقى، أو أنه إذا أصبح لهم موسيقى يوما ما، فستكون هذه أسوأ موسيقى يمكن تصورها.»
15
ولقد كان روسو بدوره، شأنه شأن معظم فلاسفة العصور القديمة والعصور الوسطى وعهد الإصلاح الديني، يزدري الموسيقيين الذين يكتبون موسيقى بلا كلمات؛ فموسيقى الآلات تحتل في مذهبه الجمالي مكانة ثانوية؛ ولذلك قال: «إذا لم تكن الموسيقى قادرة على التصوير إلا باللحن، ومنه تستمد كل قوتها، فإنه يترتب على ذلك أن كل موسيقى غير غنائية مهما كان من توافقها ليست إلا موسيقى من النوع المحاكي، ولا تستطيع بهارمونياتها الجميلة أن تؤثر في النفس أو تصور شيئا، وسرعان ما تترك الأذن والقلب جامدا لا يتأثر .»
16
ثم يضيف روسو ساخرا وفي ذهنه إشارة صريحة إلى رامو: إن الصوت البشري في موسيقى نصير الأوبرا الفرنسية الكبيرة (جراند أوبرا)، لا يستخدم إلا بوصفه «مصاحبة للاصطحاب» كذلك حمل، كالقدماء وكثير من المفكرين النظريين في العصور الوسطى، على استخدام الكتابة الكنترابنطية. ولم ينكر روسو أن اللحنين اللذين يؤديان متفقين أحيانا، ومتقابلين أحيانا أخرى يمكن أن يتصفا بالجمال، غير أنه آثر البساطة على التعقيد؛ إذ إن الطبيعة ذاتها من وجهة نظره الفلسفية بسيطة في أساسها.
ولقد قام روسو بدور مزدوج، هو دور فيلسوف عصر التنوير الذي يدعو إلى العودة إلى الطبيعة بوصفها شفاء من كل الشرور الاجتماعية، ودور الموسيقي الذي وضع مذهبا جماليا عقليا في الموسيقى، مبنيا على مبادئ ميتافيزيقية. ولم يكن يجد غضاضة في إصدار أحكام قطعية، سواء بوصفه فيلسوفا أم بوصفه موسيقيا، ولكنه كتب في بحث بعنوان: «رسالة في الموسيقى الفرنسية
Lettre sur la musique francaise » (1753م) يقول: «... إنني أعترف بأني لا بد أن أزدري شعبا يولي أهمية مفرطة لأغانيه، ويضع موسيقييه في مرتبة أرفع من فلاسفته، ويضطر المرء إذا عاش بين ظهرانيه أن يتحدث عن الموسيقى بدقة وحرص يفوق حديثه عن أخطر المسائل الأخلاقية.»
17
وهو يقول أيضا: «... إن مهمة الشاعر هي أن يكتب شعرا ومهمة الموسيقي هي أن يؤلف موسيقى، ولكن الفيلسوف وحده هو القادر على أن يبحث في هذا وذاك معا.»
18
ولقد أعجب روسو أيما إعجاب بفرقة إيطالية للأوبرا كانت تؤدي أوبرا برجوليزي البهيجة «السيدة الخادم
La Serva
» في باريس عام 1752م، وقد قوبلت هذه الفرقة بحماسة تناظر تلك التي قوبلت بها «أوبرا الشحاذ» في إنجلترا. غير أن أنصار الأوبرا الجادة لم يروا في هذا العمل المرح إلا تجديفا وجريا على عادة الفرنسيين في مثل هذه الأحوال؛ فقد انقسم محبو الموسيقى في فرنسا إلى معسكرين حول هذه المسألة؛ فهناك المعجبون ب «السيدة الخادم» وهؤلاء أطلق عليهم «أنصار التهريج
buffonistes » وأنصار الأوبرا الجادة، وهؤلاء سموا بأعداء التهريجيين. وقد دافع روسو عن وجهة نظر «التهريجيين» في كتاباته وفي نشاطه الموسيقي الخاص. وعلى الرغم من أنه لم يتلق تعليما موسيقيا فنيا، فإن هذا لم يحل دون تأليفه أوبرا هزيلة على نص فرنسي، هي «عراف القرية
Le Devin du Village » (1752م)، وفيها حاول أن يطبق مبادئ الأوبرا الهزلية «البوفا» الإيطالية.
وكان روسو يرى أن اللحن هو أهم ما في الموسيقى. وعلى حين أن رامو كان يستمد ألحانه من التتابعات الهارمونية، فإن روسو قد أكد أن الهارمونيا لا معنى له بدون اللحن. ولقد كان روسو فيلسوفا أكثر منه موسيقيا في حملته على البوليفونية؛ إذ يقول: «إن أي هارمونيا يمكن أن تبعثها عدة سطور، لكل منها لحنه الجميل؛ إذا ما أديت سويا، تنتهي إلى إزالة أي تأثير لهذه الألحان الجميلة بمجرد أن نسمع معا ولا يظل يسمع عندئذ سوى تعاقب التآلفات الهارمونية، مما يوصف بأنه لا حياة فيه أبدا إذا لم يبعثه اللحن حيا، فكلما زاد المرء من تكديس الألحان غير المتلائمة بعضها فوق بعض، قلت المتعة وتضاءل الجمال اللحني للموسيقى؛ فمن المستحيل أن تتابع الأذن عدة ألحان في آن واحد، ولما كان أحدها يمحو تأثير الآخر، فلن يكون المجموع إلا جلبة وضوضاء، ولكي تكون القطعة الموسيقية بديعة، ولكي تنقل إلى الروح المشاعر التي يقصد منها أن تثيرها، فإن جميع الأسطر اللحنية ينبغي أن تتضافر في تقوية تأثير الموضوع، فلا يكون للهارمونيا من عمل سوى بعث النشاط في الموضوع الموسيقي، ولا يكون للآلات المصاحبة من وظيفة سوى تجميله دون أن تطغى عليه أو تشوهه. وعلى سطر القرار «الباص» (
bass ) أن يرشد المغني والسامع، في تتابع هارموني بسيط، دون أن يدركه واحد منهما، وبالاختصار فمن الواجب أن تنقل المجموعة كلها، في الوقت الواحد، لحنا واحدا إلى الأذن، وفكرة واحدة للذهن.»
19
ويضيف روسو في رسالته هذه عن الموسيقى الفرنسية، بعد قليل، قوله: «إن جعل الفيولينات تعزف بذاتها من جانب، والفلوتات (
Flutes ) من جانب آخر، والباصونات (الفاجوتو
bassoons ) من جانب ثالث، كل بلحنه الخاص، ودون أية علاقة متبادلة تذكر بينهم، ثم إطلاق اسم الموسيقى على هذه الفوضى الصاخبة، إنما هو إهانة للأذن ولذوق السامع.»
20
وبعد عشرين سنة من كتابة روسو ل «الرسالة في الموسيقى الفرنسية» تراجع عن هجومه على الموسيقى الفرنسية. ومع ذلك فإن الصراع الفلسفي والحملة الموسيقية التي شنها على موسيقى بلاده
21
قد مهدت الطريق، رغم ذلك، لظهور الفلسفة الهيجلية ودراما فاجنر في ألمانيا؛ ذلك لأن روسو قد وضع أسس النزعة القومية في نظريته الاجتماعية التي وجدت لها تبريرا فلسفيا في مثالية هيجل. وكان يرى أن الأوبرا القومية لا تنفصل عن لغة الأمة، وهي نفس الفكرة التي طبقها فاجنر فيما بعد عندما مجد في أوبراته الأساطير الجرمانية من أجل إحياء حضارة الأمة الألمانية، غير أن روسو قد اقتبس من الفلاسفة السابقين عليه مثلما أثر في اللاحقين له، من أمثال هيردر اللاهوتي، وهيجل الفيلسوف، وفاجنر الموسيقي؛ ذلك لأنه سلم بالرأي الأفلاطوني القائل إن الكلمات والموسيقى ينبغي ألا تنفصلا، وقد وجد في أسلوب الغناء الإيطالي الزخرفي ال «بل كانتو
Bel Canto » مبررا كافيا لتفضيل الصوت الغنائي الذي اعتقد أنه يؤثر في السامعين أكثر مما تؤثر فيهم أجمل الآلات الموسيقية. وقد اختلف مع رامو ؛ لأن هذا الأخير كان يبالغ في تأكيد أهمية موسيقى الآلات؛ ذلك لأن روسو كان يعتقد أن الآلات الخالصة لا تنتج عنها إلا مشاعر عامة غامضة، وكان يرى - مع أفلاطون - أن وظيفة الآلات هي تعميق النص الكلامي. وقد سخر من «الكنترابنط» كما فعل أفلاطون في أحكامه التي أصدرها على الموسيقى اليونانية الموزعة على صوتين متقابلين.
وقد وضع كريستوف فيليبالد فون جلوك
Christoff Willibald von Gluck (1714-1787م) نظرية جمالية في الموسيقى كانت أقرب إلى أذهان فلاسفة عصر التنوير من نظرية رامو؛ فقد كتب جلوك في تصديره لأوبرا «ألست
Alceste » يقول: «عندما عزمت على كتابة موسيقى «ألست»، قررت أن أخلصها تماما من تلك المساوئ، التي جلبها على الأوبرا غرور المغنين الكاذب، أو تهاون المؤلفين الموسيقيين المفرط، وهي المساوئ التي شوهت الأوبرا الإيطالية منذ عهد بعيد، وأحالت أروع المناظر وأبدعها إلى مناظر مضحكة مملة؛ لذلك اجتهدت في أن أقصر الموسيقى على أداء مهمتها الدقيقة، وهي أن تخدم الشعر عن طريق التعبير ومسايرة مواقف القصة، دون أن تقاطع الحوادث أو تشوهها عن طريق زخارف عميقة جوفاء ... ولقد رأيت أن جهدي الأعظم ينبغي أن ينصرف إلى التماس البساطة الجميلة، وتجنبت التظاهر بالتعقيد على حساب الوضوح.»
22
وأضاف جلوك في رسالة له يقول: «مهما كانت مواهب الموسيقي، فلن يستطيع أن يضع إلا موسيقى هزيلة إن لم يثر الشاعر فيه الحماسة التي بدونها تكون نواتج الفنون كلها ضعيفة تافهة؛ فالجميع متفقون على أن الهدف المشترك لكافة الفنون هو محاكاة الطبيعة، وهذا الهدف هو ما أسعى إلى بلوغه؛ لذلك فإن موسيقاي التي سعيت بقدر طاقتي إلى جعلها طبيعة بسيطة، لا تتجه إلا إلى التعبير عن معنى الشعر ودعمه إلى أقصى حد ممكن.»
23
وهكذا عرض جلوك أساس نظريته الجمالية، التي أرجع الفضل فيها إلى مؤلف أشعار أوبراته، «رانييري دي كالزابيجي
Ranieri de Calzaigi » (1714-1795م) بقوله إن الشعر له الأولوية، وإن وظيفة الموسيقى هي تصوير البيت الشعري وتأكيده. وقد تحدى جلوك تقاليد «الأوبرا الجادة» الإيطالية، وخلق أسلوبا جديدا للأوبرا مبنيا على المزيد من الواقعية الدرامية.
ولقد كان جلوك متشبعا بالروح الفلسفية لعصره. وأدت رغبته في العودة إلى حالة الطبيعة إلى مسارعة روسو بتأييده والترحيب به بوصفه واحدا من دعاة حركة «العود إلى الطبيعة». وكان جلوك حريصا على إصلاح الأوبرا الفرنسية بتطهيرها من تفاهات الأوبرا الإيطالية ونقائصها الفنية. غير أن أنصار الأوبرا الإيطالية قاوموا محاولته هذه التي تهدف إلى القضاء على قوالبهم التقليدية في الأوبرا، مثلما فعلوا عندما أعلنوا سخطهم على أوبرا «السيدة الخادم». وأقام أعداء الإصلاح هؤلاء «نيكولا بيتشيني
Niccola
» ووضعوه في مقابل جلوك وروسو؛ أي بيتشيني كان يمثل الأوبرا الإيطالية التقليدية، وجلوك كان يمثل روح الإصلاح التي بدأت في باريس بأوبرا برجوليزي وأوبرا «عراف القرية» لروسو.
ولقد كان مفهوم المحاكاة اليوناني واضحا كل الوضوح في التفكير الجمالي عند جلوك، الذي كان يعتقد أن الفن ينبغي أن يصور الطبيعة والظواهر الطبيعية تصويرا واقعيا، وأن في وسع الموسيقى، كأي فن آخر غيرها، أن تقوم بهذه المهمة. وفي هذا الصدد كان جلوك متفقا مع الآراء الجمالية السائدة في عصره، والقائلة إن الفنون يمكن أن يحل كل منها محل الآخر ، وأن ما يمكن أن يعبر عنه أحد الفنون يمكن أن يعبر عنه الآخر. وقد انتهى جلوك على أساس هذا المنطق، إلى أن في استطاعة الموسيقى أن تصور الواقع تصويرا دقيقا عن طريق تجميل الكلمة المنطوقة حتى تعبر عن معناها بدقة. وإذا كان روسو، في اهتمامه بالجانب النظري أكثر من الجانب العملي في الموسيقى، قد أوضح الصعوبات الجمالية التي يتضمنها تحويل اللغة إلى أغنية، والموسيقى إلى كلام، فإن جلوك الذي كان موسيقيا أكثر منه باحثا نظريا، قد بنى حركته الإصلاحية على إخضاع الموسيقى للنص. وكانت تلك طريقته الخاصة في تقويم عيوب الأوبرا الإيطالية التي تركت للمغنين الخصيان حرية استخدام الكلمات على هواهم، أو تغيير المقاطع من أجل زيادة التأثير النغمي. وكان جلوك يعتقد أن الأداء الأمين للنص هو الذي يضمن للموسيقى أن تكون طبيعية. على أنه عدل في عام 1777م موقفه الجمالي القائل إن الشعر له الأولوية، وإن وظيفة الموسيقى هي تصوير البيت الشعري وتأكيد معناه، فذهب إلى أن الموسيقى والشعر ينبغي أن يكونا في مركز متساو، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر.
وفي الوقت الذي أتم فيه إمانويل كانت
Immanuel Kant (1724-1804م) تأليف كتابه «نقد ملكة الحكم
Critique of Judgement » (1790م) كان باخ وهيندل وجلوك قد توفوا، وكان هايدن وموتسارت في قمة نضجهم الموسيقي. وعلى الرغم من أن عالما موسيقيا جديدا كان قد ظهر، فإن «إمانويل كانت» ظل يكتب بطريقة تليق بالأقدمين، فقال: إنه على الرغم من أن الموسيقى «تتحدث بواسطة الإحساسات وحدها دون تصورات، وبذلك لا تترك أي مجال للتفكير، كما يفعل الشعر، فإنها مع ذلك تحرك الذهن على أنحاء أكثر اختلافا، وبطريقة أقوى تأثيرا، وإن يكن ذلك على نحو عارض فحسب.»
24
ففي نظرية «كانت» الجمالي، يعد الشعر أقدر الفنون على اجتذاب العقل؛ إذ الكلمات هي الوسيلة الطبيعية للتعبير عن التصورات والأفكار؛ فالشعر في رأي «كانت» هو الذي يجمع على أفضل نحو ممكن بين العقل والتعبير. ويلي الشعر في المرتبة، النحت والتصوير، أما الموسيقى فهي في أدنى مراتب مذهبه الجمالي. ومرد ذلك إلى أن الموسيقى، في رأيه ، متعة أكثر منها ثقافة ... ولها في حكم العقل قيمة أقل من أي فن آخر من الفنون الجميلة. ومن هنا فإنها، ككل متعة أخرى، تريد التغير المستمر ولا تحتمل التكرار الكثير، وإلا جلبت السأم والملل.
وللموسيقى تأثير عضوي في السامع؛ إذ إنها - كالضحك واللهو - ترضينا؛ لأنها تبعث فينا شعورا بالصحة. ولا تقتصر قدرة الموسيقى على بعث الشعور بالحيوية والصحة في النفوس، ولما كانت تؤثر في سامعها أقوى تأثير، فقد اتفق «كانت» مع أفلاطون على أن الموسيقى تستطيع التغلغل في الأعماق الباطنة للنفس، بحيث يمكننا عن طريق الموسيقى «أن نصل إلى الجسم من خلال النفس، ونستخدم النفس طبيبا يشفي علل الجسم.»
ولقد سبق أن بحث أفلاطون وأرسطو في التأثيرات العضوية التي يمكن أن تتحكم بها الموسيقى في السلوك وتكوين الشخصية، فكتب أرسطو في «السياسة» يقول: «إن الإيقاع واللحن يحاكيان الثورة والرقة، وكذلك الشجاعة والاعتدال، وكل الصفات المضادة لهذه، وغيرها من صفات الشخصية. وهذه المحاكاة لا تكاد تختلف عن المشاعر الفعلية كما نعرفها في تجاربنا؛ إذ إن نفوسنا تتغير بسماعها لهذه الألحان.»
25
وقد ظلت «نظرية المشاعر» اليونانية هذه باقية، مع بعض التعديلات، في الفلسفات الموسيقية للرومان. ورددها الفلاسفة المسيحيون في القرون التالية، كما طبق الموسيقيون الخلاقون في العصر القوطي وعصر النهضة «مذهب المشاعر» بوصفه مجموعة من الصور الموسيقية الموحدة التي توحي بانفعالات محددة في نفس السامع، وكرر ديكارت هذه النغمة في القرن السابع عشر، وكذلك فعل ليبنتس وديدرو وروسو في القرن الثامن عشر. ومن هنا فليس من المستغرب أن نجد كانت يشير إلى «نظرية المشاعر» هذه في أحكامه الخاصة على الموسيقى، فلما كان تغير اتجاه الأنغام أشبه ما يكون بلغة عالمية للأحاسيس، يفهمها كل إنسان، فإن فن الصوت يستخدم بكل ما فيه من قدرة؛ أي بوصفه لغة للمشاعر، وبذلك ينقل للجميع بلا استثناء، عن طريق قوانين التداعي، تلك الأفكار الجمالية التي ترتبط به بطبيعتها.
26
وتتضمن آراء «كانت» الجمالية في الموسيقى عنصرا آخر دأبت الفلسفات السابقة على تأكيده، هو الإقلال من شأن الموسيقى الخالية من الكلمات؛ فقد رأينا أفلاطون وأرسطو يعربان عن سخطهما على أي تحديد يفصل الكلام عن الأنغام، كما رأينا القديس أوغسطين ولوثر وكالفان يؤكدون أهمية الدور الذي يمكن أن تقوم به الألحان السليمة في تعريف المتدين العادي بالكتاب المقدس. وبالمثل نظر «كانت» إلى الموسيقى على أنها «فن جميل (لا مجرد فن ممتع)، والسبب الوحيد في ذلك هو أنها تستخدم أداة للشعر.»
27
وكان يرى أن الموسيقى التي لا يوجد لها موضوع محدد، «بل كل موسيقى بغير كلمات في الواقع» هي محض خيالات.
28
فليس لموسيقى الآلات الخالصة من قيمة تذكر في نظر «كانت»؛ لأنها متحررة خيالية، ولا تعبر عن تصور محدد.
ولقد دعا معاصر «كانت» يوهان جوتفريد فون هيردر
Johann Gottfried Von Herder (1744-1803م) إلى فلسفة إنسانية في الموسيقى، مضادة للآراء الموسيقية المتزمتة التي دعا إليها حكيم كونجزبرج «كانت»، وتقول نظرية هيردر إن الموسيقى والفنون الأخرى تتطور من صورة أدنى إلى صورة أعلى، ولقد كان هذا الرأي معروفا من قبله عند ليبنتس، كما توسع فيه هيجل من بعده. على أن هيردر قد بدأ نظريته الجمالية في الموسيقى بفكرة قريبة من فكرة روسو القائلة إن الأغنيات الشعبية لدى الأمم ذات اللغات المختلفة في العالم هي التي تكشف عن «الأصوات. جمع الموسيقى الشعبية ل «الأمم المختلفة» البدائية منها والمتحضرة. وانتهى بهم افتتانهم بالغناء الشعبي والشعر والموسيقى إلى موقف رومانسي ينادي بوحدة الفنون، وهو موقف جمالي مضاد لما دعا إليه «جوتهولد إفرايم لسنج
Gotthold Ephraim Lessing » (1729-1781م) حين ميز بين الفنون تمييزا قاطعا في كتابه ال «لاوكون
Laocoon »،
29
وإن يكن قد أصبح رغم ذلك حقيقة واقعة في عالم الفن قرب نهاية القرن التاسع عشر، في أوبرات فاجنر. وقد اتفق هيردر مع روسو على ضرورة إصلاح الأوبرا، ولكن على حين أن روسو كان يعتقد أنه وجد في الموسيقى البوليفونية تحديا للنظام الطبيعي، فإن هيردر لم يجد مثل هذا التعارض أو مثل هذا التوازي بين أغنيات الإنسان والنظام الأزلي. وعلى الأرجح أنه اعتقد أن البوليفونية البدائية قديمة قدم الأغنية ذاتها، وأن البوليفونية قد نمت، في تاريخ الموسيقى، من صورة بدائية إلى صورة متطورة رفيعة في القرن الثامن عشر.
القسم الثاني: هايدن وموتسارت وبيتهوفن
وقعت ألمانيا في القرن السابع عشر فريسة صراع ديني وحرب مدمرة. وكان من الطبيعي أن تنعكس على الموسيقى صورة الظروف التي نشأت في ظلها، ألا وهي جو الصراع والموت هذا؛ فأهم ما أنتجته ألمانيا من الموسيقى في تلك الفترة كان ذا طابع ديني قبل كل شيء، وكان مكتوبا عادة للآلة الموسيقية الخاصة بالكنيسة، وهي الأرغن. وعلى حين أن الجزء الشمالي من ألمانيا قد اتخذ من لوثر مرشدا له في الأمور الروحية والموسيقية، فإن الجزء الجنوبي منها، الذي ظل كاثوليكيا كان يستورد الموسيقى والموسيقيين الإيطاليين ليستمتع بفنهم. وكان الموسيقيان البروتستانتيان، شوتس وباخ، يحسدان جيرانهم الجنوبيين في مجال الموسيقى، بل لقد حاولا إدخال الأفكار الجمالية للإيطاليين الكاثوليك في مؤلفاتهم البروتستانتية.
ولقد أصبحت إيطاليا المركز الموسيقي لأوروبا باكتشاف المونودية
monody
30 ، وهي لحن فردي بمصاحبة آلات موسيقية استخدمته جماعة الكاميراتا كرد فعل على الغناء البوليفوني المعقد في القرن السادس عشر. وقد أدى هذا الأسلوب المونودي في الغناء إلى جعل الأوبرا فنا محببا إلى نفوس الإيطاليين، وأذاع هذا القالب الموسيقي والأسلوب الغنائي الجديد في جميع أرجاء أوروبا. ويروي لنا فولتير أن الكاردينال مازاران قد أمر في عامي 1646م و1654م بأداء أوبرات إيطالية بواسطة مغنين استقدموا من إيطاليا خصوصا لهذا الغرض. غير أن الفرنسيين لم يميلوا على الفور للأوبرا الإيطالية، التي اخترعت في فلورنسا، لسبب بسيط - في رأي فولتير - هو أنه «ما زالت في فرنسا بقية من البربرية القديمة التي تعارض إدخال هذه الفنون.»
31
ولكن إذا لم يكن الفرنسيون قد مالوا إلى الأوبرا الإيطالية، فإنهم لم يعترضوا على الموسيقى التي يؤلفها موسيقي إيطالي، إذا كانت تتمشى مع الذوق الفرنسي. وهذا بعينه ما فعله موسيقي إيطالي، هو «لولى» الفلورنسي، الذي خلق للأوبرا الفرنسية قالبا مضادا للقالب الإيطالي، وظل القالب يتخذ أنموذجا يحتذيه الموسيقيون الفرنسيون طوال المائة عام التالية.
وفي القرن الثامن عشر ربط روسو بين الفن الموسيقي وبين مذهبه الفلسفي، فذهب إلى أن فكرة العود إلى الطبيعة، تحتم الأخذ بفكرة الطبيعة في الموسيقى، وقال: «إذا كانت الأوبرا تستهدف جلب لغة الحياة اليومية إلى المسرح، فمن الواضح أن هذه اللغة لا تتمثل في ذلك الحديث الفصيح المتكلف المتصنع، الذي كان يقدمه إلينا ممثلو القرنين السابع عشر والثامن عشر.» وقد عبر روسو عن فلسفته في الموسيقى، وعن روح الحماسة الفرنسية، في أوبرا «عراف القرية»، وكانت فلسفته في الموسيقى مرشدا للموسيقي الكبير جلوك، كما كان لها تأثيرها في عبقرية موتسارت المبكرة.
ولقد ظلت إيطاليا وفرنسا، حتى أوائل القرن الثامن عشر، متفوقتين على سائر البلدان الأوروبية في مجال الموسيقى، ولكن بحلول منتصف ذلك القرن، أصبحت ألمانيا أكثر بلدان العالم الغربي إبداعا؛ فقرب منتصف القرن الثامن عشر، فترت القدرات الخلاقة للموسيقيين الإيطاليين فتورا واضحا، وظلت الموسيقى المألوفة تتكرر دون تغير، ولم يظهر إنتاج موسيقي جديد يعادل في مكانته أو مزاياه الفنية موسيقى فترة الباروك الأولى، فقبل أواسط القرن الثامن عشر كانت أوروبا كلها تغترف من مناهل الموسيقى الإيطالية، أما بعد ذلك التاريخ، فقد بدا أن إيطاليا، وكذلك معظم بلدان أوروبا، قد أخذت تمر بفترة عقم فني، ولم تعد مظاهر النشاط الفني تتمثل إلا في بلد واحد هو ألمانيا؛ ففي الوقت الذي تراخت فيه إيطاليا لتجتر ماضيها الموسيقي، بدأ عهد موسيقي جديد في ألمانيا على أيدي هايدن وموتسارت وبيتهوفن، الذين تأثروا جميعا إلى حد ما بالآراء الجمالية الموسيقية لدى ابني يوهان سباستيان باخ، وهما كارل فيليب أمونويل ويوهان كريستيان (1735-1782م).
وفي عام 1745م عين أمير مانهايم عازفا بارعا على الفيولينة اسمه يوهان أنطون شتامتس
Johann Anton Stamitz (1717-1757م)، الذي أصبح بعد تعيينه بفترة وجيزة قائدا لأوركسترا البلاط. وبفضل توجيه هذا العازف العبقري، أصبح أوركسترا مانهايم أعظم مجموعة من العازفين في أوروبا، وعرض هؤلاء الموسيقيون تحت قيادته ألوانا وأساليب جديدة للعزف، واستحدثوا تأثيرات إيقاعية ودينامية لم تعرفها الأذن الأوروبية من قبل، فاستخدموا طريقة التصاعد (أي تقوية عنفوان الصوت رويدا رويدا)
crescendo
والخفوت (أي الهبوط بعنفوان الصوت شيئا فشيئا)
decrescendo
بنجاح ساحق، على حين أن موسيقي الباروك كان في البداية يضيف آلات أو أصواتا بشرية جديدة إذا أراد رفع الأصوات إلى إحدى القمم، ويسكت بعض هذه الآلات أو الأصوات إذا أراد صوتا خافتا. وهكذا استخدمت مدرسة مانهايم الموسيقية مؤثرات لم يكن عازفو عصر الباروك عاجزين عنها فحسب، بل لم يكونوا شاعرين بها أصلا.
ولم يقتصر تأثير مدرسة مانهايم على هذه النواحي الفنية فحسب، بل إن الأفراد المحيطين ب «شتامتس» أصبحوا طلائع عصر «العاصفة والاندفاع» في الآداب والفنون الألمانية؛ فقد عارض أفراد مدرسة مانهايم الأساليب الفنية التقليدية، ولم يقبلوا أن يظل الفنان في ذلك المركز الاجتماعي الذي كان يحتله في أيامهم، والذي كانت القرون الماضية تقبله على أنه أمر مسلم به. وقد تجلت روح التمرد هذه في الطابع المجدد لموسيقاهم وأساليبهم الفنية، كما أنهم طالبوا علنا بمزيد من الاحترام لمركزهم الاجتماعي بوصفهم موسيقيين. وبفضل موسيقاهم وآرائهم الاجتماعية مهدوا الطريق للفترة المقبلة في الحضارة الغربية، وهي الفترة التي كانت تتميز بعلاقة جديدة أكثر إنسانية بين الموسيقي الذي ينتمي إلى الطبقة الوسطى وبين أفراد الطبقة العليا في المجتمع.
ولقد كان للآراء الاجتماعية والفنية التي نادت بها مدرسة مانهايم تأثيرها في فرانز يوزف هايدن
Franz Joseph Hayden (1732-1809م)؛ فقد كان هايدن يعزف موسيقاهم في بلاط الأمير الذي يعمل عنده، كما انضم إلى تمردهم بأن شكا على استحياء من أن هذا الأمير كان مخطئا في معاملته على أنه مجرد خادم أجير في البلاط، عليه أن يظل دائما تحت رحمة سيده، وطوع بنانه؛ فلم يكن هايدن يعتقد أن من اللائق أن يظل في عزلة في البلاط لا لشيء إلا لكي يجلب المتعة للأقلية الأرستقراطية، وإنما أراد أن تنشر موسيقاه، بحيث تتجاوز نطاق حياة البلاط، حتى «يستمتع المنهكون والمكدودون، أو أولئك الذين يرزحون تحت وطأة عملهم، بلحظات قليلة من السعادة والرضا» وهم يستمعون إلى موسيقاه.
ولقد امتدت حياة هايدن طوال الفترة الكلاسيكية للموسيقى بأكملها، واستهل هو ذاته عهد الأسلوب الكلاسيكي في الموسيقى عن طريق الرباعية الوترية والسيمفونية؛ ففي الرباعية جعل لكل حركة استقلالا خاصا بها، من حيث القالب، ومن حيث التباين بينها وبين الأخريات. كما طور طريقة التفكير من خلال ألحان موسيقية رئيسية، ووضع أسس التركيب المنطقي للتفكير الموسيقي المبني على تطوير اللحن. وقد عبر عن هذه الأفكار الموسيقية في ألحان مميزة، وزاد على موسيقى عصر الباروك في أنه وزع اللحن على أكثر من خط صوتي واحد وحسب أهميته. وكان هايدن ينظر إلى اللحن على أنه تفكير موسيقي. وقد ظل متمسكا بهذه النظرة في كل رباعياته، وبذلك أضفى عليها استمرارا واتصالا، على عكس النوع الأقل انسيابا الذي كان يتميز به عصر الباروك. وكان كل صوت يغني اللحن في دوره، وعن طريق الكنترابنط وصل هايدن إلى توازن سليم في مؤلفاته بين الآلات الأربع.
وقد أتاحت السيمفونية لهايدن أن يزيد نظريته الجمالية توسعا. ومع ذلك فإنه قد حرص، طوال سنوات تطوره الموسيقي، على ألا يتعمد فرض أسلوب يعتقد بصلاحيته لقالب موسيقي معين، على قالب آخر، وإنما كان يعتقد أن لكل قالب موسيقي حياة خاصة به، وأن كل قطعة ينبغي أن تعامل على أنها كيان قائم بذاته، وأن تكتب على هذا الأساس.
ولقد ألف هايدن أيضا أوبرا للأمير الذي كان يعمل عنده، وظل يكد سنوات عديدة لكي يكتب أوبرات تضارع رباعياته وسيمفونياته، بل كان يعتقد بالفعل أنها أفضل من مؤلفاته الموسيقية الصرف، ولكن أوبراته لم تصل أبدا إلى مستوى الأوبرات السابقة في عصر الباروك، ولم تقترب فنيا من مستوى أعماله الموسيقية الخالصة. ولم يكن الفيلسوف شيلر
Schiller
يعتقد بأن أوراتوريو «الخلق
Creation » لهايدن هو عمل رفيع، وإنما انتقده على أساس أنه خليط مضطرب لا لون له، وصف هايدن بأنه فنان ماهر يفتقر إلى الإلهام.
أما فولفجانج أماديوس موتسارت
Wolfgang Amadeus Mozart (1756-1791م) فكان أكثر توفيقا مع الفلاسفة من معاصره الأكبر سنا، هايدن؛ فقد أثنى عليه كيركجورد
Kierkegaard ، المفكر الذي يعشق الموسيقى، ووصفه بأنه خالد، كما امتدح أوبرا «دون جوفاني»، فقال عنها إنها من خلق موسيقي ملهم. وإنا لنجد في الكتابات الصوفية لهذا الفيلسوف الدنماركي تبجيلا دائما لشخصية موتسارت التي أحبها إلى درجة العبادة. والواقع أن موتسارت استخدم، في التعبير عن مشاعره وأفكاره ، كل القوالب الإيقاعية والنغمية التقليدية، ولكنه زادها كلها عمقا. وقد ألف موتسارت وهو صبي في الثانية عشرة من عمره مسرحية غنائية بعنوان «باستيان وباستيين
Bastien and Bastienne » استخدم فيها حوارا كلاميا بين الأجزاء الغنائية، على نمط مسرحية روسو الغنائية التي أحرزت نجاحا كبيرا، «عراف القرية». وعندما أصبح موسيقيا ناضجا ظهر في مؤلفاته تأثير «الرباعيات الروسية» لهايدن، الذي كان له بمثابة الأب. وقد أهدى موتسارت بعض رباعياته إلى هايدن لكي يعرف العالم مقدار ما يدين به لموسيقي فينا الكبير. كذلك تأثر موتسارت بالإصلاحات التي أدخلها جلوك على الأوبرا الفرنسية، ولكنه يرى أن من الواجب أن يظل الشعر ابنا مطيعا للموسيقى لا العكس كما أراد جلوك في البداية. ولقد تعلم موتسارت من جلوك أن تصوير الأحداث الدرامية بطريقة واقعية هو من الضرورات الفنية، ولكنه افتتن أيضا بالألحان الإيطالية المنسابة.
وفي أوبرا «زواج فيجارو» استغل موتسارت الموضوع الذي ألفه «بومارشيه
Beaumarchais » عن الانحلال الخلقي للطبقة الأرستقراطية، وهو موضوع كان من العوامل التي مهدت للثورة الفرنسية. ولقد كان في هذه الأوبرا الهزلية (أوبرا بوفا) نغمة جادة كامنة، لا سيما في شخصية فيجارو، الذي يرمز إلى كل الصراع الذي وجد موتسارت نفسه فيه، والذي كان على الدوام ضحية له. وقد تبدو أوبرا «زواج فيجارو» ظاهريا عملا عابثا، ولكن من وراء السطح الظاهري توجد نغمة سياسية جادة، وسخرية حقيقة معبرة عن اعتقاد موتسارت بضرورة قيام نظام اجتماعي جديد.
ومن الملاحظ أن موتسارت، رغم كونه كاثوليكيا مؤمنا، قد انضم إلى الحركة الماسونية احتجاجا على المظالم الاجتماعية التي كانت الدولة تسببها، والكنيسة تسمح بقيامها. وعلى حين أنه قد سر عندما أعلن موت فولتير «الملحد»، فإنه عندما مات هو ذاته، لم يجد قسيسا يقبل الإشراف على دفنه؛ لأنه كان ماسونيا.
ولقد كانت طريقة الموسيقى والنص في الدراما الموسيقية التي وضعها موتسارت متوازنين بطريقة سليمة. وعمل موتسارت على زيادة عدد المجموعات الغنائية في أوبراته بالنسبة إلى عددهم عند السابقين عليه، على أساس أن المجموعة الغنائية تحدث على المسرح تأثيرا دراميا يفوق تأثير المغني الواحد . كما أنه أظهر مقدرته المسرحية بإعطائه للشخصيات الرئيسية في الأوبرا أسلوبا محدد المعالم طوال العرض. وقد عمق هذه الشخصيات بوسائل لم تعرفها التقاليد السائدة من قبل، وذلك بإيجاد جو هزلي له أساس خلقي جاد، غير أن هذا التجديد الأوبراتي لم ينجح للأسف في إيطاليا؛ إذ كان التراث الإيطالي قد تغلغل في ذلك الوقت في نفوس الإيطاليين إلى حد أنهم أصبحوا ينفرون من أي مزج بين الأوبرا الجادة (سيريا) والأوبرا الهازلة (بوفا)؛ فهم قد اعتادوا أوبرا ذات أسلوب واحد، إما هازلة وإما جادة، وهذا هو ما كانوا ينتظرونه من الأوبرا.
أما موسيقى لودفيج فان بيتهوفن
Ludwig van Beethoven (1770-1827م) فإنها، كما قال فكتور هيجو، تصغي إلى انسجام الأفلاك الذي أكده الفيلسوف أفلاطون. كما ردد برليوز هذا القول، فامتدح معبوده بيتهوفن بقوله إن موسيقاه نسخة صادقة من الانسجام السماوي. وكتب فاجنر يقول: إن موسيقى بيتهوفن تجسيد للإرادة الكلية، وتعبير عن فلسفة شوبنهور في الموسيقى. تلك بعض المقارنات التي أجريت بين موسيقى بيتهوفن وبين ميتافيزيقا بعض الفلاسفة الكبار.
ولقد أصبحت آراء بيتهوفن الجمالية في الموسيقى مقدسة في نظر الرومانتيكيين، وكان نجاحه في إخضاع الأرستقراطية لإرادته تحقيقا ظافرا للآراء الاجتماعية لمدرسة مانهايم. وقد أصبح بيتهوفن مثالا للموسيقي الذي لا يخضع للقيود، والذي لا يكتب للكنيسة ولا لسيد يرعاه، وإنما يكتب لنفسه. ولم يكن يؤلف موسيقاه انصياعا لأوامر تملى عليه، وإنما كان يؤلفها لأنه يريد ذلك، ولأن روحه هي التي تدفعه إلى التأليف. وكان بيتهوفن يمثل كل ما تطلع إليه الموسيقي الكلاسيكي، وما كان يعود إليه الموسيقي الرومانتيكي بأنظاره في إعجاب وخشوع.
وتتصف موسيقى هايدن وموتسارت وبيتهوفن بأن للحن الأهمية الأولى فيها، وقد ظلت موسيقى بيتهوفن خالصة بلا غناء، فيما عدا استثناءات قليلة لا ترقى إلى مستوى موسيقاه الخالصة؛ ذلك لأن النطاق الصوتي الذي يفرضه على مغنيه كثيرا ما يكون مرهقا وغير طبيعي. وهذه الظاهرة تصبح مفهومة إذا ما أخذنا بمأخذ الجد ملاحظته القائلة: «إنني أسمع موسيقاي دائما على آلات، لا على أصوات بشرية.» وحيثما يضيف بيتهوفن الصوت البشري ، كما في «السيمفونية التاسعة» فإن ذلك لا يؤدي إلى زيادة الموسيقى ثراء. ومع ذلك ففي أوبراه الوحيدة «فيدليو» تتسم الأجزاء الغنائية بميزات موسيقية فريدة تكذب النظرية القائلة إنه لم يكن يستطيع أن يكتب للصوت البشري بنفس الإجادة التي يكتب بها للآلات الموسيقية.
الفصل السابع
الفلسفة التالية ل «كانت» والرومانتيكية
في الموسيقى
القسم الأول: الفلسفات الموسيقية عند هيجل وشوبنهور ونيتشه
وصف جيورج فلهلم فريدريج هيجل
G. W. F. Hegel (1770-1831م) الموسيقى بأنها فن الشعور والحالة النفسية اللذين يؤديان إلى إثارة أنواع لا حصر لها من المشاعر والحالات النفسية. وكانت الموسيقى في نظره «الفن الثاني الذي يحقق النمط الرومانتيكي، مع التصوير وفي مقابله ...»
1
وهو ينبئنا، مثل أرسطو بأن الأنغام أقدر من الألوان بكثير، وأن السمع أكثر مثالية من الإبصار،
2
إذ إنه «في الأنغام الموسيقية يتردد ويتجاوب النطاق الكامل لمشاعرنا وانفعالاتنا التي لا يكون موضوعها قد تحدد بعد .»
3
وإنا لنجد للفنون التشكيلية والتصويرية وجودا مستقلا في المكان، يتمثل في النحت أكثر مما يتمثل في التصوير؛ إذ إننا نرى الأول على أنه شيء خارج عنا. أما الموسيقى فليست لها هذه الموضوعية في المكان؛ إذ إن ماهيتها الباطنة تتألف من الإيقاع ذاته «... ولما كانت هذه الموضوعية الخارجية تختفي في الموسيقى، فإن انفصال العمل الفني عن متذوقه يختفي بدوره. وعلى ذلك، فإن العمل الموسيقي يتغلغل في الأعماق الباطنة للنفس، ويندمج في ذاتيتها اندماجا لا ينفصم.»
4
ويضيف هيجل، بطريقة أفلاطونية خالصة، أن لهذه الصفة الإيقاعية في الموسيقى تأثيرا فريدا في النفس، حتى إن لها في الانفعالات البشرية تأثيرا مباشرا يفوق تأثير أي فن من الفنون الأخرى. وبعد ذلك تكون مهمة الشعر هي وضع كلمات للأصوات، وأفكار للمشاعر، وتصورات للتأثرات النفسية، بحيث إن ما كان غامضا غير محدد المعالم في الموسيقى يغدو أوضح وأعظم تحددا عن طريق لغة الشاعر.
ولقد كان الثالوث الرومانتيكي للفنون، في مذهب هيجل، يتألف من التصوير والموسيقى، وذلك النوع الأكثر مثالية، وهو الشعر. كذلك كان هيجل مسايرا للتقاليد في تفضيله الموسيقى الغنائية على موسيقى الآلات؛ إذ إن الأخيرة في رأيه غامضة تكتفي بالإيحاء فحسب. صحيح أن اللحن الموسيقي بلا كلمات قد يثير فينا أفكارا، ولكن هذه لا يمكن إلا أن تكون أفكارا قرأناها نحن أنفسنا فيها. وعلى ذلك فالموسيقى الغنائية؛ أي التي ترتبط بنص كلامي، تعلو في نظر هيجل على موسيقى الآلات التي «لا تعدو أن تكون تعاملا ذاتيا مع صور مجردة». وعن طريق إضافة اللغة بوصفها تعبيرا عن العقل إلى الحركة الشكلية أو الصورية التي يضفيها الإيقاع على اللحن، تصبح الموسيقى حافلة بالمعنى بعد أن كانت خيالية، وتغدو محددة المعالم بعد أن كانت غامضة، وعقلية بعد أن كانت انفعالية خالصة.
وكان هيجل يعجب بالأوبرا الإيطالية، ولا سيما عند روسيني، إلى حد لا يفوقه سوى إعجاب شوبنهور «الذي أعلن أنه أصبح يفهم القدرات الأساسية الكامنة في الموسيقي»، بعد سماعه لأعمال هذا الموسيقي الكبير. على أن هيجل عندما استمع إلى أداء المؤلف باخ «المسيح حسب إنجيل متى
St. Matthews
»، وأصبح من المتحمسين لحركة إحياء موسيقاه. وقد نوه هيجل، في محاضراته في علم الجمال، التي استمع إليها مندلسون ذاته، بعبقرية باخ التي تجاهلها الناس، «والتي لم نبدأ في تقدير قيمتها الحقيقية إلا في الآونة الأخيرة.»
5
وقد اختلف يوهان فريدريخ هربارت
Johann Friedrich Herbart (1776-184م) مع هيجل في مثاليته الفلسفية، ورومانتيكيته الموسيقية؛ فلم يكن يعتقد أن مهمة الفيلسوف هي تشييد العالم بفكره، وإنما هي قبوله كما هو، وتفسيره تفسيرا واقعيا. كذلك رفض أن ينظر إلى الموسيقى على أنها مظهر من مظاهر مذهب ميتافيزيقي عام، فكتب يقول: «من المتوقع أن يكون للأعمال الفنية معنى ... والفنانون يسرهم أن يبدعوا أعمالا ذات معنى، ولكن الموسيقى «موسيقى»، وليس من الضروري لكي تكون جميلة أن تعني شيئا ... على أننا ما زلنا نجد موسيقيين موهوبين يرددون الرأي القائل إن الموسيقى ينبغي أن تعبر عن المشاعر، وكأن تلك المشاعر التي تثيرها الموسيقى، والتي يجوز بالتالي استخدام الموسيقى في التعبير عنها، هي أساس قواعد الكنترابنط البسيط، والمركب الذي تكمن فيه الماهية الحقيقية للموسيقى، ولنتساءل: ما الذي كان الموسيقيون الأقدمون الكبار ينوون «التعبير عنه» عندما وضعوا القوالب الممكنة الفوجة
Fugue ؟ لا شيء على الإطلاق؛ فأفكارهم لم تكن تخرج عن نطاق فنونهم، إنما كانت تتغلغل بعمق في قلب هذه الفنون.»
6
وفي فلسفة أرتور شوبنهور
Arthur Schopenhauer (1788-1860م) كانت الموسيقى تعد «تعبيرا موضوعيا مباشرا، وصورة للإرادة الكلية، شأنها شأن العالم نفسه، بل كالمثل ذاتها، التي تكون مظاهرها المتعددة عالم الأشياء الفردية»؛ فالموسيقى في رأي شوبنهور «ليست كالفنون الأخرى» في كونها للمثل الأفلاطونية، «وإنما هي صورة لنفس الإرادة التي تعد المثل مظهرا موضوعيا لها؛ لهذا كان تأثير الموسيقى أقوى وأعمق بكثير من تأثير الفنون الأخرى؛ إذ إن هذه الفنون الأخرى لا تتحدث إلا عن مظاهر، على حين أن الموسيقى تتحدث عن الشيء في ذاته.»
7
ذلك لأن العمارة والنحت والتصوير تعبر عن مراحل متدرجة تنكشف بها إرادة الإنسان وجهوده، أما الموسيقى فهي العمل الذي يتوج هذه كلها؛ لأنها هي المجموع الكامل لكل تعبير فني، وصوت الإرادة الكاملة للإنسان والطبيعة؛ فبالموسيقى تكشف الطبيعة لنا عن أسرارها الباطنة ودوافعها وأمانيها بطريقة تجل على العقل، ولكن يدركها الشعور. ولقد وجه شوبنهور لومه إلى ليبنتس؛ لأنه رفض الموسيقى حين جعلها حسابا لا شعوريا لأعداد، وحور كلمة ليبتس بالطريقة الملائمة لمعتقداته الخاصة - كما فعل سقراط في مجاورة فيدون - فقال إن الموسيقى ليست حسابا لا شعوريا لأعداد، وإنما هي ممارسة غير واعية للميتافيزيقا؛ أي إنها تفلسف لا شعوري.
8
وقد اتفق شوبنهور مع كانت وهيجل على أن الموسيقى فن يعبر بطريقة غير محددة المعالم؛ فهو يقول إن الموسيقى «لا تعبر عن هذا الفرح المعين أو ذاك، أو هذا الحزن أو الألم أو الرعب أو السرور أو المرح أو الطمأنينة أو ذاك، وإنما هي تعبر عن الفرح والحزن والألم والرعب والسرور والمرح والطمأنينة في ذاتها؛ أي بطريقة مجردة إلى حد ما؛ فهي تعبر عن الطبيعة الكامنة لهذه المشاعر، دون إضافات من الخارج، وبالتالي دون دوافعها الظاهرية. ومع ذلك فنحن نفهمها، في هذه الخلاصة المستمدة منها، على أكمل نحو.»
9
والموسيقى في رأي شوبنهور صورة للإرادة، كما أن الأصوات الموسيقية تناظر مراحل معينة في تطور الطبيعة؛ فأخفض الأصوات الهارمونية، وهو «الباص» أشبه بالطبيعة الخام غير العضوية، التي يرتكز عليها وينشأ ويتطور منها كل شيء آخر، والأصوات الأربعة تناظر العالم المعدني والنباتي والحيواني، بحيث يكون اللحن هو «أعلى مظهر موضوعي للإرادة، يناظر الحياة العقلية وفاعلية الإنسان.»
10
وكما أن اللحن ارتباط مقصود ذو دلالة من بدايته إلى نهايته، فإن لنظيره في الإنسان مثل هذا الارتباط؛ إذ يعكس الماضي، ويستبق المستقبل في حنينه العقلي إلى الكلية والاستمرار.
وبينما كانت النظريات المالية في القرن الثامن عشر تقلل من قيمة موسيقى الآلات، فإن القرن التاسع عشر قد جعل قيمة موسيقى الآلات الخالصة تسمو على قيمة الكلمة المنطوقة. وقد كتب إ. ت. أ. هوفمان
E. T. A. Hoffmann (1776-1823م) شاعر الرومانتيكية، يقول في نقده لسيمفونية بيتهوفن الخامسة: «عندما يتحدث المرء عن الموسيقى بوصفها فنا مستقلا، فعليه دائما أن يقتصر في تفكيره على موسيقى الآلات ...»
11
وقد أعرب فيلكس مندلسون
Felix Mendelssohn (1809-1847م) موسيقي الرومانتيكية، على أن آراءه الجمالية في رسالة قال فيها: «إن الأفكار التي تعبر عنها المؤلفات الموسيقية الجيدة ليست أغمض، وإنما هي أوضح، من أن تعبر عنها الكلمات.» وكان يعتقد أن الموسيقى الجيدة «لا تصبح أكثر دلالة أو معقولية عن طريق التفسيرات الشعرية، وإنما تصبح أقبل دلالة ووضوحا.»
12
والواقع أن فلسفة شوبنهور تحمل طابع العصر الرومانتيكي في الموسيقى بوضوح؛ فهو ينبئنا بأن «الموسيقى لو اتحدت بالكلمات أكثر مما ينبغي، وحاولت أن تتشكل وفقا للحوادث، لكانت بذلك تحاول أن تتكلم بلغة غير لغتها. والواقع أن أحدا لم يتحرر من الخطأ بقدر ما تحرر منه روسيني، ومن هنا كانت موسيقاه تتكلم لغتها الخاصة بوضوح وصفاء إلى حد لا تحتاج معه إلى كلمات، وهي تحدث تأثيرها الكامل عندما تؤديها الآلات وحدها.»
13
وإذن فليست للكلمات إلا قيمة ثانوية، بل هي تكون أحيانا دخيلة على اللحن المتصل أو فقرة الغناء المتموج الصادح
Coloratura ، ويضيف شوبنهور في فصل له بعنوان «في ميتافيزيقا الموسيقى» قوله: «بقدر ما يكون من المؤكد أن الموسيقى، بدلا من أن تكون مجرد تابع للشعر، هي فن مستقل، بل هي أقوى الفنون جميعا؛ وبالتالي فهي تبلغ غاياتها بوسائل خاصة بها تماما. بهذا القدر نفسه لا تكون الموسيقى في حاجة إلى كلمات الأغنية أو حوادث الأوبرا ... فالكلمات هي، وستظل دائما، إضافة غريبة بالنسبة إلى الموسيقى، لها قيمة ثانوية، وإن تأثير اللحن أقوى وأصدق وأسرع إلى حد لا متناه من تأثير الكلمات؛ لذلك فإذا أدمجت الكلمات بالموسيقى، فمن الواجب أن يكون لها مركز ثانوي بحت، وأن تتكيف تماما تبعا لها.»
14
ومن ذلك انتهى شوبنهور إلى أن الموسيقى قادرة دون شك بوسائلها الخاصة «على التعبير عن كل حركة للإرادة، وكل شعور، ولكننا بإضافة الكلمات نتلقى، إلى جانب هذه، موضوعات هذه المشاعر والدوافع التي أثارتها.»
15
وكما أن الكلي يمكن أن يتمثل في موضوع يجسده، بلغة الفلسفة، فكذلك يمكن أن يندمج المضمون الغامض للموسيقى، في أي لحن، بالمعنى العيني لكلمة مثل الشعور.
ولقد أعلن ريشارد فاجنر
Richard Wagner (1813-1883م) ولاءه ظاهريا لهذه الفلسفة في الموسيقى، غير أن من السذاجة الاعتقاد بأن فاجنر، الذي حاول إدماج الفنون بمزج النص باللحن، ثم وضع هذا كله في مقابل أوركسترا هائل في ضخامته، كان يأخذ آراء أمير التشاؤم (شوبنهور) مأخذ الجد؛ فأساس فلسفة شوبنهور الموسيقية هو الاعتقاد بأن اللحن له الحق في أن يوجد بذاته، مستقلا عن النص والأحداث التي تدور على خشبة المسرح. أما فاجنر فقد اعترض بشدة على هذه الفلسفة كما مارسها الإيطاليون، ومن هنا كان غير متسق مع ذاته عندما قبلها عند شوبنهور.
ولقد كان الفيلسوف الذي أدرك بوضوح ما في موقف فاجنر هذا من التناقض هو فريدرش نيتشه
Friedrich Nietzsche (1844-1900م) غير أن نيتشه ذاته قد وقع في تناقض صارخ عندما حمل على الرومانتيكية ووصفها بالانحلال، في الوقت الذي كانت فيه آراؤه الجمالية في الموسيقى لا تقل تمشيا مع العصر الرومانتيكي في الموسيقى عن آراء شوبنهور؛ فهو كذا الأخير يرفع قيمة اللحن فوق الكلمة المنطوقة، ويقول في لهجة تذكرنا بهيردر إلى حد ما: «علينا أن ننظر إلى الأغنية الشعبية على أنها المرآة الموسيقية للعالم، وعلى أنها اللحن الأصلي، باحثا لنفسه عن ظاهرة حالمة موازية، ومعبرا عنها في الشعر. وعلى ذلك فاللحن له الأولوية، وهو كلي شامل؛ وبالتالي فهو يقبل تعبيرات موضوعية تختلف باختلاف النصوص التي تضاف إليه.»
16
وهو يواصل كلامه قائلا: «إن مناقشتنا كلها تنصب على تأكيد أن الشعر يعتمد على روح الموسيقى مثلما أن الموسيقى، في سيادتها المطلقة، لا تحتاج إلى الصورة والمفهوم، وإنما «تقبلهما» فقط، بوصفهما عنصرين مصاحبين لها؛ فليس في وسع قصائد الشاعر الغنائي أن تعبر عن شيء لم يكن من قبل كامنا في ذلك الطابع الكلي المطلق للموسيقى، الذي دفعه إلى التعبير المجازي. ومن المستحيل أن تعبر اللغة تعبيرا كافيا عن الرمزية الكونية للموسيقى؛ لأن الموسيقى ترتبط في علاقة رمزية بالتناقض الأصلي والألم الأصلي في قلب الوحدة الأولى؛ وبالتالي فهي ترمز إلى مجال يتجاوز كل الظواهر ويسبقها. والأصح أن نقول إن كل الظواهر ، بالنسبة إليها، هي مجرد رموز. ومن هنا فإن اللغة بوصفها أداة الظواهر ورمزها، لا يمكنها بأية حال أن تعبر عن الأعماق الباطنة للموسيقى. وكل ما تقدر عليه اللغة، عندما تحاول محاكاتها، هو أن ترتبط بها ارتباطا سطحيا، على حين أنه لو اجتمع للشعر الغنائي كل ما في الدنيا من فصاحة. فلن يقربها منا خطوة واحدة.»
17
وهناك تشابه ملحوظ بين مفهومي الديونيزية والأبولونية عند نيتشه، وبين شوبنهور السابق بين الموسيقى والفنون التصويرية أو التمثيلية، وفي «ميلاد التراجيديا» فقرة تشهد بهذا التشابه، وإن يكن نيتشه قد اقتصر فيها على الإشارة إلى شوبنهور دون أن يذكر اسمه.
18
فقد كان نيتشه ينظر إلى الموسيقى على أنها وسيلة يستطيع بها الإنسان أن يعيد تقويم قيمه، وأن يحول هذا العالم الأصم إلى مجال أروع وأفضل يعيش فيه الإنسان، مؤقتا على الأقل؛ ذلك لأن الموسيقى في رأيه هي قبل كل شيء فن الانفعال؛ أي إنها ديونيزية بطبيعتها. والفنان ولا سيما الموسيقي، هو الذي يستطيع في مجاله الخاص، أن يطهر المجتمع الفاسد؛ فالموسيقي يمكنه أن ينقلنا إلى أجواء أنقى وأصفى بأن يزيد فنه كمالا عن طريق تحقيق أمانينا ورغباتنا بالخيال في إطار شكلي، وبذلك يساعد على إضفاء الانسجام والنظام على حياتنا المتخبطة في الفوضى.
ومن رأي نيتشه أن فاجنر قد وقع في خطأ آخر؛ إذ حاول أن يخلص البشرية بشخصية لا طعم لها، هي شخصية «بارسيفال» الساذجة التي لم تعرف الحب ولا الخطيئة. أما شخصية «كارمن» فهي على الأقل قد أحبت وخسرت المعركة. وقد عاب نيتشه على فاجنر أنه لجأ إلى الخيال الرومانتيكي وتمسك بالأيديولوجية المسيحية في الوقت الذي كان من الواضح فيه أن آخر مسيحي قد مات على الصليب، وأن المسيحية بوصفها أسلوبا في الحياة، مبنية على قيم زائفة. أما بيزيه
Bizet
فقد عرض الحياة بطريقة واقعية على مشاهديه؛ فأحد الموسيقيين قد انتهى به الأمر إلى أن يدير ظهره للحياة، أما الآخر فقد واجهها مباشرة. وهكذا أصبح فاجنر هو الفنان الزائف الذي يتعامل مع الخداع والتظاهر، وذلك إذ يمجد الإرادة في تريستان، ثم يقضي عليها في بارسيفال الزاهد. أما بيزيه فهو الفنان الحقيقي الذي واجهت شخصياته الحياة وسعت إلى تحقيق ذاتها في عالم مليء بالفوضى.
وفي النهاية، اتفق نيتشه مع أفلاطون في قوله: «ما أكذب الشعراء!» واتهم كل الفنانين بأنهم يحتمون بالسلطان؛ إذ إنهم «كانوا في كل العصور خدما مطيعين لمذهب أخلاقي أو فلسفة أو عقيدة». وإذ وصل نيتشه إلى هذا الحد من المرارة، فقد رأى أن الإنسان الأرقى وحده (السوبر مان) هو القادر على أن يعيد تقويم كل القيم التي نحيا بها، وكان في ذلك تفنيد لرأيه الأصلي القائل إن الفن هو في أساسه «تأكيد إيجابي للحياة، وتمجيد وتأليه لها». وقد اتفق شوبنهور على أن الموسيقى تتيح لنا مهربا، وفترات من الهدوء والسلام، ولكن على حين أن الموسيقى كانت في رأي شوبنهور تتيح الانتقال من الإرادة إلى التخيل، ومن الرغبة إلى التأمل، فإنها عند نيتشه تمكننا من أن نسمو فوق عالمنا الأصم المتخبط إلى عالم وضاء، يعبر عن رغباتنا وآمالنا.
القسم الثاني: فاجنر وهانسليك
تأثر فاجنر، في المراحل الأولى من حياته الفنية، بالفيلسوف لودفيج فويرباخ
Feuerbach (1804-1872م). وكان فويرباخ قد هاجم اللاهوت المحافظ في أيامه بالقول إن للمسيحية أصلا بشريا، وإن الفلسفة لا تزيد كثيرا على لاهوت متنكر. ولقد كان هذا التفسير الطبيعي للمسيحية، الذي صور الخالق بأنه مجرد مثل أعلى متغير خلقه الإنسان، واحتفظ به لكي يلبي حاجة جمالية ودينية؛ كان متمشيا مع الثورة التي قامت في ألمانيا في أواسط القرن التاسع عشر، ضد الأوضاع الاجتماعية القائمة، والعقيدة التقليدية، والقوالب الفنية العتيقة. ولقد كان فاجنر في كتابه «العمل الفني في المستقبل» (1850م) قد اقتبس العنوان ذاته من كتاب فويرباخ «أصول فلسفة المستقبل» (1843م)، وكانت تصدره في طبعته الأصلية التي نشر فيها بوصفه بحثا مستقلا، رسالة كتبها فاجنر إلى فويرباخ، تبدأ بقوله: «لن أستطيع أن أهدي بحثي هذا إلى أحد سواك يا سيدي العزيز؛ إذ إنني إنما أعيد به إليك ما هو ملكك.»
19
وبعد ذلك بوقت قصير، نبه نيتشه فاجنر إلى أهمية فلسفة شوبنهور الجمالية، وسرعان ما تحول فاجنر من ديالكتيك فويرباخ إلى فكرة الإرادة عند شوبنهور، ولكن فاجنر بمضي الوقت، غير فلسفته الفنية مرة أخرى؛ إذ تخلى عن الإرادة في سبيل الاستسلام المسيحي؛ فبينما كانت «تريستان» تمثل الإرادة وتحقيقها، كانت «أفول الآلهة
Gotterdammerung » وبارسيفال
20
تمثل القدرية والاستسلام اللذين ظهرا في المراحل النهائية لفلسفة شوبنهور، واللذين صورهما فاجنر على أنها هزيمة الشهوة والطمع وانتصار الأخلاق المسيحية عن طريق فضائل البراءة والرحمة. أما نيتشه، الذي كان قبل ذلك قد حول فاجنر من فويرباخ إلى شوبنهور، والذي كان هو ذاته من أنصار فلسفة الإرادة، فقد سأل فاجنر بتهكم في كتابه «أصل نشأة الأخلاق
The Genealogy of Morals » إن كان بارسيفال «يمثل ردة وعودا إلى المثل العليا المسيحية المريضة الجهولة»، ثم تحول إلى فانجر، نصير الرومانتيكية، والرجعي في عقيدته الذي كان في الأصل يقف في صف فويرباخ في موقفه من الأسطورة المسيحية، فقال: «وأخيرا نرى تحولا إلى إلغاء الذات ومحوها من جانب فنان كان حتى ذلك الحين يكرس كل ما في إرادته من عزم لعكس هذا؛ أعني لأعلى تعبير فني ممكن عن الروح والبدن. ولم يقتصر على ذلك فنه، بل طبقه في حياته أيضا. وما عليكم إلا أن تذكروا مدى حماسة فاجنر في اقتفاء أثر فويرباخ؛ فقد رن شعار فويرباخ عن «التعلق الصحي بالحسيات» في آذان فاجنر في ثلاثينيات هذا القرن وأربعينياته، كما رن في آذان كثير من الألمان ... وكأن فيه الخلاص. أتراه إذن قد غير رأيه في هذا الموضوع؟ إذ يبدو على أية حال أنه أراد بمضي الوقت أن يغير تعاليمه في هذا الموضوع ... ولا يتجلى هذا فقط في أبواق بارسيفال تدوي على المسرح، بل إن في تلك التخليطات الكئيبة المتشنجة الحائرة التي أنتجها في سنواته المتأخرة مئات المواضع التي تتجلى فيها مظاهر رغبة خفية وإرادة، إرادة منكسرة، قلقة، مستترة، هدفها الدعوة إلى الرجوع القهقرى، وإلى تحويل العقيدة، وإلى المسيحية، وروح العصور الوسطى، والقول لأنصاره: كل شيء زائل غرير! فلتلتمسوا الخلاص في عالم آخر ... بل لقد ذهب إلى حد الإشارة ذات مرة إلى «دم المخلص».»
21
أما إدوارد هانسليك
Eduard Hanslick (1825-1904م) فكان يعارض إدماج فاجنر للفنون، والمفهوم الرومانتيكي في توحيد الموسيقى والشعر. وقد اتفق مع هربارت على أن الموسيقى لا تنقل المعاني، وإنما هي تتألف من نماذج نغمية تطور ألحانها الرئيسية بطريقة محددة، وعلى أنه ليس من مهمة الموسيقى أن تكون وسيلة لتصوير شيء أو رواية قصة، أو التعبير عن حالات انفعالية. والواقع أن الموسيقي الرومانتيكي كان يحاول أن يصور النطاق الكامل للمشاعر الإنسانية في موسيقاه، كرد فعل على النزعة الذهنية الجافة للمذهب العقلي في القرن السابع عشر، غير أن المعاني الانفعالية في الموسيقى إثم وجريرة في نظر أنصار الموسيقى الخاصة كالفيلسوف هربارت والناقد هانسليك.
ولقد كتب هانسليك في كتابه «الجميل في الموسيقى
The Beautiful in Music » يقول: «إذا أردنا أن نقرر إن كانت الموسيقى تتصف بصفة التحدد، ونبحث في طبيعتها وخصائصها، وفي حدودها واتجاهاتها، فمن الواجب ألا نأخذ في اعتبارنا أي شيء سوى موسيقى الآلات؛ فما تعجز موسيقى الآلات عن الوصول إليه، يتجاوز أيضا نطاق الموسيقى بمعناها الصحيح؛ إذ إن موسيقى الآلات هي وحدها الموسيقى الخالصة المكتفية بذاتها ... ولفظ «الموسيقى» بمعناه الصحيح ينبغي أن تستبعد منه المؤلفات التي تلحن فيها الكلمات ... بل إن من الواجب أن تستبعد من مجال الموسيقى المؤلفات التي يقدم لها بنصوص مكتوبة، أو ما يسمى بالموسيقى ذات البرنامج؛ فاتحاد الموسيقى بالشعر، وإن كان يزيد من قدرتها، لا يوسع حدودها.»
22
وبعد صفحات يضيف هانسليك: «إن السبب الأكبر في عجز الناس عن كشف عناصر الجمال التي تحفل بها الموسيقى الخالصة هو أن المذاهب الجمالية القديمة كانت تحط من قدر العنصر المحسوس، وتخضع الموسيقى لاعتبارات الأخلاق والشعور، أو ل «الفكرة» في مذهب هيجل.»
23
وإذن فقد كان هانسليك يعد الموسيقى فنا مكتفيا بذاته، لا يشير إلى أي شيء خارج نطاق النغم الخالص والإيقاع؛ فليس في مقدور الموسيقى أن تصور شخصيات أو موضوعات مادية أو تفسر مذاهب فلسفية، وإنما تقتصر الموسيقى على مجال الصوت. وكان يرى أنه إذا كانت النماذج الصوتية المتحركة بعد تطويرها لحنيا هي التي تؤلف مضمون الموسيقى، فإن الشكل والمضمون واحد في الموسيقى؛ إذ ليس للموسيقى مضمون بخلاف نماذجها الصوتية الخالصة. وإذن فالأفكار التي يصورها الموسيقي هي أفكار موسيقية خالصة. وعندما يخطر اللحن بذهنه يكون لحنا خالصا، ولا يمثل شيئا سوى ذاته فحسب، وليست الفكرة الموسيقية إلا فكرة نغمية، لا فكرة منطقية يتعين ترجمتها في البدء إلى لغة الأنغام، وليس لفلسفة الفن الموسيقي شأن بالحياة الشخصية للموسيقي، أو غرامياته، أو عداوته، وإنما هي تتعلق بإنتاجه فحسب، من حيث ما تدلنا عليه الموسيقى ذاتها.
ولقد كان هانسليك من أنصار الموضوعية في فلسفته الجمالية، شأنه شأن كل أصحاب النظرة الخالصة إلى الفن، فكان يرى أن العمل الموسيقي يكون جيدا أو رديئا بناء على صفاته الكامنة؛ فالعمل الفني مستقل بذاته، وينبغي ألا يترك للتقدير الذاتي للمستمع الذي يحكم على الموسيقى وفقا لحالته النفسية. ولا بد للتجربة الجمالية من نشاط عقلي؛ إذ إن هانسليك قد رفض الرأي الرومانتيكي القائل إن الموسيقى هي قبل كل شيء تعبير عن الشعور، فلا يمكن تحديد القيمة الفنية للموسيقى على أساس تأثيرها في المشاعر، وإنما الواجب أن يصدر هذا الحكم بواسطة العنصر الروحي والعقلي في الإنسان، ولا يمكن أن تكون الموسيقى تجربة جمالية لدى الشخص الذي يستخدمها عاملا جانبيا مساعدا في أحلام يقظته، وإنما هي بالنسبة إليه مخدر فحسب. ومن هنا فإن «فالسات» شتراوس لم تعد موسيقى بمجرد أن رقص الناس على أنغامها.
ولقد كان جلوك يجعل للشعر الأسبقية على الموسيقى، على حين أن موتسارت رأى أن من الواجب أن يكون الشعر ابنا مطيعا للموسيقى. أما الموسيقيون الرومانتيكيون فقد تحدثوا عن «لغة للموسيقى» تجمع بين الشعر والغناء. وأما فاجنر فقد اعتقد أنه حقق الاندماج بين الفنون على أكمل نحو في الدراما الموسيقية. وعلى هؤلاء جميعا رد هانسليك بقوله: إن الموسيقى فن مستقل قائم بذاته.
وقد كتب هانسليك يقول: «لقد تسبب روبرت شومان
Robert Schumann
في أضرار جسيمة بقضيته القائلة إن المبادئ الجمالية لأحد الفنون هي مبادئ الفنون الأخرى، ولكن المادة وحدها هي التي تختلف.» وفي مقابل ذلك يقول جريلبارتسر
Grillparzer
24
برأي مخالف تماما، ويتخذ الموقف الصحيح إذ يقول: «لعل أحدا لم يضر بالفنون كما أضر بها الكتاب الألمان عندما أدرجوها كلها تحت اسم جامع هو الفن، ولا جدال في أن بين الفنون أمورا كثيرة مشتركة، ولكنها مع ذلك تتباين تباينا شاسعا، لا في الوسائل التي تستخدمها فحسب، بل في مبادئها الأساسية أيضا. ومن الممكن إبراز الاختلاف الأساسي بين الموسيقى والشعر بوضوح بالقول إن الموسيقى تؤثر في الحواس أولا، وبعد أن تثير الانفعالات، تصل إلى العقل آخر الأمر. أما الشعر فإنه يبعث في البداية فكرة تثير بدورها الانفعالات، ولكنه لا يؤثر في الحواس كنتيجة نهائية لأعلى صورة أو أدناها. وإذن فالموسيقى والشعر يسيران في طريقين متضادين تماما؛ إذ إن أحدهما يضفي على المادي صبغة روحية، والثاني يضفي على الروحي صبغة مادية.»
25
ولم يغب عن ذهن الناقد هانسليك أبدا أن التجربة الجمالية هي في أساسها تجربة انفعالية، ولكنه رفض بشدة الرأي القائل إن «القيمة النهائية للجميل تتوقف دائما على شهادة المشاعر.» والواقع أن السمات الأساسية لنظريات شوبنهور الجمالية تتمثل في هذا الناقد الذي عاش في فينا أكثر مما تتمثل في منظم احتفالات بايرويت (فاجنر). فقد اتفق هانسليك مع شوبنهور على أن موسيقى الآلات أرفع من الموسيقى التي يضفي عليها النص صبغة عقلية تصورية. كذلك كان يردد آراء لشوبنهور في قوله: إن الموسيقى لا تستطيع بذاتها أن تمثل أو تعبر عن مشاعر محددة، أو تصور الحب أو الأمل أو الغضب أو الكراهية أو الغيرة أو اليأس. وانتهى مع شوبنهور إلى أن موسيقى الآلات تسير تبعا لقواعد موسيقية محددة، وليست تعبيرا عن مشاعر الموسيقار أو انفعالاته، كما تصور الرومانتيكيون.
وقد رفض هانسليك الفكرة الأفلاطونية القائلة إن الموسيقى محاكاة للطبيعة. وكان ينظر إلى السلم الموسيقي الغربي الحديث على أنه من صنع الإنسان، وأوضح أن الأصوات الطبيعية لا تطابق السلم الدياتوني. وقد تساءل عن حق «من الذي سمع في الطبيعة مسافة الثالثة أو تآلف السابعة مع الخامسة (وهي الدرجة المسيطرة في السلم الدياتوني
dominant seventh chord )» كذلك ساير شوبنهور في قوله إن لموسيقى ليست نسخة أو صورة للإرادة الشاملة، أو بتعبير أفلاطون، ليست محاكاة للطبيعة الكونية، وإنما هي تعبير عن الإرادة ذاتها، بحيث إن الكون يكشف عن روحه في الموسيقى ومن خلالها؛ فالموسيقى عند هانسليك، كما كانت لها عند شوبنهور، حياة خاصة بها، وعالم خاص بها، يبعث فيه النظام في الفوضى، ويكون اللحن فيه أشبه باكتمال الحياة البشرية.
ولقد كان هانسليك من أنصار الفصل القاطع بين الفنون. وفي رأيه أن الموسيقى ذات البرنامج؛ أي تلك التي تحاكى فيها الأصوات الطبيعية بالموسيقى كما هي الحال في مصنف «الفصول» لهايدن أو السيمفونية الريفية لبيتهوفن، يمكن أن تكون لها قيمة بوصفها محاكاة، أو بوصفها مادة لحنية، ولكن لا يمكن أن تكون لها القيمتان معا؛ فمحاكاة الظواهر الطبيعية تضيف إلى الموسيقى عنصرا تصويريا، والموسيقى الخالصة لا تعود خالصة عندما تترك مجال عروض الأفكار الموسيقية، وتبدأ في تصوير ظواهر طبيعية، أو تمثيل حالات شعورية بكل ما يتيحه النظام النغمي من واقعية.
القسم الثالث: الموسيقى في العصر الرومانتيكي
كانت الفلسفة الجمالية للرومانتيكية تنظر إلى الجمال على أنه لا يخضع أو يدين لشيء إلا لذاته. وقد سارع الشعراء والفلاسفة والموسيقيون - فيما عدا القليل منهم - إلى اعتناق هذا المثل الأعلى الرومانتيكي في الفن، بوصفه تمهيدا لعالم أفضل يساعد الفن على تحققه. قد أعلن الشاعر نوفاليس
Novalis (1773-1801م) أن «الرياضة تبدو في الموسيقى ملهمة كالمثالية الخلاقة». وعرض «هوفمان» رأيا أشبه بمذهب وحدة الوجود، يقول فيه: «إن روح الموسيقى تتغلغل في الطبيعة كلها.» ثم طبق ميتافيزيقاه الشعرية على سمفونية بيتهوفن الخامسة (من مقام دو الصغير) فأضاف أن الموسيقى هي أكثر الفنون رومانتيكية إن لم تكن هي الفن الرومانتيكي الوحيد. ولم يكن الفلاسفة بأقل نزوعا إلى الصوفية؛ فقد عزا شلنج
Friedrich Schelling (1775-1854م) إلى الموسيقى صفات روحية، وقال رودلف لوتس
Rudolf Lotze (1817-1881م) إنه يستطيع أن يرى في الموسيقى حركات الكون، وإنها تميط اللثام عن أحداث الدراما الكونية. وكان هيجل قد ميز العصر الكلاسيكي من العصر الرومانتيكي بطريقة بسيطة، هي أن الموضوع في المذهب الكلاسيكي يسيطر على الشكل أو القالب، على حين أن الشكل أو القالب في الرومانتيكية هو الذي يستوعب الموضوع في داخله.
ولقد كان الموسيقي الرومانتيكي يعد نفسه ثوريا، ونبيا يدعو إلى عصر جديد في الفن يستطيع فيه أن يصلح حياة الإنسان. وكان يرى أن فلسفته الجمالية يمكن أن تحل محل الدين، وأن فنه قادر على أن يكون بديلا للأخلاق التقليدية الذليلة. وفي هذه الظروف ارتفعت الموسيقى، بين سائر الفنون، إلى مكانة لم تبلغها من قبل على الإطلاق؛ فقد أصبح الفن الموسيقي، ذلك الفن الذي وصفه شوبنهور بأنه تعبير عن الإرادة الكلية، لا مجرد صورة لها، يسود جميع الفنون الأخرى، وحاول الشعراء والمصورون إدخال عناصر موسيقية في الوسائط التي يستخدمها كل منهم. وقد لخص وولتر باتر
Walter Pater (1839-1894م) أهم خصائص الفلسفة الجمالية للعصر الرومانتيكي بقوله إن جميع الفنون ينبغي أن تسعى إلى تحقيق الأوضاع السائدة في الموسيقى؛ حيث يستوعب الشكل المضمون تماما.
ولقد كان المؤلف الموسيقي في القرن الثامن عشر، يعد صانعا محترفا يعمل في خدمة الدين أو تحت إمرة سيده. أما في القرن التاسع عشر فقد رفض الموسيقي مركز الصانع المحترف، وكان يكتب موسيقاه في ظل حرية شخصية قل أن يتمتع بها الفنانون في أي عهد. وقد طور الموسيقي فن السيمفونية، ووسع نطاق الأوبرا، بحيث أصبحت عرضا رائعا عبر عن وحدته في أغان فنية (ليدر) وعاطفية عميقة. وهدفنا في هذا القسم أن نوضح كيف عبر الموسيقيون الخلاقون في العصر الرومانتيكي عن أنفسهم من خلال الموسيقى؛ لذلك سنقدمهم حسب آرائهم الجمالية وقومياتهم.
بدأت الأوبرا الرومانتيكية في ألمانيا على يد كارل ماريا فون فيبر
Carl Maria Von Weber (1786-1826م) بالأوبرا الشعبية «در فرايشوتس
Der Freischutz » (1821م)، وقد ظهرت قبل «در فرايشوتس» أوبرا «أوندينه
Undine » لهوفمان وأبرا «فاوست
Faust » للويس شبور
Louis Spohr (1784-1859م)، ولكن لا يمكن وصف أي منها بأنها رومانتيكية في موسيقاها بالمعنى الصحيح. بعد عامين أخرج فيبر أوبرا «أويرانتي
Euranthe » التي وصفها بأنها «أوبرا بطولية رومانتيكية عظيمة في ثلاثة فصول». ولقد كان المثل الجمالي الأعلى لفيبر هو جعل الأوبرا فنا تمتزج فيه الموسيقى والشعر والتمثيل، وهو المثل الأعلى الذي بلغ أوج اكتماله في الدراما الموسيقية عند ريشارد فاجنر.
ولقد كان فرانتس شوبرت
Franz Schubert (1797-1828م)، وهو أكثر الرومانتيكيين رومانتيكية، ومنشئ الأغنية الفنية
Lied
الألمانية، كان يفوق بيتهوفن ذاته في خلق ألحان جميلة، وأدت ألحانه الدافئة، الزاهية، المنسابة إلى زيادة تأثير مجموعة كبيرة من أجمل المقطوعات الشعرية الألمانية؛ فقد ألهمه تبجيله لجوته أن يصنع ألحانا لكثير من أشعاره. غير أن جوته لم يكن يبادل شوبرت تقديره لعبقريته؛ ذلك لأن شوبرت كان يرى أن للحن السيادة المطلقة على الكلمة المنطوقة، على حين أن جوته كان يعتقد أن الموسيقى ينبغي أن تكون خاضعة للنص في الأغنية الفنية (ليد).
ولقد كان الميل الكلاسيكي البسيط الكامن في الموسيقي فيلكس مندلسون متعارضا تعارضا تاما مع ميول معاصريه؛ برليوز، وليست، وفاجنر؛ فعلى حين أن هؤلاء الثلاثة كانوا يسعون إلى تحقيق مؤثرات موسيقية جديدة، وعملوا على تضخيم الأوركسترا، فإن مندلسون، الذي ظل طوال حياته تابعا مخلصا لموتسارت، قد استمر يكتب بأسلوب كلاسيكي بسيط. والواقع أن عبادته للحن، وحاسة الإتقان والكمال التي كان يتصف بها، قد أضفت على موسيقاه طابعا عذبا منسابا يقترب أحيانا من سحر شوبرت. ولقد كان مندلسون، شوبرت، ابنا للعصر الرومانتيكي قبل كل شيء، وعندما سئل عن كلمات لمجموعته «أغنيات بلا كلمات» أجاب بأن الكلمات تعجز عن التعبير عن موسيقاه، ومن هنا كان قوله: «إن اللفظ لا يعني للشخص المعين ما يعنيه الآخر، وإنما القطعة الموسيقية وحدها هي التي تثير نفس الحالة النفسية.»
وكان روبرت شومان
Robert Schumann (1810-1856م) هو خليفة شوبرت في إبداع الأغنية الفنية الألمانية (ليد). وكان شومان يرى في الأصل أن موسيقى الآلات قادرة على التعبير عما يستحيل التعبير عنه، وعلى التوغل في أعمق البشر؛ ولذلك قال، بطريقة رومانتيكية واضحة، إن الكلمات والنصوص تضفي على هذه المشاعر طابعا عقليا تصوريا؛ فالكلمات هي الأغلال التي تكبل المشاعر. ومن هنا ظل شومان، طوال الأعوام الثلاثين الأولى من حياته، يعمل على التعبير عن هذه المشاعر الموسيقية في مؤلفاته، ثم تحول بعد ذلك إلى فن شوبرت وشعر هينه
Heine ، وألف عددا كبيرا من الأغنيات الفنية (ليدر) ذات الطابع الرومانتيكي الصرف.
أما فرانتس ليست
Franz Liszt (1811-1886م) فكان ذا نزعة إنسانية اجتماعية، كما كان موسيقيا تقدميا، فضلا عن كونه رجل كنيسة.
26
ولقد أشار ليست إلى باخ على أنه القديس توما في مجال الموسيقى؛ ذلك لأن القديس توما قد جمع بين الإيمان والعقل في مركب واحد، وكذلك اعتقد ليست أن باخ قد سار بالشعور والعقل إلى وحدتهما النهائية في فن الموسيقى. وقد أمضى ليست حياته وهو يحاول تحقيق وحدة أوثق بين الموسيقى والشعر، وكان ينظر إلى الشعر على أنه الحافز إلى الإبداع الموسيقي، ولكنه كان يعتقد أنه بعد تحقيق الوحدة بين الكلمة واللحن، وبين العقل والشعور، فمن الواجب أن تترك الموسيقى حرة؛ لكي تمجد هذه الوحدة، وتسمو بها إلى أعلى قمم الوجد الرومانتيكي؛ ففي رأيه أن المؤلف الموسيقي يمزج في موسيقاه بين أسرار الكون وبين منطق الفيلسوف، وهو قد تصور أن معقولية المفكرين المنطقيين ووجد الصوفيين ينعكسان على الفن الموسيقي الإلهي.
ولقد كان ليست يتميز بطبيعة مزدوجة؛ فالعزلة التي كان يتوق إليها والتي اهتدى إليها أخيرا في كنف الكنيسة، تقف مع شخصيته الخلاقة بوصفه مؤلفا موسيقيا على طرفي نقيض؛ ذلك لأن موسيقاه نابضة بالحياة والحركة، وتحفل بالموضوعات الشعبية. وقد كان يؤدي ألحانه أمام الجمهور بروح من التعاطف معهم، وكان في الوقت ذاته يحرص على إظهار مقدرته الخارقة على العزف على البيانو، ويمضي في ذلك إلى حد يقرب من الاستعراض المكشوف. وكان ليست يناصر كل قضية لها صلة بالموسيقى ويؤيد الاتجاهات التحررية في الحكم، وذلك بتقديمه معونات سخية إلى الموسيقيين المكافحين، وبذل جهوده لتشجيع التقدم الاجتماعي.
ولقد كتب روبرت فرانتس
Robert Franz (1815-1892م) أغنيات فنية (ليدر) على طريقة شوبرت وشومان، وإن كانت أغنياته أقل جرأة وأقرب إلى الطابع الحالم. كما أنها كانت تتفاوت من ألحان شعبية إلى أغنيات فنية كلماتها من تأليف الشاعر هينه.
ولقد وصف الكثيرون موسيقى أنطون بروكنر
Anton Bruckner (1824-1896م) بأنها تعبير عن إيمانه الكاثوليكي المتحمس. ونظرا إلى أنه كان مشهورا بالتتلمذ على فاجنر، فإن الناقد هانسليك لم يجده ندا لموسيقيه المفضل برامز، ولكن الأمر الذي فات هانسليك هو أن موسيقى ذلك الفنان العميق التدين قد تخلصت من العناصر الشاعرية والوصفية التي شاعت لدى الرومانتيكيين، واستعاضت عنها بالتطوير الموضوعي لأفكار موسيقية، هي دون شك ناشئة عن مشاعر دينية، ولكنها معروضة بوصفها موسيقى خالصة.
أما يوهان شتراوس
Johann Strauss (1825-1899م) فكان يقدم في مقطوعاته من نوع الفالس تصويرا موسيقيا للروح المرحة المزعومة لفينا التي لم تكن سعيدة إلى الحد الذي صورتها به موسيقاه في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر.
ولقد كان يوهانس برامز
Johannes Brahms (1833-1897م) يبحث عن الوحي في المؤلفات البوليفونية لباخ، وفي سيمفونيات بيتهوفن، وأغنيات شوبرت وأفكار شومان الجمالية. وقد ظل، بفضل استخدامه للقوالب التقليدية وتبجيله للماضي، أقرب إلى فلسفة الكلاسيكيين منه إلى فلسفة الرومانتيكيين الذين حاولوا أن ينشقوا تماما على الماضي. غير أن برامز كان مسايرا للرومانتيكيين في التجائه الدائم إلى استخدام ألحان شعبية؛ ذلك لأن الرومانتيكيين كانوا قوميين متحمسين. وفي هذا الصدد كان برامز واحدا منهم؛ فقد مجد برامز قوميته الألمانية بتوزيعات غنائية متعددة لألحان شعبية، ودعم الأسس اللحنية لسيمفونياته وكونشرتاته بألحان من الحقول ومعارج المدينة. والواقع أنه كان أبرع الناس جميعا في إدماج مثل هذه الألحان الموسيقية الحسية في المؤلفات الأوركسترالية. ولعل القليلين فقط هم الذين يقفون أندادا لرشاقته في الكتابة للصوت البشري.
وفي موسيقى المؤلف الرومانتيكي المتأخر، جوستاف مالر
Gustav Mahler (1860-1911م) نجد اتجاهات لحنية متأثرة بموتسارت وشوبرت، وكذلك مجاميع صوتية عميقة الرنين، تثير شعورا دينيا يذكرنا ببروكنر. غير أنه لم يكن يحفل كثيرا بالقالب الكلاسيكي إذا كان يعوق انسياب أفكاره الموسيقية، وكان ميالا إلى الإفراط في الشجن أحيانا عندما يصب انفعالاته في تقديم عرض موسيقي لأحداث حياته الخاصة. ولقد كانت مؤلفاته مفرطة الطول، تعبر عن حالات نفسية تتفاوت من الكآبة والانكسار إلى النشوة الخالصة. وكانت موضوعاته الرئيسية تتسم بنفس القلق الذي تتسم به روحه؛ إذ إن هناك نزعة صوفية تأملية عميقة تتغلغل في أعماله؛ فهو في موسيقاه يستطلع عجائب الطبيعة ويتساءل: ما مصير الإنسان؟
وعلى حين أن كثيرا من القصائد الشعرية التي لحنها فرانتس لا تكاد تستحق البقاء في أغنيات، فإن القصائد التي لحنها هوجو فولف
Hugo Wolff (1860-1903م) كانت تتميز بذوق أدبي رفيع. وقد أثرى فلف نصوصه المختارة بمشاعره الموسيقية العميقة بفضل براعته الفائقة في الكتابة للصوت البشري والبيانو المصاحب له. وقد بدأ فلف حياته متحمسا لفاجنر، ولكنه انقلب على الفلسفة الفنية للدراما الموسيقية «بما فيها من طيف حزين لفيلسوف شوبنهوري واقف بالكواليس»، كما كتب في رسالة مؤرخة في عام 1890م، وأشار إليها رومان رولان. ومع ذلك فقد كان فولف ذاته، في نظر خصوم فاجنر، متهما باتباع بعض الأساليب الفاجنرية، وقد أشاروا للتدليل على ذلك إلى هارمونياته المعقدة، وتلويناته الكروماتية المجددة. أما في نظر فولف، فإن الهارمونيا والتلوينات الكروماتية كانت مجرد وسيلة لتحقيق تأثير جديد، أو لون غير مألوف، وإن يكن أنصار برامز لم يروا في أعماله إلا اضطرابا في الهارمونيا، وتشتتا في اللحن، وافتقارا إلى الإيقاع. والواقع أن كل ما فعله فولف هو أنه وصل بالرومانتيكية إلى أكمل مظاهر تطورها بتوسيع قدرات الموسيقى على التعبير وتصوير المشاعر. وهكذا أصبحت موسيقاه حلقة اتصال تربط بين موسيقى «تريستان» وبين المدرسة اللانغمية (
atonal ) في فينا في القرن العشرين.
ولكي نتبع الاتجاهات الجمالية في موسيقى الجماعات القومية المختلفة في العصر الرومانتيكي، فعلينا أن نرجع القهقرى، زمنيا، أكثر من نصف قرن قبل ميلاد هوجو فولف، لنتحدث عن الموسيقيين في جزء آخر من العالم؛ فقد رأينا أن مندلسون قد عرف الرومانتيكيين بموسيقى باخ، والبوليفونية في عصر الباروك، غير أن الموسيقي والناقد الفرنسي «هكتور برليوز
Hector Berlioz » (1803-1869م) كان ينظر إلى باخ وأسلوبه المعقد في «الكنترابنط» على أنه بقية من بقايا ماض موسيقي متحذلق، وكان أهم ما يشغل برليوز هو اللحن، أعني تلك الفقرات اللحنية الطويلة الخالصة التي تحلق إلى قمم الفخامة وتثريها مجموعات متنوعة من الآلات التي أضفت على الموسيقى لونا وبريقا لم يسمع في الأوركسترا من قبل. ومن هنا كان قوله: «إنني أحرص دائما على إغداق اللحن على مؤلفاتي عن سعة.» وكان للكلمة المنطوقة في نظرية برليوز الجمالية مكانة ثانوية؛ فقد وجدت روحه الرومانتيكية في الأوركسترا وسيطا تعبيريا قادرا على غناء أعذب المعاني العلوية، وعلى أن ينقل إلى السامع مجموعات نغمية قوية موحية، ويحرك مشاعره بعمق.
ولقد كان فردريك شوبان
Frederic Chopin (1810-1849م) شخصا معتل الجسم، يشعر بشقاء دائم، ولكنه صاغ من حياته المضطربة صورا موسيقية ذات جمال شفاف خارق. وكان شوبان هو الأستاذ الأعظم لتلك الآلة الرومانتيكية، البيانو، وفي هذه الآلة صب مشاعره الجريحة في موسيقى واضحة الأصالة، تتميز بالبلاغة والنفاذ إلى الأعماق، وتجمع بين روعة المظهر وعمق المعنى. وقد وجدت أحواله النفسية التي تراوحت بين الانقباض المظلم، والانبساط الوضاء، تعبيرا عنها في هارمونيات لامعة، وفي تنافرات حادة وتقلبات لحنية مستمرة. ولم تكن موسيقاه إلا صورة شاملة لمشاعره. ولقد كانت تجمعاته النغمية، وإيقاعاته المركبة مشابهة لما نجده عند هوجر فولف من حيث إنه كان رومانتيكيا مجددا مهد الطريق لموسيقى القرن التالي دون أن يشعر.
ولقد كان الموسيقي البلجيكي سيزار فرانك
Cesar Franck (1822-1890م) ومعاصره النمسوي بروكنر أبرز المؤلفين الموسيقيين الدينيين في العصر الرومانتيكي، ولكن إذا كان بروكنر قد وجد في هانسليك ناقدا يحمل عليه، فإن فرانك لم يلق من معاصريه إلا التجاهل المخجل؛ فقد وصف «جونو» سيمفونيته بأنها «إثبات للعجز بولغ فيه إلى حد الإطالة المعاندة.» وقد مات فرانك، كما عاش، موسيقيا منعزلا، على الرغم من أن الكثير مما قاله كان يستحق التقدير، وإن تحتم على هذا التقدير أن ينتظر جيلا جديدا.
وفي موسيقى «كامي سان صانس
Camille Saint Seens » (1835-1921م) الذي امتدت حياته حتى الربع الأول من القرن العشرين، وجدت الرومانتيكية أنقى تعبير عنها في سيمفونياته. أما قصائده السيمفونية التي نسجها حول أفكار أدبية، فهي تقليدية القالب، وأما أوبراته فقد لحنها على نصوص من «الكتاب المقدس» ومن الأدب الكلاسيكي. ولقد كان سان صانس شاعرا أو باحثا أو موسيقيا ألف في جميع فروع الموسيقى على وجه التقريب. وفي الوقت الذي كان فيه عالم موسيقي جديد قد ظهر بالفعل، ظل هذا الموسيقي الباريسي يكتب في مطلع القرن العشرين بنفس أسلوب القرن التاسع عشر.
ولقد كانت باريس هي المركز الثقافي للعالم، وإليها كان يفد الموسيقيون من كل حدب وصوب، بعضهم جاء يستلهمها الوحي، وغيرهم أتى لاجئا سياسيا، وغير هؤلاء وأولئك أقبل لتؤدى فيها موسيقاه. ومن صالونات هذه المدينة العالمية وقاعاتها الموسيقية، ودور الأوبرا فيها انبعثت موسيقى أثرت الحياة الثقافية للحضارة الغربية؛ ففي باريس استحدث جاكومو مايربير
Giacomo Meyerbeer (1791-1864م) الأوبرا الكبيرة (جراند أوبرا)، وجلب الأوبرا الرومانسية إلى فرنسا عندما عرض لأول مرة أوبرا «روبير الشيطان
Robert le Diable » (1831م)، وقد أعجب شعب باريس بهذا الألماني الذي كان يكتب «آريات» وثنائيات (دويتو) غنائية أجمل وأقوى عاطفة من الإيطاليين أنفسهم. وتعجب الباريسيون من مقدرته على فهم أذواق الفرنسيين وإدماجها في أوبراته، بل إنه زاد في عدد أوركسترا الأوبرا، واستحدث وسائل إخراج مسرحية جديدة لتقوية التأثير الدرامي.
وقد وفد إلى باريس موسيقي آخر أقام بها، وأصبح معبودا لها، هو مؤلف الأوبريت الرومانتيكية، جاك أوفنباخ
Jacques Offenbach (1819-1880م)، وقد أخذ أوفنباخ على عاتقه مهمة إصلاح الأوبرا كوميك الفرنسية (
Opera-comique ) التي أعلن أنها قد فقدت روح المرح الأصلية فيها، وسحرها القديم، حين حاولت أن تقلد «الجراند أوبرا» الناجحة، فأعاد إلى الأوبريت طبيعتها المرحة، واختصر مدتها، وبسط نصها المكتوب، وزاد حوادثها نشاطا. وقد اعترض أوفنباخ على إفراط أوبرات مايربير في تصنعها العاطفي ومجافاتها للواقع، كما انتقد بنفس القوة الدراما الموسيقية عند فاجنر. وقد ألف أوفنباخ أوبريتات على موضوعات كلاسيكية قلبها هزلا وسخرية، وتهكم في أوروباتاته على الحياة السياسية والاجتماعية في عصره. ومع ذلك فقد امتدحه الفيلسوف نيتشه، فوصفه بأنه كلاسيكي في عصر رومانتيكي، ومؤلف ألحان ساحرة توائم النص الكلامي.
وكان جاسبارو سبونتيني
Gasparo Spontini (1774-1851م) وجاك فرانسو آليفي
Jacques Francois Halévy (1799-1862م) ومايربير يؤلفون أوبراتهم حول شخصية بطولية على طريقة الإيطاليين. أما شارل فوانسو جونو
Charles F. Gounod (1818-1893م) وجورج بيزيه
Georges Bizet (1838-1875م) فقد استعاضا عن الموضوع البطولي بموضوع أكثر إنسانية، وكانا أكثر اهتماما بالنص من الإيطاليين. وتمتاز أوبرات جول ماسنيه
Jules Massenet (1842-1912م) وجوستاف شاربنتييه
Gustave Charpentier (1860م)
27
بعذوبة ألحانها، حتى حينما كان شاربنتييه يصور انفعالات إنسانية متعارضة، ولكن كلود أشيل ديبوسي
Claude Achille Debussy (1862-1918م) جعل الموسيقى خاضعة للنص في أوبرا «بلياس ومليزاند
» وعاد إلى مبدأ جلوك، مؤكدا أهمية الجانب الدرامي والشعري من الأوبرا.
وفي إنجلترا، أثبت الموسيقي الأيرلندي السير آرثر سليفان
Arthur Sullivan (1842-1900م) أنه خليفة أوفنباخ بفضل ما كان يتميز به من روح الإصلاح الاجتماعي، وبفضل أسلوبه الموسيقي في كتابة الأوبريت. وكانت أعماله تتضمن سخرية سياسية واجتماعية، وتقليدا ساخرا للأوبرا الكبيرة (الجراند أوبرا)، وقد تضمنت المؤلفات التي اشترك فيها سليفان مع جلبرت
Gilbert
وصفا جريئا للفوارق العسكرية والطبقية التي كانت سائدة في إنجلترا في القرن التاسع عشر، وسخرية صريحة منها. وكان سليفان يستخدم أسلوب التحويل السريع الذي ينتقل به من تصوير المشاعر الرومانتيكية الشديدة الحزن إلى تصوير المرح. وكان يؤلف ألحانه عادة بأسلوب بسيط، ولكنه عندما كان يرغب في الكتابة بطريقة أكثر جدية وفخامة، كان كفئا لهذا العمل بدوره.
وفي الوقت الذي كان فيه جلبرت وسليفان ينتجان أوبرتات مرحة لإنجلترا التي كان نبع الإبداع الفني فيها شحيحا، كان الفيلسوف هربرت سبنسر
Herbert Spencer (1820-1902م) يقف في صف العصر الرومانتيكي في بلاده، وذلك في رده على آراء موطنه تشارلس بيرني
Charles Burney (1776-1814م)؛ ذلك لأن بيرني هذا، الذي كان كاتبا مرموقا ومؤرخا موسيقيا محترما، قد أصدر على الموسيقى أحكاما غريبة، منها أنها فن حسي له قيمة جمالية منحطة؛ لذلك فإن سبنسر، في دفاعه عن قيمة الموسيقى، جعلها أعلى الفنون الجميلة مرتبة في فلسفته التركيبية، ووصفها بأنها «الفن الذي يرفه عن البشر أكثر من أي فن آخر».
وفي إيطاليا كان جواكينو أنطونيو روسيني
Gioacchino Antonio Rossini (1792-1868م) وفينتشنزو بليني
Vincenzo Bellini (1801-1835م) وجايتانو دونتيتستي
Gaetano Donizetti (1797-1848م) يؤلفون الأوبرا وفي أذهانهم جمال اللحن والغناء الزخرفي المطول. ومن المؤكد أن النصوص الكلامية لهذه الأوبرات كانت تكيف بحيث يتسنى إخراج مشاهد درامية تتيح للمغنين الرئيسيين في الأوبرا إظهار مواهبهم الصوتية. وقد اقتفى جوزيبي فردي
Giuseppe Verdi (1813-1901م) أثر هؤلاء المؤلفين الموسيقيين، لكنه تجاوز السابقين عليه في أوبراته المتأخرة؛ فقد ابتدع أوبرات ذات طبيعة أعمق وطابع فني أكثر تماسكا. والواقع أن فردي قد رفع الأوبرا الإيطالية إلى مستوى من القيمة الجمالية يكذب رأي فاجنر القائل إن الأوبرا الإيطالية ليست عرضا مسرحيا جيدا.
ولقد كرس فردي فنه وحياته ذاتها لتحقيق الوحدة الإيطالية، فأدمج في أعماله الفنية أغنيات الشعب وروح الثورة. وكانت الأوبرا هي وسيلته للاتصال بالشعب الإيطالي. وقد اتخذ من الصوت البشري؛ أي من الأنغام «الذهبية» لصوت التينور، والمطولات الرنانة لصوت السوبرانو، والأنغام الدافئة للكونترالتو، والضخامة العميقة لصوت الباص، أدوات لتشجيع الروح القومية، والوصول إلى قلوب مستمعيه الإيطاليين. ولم يكن للأوركسترا عنده من دور سوى تكملة الأصوات البشرية، بينما كان اللحن هو المسيطر على كل شيء. ومع ذلك فقد كان فردي أكثر اهتماما بنصوص أوبراته من السابقين عليه، وكان شكسبير هو الشاعر الملهم له، وبيتهوفن رائده الموسيقي، وكان هو نفسه تجسيدا للأغنية الرومانتيكية ذاتها.
وعند نهاية القرن التاسع عشر استهل بيترو ماسكاني
(1863م)
28
وروجيرو ليونكافالو
Ruggiero Leoncavallo (1858-1919م) المدرسة الواقعية في الأوبرا، وهي المدرسة التي صورت المأساة البشرية في قالب موسيقي درامي. وعلى العكس من ذلك صبغ جاكومو بوتشيني
Giacomo Puccini (1858-1924م) عنصر المأساة بصبغة رومانتيكية، وقد أضفت موهبته اللحنية وحاسته المسرحية الغريزية على أوبراته توازنا بين الغناء والنص، وبين المغني والأوركسترا، وهي كلها أمور طالما تاق إليها فاجنر، ولم يستطع بلوغها أبدا في دراماته الموسيقية الضخمة.
وفي عام 1860م نالت بوهيميا استقلالها
29
الذي طالما سعت إليه من النمسا، فعبر بدريتش سميتانا
Bedrich Smetana (1824-1884م) الثوري البوهيمي النشيط عن روحه القومية المتحمسة بمجموعة من القصائد السمفونية التي تمجد وطنه. كذلك احتفظ سميتانا في أوبراته، التي كانت أشهرها «العروس المبدولة
The Bartered Bride » بعادات أمته وموسيقاها. وكانت أهم قوالب الآلات عنده هي القصيدة السيمفوني، الذي كان أستاذه ليست قد استخدمه بنجاح كبير والرباعية الوترية. ولقد أبدع سميتانا مثل بيتهوفن، أعظم مؤلفاته الموسيقية في السنوات التي اقترب فيها من الصمم، فكتب يقول: لست أريد أن أكتب رباعية بأسلوب تقليدي، وإنما أود أن أصور حياتي بالموسيقى. وكانت أعمق مؤلفاته هي تلك التي أبدعها بدافع القلق والندم، أو بدافع السرور وحبه لبلاده. وقد عبر عن هذه المشاعر في موسيقى للآلات كانت، كما يقول الرومانتيكيون، أبلغ من الكلمات.
وثاني الموسيقيين التشيكيين العظام هو أنطونين دفوراك
Antonin Dvorak (1841-1904م) الذي كتب موسيقى لم تكن معتمدة على نصوص شعرية، فكانت موسيقاه تؤلف بوصفها غاية في ذاتها، بحيث يستخدم خياله الخصب في تطوير الألحان، وفي وضع إيقاعات متوثبة، ومجموعات نغمية رنانة. ومعظم موسيقاه ذات طابع مطلق لا يدعي أنه اعتراف شخصي كما هي الحال عند سميتانا، وإنما هي موسيقى بالمعنى الرومانتيكي التقليدي تعد غاية في ذاتها.
وفي الشمال كان يعيش جمهوري متحمس، هو إدفارد جريج
Edvard Grieg (1843-1907م) الذي جعل حياته مثالا لمعتقداته، وموسيقاه وسيلة للتغني بما يؤمن به. ولقد كانت هارمونياته رقيقة، وألحانه بسيطة، وكانت الحساسية الانفعالية للشمال متغلغلة في موسيقاه. وقد حفزه جمال الريف وصراعه إلى ألحان غنائية ذات جمال تأملي أخاذ.
ولقد كانت الموسيقى الإيطالية والموسيقيون الإيطاليون يسيطرون على روسيا في القرن الثامن عشر، أما في القرن التاسع عشر، فإن الصقالبة لم يصبحوا قوميين في موسيقاهم فحسب، بل لقد ظهر فيهم مجموعة من الموسيقيين الوطنيين الذين أكسبوا الموسيقى مقامات وتجديدات إيقاعية لم تعرفها أوروبا من قبل. ولقد كانت الفلسفة السلافية في الموسيقى مبنية على الواقعية الجمالية، وبهذا المعنى يمكن أن تعد رد فعل على رومانتيكية الموسيقيين الألمان والإيطاليين. وكان ميخائيل إيفانوفتش جلنكا
Michael Ivanovich Glinka (1804-1857م) أول موسيقي وطني يتخلص من سيطرة التراث الإيطالي عندما أنتج الأوبرا الوطنية «حياة للقيصر
A Life for the Czar »
30 (1836م)، والأوبرا الأسطورية «روسلان ولودميلا
Russlan and Ludmilla » (1842م). وقد أعطت هاتان الأوبرتان القوة الدافعة الأولى للروح القومية في الموسيقى الروسية. وكان الطابع الغنائي للأسلوب الصوتي الإيطالي لا يزال ماثلا في موسيقاه، غير أن هارمونياته وألحانه روسية صرفة، كما أن تلوينه الأوركسترالي ثري مشرق إلى أبعد حد.
وقد أصبح ألكسندر سرجيفتش دارجوميجسكي
A. S. Dargomijsky (1813-1869م) حامل لواء القومية الروسية في الموسيقى من بعد جلنكا، وكانت أوبراته مكتوبة بأسلوب خطابي أو بطريقة الأغنية الكلامية (البارلاندوا) التي تستخدم فيها الأنغام الموسيقية لتعميق تعبير الكلمة الروسية؛ إذ لم تعد روسيا بحاجة إلى الاعتماد على اللغات الأجنبية أو الموسيقى الغربية في حياتها الفنية. وكانت جماعة «الخمسة » المشهورة، التي كانت تجتمع في بيت دارجوميجسكي، ابتداء من عام 1859م، متشبعة بروح القومية الفنية هذه، فعملت من أجل رفع شأن المدرسة الموسيقية الروسية. وكانت هذه الجماعة تتألف من بالاكيريف
Balakirev
وكوي
Cui
وبورودين
Borodin
وموسورجسكي
Moussorgsky
وريمسكي كورساكوف
Rimsky Korsakoff . وقد عملت هذه الجماعة إلى جانب رعايتها للموسيقى الروسية الجديدة، على مقاومة المؤثرات الألمانية التي جلبها أنطون روبنشتين
Anton Rubinstein (1829-1894م) إلى روسيا عندما كون جمعيته الموسيقية ومعهده الموسيقي الذي أحضر له أساتذة من الألمان. وكانت الموسيقى الألمانية عندئذ تعني الموسيقى الفاجنرية، مهما حاولت هذه الجماعة القومية أن توصد أبوابها في وجه المؤثرات الفاجنرية الضارة، فإن موسيقاها لم تستطع أن تتخلص تماما من تأثير فاجنر.
على أن الروس الخمسة كانوا يختلفون مع فاجنر في دور الأوركسترا وعلاقة الكلمة بالنص، فكانوا يرون مع جلنكا ودارجوميجسكي، أن للكلمة الأسبقية على الموسيقى، فإذا أراد الروسي أن يعرف ما يدور في الأوبرا، فعليه أن يعرف ما يقال فيها. ولما كان هذا الروسي أميا من الوجهة الموسيقية، فقد كان من الضروري تأكيد وسيلة الاتصال التي يشترك فيها الروس جميعا، وهي اللغة ذاتها. وإذن فمهمة الأوركسترا هي تعميق الكلمة.
وكان القيصر ألكسندر الثاني (1818-1881م) قد حرر العبيد الروس، ومنح الفنون كلها نوعا من الحرية النسبية، فأصبح التعبير عامة أكثر تحررا، وبدأ الشاعر والموسيقي في الكتابة والغناء تمجيدا لوطنهم، لا لبلاد أخرى بعيدة عنه. وقد عمل ميلي ألكسيفتش بالاكيريف (1837-1910) وهو من تلاميذ جلنكا، والموسيقي المحترف الوحيد من الخمسة، عمل بجد في سبيل إنشاء مدرسة موسيقية روسية إلى أن انطوى على نفسه في عزلة دينية صوفية. كذلك فإن سيزار أنطونوفتش كوي (1835-1918م) قد شجع الثورة الفنية، بوصفه عضوا في الخمسة، من خلال الموسيقى والأدب، ولم يكن يطيق صبرا على تلك الشخصيات الموسيقية أو الأدبية التي تقدس التقاليد الموروثة في الفن تقديسا مبالغا فيه. أما ألكسندر بورفيريفتش بورودين (1834-1887م) فإن شهرته تقوم على تلك الأوبرا التي عرضت بعد وفاته، وهي «الأمير إيجور
Igor »، ولقد كان «مودست موسورجسكي» (1839-1881م) أكثر الموسيقيين الخمسة أصالة، وأقواهم أثرا - بعد جلنكا - في خلق مدرسة روسية للموسيقى القومية. وقد كانت إيقاعاته الجريئة، وهارمونياته المتغيرة، وتنافراته الحادة تصور العالم الروسي المحيط به، أما أسلوبه فكان شخصيا، وكان يعني بالنسبة إليه وسيلة منظمة لتصوير طبيعة الشعب الروسي وحياته بطريقة واقعية، وعندما كان يجد القوالب أو المقامات الموسيقية التقليدية تعجز عن التعبير عما يراه ويحس به، فإنه كان يتخلى عن التقاليد الشائعة، ويستعيض عنها بوسيلة للاتصال الموسيقي تتيح له التعبير المناسب. وكان شعاره الفني هو أن الموسيقى وسيلة للاتصال لا غاية في ذاتها.
وينبئنا نيكولاي أندريفتش ريمسكي-كورساكوف (1844-1908م) في ترجمته الذاتية لحياته أن «الخمسة» كانوا ينظرون إلى أساطين الموسيقى القدامى على أنهم سذج عفا عليهم الزمان «فقد كانوا ينظرون إلى يوهان سباستيان باخ على أنه متحجر، بل على أنه مجرد طبيعة موسيقية رياضية لا مشاعر فيها ولا حياة، يؤلف موسيقاه، كآلة صماء.» ومع ذلك فقد وجد كورساكوف من الضروري، وهو في الثلاثينيات من عمره، أن يبذل مزيدا من الجهد في دراسة فن الأساطين القدماء، حتى يستطيع استخدام التأليف الموسيقي أداة أكثر فعالية في التعبير عن مشاعره بمزيد من العمق. وقد أفضت به رغبته الحارة في تحقيق ذاته بوصفه مؤلفا موسيقيا إلى أن يصبح أستاذا في التوزيع الأوركسترالي والتلوين النغمي الذي يتميز بالفخامة المثيرة الشائقة. بفضل تمكن كورساكوف من فن التأليف الموسيقي على هذا النحو، أمكنه أن يصل بالآراء الجمالية لجماعة الخمسة إلى اكتمالها التام، الذي كانت فيه مدرسة قومية موسيقية تتغلغل جذورها في الألحان الشعبية للناس والأرض، وتتغنى بتمجيد بلادها والتطلع إلى مستقبل أفضل لها.
ولقد كان بيتر إليتش تشايكوفسكي
Tchaikovsky (1840-1893م) شأنه شأن «الخمسة» وطنيا متحمسا يتغنى بحب بلاده. وعلى الرغم من أنه كان يزدري «الخمسة» لأنه كان تلميذا لروبنشتين، فقد شارك «الخمسة» تحديهم للأقطاب القدماء، ولا سيما باخ؛ فباخ قد روض انفعالاته، أما تشايكوفسكي فكان يعيش تحت رحمة هذه الانفعالات، وقد حول باخ حياته المضطربة
31
إلى موسيقى منظمة، أما تشايكوفسكي فكان يطلق العنان لمشاعره في موسيقى غنائية باكية، كما أن باخ قد تحكم في القوالب التي طوت مشاعره في داخلها وقمعتها، أما تشايكوفسكي فلم يكن دائما يرعى القوالب التقليدية عندما كانت مشاعره تبحث عن مخرج للتعبير عنها. ومما له دلالته النفسية أن أخصب فتراته الخلاقة كانت تلك التي اعتلت فيها صحته أو تمالكته فيها الكآبة والحزن. ومن المؤكد أن تشايكوفسكي ينتمي إلى الموسيقيين الرومانتيكيين المتأخرين، بفضل أسلوبه الغنائي الحزين، وإيقاعاته المندفعة، والتلوين الأوركسترالي لموسيقاه. وخلاصة نظرته الجمالية إلى الموسيقى هي أن يبث الموسيقي مشاعره، ويجعلها معبرة عن أحاسيسه إلى حد يقرب من الإغراق المفرط في الانفعال.
وقد أصبح ألكسندر سكريابين
A. Scriabin (1872-1915م) عضوا في جماعة دينية وفلسفية غامضة بدأت في روسيا بوصفها حركة تجديدية في مستهل هذا القرن. وكان مثله الجمالي الأعلى هو توحيد الفنون في إطار ديني يعبر فيه الجمال عن الحقيقة الأزلية. ولقد كشفت الموسيقى التي ألفها في الجزء الأخير من حياته، عندما كان عضوا في هذه الجماعة الغيبية، عن سعيه إلى التعبير عن أفكاره اللاهوتية الصوفية هذه.
أما سرجي رخمانينوف
Sergei Rachmaninoff (1873-1943م)، فقد وفد إلى أمريكا بعد الثورة الروسية. وقد كتب موسيقاه في قالب الكلاسيكيين، وسادتها النزعة الذاتية الغنائية عند الرومانتيكيين. وعلى الرغم من أن حياته اقتربت من أواسط القرن العشرين، فإنه لم يبد رغبة متحمسة في الأخذ بالتجديدات الموسيقية أو المذاهب المالية الحديثة؛ إذ إن ما أراد التعبير عنه لم يكن يتصف بالأصالة التي تكفي لحفزه إلى التماس وسائل جديدة في التعبير.
وأخيرا، فإن الموسيقي الروسي، وكذلك الموسيقي في مختلف البلدان التي تحدثنا عنها في هذا القسم، كان على وجه العموم يخلق موسيقاه في جو من الحرية الفنية التي كان أسلافه خليقين بأن يحسدوه عليها. وفي الوقت الذي ظل فيه الفلاسفة يعرفون طبيعة الموسيقى ومعناها بمذاهبهم العقلية المنظمة، نجد الموسيقي في العصر الرومانتيكي قد ظل سائرا في طريقه الحر الطليق يكتب من الموسيقى ما يلائم حاجاته وأحواله النفسية.
الفصل الثامن
الفلسفات الموسيقية في عصرنا الحاضر
القسم الأول: الأصداء الأفلاطونية في العالم الحديث
قال الفيلسوف ألفرد نورث هوايتهد
A. N. Whitehead (1861-1947م): إن تطور الفلسفة الغربية كان إلى حد بعيد مسألة إضافة هوامش وحواش إلى أفلاطون. وبالمثل كان التفكير الجمالي في الموسيقى في الحضارة الغربية تنويعا على النغمة الأفلاطونية الأصلية، مع زخارف أرسططالية؛ ذلك لأن الآراء الموسيقية التي أبداها أفلاطون في محاورتي «الجمهورية» و«القوانين» قد ظلت على الدوام هي المعتقدات الجمالية التي كانت الكنيسة والدولة تقدران على أساسها فلسفاتها الموسيقية طوال العصور في العالم الغربي. ومن المؤكد أن هناك تشابها قاطعا في المفاهيم الموسيقية بين الفلسفات القديمة والوسيطة والحديثة للمذاهب الدينية ونظم الحكم السياسية المتسلطة، وكذلك نظم الحكم الديمقراطية، ولكن إلى حد أقل؛ ففي الكنيسة الكاثوليكية لا تزال فلسفة أفلاطون الجمالية في الموسيقى سائدة حتى يومنا هذا، وخير شاهد على ذلك فتوى البابا بيوس العاشر عن الموسيقى الدينية (1903م).
1
ففي هذه الوثيقة المشهورة، المتعلقة بالوظيفة الصحيحة للموسيقى من حيث هي جزء مكمل للطقوس الدينية الرسمية لمذهب الكنيسة إلى أن الوظيفة الرئيسية للموسيقى الدينية هي تجميل النص، وتأكيد الكلم المقدس؛ فالمهمة الكبرى للموسيقى الدينية «هي أن تكسو النص الشعائري الذي يراد للمؤمن أن يفهمه برداء لحني مناسب، وهدفها الصحيح هو زيادة فعالية النص حتى يتسنى له أن يحرك في نفس المؤمن مشاعر التقوى بمزيد من اليسر ...»
2
فمن الواجب أن تتصف الموسيقى الدينية «بالقداسة والطهر». وينبغي أن تكون خصائصها ملائمة لشعائر الصلاة، وأن يستبعد منها كل «دنس» سواء أكان ذا طابع لحني أم كان متعلقا بطريقة أدائها. كذلك ينبغي أن تكون الموسيقى الدينية «سليمة القالب» إذا شاءت «أن تمارس في أذهان مستمعيها تلك الفعالية التي تهدف الكنيسة إلى بلوغها، بسماحها بفن الأصوات الموسيقية في مجال الشعائر الدينية.»
3
ومن الواجب أن تتصف الموسيقى الدينية ب «الشمول»؛ فعلى حين أنه يصرح لكل أمة بأن تدخل موسيقاها القومية في الكنيسة، فمن الواجب أن تخضع هذه الموسيقى للمقتضيات الأساسية للموسيقى الدينية، المتعلقة بالشعائر الكاثوليكية، حتى يمكن أن تقبل موسيقى البلد الواحد بوصفها موسيقى دينية في البلد الآخر.
وأضاف واضعو هذه الفتوى أن تلك الصفات الثلاث تتمثل على أكمل نحو في الأناشيد الجريجوريانية التي ظلت تعد دائما أرفع أنموذج للموسيقى الدينية «فكلما اقترب العمل الموسيقي المخصص للكنيسة في حركته ووحيه ومذاقه من القالب الجريجوري ازداد بذلك اقترابا من الصبغة الدينية والشعائرية، وكلما تنافر مع هذا الأنموذج الأرفع، كان أقل جدارة بأن يؤدى في المعبد.»
4
وإذن فالكنيسة الكاثوليكية تريد أن تستخدم الأناشيد الجريجورية، وهي النوع الوحيد من الأناشيد الذي ورثته من آباء الكنيسة الأولين، مرة أخرى على نطاق واسع لممارسة الشعائر الجماهيرية للعبادة. وتقول هذه الفتوى إن الدراسات الأخيرة أعادت للأناشيد الجريجورية تكاملها ونقاءها الأصليين،
5
وإن من الواجب في الوقت الحالي بذل جهود خاصة لتشجيع استخدام الناس لهذه الأناشيد التقليدية «حتى يقوم المؤمن مرة أخرى بدور إيجابي في المهام الكنسية، كما كانت الحال في العهود القديمة.»
6
وتذكر هذه الوثيقة أن البوليفونية الكلاسيكية، ولا سيما في مدرسة روما التي بلغت أوج كمالها خلال القرن السادس عشر في مؤلفات بالسترينا، تتصف بكل الخصائص الموسيقية التي توجد في الإنشاد الديني؛ ف «البوليفونية الكلاسيكية تتفق اتفاقا رائعا مع الأناشيد الجريجورية ... ومن هنا تبين أنها تستحق مكانا إلى جانب هذه الأناشيد، في أداء المهام الرسمية للكنيسة ...»
7
وعلى ذلك فمن الواجب استرجاع الموسيقى البوليفونية لكي تؤدي مهام كنسية هي زيادة روعة الاحتفالات والطقوس الدينية.
وتقرر الوثيقة أن كنيسة روما كانت تؤيد تقدم الفنون على الدوام، وقد سمحت بإدخال الموسيقى الجديدة في شعائر العبادة «مع إبداء الاحترام اللازم للقوانين الشعائرية»، كذلك ترحب الكنيسة بالموسيقى الحديثة في شعائرها إذا كانت تتماشى مع حاجات العبادة، وتفي بمقتضيات الشعائر «ومع ذلك فلما كانت الموسيقى الحديثة قد ظهرت لكي تخدم أساسا أغراضا غير دينية، فمن الواجب مراعاة الحرص الشديد إزاءها، حتى لا تنطوي المؤلفات الموسيقية ذات الأسلوب الحديث، التي يسمح بها في الكنيسة، على أي عنصر ديني، وحتى تتحرر من آثار العناصر التي اتبعت في المسرح ولا تتشكل حتى في صورها الخارجية بأسلوب المؤلفات العلمانية.»
8
وتحظر الوثيقة تماما أي غناء باللغة القومية عند أداء المهام الشعائرية. كما تؤكد الكنيسة ضرورة غناء النص الشعائري بالطريقة التي تحددها السلطات الكنسية «دون تغيير للكلمات أو قلب لها، ودون تكليف لا داعي له، ودون تجزيء للمقاطع، وإنما يجب أن يكون الإنشاد دائما مفهوما للمصلين السامعين.»
9
وينبغي ألا تكون السيادة للغناء المنفرد إلى الحد الذي يؤدي إلى فقدان الجزء الأكبر من الترتيل الشعائري لطابع الغناء الجماعي. وللمنشدين في الكنيسة وظيفة شعائرية، ولما لم يكن في وسع النساء الاضطلاع بهذه الوظيفة، فلا يمكن السماح لهن بالاشتراك في المجموعة الغنائية، ولا ينبغي أن يسمح إلا لذوي التقوى والخلق الفاضل من الرجال بالاشتراك في هذه المجموعة. وحتى لا تؤدي رؤية المصلين لأفراد المجموعة إلى صرف أنظارهم عن الطقوس التي تؤدى بالمذبح، فمن الواجب إخفاء المجموعة الغنائية عن أنظار جمهور المصلين.
ثم تنتقل الوثيقة على الكلام عن استخدام الآلات في الكنيسة، فتقول: «على الرغم من أن الموسيقى اللائقة بالكنيسة هي الموسيقى الغنائية الخالصة، فإن الموسيقى المصحوبة بالأرغن مصرح بها أيضا. ويجوز أيضا السماح، في بعض الحالات الخاصة، وفي الحدود اللائقة، ومع اتخاذ الاحتياطات اللازمة، ببعض الآلات الأخرى، على ألا يكون ذلك إلا بإذن خاص من راعي الكنيسة ... ولما كان من الواجب أن تكون للغناء المكانة الرئيسية دائما، فإن على الأرغن أو أية آلة أخرى أن تقتصر على دعم الغناء، ولا يجوز أبدا أن تطغى عليه. ولا يصرح بمقدمات موسيقية طويلة تسبق الترتيل، أو بفواصل موسيقية قاطعة. ومن الواجب أن يكون صوت الأرغن، بوصفه آلة مصاحبة للغناء في المقدمات، وفي الفواصل الموسيقية وما شابهها، خاضعا لخصائص هذه الآلة، بل إنه يجب أن يتصف بكل الصفات الخاصة بالموسيقى الدينية، كما أوضحت من قبل. ويحظر استخدام البيانو في الكنيسة، كما يحظر استخدام الآلات التي تحدث ضجيجا أو تبعث في النفوس شعورا بالاستخفاف كالطبول والصنوج
Cymbals
والأجراس وما شابها، ولا يسمح على الإطلاق للفرق النحاسية بالعزف في الكنيسة، وإن كان من الممكن في حالات خاصة بإذن من راعي الكنيسة، السماح بآلات نحاسية محدودة العدد، وتستخدم استخداما لائقا، وتكون متناسبة مع حجم المكان، بشرط أن تكون القطعة المؤلفة، والموسيقى المصاحبة، مكتوبة بأسلوب جاد ملائم، وأن تكون متفقة في كل النواحي مع الأسلوب الخاص بالأرغن. أما في المواكب التي تسير خارج الكنيسة فيجوز أن يصرح راعي الكنيسة لفرقة نحاسية بالعزف، على شرط ألا تعزف مقطوعات غير دينية.»
10
وتصرح الوثيقة على نحو قاطع بأن من الخطأ الفادح أن تخضع الشعائر للاعتبارات الموسيقية في أداء المهام الكنسية؛ إذ إن الموسيقى ليست إلا تابعة متواضعة للشعائر الدينية. كما تنصح الوثيقة الأساقفة بأن يؤلفوا في أسقفياتهم لجنة مكونة من أشخاص لهم دراية واسعة بالموسيقى الدينية، يقومون بالإشراف على هذه الموسيقى في كنائسهم «ولا يقتصر عملهم على التأكيد من أن الموسيقى صالحة في ذاتها، وإنما ينبغي أن يتأكدوا من أنها متناسبة مع قدرات المغنين، وأنها ستؤدى دائما بطريقة سليمة.»
11
وتطالب هذه الوثيقة المشهورة الخاصة بالموسيقى الدينية، ببذل الجهود في سبيل نشر معرفة الأناشيد الجريجورية عن طريق مدارس الإكليروس وبواسطة المؤسسات الكنسية، كما تطالب بإنشاء مدرسة للغناء الديني
Shola Cantorum
بين القساوسة لتعليم البوليفونية الدينية والموسيقى الشعائرية. ومن الواجب تعليم طلاب اللاهوت مبادئ الموسيقى الدينية وقوانينها، وتعريفهم بالنواحي الجمالية للفن الكاثوليكي الديني.
وينبغي إعادة المدارس الغنائية القديمة لتعليم الأطفال والكبار الموسيقى الدينية، كما ينبغي بذل الجهود لإعانة وتشجيع المدارس العليا للموسيقى الدينية؛ إذ إن «مما له أهمية قصوى أن تقوم الكنيسة ذاتها بالاتفاق على تعليم المشرفين على مجموعاتها الغنائية، وعازفي الأرغن والمغنين فيها، وفقا للمبادئ الصحيحة للفن الديني.»
12
وقد أكد البابا الحالي بيوس الثاني عشر
13
في وثيقته البابوية الرسول الإلهي
Mediator Dei (1947م) أكد من جديد الآراء الموسيقية للبابا بيوس العاشر، مع الدعوة إلى نوع من الموسيقى الدينية يكون تقيا حافلا بالمعاني حتى يجمع الناس سويا ويقربهم من الرب. ولم يسمح البابا بيوس الثاني عشر إلا ببضع إضافات على الطقوس الدينية، كترتيل الأناشيد الحديثة، وعزف الموسيقى المعاصرة، ولكنه يحث على مراعاة الحذر في اختيار الموسيقى الجديدة واستخدامها في الشعائر الدينية، ولكي يضمن البابا بيوس الثاني عشر أن الموسيقى الحديثة التي تدخل الكنيسة تتمشى مع الأهداف الروحية للعقيدة الكاثوليكية، فإنه يؤكد ضرورة توقيع السلطات الكنسية جزاءات على أي انحراف عن الأساليب الموسيقية التقليدية.
القسم الثاني: الموسيقى والكنيسة والدولة
14
أصدرت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، في فبراير عام 1948م، قرارا تحتج فيه على بعض الموسيقيين السوفييت الذين كانت أعمالهم الفنية تنحرف عن التعاليم الجمالية للفلسفة السوفييتية وأيديولوجيتها. وقد صدر هذا القرار في صورة تنديد بأوبرا «الصداقة العظيمة
Friendship Great » (الموسيقى من وضع نوراديلي
V. Nuradeli
والنص من وضع مديفاني
Mdivani )، وهي الأوبرا التي عرضت بمسرح البولشوي في الاتحاد السوفييتي أثناء الاحتفال بمرور ثلاثين عاما على ثورة أكتوبر.
15
وقد بدأ النقد بالتنديد بهذه الأوبرا على أساس أنها غير سليمة في موسيقاها وموضوعها، وأنها على وجه الإجمال عمل غير فني. غير أن بضعة الأسطر التالية لم تترك مجالا للشك في أن اللجنة المركزية قد اغتنمت فرصة الحكم على هذه الأوبرا الخاصة لكي توجه حديثها إلى كل الموسيقيين والنقاد السوفييت.
على أن العقيدة الحالية التي وضعها السوفييت ليست بالجديدة، وإنما هي فلسفة في الفن كانت تظهر في أعقاب عدد من الثورات الدينية والاجتماعية في تاريخ العالم الغربي؛ فلو تتبعنا هذه التعاليم الجمالية إلى أصلها، لوجدنا أن هذه النظريات ذاتها إنما هي جزء من أنموذج متكرر يعود بنا إلى الوراء من الشيوعية الحديثة إلى عهد الإصلاح الديني الأوروبي، إلى الكنيسة في العصور الوسطى، وأخيرا إلى أفلاطون ذاته.
وأهم عنصر في فلسفة أفلاطون في الموسيقى - وهو أيضا من النقاط الرئيسية التي كانت تدعو إليها الكنيسة والدولة - هو أن الموسيقى، بوصفها مبحثا تعليميا ثقافيا، ينبغي أن تستغل لتحقيق روح أخلاقية سليمة. ولقد كان أفلاطون ينظر إلى الموسيقى على أنها أرفع من الفنون الأخرى. وعلى أساس أن للإيقاع واللحن تأثيرا أقوى في أعماق النفس البشرية، وفي حياة الإنسان الانفعالية. وقد انتهى أفلاطون من ذلك إلى أن تعود الإنسان الاستماع إلى الأساليب الموسيقية الصحيحة يساعده دون وعي منه على تنمية العادات السليمة التي تتيح له تمييز الخير من الشر.
وقد أعرب أفلاطون في محاورة «الجمهورية» عن اعتقاده بأن المقامين الأيوني والليدي ينبغي أن يستبعدا من الدولة؛ لأن لهما طابعا مخنثا ناعما رخوا. أما المقامان الدوري والفريجي، اللذان يتسمان بالروح العسكرية، فمن الواجب استبقاؤهما.
16
وبعد أن ربط أفلاطون بين تعاليمه الموسيقية وبين المبادئ الأخلاقية برباط وثيق، طبق هذه التعاليم بطريقة عملية صارمة، لكي يحمل بشدة على الشعراء المغنين الذين كانوا ينشرون نوعا بدائيا من البوليفونية كان يلقى رواجا في أيامه، فوصف هذه البوليفونية بأنها نشاز لا ينجم عنه إلا اضطراب الذهن، ودعا الشاعر اليوناني إلى تأليف أنشودته الموسيقية على نحو من شأنه أن يتيح غناءها «نغمة نغمة»، لا عن طريق «أنغام معقدة متنوعة» كما يحدث «عندما تصدر الأوتار صوتا، ويغني الشاعر أو مؤلف اللحن صوتا آخر». ويوجه أفلاطون تحذيره قائلا: «إن التوافقات والهارمونيات التي تجمع بين مسافات أكبر وأقل، وبين أنغام بطيئة وسريعة، أو عالية ومنخفضة» وكذلك التنويعات المعقدة عندما تكيف تبعا لأنغام الليرا
Lyre ، تؤدي قطعا إلى إثارة صعوبات «إذ إن المبادئ المتعارضة تولد الاضطراب.»
17
والنتيجة التي يتوصل إليها من ذلك هي أن التنوع والتعقد في الإيقاع واللحن أمر ينبغي تجنبه؛ إذ إنه خليق بأن يبعث كآبة وحيرة ذهنية قد تبتعد بالناس عن النظام الطبيعي للأشياء إلى عالم الخيال واللامعقول.
وهناك مفكر آخر قريب العهد بنا، هو تولستوي (1828-1910م) الذي نادى بمذهب أخلاقي في الفن، يرتكز على إدانة المجتمع وفنونه من جهة النظر الاجتماعية والدينية. وقد أدرجت روسيا السوفييتية ضمن تعاليمها الموسيقية كثيرا من آرائه الأفلاطونية، حتى إن الكثير مما كان مجرد نظرية جمالية في كتابات تولستوي، قد أصبح واقعا سياسيا في نقطة الاعتراض الأولى التي ذكرت فيها اللجنة المركزية أن الأوبرا «مضطربة غير متوافقة، تتألف كلها من تنافرات ومن مجموعات صوتية تمجها الأذن»، كذلك تذكرنا اللجنة المركزية بأفلاطون إلى حد بعيد عندما تواصل كلامها في نفس هذا الاتجاه، فتقول: «فيما بين السطور والمناظر الفردية التي تتخذ ظاهريا شكل ألحان تنفذ على حين غرة أصوات متنافرة غريبة تماما عن الأذن البشرية، تبعث في نفس السامع إحساسا بالضيق.»
18
ولا شك أن التشابه في وجهة النظر بين هذه الفقرة وبين الفقرات التي اقتبست من قبل ملفت للأنظار بحق.
وهناك وجه شبه آخر يشد على وجود أصداء أفلاطونية في الموسيقى السوفييتية؛ فقد كان أفلاطون يرى أن الشعر الغنائي والنغم لا ينفصلان، ولكنه أكد أن القيمة الأخلاقية للنص بإخضاع القالب الموسيقي للشعر. وقد عارض بشدة أولئك الموسيقيين الثوريين الذين ظهروا في أيامه، والذين حاولوا بالفعل تأليف موسيقى بلا كلمات؛ إذ إنه «عندما لا تكون هناك كلمات، يكون من العسير إلى أبعد حد إدراك معنى الانسجام والإيقاع، أو معرفة ما إذا كانا يحاكيان أي موضوع ذي قيمة.»
19
وبالمثل كتب كالفان بلهجة تذكرنا إلى حد بعيد بالفقرة المشهورة في «اعترافات» القديس أوغسطين، فقال: إن «من الضروري مراعاة الحذر الشديد، حتى لا يكون انتباه الأذن إلى تحولات الأنغام أقوى من انتباه الذهن إلى المعنى الروحي للكلمات.»
والواقع أن هذا البحث في موضوع النص والموسيقى كان يتخذ من آن لآخر صبغة مشكلة جمالية، ومن هنا فليس من المستغرب أن يهتم به السوفييت في ضوء حاجاتهم المباشرة؛ فقد جاء في بيان اللجنة المركزية: «إن الاتجاه الشكلي في الموسيقى السوفييتية أدى إلى ظهور ميل متحيز إلى القوالب المعقدة لموسيقى الآلات، والسيمفونيات، والموسيقى بغير نص كلامي، بين المؤلفين الموسيقيين السوفييت ... وهذا كله يؤدي حتما إلى ضياع أسس الثقافة الغنائية، والتمكن من فن الدراما، وإلى أن ينسى المؤلفون الموسيقيون كيف يكتبون للشعب.»
20
أما الموضوع الثالث لبحثنا فهو مسألة التجديد في الموسيقى؛ فقد شن أفلاطون حملة شديدة العنف على التجديد الفني. وعلى أساس اعتقاد أفلاطون بأن التغير الفني يؤدي بعض الوقت إلى الفوضى في الدولة، كتب في «الجمهورية» يقول: إن أي تجديد فني ينذر بأشد الأخطار على الدولة، وينبغي حظره. ويقول: إن تغير أساليب الموسيقى يؤدي إلى تغير مصاحب لها في قوانين الدولة ذاتها.
21
ولم تكن الاعتبارات الجمالية هي التي دفعت القديس أوغسطين إلى إيثار مزامير داود البسيطة على الموسيقى ذات الانزلاقات الكروماتية التي كانت قد بدأت تجد طريقها إلى شعائر الكنيسة في أيامه، وإنما كان يخشى أن يؤدي إدخال الموسيقى الجديدة البعيدة عن حاجات الكنيسة إلى إلحاق أشد الأضرار بمصالح الكنيسة، وتهديد استقرار الشعائر الكنسية باستحداث تغيرات مستمرة مضطربة.
كذلك أراد كالفان أن تكون موسيقاه الدينية بسيطة معبرة عن تواضع النفس. وكانت حجته في ذلك هي أن الإصلاح الديني ما هو إلا إنكار للتبهرج والطقوس المعقدة التي تتميز بها الكنيسة الكاثوليكية. وإذن فمن الواجب حماية الموسيقى البروتستانتية من إنتاج أولئك المغرورين الذين لا يؤلفون الموسيقى لتمجيد الرب، وإنما لكسب الشهرة لأنفسهم فحسب؛ فالموسيقى جزء لا يتجزأ من العقيدة الجديدة، ولا يمكن أن تظل بمعزل عنها. وليس لمؤلف الموسيقى الشعائرية الحق في تبديد طاقته في أي نوع من الإبداع الموسيقي، فيما عدا ذلك الذي يضمن تحقيق البروتستانتية وتقدمها.
وقد سار السوفييت في ذلك الطريق أبعد من ذلك؛ إذ رأوا أن التغيير الفني لغرض التجديد وحده إنما هو تبديد لا طائل تحته. إنما الواجب أن يكون ذلك التغيير موجها نحو غاية اجتماعية بناءة؛ فاللجنة المركزية تقول: «إن الكثير من الموسيقيين السوفييت، في سعيهم وراء التجديد الذي أساءوا فهمه، قد فقدوا في موسيقاهم الصلة بحاجات الشعب السوفييتي وذوقه الفني، وأغلقوا على أنفسهم الأبواب إلا من فئة محددة من المتخصصين ومحترفي التذوق الموسيقي، وقللوا من أهمية الدور الاجتماعي الأساسي للموسيقى، وضيقوا معناها، فقصروه على إرضاء الأمزجة المنحرفة لأصحاب النزعات الفردية في الفن ...» «وقد بلغت الأمور حدا كبيرا من السوء في ميدان تأليف السيمفونيات والأوبرات. وحين نقول ذلك، فنحن إنما نتحدث عن أولئك المؤلفين الموسيقيين الذين يقتصرون على الاتجاه الشكلي المضاد للروح الشعبية. ويتبدى هذا الاتجاه بأجلى مظاهره في أعمال مؤلفين موسيقيين كالرفاق ديمتري شوستا كوفتش وسرجي بروكوفيف، وآرام خاتشاتوريان، وف. شيبالين، وج. بوبوف، ون. مياسكوفسكي وغيرهم ... مثل هذه الموسيقى تتميز بإنكار المبادئ الأساسية للموسيقى الكلاسيكية، والدعوة إلى اللامقامية والنشاز والتنافر الهارموني، وكأن هذه هي علامات «التقدم» و«التجديد» في نمو القوالب الموسيقية، كما تتميز برفض مبادئ أساسية في التأليف الموسيقي كاللحن
melody ، والميل إلى التجمعات الصوتية المضطربة المريضة، التي تحيل الموسيقى إلى تخليط في الأصوات، وإلى تكديس فوضوي لها.»
22
والخلاصة إذن أن أفلاطون كان قد ذهب إلى أن المقامات والأنغام الموسيقية المضبوطة بدقة، والتي تؤثر في الانفعالات تأثيرا فعالا نظرا إلى بساطتها المباشرة هي وحدها المفيدة. ولو استمع الإنسان إلى النوع الصحيح من الموسيقى لساعده ذلك على أن يبعث التوافق الإيقاعي بين نفسه المتناهية وبين اللامتناهي. أما التخليط الصاخب فيجعل النفس تصطدم بالنظام المثالي للأشياء، فمن الواجب إذن أن يطرد من المجتمع أولئك الشعراء المغنون الذين يؤلفون موسيقى تتعارض مع النظام الطبيعي؛ إذ إنهم محطمون للنفس، ونذر سوء بانهيار المجتمع.
وقد اتخذت هذه الآراء الفلسفية دلالة دينية في أعمال أولئك الموسيقيين الدينيين الأوائل الذين تشبعوا بروح الرهبة، فدفعتهم إلى تأليف موسيقى لتمجيد الرب والكنيسة، وأخذ هؤلاء على عاتقهم أن يطرحوا مشاعرهم الشخصية وميولهم الموسيقية جانبا لكي يلبوا حاجات الكنيسة.
وكان لوثر، شأنه شأن السابقين عليه، يعتقد أن من الضروري الالتجاء إلى كل وسيلة ممكنة لتعبئة القوى الانفعالية والنفسية للإنسان. وقد وضع لوثر، بوصفه هو ذاته مؤلفا موسيقيا، وكذلك بوصفه زعيما لحركة الإصلاح الديني، مذهبا جماليا في الموسيقى، كان بطبيعة الحال أوغسطينيا في ملامحه العامة، ولكنه كان واقعيا إلى حد أنه جعل من الفن مجرد أداة لخدمة الدين، ولكي يعمل لوثر على تحقيق هذا الهدف، أحل اللغة الألمانية محل اللاتينية التي كانت مستخدمة في الشعائر الكاثوليكية، واستعاض عن الأناشيد الجريجورية المعقدة بموسيقى أبسط وأقل غرورا، كانت أقرب إلى الأغاني الشعبية الألمانية.
23
أما كالفان فنظر إلى آراء لوثر على أنها متحررة أكثر مما ينبغي، وكما سبق لأوغسطين أن حذر المسيحيين الأوائل طالبا إليهم أن يصموا آذانهم عن الألحان الوثنية المنبعثة عن المسرح الروماني، فكذلك حاول كالفان أن يحتفظ بنقاء البروتستانتية بمحو أية آثار باقية احتفظ بها لوثر من الموسيقى الكاثوليكية الشديدة التنوع والتعقيد. على أنه قد اتفق مع لوثر على أن شعائر الصلاة ينبغي أن تكون مفهومة للجميع؛ ولذلك كانت الشعائر عنده تقام باللغات المحلية.
وبعد حوالي ثلاثمائة عام من ذلك التاريخ، حاول تولستوي في روسيا القيصرية أن يحقق إصلاحات اجتماعية ودينية مبنية على المبادئ المسيحية؛ ففي كتابه «ما الفن؟» نجد فقرة تجمع داخلها الآراء الجمالية الموسيقية لأفلاطون وأوغسطين ولوثر وكالفان. وكما كانت هذه الفقرة تلخيصا للآراء الجمالية ذات الطابع الأخلاقي عند السابقين عليه، فقد كانت أيضا تنبؤا بالآراء الجمالية الموسيقية السائدة في روسيا اليوم. في هذه الفقرة يقول تولستوي: «وإذن ففي المستقبل سيكون مختلفا كل الاختلاف، في شكله وموضوعه، عما يسمى الآن بالفن؛ فالموضوع الوحيد لفن المستقبل سيكون مشاعر تدعو الناس إلى التآلف، أو مشاعر من النوع الذي كان يؤلف بينهم بالفعل. وأما أشكال الفن أو قوالبه، فسيكون من شأنها أن تكون في متناول يد الجميع. وعلى ذلك فإن معيار الامتياز في المستقبل لن يكون ضيق نطاق المشاعر واقتصارها على البعض وحده، بل سيكون على عكس ذلك، عمومية هذه المشاعر وشمولها. ولن يكون هذا المعيار هو ثقل القالب وغموضه وتعقده، كما يظن الآن، وإنما سيكون إيجاز التعبير ووضوحه وبساطته. وعندما يصل الفن إلى هذه المرحلة، فعندئذ فقط لن يعود عاملا على تلهية الإنسان أو الحط من شأنه، كما هو الآن ...» وفي موضع آخر يضيف تولتسوي قوله: «إن ألحان المؤلفين المحدثين خاوية تافهة إلى حد يبعث على الدهشة، ولكي يعمل الموسيقيون المحدثون على زيادة التأثر الذي تتركه هذه الألحان الخاوية، تراهم يكدسون تحولات سليمة معقدة على كل لحن تافه، لا على النحو المعروف في بلادهم فحسب، بل أيضا بالطريقة المميزة لدائرتهم المقفلة ومدرستهم الموسيقية الخاصة. إن اللحن (الميلودي) - كل لحن - حر، ويمكن أن يفهمه الناس جميعا، ولكنه ما إن يرتبط بتوافق هارموني خاص، حتى يغدو فهمه مقصورا على الناس المدربين على مثل هذا التوافق، ويصبح غريبا، لا على الناس العاديين من قومية أخرى فحسب، بل أيضا على كل من لا ينتمي إلى الدائرة الخاصة التي عود أفرادها أنفسهم على أنواع معينة من التنظيم الهارموني. وعلى هذا النحو تدور الموسيقى كالشعر، في حلقة مفرغة؛ فالألحان التافهة التي تقتصر على دائرة ضيقة تثقل بتعقيدات هارمونية وإيقاعية وأوركسترالية لكي تزداد جاذبيتها، ولكن هذا لا يزيد نطاقها إلا ضيقا، وبدلا من أن تصبح مفهومة للجميع على نطاق العالم بأسره تعجز عن أن تكون مفهومة حتى على المستوى القومي ذاته؛ أي لا يفهمها الشعب كله، بل بعض الناس فحسب.»
24
وتتفق اللجنة المركزية مع تولستوي في هذه المبادئ الجمالية اتفاقا تاما؛ فهي بدورها تؤكد أن الموسيقى ينبغي أن تكون واقعية لا مجردة أو منعزلة عن الشعب وعن حاجات الحياة السوفييتية. وتقول اللجنة المركزية: إن هذه الوظيفة للموسيقى قد ضاعت؛ لأن المؤلف الموسيقي لأوبرا «الصداقة العظيمة» لم يستغل كنز الألحان والأغاني والأنغام الشعبية، وكذلك الألحان الشعبية الراقصة، التي يزخر بها الفن الخلاق لشعوب الاتحاد السوفييتي. غير أن محور الحجة التي تستند إليها اللجنة المركزية هي أن «ابتعاد بعض الموسيقيين السوفييت عن الشعب قد وصل إلى حد انتشرت فيه بينهم «نظرية» فاسدة مؤداها أن عجز الشعب عن فهم موسيقى كثير من المؤلفين السوفييت المعاصرين يرجع إلى أن الشعب، على ما يقولون، لم «ينضج» بعد إلى الحد الذي يتيح له فهم موسيقاهم المعقدة، وأنه سيفهمها بعد مائة عام، وأنه لا داعي للقلق أو الانزعاج إن كانت بعض المؤلفات الموسيقية لا تجد لها مستمعين.» وتواصل اللجنة المركزية كلامها فتقول: «وهذه النظرية الفردية البحتة التي هي معادية في صميمها للروح الشعبية قد مكنت بعض المؤلفين والباحثين الموسيقيين من أن يزيدوا أنفسهم عزلة عن الشعب وعن نقد المجتمع السوفييتي، وأن يحبسوا أنفسهم بين جدران قواقعهم.»
25
وبعد عام من نشر جريدة «إزفستيا» لقرارات اللجنة المركزية، ألقى ديمتري شوستاكوفتس
Dimitri Shostakovich (المولود سنة 1906م) خطابا في نيويورك دل على تأثير هذه القرارات، فقارن بين الفلسفات الموسيقية للمؤلفين الغربيين وبين الواقعية الفنية التي تتصف بها موسيقاه وموسيقى بروكوفييف، واتهم سترافنسكي، بوصفه ممثلا للموسيقيين الغربيين، بالشكلية المنحلة التي لا تؤدي إلا إلى تدهور الموسيقى.
26
فقد أشار شوستاكوفتش أولا إلى أن سترافنسكي كان موسيقيا ينتظر له مستقبل باهر، حتى انشق على تراث المدرسة الروسية القومية، وانضم إلى معسكر «الموسيقيين الرجعيين من أنصار الاتجاهات التجديدية» ثم اتهم سترافنسكي بأنه يتجاهل الحاجات الموسيقية للجماهير، وأشار إلى تصريحات سترافنسكي التي يقول فيها: «إن الجمهور بالنسبة إلى الفن، هو لفظ كمي لم آخذه أبدا، ولو مرة واحدة، بعين الاعتبار.» كما يقول فيها: «إن الجماهير العريضة لا تضيف إلى الفن شيئا، ولا يمكنها أن ترفع مستواه، والموسيقي الذي يهدف عن وعي إلى اجتذاب الجماهير لا يمكنه أن يحقق هذا الهدف إلا بخفض مستواه. إنني أهتم بروح كل فرد يستمع إلى موسيقاي، لا بالشعور الجماهيري للجماعة.» ثم تساءل شوستاكوفتش: كيف يتسنى لمثل هذه النزعة الذاتية أن تساعد على النهوض بحياة الشعب؟ كيف يمكن لهذه الموسيقى المنحلة أن تخدم فكرة سياسية؟ ثم يواصل كلامه قائلا: إن سترافنسكي يرد على هذه الأسئلة ردا بليغا، وذلك في تصريحات بسيطة يقول فيها: «إن موسيقاي لا تعبر عن أي شيء واقعي.» ويقول: «إن موسيقاي لا تحكي شيئا.» ولكن شوستاكوفتش يحذر مستمعيه قائلا: إن في هذا الإعلان الذي يؤكد انعدام المعنى والمضمون في الموسيقى، تتمثل الفلسفة الانحلالية المميزة لموسيقى سترافنسكي، والتي تسود التفكير الجمالي الموسيقي في البلاد الرأسمالية.
ثم ينتقل شوستاكوفتش إلى إيضاح ما يعنيه السوفييت بالواقعية في الموسيقى، فيميز بين النزعة الطبيعية والنزعة الواقعية؛ فالمحاكاة الطبيعية في الموسيقى هي محاكاة بيتهوفن لصوت الطائر في «السيمفونية الريفية» ومحاكاة شتراوس لأصوات الخراف في «دون كيخوته». ويلاحظ شوست كوفتش أن هذا النوع من المحاكاة الموسيقية قد ظهر في أكثر صوره تطرفا عند أولئك الموسيقيين الذين يقلدون صفير القطارات وضجيج الآلات الصناعية. والواقع أن الموسيقيين الذين يؤمنون بفلسفة الفن للفن إنما يخلطون بين معنى المحاكاة الطبيعية ومعنى الواقعية في الموسيقى. ولقد تعلم الموسيقيون ذوو النزعة الشكلية كيف يصورون كل أنواع الأصوات في الموسيقى، ولكن شوستاكوفتش يشكو من أنهم نسوا كيف يعبرون عن انفعالات البشر ومشاعرهم وتجاربهم ويصورنها بدقة. ونظرا إلى انعزال الموسيقيين من أصحاب النزعة الشكلية عن حياة الجماهير، فإنهم نسوا فن وصف مشاعر الناس وتجاربهم. أما الواقعية في الموسيقى فتعني «التعميم من تجربة الحياة الكبرى، وفي الوقت ذاته إفراد ما له أعظم الأهمية في عملية الحياة؛ فالأمر هنا إنما يتعلق بالفنان من حيث هو عنصر تقدمي في المجتمع البشري، ومرب ومعلم، يعيد في أعماله تأكيد القيم الأخلاقية والجمالية. والمسألة هنا هي أن من الضروري للموسيقى ألا تعود وسيلة للترويح، وألعوبة في أيدي المتحذلقين والمحترفين والمتخصصين الفنيين، وأن تصبح مرة أخرى قوة اجتماعية كبرى تخدم البشرية في كفاحها من أجل التقدم وانتصار العقل.»
ويضرب شوستاكوفتش أمثلة للمبدأ الواقعي السوفييتي في الموسيقى بأعمال مثل كنتاتة (غنائية) بروكوفييف (1891-1953م)، ألكسندر نيفسكي
Alexander Nevsky
وكنتاتة «زدرافتسا
Zdravitsa »، وأوبرا «الحرب والسلام». وهو يعلل نجاحه الخاص من حيث هو مؤلف موسيقي سوفييتي بأنه كان في الماضي يوثق روابطه بالشعب الروسي عن طريق موسيقاه «فقد كنت أسعى إلى الاهتداء إلى لغة يمكن أن يفهم معناها. وعلى العكس من ذلك فإني في أعمالي التي انحرفت فيها عن الموضوعات اللحنية الكبيرة والصور المعاصرة - ولا سيما تلك الأعمال التي ألفتها في سنوات ما بعد الحرب - فقدت اتصالي بالشعب، وأخفقت. ولم تكن أعمالي هذه تلقى استجابة إلا من دائرة ضيقة من الموسيقيين المحترفين، غير أنها لم تلق ترحيبا من الجماهير الضخمة للمستمعين.»
القسم الثالث: الموسيقى بوصفها تعبيرا
كتب الفيلسوف جون ستيوارت مل (1806-1873م) يقول: «لشد ما كانت تؤرقني فكرة إمكان استنفاد التجمعات الموسيقية؛ ذلك لأن الأوكتاف لا يتألف إلا من خمسة أصوات ونصفي صوت، وهي أصوات لا يمكن أن تجمع ... إلا بعدد محدود من الطرق التي ليس فيها ما هو جميل سوى نسبة بسيطة منها. وقد بدا لي أن معظم هذه التجمعات الجميلة لا بد أن تكون قد كشفت من قبل، بحيث لا يعود هناك مجال لظهور مجموعة طويلة متعاقبة من الموسيقيين أمثال موتسارت وفيبر، الذين يمكنهم أن يكتشفوا لنا كنوزا جديدة رائعة من الجمال الموسيقي، كما فعل هذان بالفعل.»
27
ولقد كانت مخاوف مل راجعة إلى إمكان استنفاد النظام الهارموني المقفل؛ إذ إنه كان ينظر إلى مفهوم الجمال في الموسيقى من خلال القيم التقليدية، غير أن موسيقيي النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانوا بالفعل قد بدءوا يتجاوزون النظرة إلى الجمال في الموسيقى، من خلال ذلك العدد المحدود من الطرق التي تجمع بها الأصوات الكاملة الخمسة ونصفا الصوت في الأوكتاف.
فقد استخدم فاجنر عن وعي التنافر الهارموني لزيادة جمال التعبير؛ ذلك لأنه كان يرى أن الجمال في الموسيقى هو التعبير، وأن التوافق أو التنافر ما هما إلا طرفان لهما فعالية انفعالية، ولا يمكن التمييز بينهما إلا على نحو أكاديمي بحت. وقد قبل ديبوسي الوجه من أوجه تفكير فاجنر الجمالي؛ إذ إنه بدوره كان يستهدف زيادة ثراء عالم الخيال عن طريق الموسيقى، فوسع نطاق العلاقات الهارمونية، واستخدم التنافر دون تمهيد أو حل له، وأدخل أنغاما غريبة عن التآلف الأصلي (الكورد
Chord ). وقد طعم ديبوسي موسيقاه بتلوين شرقي وبالمقامات القديمة، وكان يتنقل بين السلالم بحرية تامة دون اهتمام بنوعها. والأمر الذي كان يهمه هو بعث حالة نفسية معينة؛ ولذلك استخدم كل درجات السلم، وجميع التآلفات الهارمونية التي تنتمي إلى الديوانين الكبير والصغير، ووزعها لكي يبعث التأثير الذي يود أن يحدثه فيما بين الرومانتيكي الألماني فاجنر والتأثيري الفرنسي ديبوسي، حدثت ثورة كاملة في الطابع الجمالي والأسلوب الفني للموسيقى. والواقع أن الأساس الجمالي للموسيقى الحديثة في القرن العشرين إنما يرجع إلى العبقرية الخلاقة لهذين المؤلفين الموسيقيين اللذين أثبتا عدم وجود مبرر لمخاوف الفيلسوف من أن تكون الموسيقى نظاما مقفلا له إمكانيات محدودة في إنتاج أنغام جميلة. وسوف نبين في العرض الذي سنقدمه لموسيقانا الحالية، الطريقة التي عبر بها الموسيقيون الخلاقون في مختلف البلاد عن أنفسهم.
كان إريك ساتي
Eric Satie (1866-1925م) هو الأب الروحي لجماعة «الستة
Les Six » في باريس بعد الحرب العالمية الأولى، وكان نطاق أفكاره الموسيقي يمتد من الهزل المتعمد إلى الفلسفة التأملية. وقد اختار مقتطفات من محاورات أفلاطون ولحنها في أكثر أعماله طموحا، وهو الدراما السيمفونية «سقراط»، وقد أصبح ساتي المعبود المختار للطليعة الموسيقية وللوجوديين في الفلسفة؛ إذ إن هؤلاء جميعا قد نسبوا إليه فضل الوصول بالاتجاه المضاد لفاجنر في الموسيقى الفرنسية إلى القمة، واستخدام هارمونيات جريئة قبل ديبوسي ورافل
Ravel (1875-1937م).
إن كل عصر في الموسيقى يلتمس لنفسه معبودا يتخذه مصدرا للإلهام؛ فالرومانتيكيون قد جعلوا من بيتهوفن معبودهم الملهم، أما الموسيقي الألماني ماكس ريجر
Max Reger (1873-1916م)، فتحول إلى باخ؛ لكي يستلهمه روح البوليفونية من جديد؛ فقد اعتقد ريجر أنه وجد في باخ مثلا رائعا للتجرد الكلاسيكي الذي يصلح ترياقا يعوض تأثير الانفعالات المتدفقة عند الرومانتيكيين، وكان ما يهتم به ريجر هو القيم التكنيكية للنغم والقالب، فدفعته حماسته للتجرد الخالص إلى إساءة فهم معبوده باخ بتأكيد الرمز الموسيقي بدلا من الانفعال الذي يمثله الرمز.
ولكن ريشارد شتراوس
Richard Strauss (1864-1949م) لم يكن يشارك مواطنه ريجر فلسفته الجمالية المتجردة الخالصة، ولقد كان يشترك مع ريجر في تمكنه التام من التكنيك الموسيقي، ولكنه - على خلاف ريجر - كان يستخدم هذا التكنيك في استطلاع إمكانيات الآلات الموسيقية والقالب الموسيقي، حتى يستطيع نقل مشاعره وأفكاره بطريقة وصفية شديدة الفعالية. وتتميز موسيقاه بالتوفيق بين عناصر مختلفة، وبالواقعية التصويرية. وهي تحلق أحيانا في قمم لحنية تبدو المؤلفات الرومانتيكية الجديدة لفاجنر معتدلة بالنسبة إليها. ولقد كان شتراوس يشترك مع فاجنر ومالر في العجز عن الإيجاز؛ فهو مطيل كثير الكلام.
أما فيروتشيو بووزني
Ferruccio Busoni (1866-1924م) وهو موسيقي وعازف على البيانو وباحث نظري إيطالي ألماني، فقد احتج مثل ريجر على رومانتيكية القرن التاسع عشر، وطالب بالعودة إلى الوضوح والمنطق المنظم اللذين كانت تتسم بهما كلاسيكية القرن الثامن عشر في الموسيقى. وعلى حين أن ريجر أصبح تلميذا لباخ، واعترف بذلك، فإن بوزوني تحول إلى موتسارت الذي نظر إليه على أنه صاحب أعظم أسلوب في الموسيقى. وأدت عودة ريجر وبوزوني إلى النزعة الشكلية للمذهب الكلاسيكي، وانصرافهما عن الرومانتيكية الانفعالية، إلى ظهور مذهب موسيقي جمالي في القرن العشرين بلغ قمته في النزعة الكلاسيكية الجديدة عند «هندميت
Hindemith » وسترافنسكي.
ولقد كان كتاب بوزوني «الخطوط العامة لمذهب جمالي جديد في الموسيقى
Sketch on a New Esthetic of Music » (1907م) كان هذا الكتاب دفاعا عن القوالب الخاصة والأسلوب الواضح الذي كان مولعا به، في صورة فقرات وجمل منفصلة؛ ففي هذا الكتاب أعلن معارضته للاعتقاد القديم بأن الموسيقى محاكية للطبيعة، وسخر من الفكرة الرومانتيكية القائلة إن الموسيقى محاكاة للحياة، وإنما الموسيقى بالنسبة إليه طريقة ذات أسلوب منظم للتعبير عن الأحوال النفسية والانفعالات. ولقد كانت آراء فاجنر الجمالية بعيدة عن الصواب في رأيه، كما كانت في رأي هانسليك. وقد سخر في أوبرا «أرليكنو
Arlecchino » التي وضع هو ذاته موسيقاها من الرومانتيكيين، وذلك في صورة تهكم على المجتمع والأخلاق والحرب والفلسفة والدين، وقبل ذلك كله، على فساد طريقة الرومانتيكيين في استخدام قالب الأوبرا.
وانتهى بوزوني من ذلك إلى أن موسيقى الرومانتيكيين وصفية إلى حد مفرط، وأكد أن موسيقاهم تنطوي على عناصر غريبة عن الروح الحقيقية للموسيقى (وخص بالذكر مؤلفات ريشارد شتراوس، الذي كان في قصائده السيمفونية يستخدم الموسيقى لأغراض الوصف الواقعي، كوصف صوت طاحونة الهواء وهي تدور، وأصوات الخراف). أما هو فرأى أن الموسيقى ينبغي أن تظل نغما وقالبا خالصين؛ فليست مهمة الموسيقى هي إثارة الانفعالات، وإنما هي تكوين تجمعات نغمية مرتبة عقليا، وقوالب مبنية على أسلوب منظم.
وكان بوزوني ينظر إلى الرومانتيكية على أنها مذهب جمالي في الموسيقى يرفع من شأن الانفعالات ويكتم صوت العقل. وقد اتفق هيجل على أن الكلاسيكية هي انتصار الشكل (أو القالب) على الموضوع، والعقل على الانفعال. كما وافق على ملاحظة «جيته» القائلة إن كل ما هو صحي كلاسيكي، وكل ما هو مريض رومانتيكي. وقد وجدت آراؤه تعبيرا موسعا عنها في كتابات أوزفالد شبنجلر
Oswald Spengler (1880-1936م) الذي ذهب إلى أن الموسيقى ذات البرنامج إنما هي مفهوم رومانتيكي ينتمي في الواقع إلى فن الرسم لا إلى الموسيقى. ومن هنا كتب شبنجلر يقول: «إن كل فن رومانتيكي إنما هو أغنية الموت (
Swan-Song )، وهو التعبير الأخير عن مدنية، وما هو إلا ألوان الخريف الزاهية التي تسبق سقوط الأوراق، أو الكتابة على الحائط
28
التي تنذر بالدمار، أو المذنب المشتعل
29
الذي ينذر بقرب الفوضى والانحلال.»
ولم يكن بوزوني يشارك شبنجلر تشاؤمه التاريخي، وإنما كان كتابه في علم الجمال شهادة إيمان بقرب حلول عهد جديد في الموسيقى. وكان الهدف الذي يسعى إليه بوصفه موسيقيا وباحثا نظريا، هو تطوير إمكانيات نظامنا النغمي، وتشجيع التجريب على آلات جديدة.
أما الموسيقي الفنلندي جان سيبيليوس
Jan Sibelius (ولد في 1865م)
30
فقد وصفه معاصروه بأنه مؤلف موسيقي ذو أصول شعبية، يستمد الوحي من الطبيعة، ويصورها بأسلوب رومانتيكي. وقد أعرب سيبيليوس، بطريقته الخاصة، عن اعتقاده بأن المبادئ الجمالية للمذهب الكلاسيكي هي طريق المستقبل. وكتب هارون كوبلاند
Aaron Copland
يقول عنه: «إن سيبيليوس موسييى شعبي بطبيعته ... فلديه كلف دائم بالعودة إلى أسلوب ريفي يستلهم فيه الوحي الشعبي، وإلى أن يكرر ذاته في موضوعات لحنية وصيغ فنية، ويضعنا دائما في نفس الجو الانفعالي. على أن هذه اتجاهات لا يمكن أن يتصف مؤلف موسيقي من الدرجة الأولى بواحد منها.»
31
وفي مقابل ذلك كتب الناقد أولن داونز
Olin Downes
يقول: «الحقيقة أن أعظم أقطاب الكلاسيكية الجديدة في الموسيقى الحالية هو سيبيليوس، وليس سترافنسكي بمحاكاته الزائفة للأقطاب القدماء، ولا هندميت بإحيائه الحديث للكنترابنط القديم والقوالب الخاصة في موسيقى الآلات.»
32
ويتمثل الاتجاه الكلاسيكي الجديد بوضوح في أعمال الموسيقي الإنجليزي رالف فون وليامز
Ralph Vaughan Williams (ولد عام 1872م)،
33
وذلك في اهتمامه بالقالب واستخدامه للكنترابنط؛ فهو يترجم المشاعر المثيرة للخيال والصور الشعرية إلى تجمعات نغمية يقصد منها التعبير عن المشاعر الموسيقية ولا شيء غيرها، مهما بدا وقعها على الأذن غريبا. على أن الأمل المشرق للموسيقى الإنجليزية إنما هو في بنيامين بريتن
B. Britten (المولود في 1913م)؛ فهو بدوره يعرب عن «ولاء أبدي لباخ»، وهو بدوره يساير باخ في رأيه القائل إن الصوت البشري هو الآلة الموسيقية النهائية، وإن آلات الأوركسترا تكون أفضل كلما كان صوتها أقرب إلى الصوت البشري. ولكن على الرغم من إيثار بريتن للصوت البشري، فإن عظمته تظهر أيضا في موسيقاه الأوركسترالية، وفيما ألفه من موسيقى الغرفة
Chamber music . ولقد كانت أوبرا «بيتر جرايمز
» التي وضع موسيقاها تحقيقا فعليا لأمل «فيبر» الجمالي في جعل الأوبرا مزيجا من الشعر والغناء والتمثيل. وبذلك تحققت في أوبرات بنجامين بريتن العودة إلى اندماج الفنون عند اليونانيين.
أما حالة الموسيقى في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن خير وصف لها هو ذلك الذي قدمه توماس جيفرسون - إذا جاز لنا أن نعود مؤقتا إلى الوراء قرابة قرنين من الزمان - في خطاب بعث به إلى صديق له كان يراسله في باريس، وفيه يقول: «إن كانت هناك نغمة أحسد عليها أي شعب في العالم، فهي موسيقى شعبكم؛ ذلك لأن الموسيقى هي الانفعال الأثير لدي. غير أن القدر شاء أن أعيش في بلد تعاني الموسيقى فيه حالة من الهمجية تدعو إلى الرثاء ...» وحتى في القرن الماضي، عندما كانت أوروبا تنعم بعصر الرومانتيكية العظيم كتب رالف والدو إمرسون (1803-1882م) يقول عن الموسيقي الخلاق: «لكم يبدو لي الفنانون الموسيقيون في المجتمع متحيزين ضيقي الأفق، وكأنهم خصيان مشوهون ... إن السياسة والإفلاس والصقيع والمجاعة والحرب، كل ذلك لا يهمهم، وإنما يجعلون شغلهم الشاغل حك أوتار أو نفخ أبواق.»
ولقد كانت بداية أول مدرسة أمريكية في الموسيقى مقترنة بظهور أعمال جورج تشادويك
George W. Chadwick (1854-1931م)، وتشارلس مارتن لوفلر
C. M. Loeffler (1861-1935م)، وإدوارد ألكسندر ماكدويل
E. A. Macdowell (1861-1908م). وقد ظهر تأثير الأوروبيين بوضوح في أفكارهم الموسيقية والقوالب التي استخدموها، على الرغم من كل محاولاتهم تصوير الطبيعة الأمريكية بلون محلي. وفي موسيقى تشارلس آيفز
C. Ives (1874-1954م) التي أعقبت الأعمال السابقة تظهر أفكار أكثر أصالة وتعبيرات أشد جرأة. ومنذ ذلك العهد بلغت أمريكا سن الرشد موسيقيا، وفتحت أبوابها لإيواء الموسيقيين الذين فروا من الثورة الروسية ومن الاضطهاد النازي، والذين أقاموا في الولايات المتحدة ليزيدوها ثراء بموسيقاهم، وذلك بوصفهم مؤلفين ومعلمين موسيقيين في آن واحد. ومنذ بداية القرن العشرين قل اعتماد أمريكا على الموسيقيين الأوروبيين الذين كانت تتخذهم أنموذجا لها. واستطاع روي هاريس
Roy Harris (المولود في 1898م)، وروجر سيشنز
Roger Sessions (1896م) وولتر بيستن
Walter Piston ، وفرجيل طومسون
Virgil Thomson (1896م)، وراندال طومبسون
Randall Thompson ، وهارون كوبلاند
Aaron Copland (1900م) بوصفهم مؤلفين موسيقيين ومعلمين ونقادا، أن يستهلوا عهد إحياء موسيقي في هذا البلد، ازدادت قوته بفضل تدفق الموسيقيين الأجانب وتقدم عصر العلوم. والواقع أن أمريكا تدين لهؤلاء الرجال بالكثير، حتى رغم كونهم هم أنفسهم يدينون بالفضل لأوروبا. ويمتاز هؤلاء بنضج في الأفكار يثري الفن الموسيقي بأصالته ونضارته. وهم يبدعون موسيقاهم بطريقة مباشرة، وببساطة كلاسيكية ، وكأنهم يؤلفون أنشودة وطنية.
أما الجيل التالي من الموسيقيين فلا يسمح لأية أغلال موسيقية بأن تقيد أفكاره ورغبته في التعبير؛ ذلك لأن مارك بلتسشتين
Marc Blitzstein (المولود في 1905م) ووليام شومان
W. Sohuman (1910م)، وصامويل باربر
Samuel Barber (1910م)، وبول باولز
Bowles (1911م)، ولينارد برنشتين
Leonard Bernstein
ينظرون إلى النغم والقالب على أنهما وسيلة للاتصال وأنموذج له، ينبغي أن يتغير وفقا لحاجات التعبير، وهم متمسكون بالرأي الجمالي القائل إن الفنان إذا ما قال أشياء قديمة، فمن الواجب أن يقولها بطريقة جديدة، أما إذا كانت لديه القدرة أن يقول شيئا جديدا، فإن من واجبه ألا يقوله بقوالب الماضي، بل ينبغي أن يقوله بأية طريقة يمكن أن يقال بها في الموسيقى.
أما تلك الصيحة التي يرددها كثير من النقاد والفلاسفة المعاصرين من أن الموسيقى الحديثة متنافرة ومنحلة، فهي ليست جديدة في تاريخ الفنون؛ فقد كان الانتقال من عصر موسيقي إلى آخر يقترن دائما بالسخرية والاحتقار من جانب المحافظين والتقدميين معا. ولقد سبق أن قال فولتير إن الأذن البشرية تحتاج إلى جيل بأكمله؛ لكي تعتاد أسلوبا موسيقيا جديدا. وقد يكون في هذا القول مبالغة، غير أنه في جملته صحيح. كذلك قيل إن تفضيل مؤلفينا الموسيقيين المعاصرين للأسلوب الموضوعي اللاشخصي في الموسيقى يعني أنهم يتجنبون أية شبهة للأحاسيس في فنهم. وهذا القول لا يقل بطلانا عن اتهام الموسيقى المعاصرة بالانحلال؛ فالموسيقي المعاصر يقول ما يريد أن يقوله بطريقته الخاصة، وهذه الطريقة التي يعبر بها عن نفسه مختلفة عن الطرق التي كانت متبعة في الماضي. وليس لنا أن نتوقع من الموسيقي الذي يعيش في أيامنا هذه أن يعبر عن نفسه بقالب وأسلوب موسيقى عصر الباروك، مثلما ينبغي ألا نتوقع من الشاعر المعاصر أن يكتب بلغة وأسلوب الشعراء في عصر إليزابيث.
إن الموسيقي الحديث يخلق وفقا لمعيار عملي للقيم الموسيقية؛ فهو يقول ما يريد، أو ما يتحتم عليه أن يقوله بأية طريقة يمكنه بها أن يجعل موسيقاه فعالة. ولا شك أن الناقد الذي يستمع إلى هذه الموسيقى للمرة الأولى، ويحاول تقويم هذا التعبير الجديد عن المشاعر، ليس في موقف يحسد عليه؛ فعليه أن يتذكر أن كل جديد ليس بالضرورة جيدا، وليس كل تغير تقدما، ولكن ينبغي أن يدرك أيضا أنه إذا قدر الموسيقى الجديدة بمعايير قديمة، فقد يصبح في العصر الحالي بمثابة الناقد «أرتوزي»
34
في عصره.
القسم الرابع: فلسفة جمالية جديدة للموسيقى
أدرك أرنولد شونبرج
Arnold Schonberg (1874-1951م) قرب مطلع هذا القرن أن النظام الدياتوني، بديوانيه الكبير والصغير، قد أخذ يتحلل ويتفكك طوال ما يربو على خمسة وسبعين عاما، وأن الفلسفة الجمالية للموسيقى الغربية، المبنية على مبدأ المقامات التي يتألف منها الديوانان، قد أخذت تنهار؛ ذلك لأن التلوين الكروماتي الذي حفلت به موسيقى الفترة الأخيرة من القرن التاسع عشر قد عمل على هدم النظام النغمي الذي كان يكون جزءا أساسيا من مفهوم التركيب المنطقي الموسيقي في الغرب، وهو المفهوم المرتكز على النظام الدياتوني؛ لذلك وضع شونبرج نظاما مؤلفا من اثنتي عشرة نغمة (وهي مجموع النغمات وأنصافها في السلم) يحل محل النظام الدياتوني المتداعي، عن طريق إيجاد مجموعة جديدة من العلاقات (هي الصف النغمي
tone row ) يكون لكل نغمة من الأنغام الاثنتي عشرة فيها مركز متساو، بدلا من المركز المميز لنغمة الأساس (الأولى) والنغمة المسيطرة (الخامسة) في النظام الدياتوني. والواقع أن هذا النظام لم يتخل عن مفهوم «المقامية
Tonality » كما زعم نقاده، وكل ما في الأمر أنه خلق نوعا جديدا منها.
ولقد كانت موسيقى شونبرج ومدرسته رد فعل على رومانتيكية القرن التاسع عشر، وكان من رأي هذه المدرسة (المسماة بمدرسة فينا) أن اللغة الهارمونية واللحنية للسلم الدياتوني كانت تلجأ على نحو متزايد، كلما فقد تماسكها الموسيقي بالتدريج، إلى عناصر غير موسيقية؛ ذلك لأن الموسيقى حين بدأت تفقد بالتدريج قدراتها على تصوير فكرة موسيقية خالصة، نظرا إلى أن بناءها المنطقي كاد أن تستنفد إمكانياته، أخذت تزداد اعتمادا على الأساليب الأدبية والوصفية التي يعدها صاحب النظرة الخالصة أساليب غير موسيقية في أساسها. وهكذا يرى شونبرج أن الفلسفة الجمالية للموسيقى في القرن التاسع عشر أصبحت تحتم، أولا، ظهور أساس جديد لمفردات اللغة الموسيقية (من حيث الهارمونية والإيقاع والمقام)، وتحتم ثانيا فهما جديدا لمشكلات وضع منطق موسيقي سليم؛ ففلسفة شونبرج الجمالية في الموسيقى ترتكز على الرأي القائل إن على الموسيقى أن تسعى إلى هدف واحد يطغى على أية أهداف ثانوية يمكن أن تسعى إليها، وهو وضع منطق موسيقي واضح يكون معناه مفهوما للمستمعين بفضل جمال هذا المنطق ووضوحه، وإلى هذا الرأي ترجع جذور الموسيقى المعاصرة في عمومها.
ولقد كتب شونبرج يقول: «لقد كانت الضرورة هي التي أملت طريقة التأليف بالأنغام الاثنتي عشرة؛ فخلال المائة عام الأخيرة طرأ تغير هائل على مفهوم الهارمونية بفضل تطور التلوين الكروماتي. وكان أول التطورات هو تحول الفكرة القائلة إن نغمة واحدة أساسية، هي الجذر، تتحكم في تركيب أعمدة التآلفات الهارمونية وتنظم تعاقبها؛ أي مفهوم المقامية
tonality
إلى الفكرة القائلة بالمقامية الممتدة
extended tonality ، وسرعان ما أصبح من المشكوك فيه إن كان هذا الجذر الهارموني قد ظل هو المركز الذي ينبغي أن يرد إليه كل توافق (هارموني) وكل تعاقب توافقي. كذلك أصبح من المشكوك فيه إن كان لنغمة الأساس، أو الجذر الهارموني حين يظهر في بداية التأليف، أو في ختامه، أو في أي موضع آخر معنى إيجابي. والواقع أن الهارمونية عند ريشارد فاجنر قد أحدثت تغيرا في منطق الهارمونية وفي قوتها الإيجابية. ومن نتائج هذا التغير ما يسمى بالاستخدام التأثري
impressionistic
للتوافقات، كما كان يمارسه ديبوسي بوجه خاص؛ فكثيرا ما كانت هارمونياته، التي لا يوجد لها معنى إيجابي، تخدم غرضا تصويريا هو التعبير عن الأحوال النفسية والصور، وهكذا فإن الأحوال النفسية والصور، رغم كونها خارجة عن المجال الموسيقي الخالص، قد أصبحت عناصر بناءة مندمجة ضمن الوظائف الموسيقية. وأدت إلى نوع من الفهم (أو الوعي) الانفعالي. وعلى هذا النحو أنزلت المقامية عن عرشها عمليا، إن لم يكن نظريا. وربما لم يكن هذا وحده كافيا لإحداث تغير جذري في أسلوب التأليف الموسيقي، ولكن هذا التغير أصبح ضروريا عندما حدث في نفس الوقت تطور انتهى إلى ما أسميه تحرر التنافر الهارموني؛ ذلك لأن الأذن أخذت تعتاد تدريجيا عددا كبيرا من التنافرات الهارمونية، وبذلك تخلصت من الخوف من تأثيرها «الذي يصدم الإحساس» ولم يعد المرء يتوقع إعدادا هارمونيا لتنافرات فاجنر أو حلا هارمونيا لتآلفات شتراوس المتنافرة، ولم يعد المرء يفزع من هارمونيات ديبوسي غير الوظيفية، أو من الكنترابنط المتنافر لدى الموسيقيين المتأخرين. هذه الحالة أدت إلى استخدام التنافر الهارموني على نحو أكثر تحررا مما كان الموسيقيون الكلاسيكيون يستخدمون به تآلفات «السابعة الناقصة» التي كان يمكنها أن تسبق أو تلحق أي تآلف هارموني آخر، سواء أكان متوافقا أم متنافرا، وكأنه لا تنافر هناك على الإطلاق.» «وإذن فما يميز التنافر من التوافق ليس ازدياد درجة الجمال أو نقصها، وإنما ازدياد درجة القابلية للفهم أو نقصها.»
35
ولقد كان ألبان برج
Alban Berg (1885-1935) أبرع موسيقيي فينا الذين اجتذبتهم أفكار شونبرج الجمالية في الموسيقى. وأعظم أعماله هي الأوبرا «فوتسك
Wozzeck » المبنية على رواية كادت أن تنسى تماما لجورج بوخنر الذي مات منذ أكثر من مائة عام في الرابعة والعشرين من عمره. وألبان برج هنا يعبر عن مرارة الشباب، وعقم الحياة، ويأس الإنسان، بالغناء والأوركسترا، وذلك بانفعال وروح درامية تقرب بين مأساة الحياة وبين جلال الفن.
ذلك لأنه يستخدم آراء شونبرج الجمالية في طبيعة المقامات الموسيقية، والقوة الدرامية لفاجنر، وألحان مالر الآسرة، في تصوير عقل فوتسك المشوش، الذي لا يجد مهربا من الحياة إلا في الموت. ولا جدال في أن الموسيقى هنا جديدة وفعالة وذات تأثير درامي عميق. ومع كل ذلك فمن الممكن أن ينظر إلى أوبرا «فوتسك»، في التاريخ الموسيقي على أنها آخر الأوبرات الرومانتيكية في القرن العشرين؛ ذلك لأن نصها الكلامي يتعلق بالمرضى والمخبولين والموتى. وهي أوبرا غريبة، متشنجة، إن لم تكن مغرقة في الخيال، تمثل الانحلال الرومانتيكي الذي جعل جوته يرفع صوته محذرا، وشبنجلر يصدق عليه في ملاحظاته القائلة: إن الرومانتيكي يمثل كل ما هو مريض ، وهو حشرجة الموت للحضارة الغربية. ولكن مهما قيل عما تتضمنه أوبرا برج من سبر الأغوار الباطنة للذهن بطريقة نفسية مريضة، فإن لموسيقى «فوتسك»، وكذلك أوبرا لولو
Lulu
التي لم تتم ، دلالة جمالية عميقة تتكشف لمن يستمع إليها بصبر وأناة؛ فقد كان قبل كل شيء إنسانيا يستخدم مواهبه الفنية في تصوير الشر والقبح كما يتمثلان في المجتمع. ولا شك أن اسم الرومانتيكية يحتاج إلى إيضاح لغوي حين يطبق على موسيقاه؛ إذ إنه لم يقدم إلى سامعيه عن طريق موسيقاه مهربا من الواقع، وإنما وضعهم أمام شهوة الإنسان وجشعه وجها لوجه، وقال ما كان لديه من خلال تلك التجديدات النغمية التي خلقها أستاذه شونبرج. وقد عبر عن مشاعره بتجميع المقامات المختلفة في الأسطر اللحنية التي تؤدى في وقت واحد (
)، وبتجميع الإيقاعات المختلفة بعضها مع بعض (
)؛ ففي «فوتسك» و«لولو» يضفي دلالة جمالية على النظام الاثني عشري. وقد أثبت برج، على نحو أقوى مما أثبت شونبرج، أن الاحترام التقليدي للعلاقة بين نغمة الأساس والنغمة المسيطرة يمكن أن يحل محله سلم تكون فيه لكل نغمة أو صوت في السلم نفس الأهمية التي لكل نغمة أو صوت آخر، وبذلك ساوى في الأهمية كل درجات السلم الموسيقي. كذلك لم ير أي سبب يمنع المؤلف الموسيقي من أن يبدأ موسيقاه بأية نغمة يريدها في السلم، وينتهي بأية نغمة يشاء.
والحق أن أولئك الذين نشئوا منا على موسيقى «الكلافير المعدل»
36
Well Tempered Clavier » والذين يفخرون بأنهم يستمعون في فاجنر إلى ما كان أسلافنا يعجزون عن سماعه، هؤلاء يجدون موسيقى برج جديدة تروع آذانهم، ويرونها ذات رنين نغمي، ونبرات إيقاعية متواترة. ومن جهة أخرى، فإن الكثيرين منا قد تكيفوا موسيقيا مع عصرنا مثلما تكيف أجدادنا مع عصرهم. وهكذا نظل نقدر موسيقى برج كما نقدر موسيقى بيتهوفن. ونسمع من يشكو من أن تنافرات برج الخشنة إن هي إلا تخليط بحت، وأن سطوره الغنائية لا يمكن غناؤها، ولكنا لا ندرك مدى ضجر ربة الموسيقى كلما سمعت هذا الاتهام؛ فبرج ليس أكثر تخليطا اليوم مما كان مونتيفردي في أيامه. والواقع أنه يعود في الأوبرات «فوتسك» و«لولو» إلى النظريات الجمالية الموسيقية التي دعا إليها مونتيفردي، وذلك إذ يؤكد الكلمة المنطوقة في الأوبرا باستخدام فكرة الكلام المرتل التي حاول شونبرج استخدامها في مؤلفه الغنائي «بييرو لونير
» وكان نجاحه في هذا المؤلف أقل من نجاح تلميذه برج.
ويتفق إيجور سترافنسكي
Igor Stravinsky (المولود في 1882م) مع شونبرج على أن السلم الدياتوني قد استنفد أغراضه. وقد أظهر في البدء اهتماما بنظام شونبرج الاثني عشري، ولكنه بدلا من أن يستخدم نظاما جديدا، كما فعل شونبرج باستخدام نظام اثني عشري صارم، قد نحا نحو استعمال المقامات المتعددة تؤدى في وقت واحد لكي يحدث أنواعا جديدة من التآلفات الهارمونية والتأثيرات الموسيقية. ويرى سترافنسكي أن استخدام شونبرج للأنغام الاثنتي عشرة بطريقته المفرطة في التنظيم لا يمكن على الإطلاق أن يكون حلا يؤدي إلى بناء نظرية جمالية جديدة. وإنما يعتقد أن لكل قطعة موسيقية خصائصها الفريدة في ذاتها، ولها منطقها الخاص الذي يجعلها مختلفة عن كل القطع الأخرى. وهو يرى أيضا أن فاجنر قد طبق منطقا موسيقيا موحدا على كل مؤلفاته الموسيقية، فلم يدرك ما عرفه شوبنهور، وما أشار إليه سترافنسكي ذاته في المحاضرات التي ألقاها بجامعة هارفارد من أن الموسيقى فن قائم بذاته، ينبغي ألا يتخلى عن استقلاله في سبيل تحقيق المزج بين الفنون.
وقد قدم سترافنسكي في أوبرا «الملك أوديب
Oedipus Rex » برهانا عمليا على اعتقاده الجمالي بأن الكلمات ينبغي أن يكون لها قيمتها بوصفها أصواتا فحسب، ويجب ألا تحول انتباهنا عن الموسيقى ذاتها؛ فهو لا يهتم بالمعنى الذهني للنص، وإنما يود أن يشعر السامع بأصوات الأسطر الغنائية وإيقاعاتها فحسب. وهذا بعينه ما فعله إرنست كرينيك
Ernst Krenek (1900م) كما أن شونبرج كان يرى أنه في «كل موسيقى تلحن شعرا، لا يكون لدقة تصوير الحوادث تأثير في قيمتها الفنية تماما، كما أن دقة الشبه بين الشخص وصورته الفنية أمر لا أهمية له.»
ولقد كان لإيجور سترافنسكي تأثير في جيلين من الموسيقيين يفوق في قوته ومداه تأثير كل من فاجنر وديبوسي ؛ فقد كانت موسيقاه، منذ بداية حياته الفنية تتسم بطابع غريب جذاب يرجع إلى تلك الألحان التي كان يقتبسها بحرية من الأغاني الشعبية الروسية. كذلك لم يكن يتردد في الاستعانة بموضوعات لحنية وضعها غيره من المؤلفين الموسيقيين. والواقع أنه يمتاز بقدرة رائعة على إدماج العناصر المقتبسة في مؤلفاته الخاصة، بحيث يصبغها تماما بطابعه الشخصي الخاص. كما أن الطابع الدينامي لموسيقاه، وهو الطابع الذي يرجع أساسا إلى إيقاعاته القوية، كثيرا ما يكون أصله راجعا إلى موسيقى الجاز. وإنه ليبدو من المفارقات أن يقتبس مؤلف موسيقي من غيره على هذا النطاق الواسع، ويظل مع ذلك بقدر كبير من الأصالة وقوة التأثير. والتعليل المرجح لهذه المفارقة هو أن غيره من الموسيقيين يبددون الجزء الأكبر من طاقاتهم في إخفاء ما يقتبسونه، على حين أن سترافنسكي يصرف معظم طاقاته في التصرف بموسيقى الآخرين على النحو الذي لم يمكنهم هم أنفسهم أن يتصرفوا بها، من حيث التطوير الإيقاعي واللحن.
ولقد لقيت المؤلفات الأولى لسترافنسكي من الغضب والثورة ما لم تلقه إلا مؤلفات قليلة في تاريخ الموسيقى؛ ذلك لأن تعدد مقاماته، وتنافراته الجريئة وإيقاعاته البدائية، قد أذهلت سامعيه وحيرتهم؛ فالتنافر عند سترافنسكي، كما كان عند فاجنر وديبوسي، لم يعد قيمة هارمونية تستخدم معبرا بين عمود توافقي وآخر، أو تيسر الانتقال من مقام إلى آخر، وإنما كان التنافر عند هؤلاء الموسيقيين الثلاثة يعني استخدام أي عمود هارموني بأية طريقة ممكنة للحصول على التأثير الموسيقى المطلوب. ولم يكن الإيقاع نبرا صوتيا ثابتا، وإنما كان نبضا حيا لا يظل ثابتا أبدا، بل تتغير سرعته على الدوام. ولم يكن سترافنسكي يفعل في بلاده، وبصورة معدلة، إلا ما فعله كثير من الموسيقيين المبدعين في القرون الماضية لكي يعبروا عن مشاعرهم بالموسيقى. غير أن الفلاسفة والنقاد كعادتهم، لم يتبينوا ذلك على الفور. ولقد كتب الفيلسوف التوماوي
37
جاك ماريتان
Jacques Maritain
يقول بعد عدة سنوات من التفكير: «إنني آسف إذ تحدثت عن سترافنسكي على نحو ما تحدثت؛ فكل ما سمعته كان «طقوس الربيع
Le Sacre de
» وكان ينبغي أن أدرك عندئذ أن سترافنسكي إنما كان يدير ظهره لكل ما نجده مموجا عند فاجنر. ولقد أثبت سترافنسكي منذ ذلك الحين أن العبقرية تحتفظ بقوتها وتضاعفها بتجديدها في الضوء . والواقع أن مؤلفاته ذات التنظيم الرائع، التي تزهو بما لديها من حقيقة، تعلمنا اليوم أعظم درس في العظمة والطاقة الخلاقة، وهي أفضل رد على ذلك الجمود أو التقشف الكلاسيكي الصارم الذي هو موضوع بحثنا؛ فنقاؤه وإخلاصه وقوته الروحية الرائعة هي بالنسبة إلى المنظر الضخم الخداع لبارسيفال أو «التترالوجيا»
38
بمثابة معجزة موسى بالنسبة إلى ألاعيب السحرة المصريين.»
39
ولقد كان بيلا بارتوك
Bela Bartok (81-1945م) مثل سترافنسكي، ينظر إلى كل قطعة موسيقية على أنها عمل فريد له مفهومه الجمالي الواضح الخاص. ولم يكن بارتوك يؤلف موسيقاه تبعا لأي نظام خاص به أو بغيره، وإنما كان العنصران الضروريان في فلسفته الموسيقية هما تطوير الفكرة الموسيقية، ومعالجة تطوير هذه الفكرة جماليا. غير أن التكهن بما ينوي بارتوك عمله في تطوير الفكرة الموسيقية أو بنوع المفهوم الحمام الذي قد يضعه لتجسيد الفكرة في سياق القطعة الموسيقية، أو في معالجة القطعة بأكملها، هذا التكهن قد يكون عند بارتوك أصعب منه حتى عند سترافنسكي ذاته. على أن هناك أمرا مؤكدا هو أن لكل قطعة موسيقية أبدعها طابعا فريدا خاصا بها وحدها، ولا يمكن أن تكون مجرد تكملة لاتجاه سابق، أو تنويعا لفكرة رئيسية أو تحويرا لمفهوم جمالي وضعه من قبل في عمل سابق. لقد كان من المحال أن يخلق على هذا النحو إلا موسيقي يتمتع بفيض لا ينفد من الأفكار الناضجة، مثل بارتوك. والواقع أن وضوح كل إنتاجه وتميزه يكشف عن عقلية موسيقية منظمة، تضفي على أفكاره ومشاعره اتجاها محدد المعالم.
إن موسيقى بارتوك بناء منطقي رائع، وكل قطعة فيها تتميز في ذاتها بالإبداع الفني. هذا أمر لا شك فيه، غير أن هذه الموسيقى، إلى جانب مزاياها الفنية الكفيلة بأن تكسب صاحب النظرة الخالصة متعة جمالية، تتضمن عنصرا يجتذب المشاعر بقوة. ولقد كان للوحدة المنطقية والنهائية للعمل الفني، بالنسبة إلى بارتوك وسترافنسكي، من الأهمية ما للتأثير الانفعالي بالنسبة إلى السامع. ومع ذلك فمن الخطأ الاعتقاد بأن أيا منهما قد نسي لحظة واحدة تلك الحقيقة الأساسية، وهي أن الموسيقى ذات جاذبية انفعالية قبل كل شيء؛ فقد حاول بارتوك أن يؤثر انفعاليا في سامعيه بنفس الطريقة التي كان هو ذاته يتأثر بها عند سماعه، مثلا، للموسيقى الشعبية المجرية والرومانية، وموسيقى البلاد المجاورة. ولم يكن بارتوك يهتم بالدلالات الاجتماعية التي كان الفيلسوف هيردر يجدها في تلك الموسيقى الشعبية، أو يعبأ بارتباطاتها المباشرة من حيث المعنى، وإنما كان ما يهمه في هذه الألحان الشعبية هو أنها تعبير موسيقي. وقد حاول هو ذاته في موسيقاه أن يعبر عن فكرة موسيقية متولدة عن الانفعال الذي ينادي انفعالا آخر، بطريقة واضحة مباشرة كانت تتسم بروح كلاسيكية بالمعنى الصحيح.
ولقد كان بأول هندميت
Hindemith (المولود في 1895م) من أبرز الشخصيات في حركة ألمانية تعرف باسم «موسيقى الاستعمال
gebrauchsmusik » وذلك خلال السنين الأولى من اشتغاله بالتأليف الموسيقي. والمقصود بموسيقى الاستعمال نوع من الموسيقى التي تكتب لكي يشارك فيها الجميع، في مقابل الموسيقى التي تكتب ل «ذاتها»؛ فأصحاب وجهة النظر الأولى يهتمون بالحاجات الموسيقية للجماهير، على حين أن أنصار وجهة النظر الثانية يؤمنون بتلك العقيدة الذاتية المفرطة التي كان يؤمن بها أوائل الرومانتيكيين الألمان. وعلى ذلك فقد أكد قادة حركة موسيقى الاستعمال العنصر المضاد للرومانتيكية في موسيقاهم، وضربوا هم أنفسهم من الأمثلة ما ساعد على إنزال العازف الموسيقي البارع من العرش الذي كان يعتليه في القرن التاسع عشر. وقد حاول أعضاء هذه الحركة أن يقدموا للجماهير نوعا من الموسيقى يمكنها فهمه وأداؤه، وذلك حتى تصبح الموسيقى فنا عمليا يجمل الحياة اليومية للناس، وكانت موسيقى الاستعمال تتميز بقوالب متوسطة الطول، وببساطة ووضوح في الأسلوب، وصغر المجموعات التي تؤديها، وتجنب الصعوبات الفنية حتى يتسنى أداؤها لمجموعات لم تتلق تدريبا محترفا.
ولقد كانت موسيقى الاستعمال رد فعل اجتماعيا وجماليا على الرومانتيكية، ونظرا إلى أن الحكومة الألمانية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى كانت ذات ميول اشتراكية، فإن رد الفعل الذي كانت تمثله هذه الحركة على النزعة الفردية المتطرفة عند الرومانتيكيين المتأخرين قد قوبل بارتياح وعطف. كذلك أبدى العنصر الطليعي في حركة موسيقى الاستعمال اهتماما بحركة إحياء باخ بين أصحاب النزعة الكلاسيكية الجديدة في أوائل العشرين، ومن هنا فإنهم لم يقتصروا على اقتباس طريقة باخ في التعبير الموسيقي المباشر، بل إنهم تحدثوا عنه بوصفه واحدا من الدعاة القدماء لموسيقى الاستعمال، بذل جهوده من أجل تلبية الحاجات الموسيقية للشعب. وقد أوضح أعضاء حركة موسيقى الاستعمال أن باخ لم يكتب لجماعة من الصفوة، أو لقلة مختارة، وإنما كان يكتب لشعب الكنيسة بأكمله، أو للجمهور العام. وهو لم يخلق موسيقاه لكي يستمتع هو ذاته بها، إذا ما دفعته روحه إلى التأليف، ومتى دفعته إلى ذلك، وإنما كان يكدح من يوم إلى يوم، كما يفعل أي صانع ماهر، لكي يؤدي التزاماته نحو مجتمعه وكنيسته.
ولقد أخفقت حركة موسيقى الاستعمال بعد وقت ما، غير أن «هندميت» ظل يحتفظ في كتاباته المتأخرة بالمفاهيم الجمالية لهذه الحركة؛ فقد ظلت الموسيقى بالنسبة إليه صنعة، لا فنا مستمدا من وحي إلهي.
40
وهو ينظر إلى كتابة الموسيقى على أنها عمل إيجابي بناء؛ فالموسيقى تصنع، وليست مستمدة من الإلهام فحسب. هذا ما كان هندميت خليقا بأن يقوله، وإن يكن يبادر فيضيف إلى ذلك أن خلق الموسيقى يبدأ بالانفعالات، وتنتهي مهمته بإثارة الانفعالات.
كذلك كان هندميت فيما مضى مهتما، لفترة ما، بالآراء الجمالية لشونبرج، ولكنه تخلى بعد ذلك عن أسلوب الاثني عشر صوتا، وتحول إلى كتابة موسيقى يظهر فيها بوضوح النظام المقامي بالمعنى التقليدي. وهو يتميز أيضا بأنه أكثر المؤلفين الموسيقيين في القرن العشرين اهتماما بالموسيقيين السابقين على باخ، وفي معظم الأحيان تكون البوليفونية المعقدة في موسيقاه محاكاة لفن الكنترابنط في القرن السادس عشر، حين كانت الموسيقى صنعة لا فنا، وحين كانت تخاطب الكثرة لا القلة.
الفصل التاسع
معايير لفلسفة جمالية في الموسيقى
القسم الأول: الفيلسوف والموسيقى
دأب الفلاسفة ما عدا قلة نادرة منهم، على القول إن قيمة الموسيقى إنما تكون في تأثيرها . ومضوا في تفكيرهم قائلين إنه إذا كانت قيمة الموسيقى تنحصر في التأثير الذي تحدثه في السامع، فإن الوظيفة الصحيحة للموسيقى ليست نقل أصوات وإيقاعات جميلة تقتصر على بعث السرور في الحواس، وإنما هي إحداث استجابات معينة في السامع تجعل منه شخصا «طيبا أو فاضلا». وهكذا يرى الفلاسفة أن الموسيقى لو كانت تقتصر على تقديم متع عابرة، ولا تحضنا على أداء الأفعال «الفاضلة»، وعلى أن نصبح أشخاصا «أفضل»، لما كانت تزيد عن مجرد لذة جوفاء، ولكانت بالتالي مضيعة لجهد الإنسان على نحو كان يستطيع الانتفاع به في أغراض أفضل. وينتهي الفلاسفة من ذلك إلى أن الموسيقى ينبغي أن تؤدي إلى «السلوك القويم»، وإلا لكانت مخدرا يؤدي بنا إلى الهروب من الواقع، والتحليق في أجواء عالم الخيال المحض.
أما الموسيقيون الخلاقون، فكانوا عادة يتجاهلون الآراء الأخلاقية للفلاسفة بشأن الموسيقى؛ فقد كان المؤلف الموسيقي يلتزم طوال حياته عقيدة فنية لا تجعل قيمة الموسيقى منحصرة في جعل الإنسان «فاضلا»، أو في بعث حالة من «الكمال»، وإنما تجعلها كامنة في الأنغام المحسوسة والإيقاعات المتحركة التي تمتع الحواس وتثير الانفعالات؛ فقد ظل الموسيقي ينادي على الدوام بأن الوظيفة الحقة للموسيقى هي الإهابة بالعاطفة، على حين أن الفيلسوف ظل على الدوام يزدري الموسيقى؛ لأنها لا تهيب بالعقل قبل أي شيء آخر. وهكذا يتفق الفيلسوف والموسيقي معا على أن الموسيقى تهيب بالعواطف قبل كل شيء، غير أن اهتمام الموسيقي ينصب على إثارة الانفعالات لأغراض المتعة فحسب، أما الفيلسوف فيؤكد أن الانفعال الذي تثيره الموسيقى ينبغي أن يكون من نوع يمكن توجيهه لغاية خيرة، هي تكوين الشخصية الأخلاقية؛ فالموسيقار يهتم بخلق تجربة جمالية، أما الفيلسوف فيهتم بالنتيجة الأخلاقية.
ولقد كان المؤلف الموسيقي يصبو دائما إلى أن ينقل بموسيقاه إلى الأذهان الأخرى إحساسا بالأصوات النغمية والانطباعات الموجودة في العالم المحيط به. وما أشبهه بشخصية «جان كريستوف» عند رومان رولان، تلك الشخصية التي ترجمت كل تجربة إلى لغة الموسيقى؛ فمؤلف الموسيقى لا يخلقها لكي نخاطب بها العقل أساسا، ولا يكتبها لكي يهيب بالحاسة الخلقية، ولا يؤلف موسيقاه لكي يرشد ويعظ، وإنما يخلق موسيقاه لكي يوقظ الانفعالات.
ولقد قال «بن جونسون» ذات مرة: «إن للفن عدوا اسمه الجهل.» هذه الملاحظة الحكيمة كانت وما تزال تنطبق على الموسيقى أكثر مما تنطبق على أي ضرب آخر من ضروب النشاط الخلاق للإنسان في ميدان الفن الجميل؛ ذلك لأن المتعة الحسية التي تبعثها فينا الأنغام الموسيقية، والتأثير الفسيولوجي الذي تحدثه فينا الإيقاعات الموسيقية، قد دفعا الفيلسوف ورجل اللاهوت والسياسة إلى أن ينظروا إلى الموسيقى بعين الارتياب والشك، وإلى خالقي الموسيقى بخشية وازدراء؛ فقد ظلوا طوال العصور يحسدونهم على قدرتهم التعبيرية، ويحملون عليهم جهلا وخوفا مما قد تفعله أو لا تفعله قدرات الموسيقى للذهن والجسم.
وكثيرا ما كان يحدث لموسيقيين كانوا في شبابهم يناصرون الأفكار الجديدة في عصرهم، أن تشبثوا بهذه الأفكار الأصلية إلى حد أنهم أصبحوا عاجزين عن تقبل الأفكار الأحدث منها عهدا، وصاروا في سنواتهم المتأخرة رجعيين متزمتين. هذا عامل لا يمكن تجاهله، بل إن تاريخ الموسيقى إنما هو دليل عليه. أما الفلاسفة فقد اضطلعوا إلا قلة نادرة منهم، بما أطلق عليه هوايتهد اسم إضافة شروح وتنويعات على النغمة الأصلية التي أطلق أفلاطون، كما يشهد بذلك تاريخ الفلسفة. ولا شك أن هذا الحكم يصدق بوجه خاص على آرائهم الجمالية، ولا سيما ما يتعلق منها بالموسيقى، أكثر مما يصدق على أي فرع آخر من فروع البحث الفلسفي؛ فالفلاسفة لم يعبئوا بأن يكونوا مبدعين، حتى في شبابهم، في وضع نظرية جمالية في الموسيقى، وإنما اكتفوا بالانصراف طوال حياتهم إلى الدفاع عما قاله أفلاطون عن الموسيقى.
والواقع أن الدور الذي قام به الفيلسوف طوال تاريخ الموسيقى وتطورها بوصفها فنا، هذا الدور يستحق من الذم أكثر مما يستحق من المدح، فمن جهة نجد أن ميله إلى التشريح المنطقي الدقيق قد عاق التقدم الموسيقي، ومن جهة أخرى فإن تشككه الدائم في القيم الموسيقية قد أثر في المبادئ الجمالية للموسيقيين أنفسهم. ومما يؤسف له أن الفيلسوف قد جلب على الموسيقي طوال العصور من الضرر ما يفوق ما حققه لها من النفع، غير أنه لا يحمل هذا الوزر وحده، وإنما يشاركه فيه اللاهوتيون والسياسيون. وهكذا عمل أنصار العقل الخالص والإيمان والعمل السياسي في معظم الأحيان، على إبقاء الموسيقى في مركز التابع الذليل لمذهب عقلي أو عقيدة أو دولة. صحيح أن الموسيقي الخلاق كان في حضارات معينة أكثر تحررا منه في حضارات أخرى، غير أن نيتشه قد أدرك بوضوح - بكل ما في أسلوبه من مرارة - أن الموسيقي ظل على الدوام عبدا للأخلاق والدين. وما أقل الموسيقيين الذين يمكن القول إن هذا الحكم لا يصدق عليهم، سواء في العصور الماضية والعصر الحاضر ذاته!
ولقد لقيت الموسيقى في كتابات الفلاسفة من التجاهل وسوء الفهم أكثر مما لقيته كل الفنون الأخرى. ومع ذلك فهناك مدارس فلسفية متعددة كان لها تأثيرها في الفكر الموسيقي، كما أن القيم الموسيقية الجديدة بدورها استبقت بعض الاتجاهات الفلسفية؛ فقد نظر الفلاسفة إلى الموسيقى على أنها مدخل إلى فهم طبيعة الكون، وإعداد رياضي لدراسة الفلسفة. ووصف الأفلاطونيون الموسيقى بأنها محاكاة لعالم الواقع، بينما نظر إليها الأرسططاليون على أنها علو مثالي بهذا الواقع. أما اللاهوتيون فكانوا يرون في الموسيقى وسيلة لتقريب الإنسان من الله بفضل تجمليها للنص المقدس. كذلك اشترك اللاهوتيون والفلاسفة معا في النظر إلى الموسيقى على أنها وسيلة لإصلاح الأخلاق أو إفسادها، وكان الفلاسفة يرون أنها قد تكون مجرد متعة حسية، أو قوة روحية هائلة، وعلاجا لجسم الإنسان ونفسه.
ولقد رأينا أن أقدم معرفة لنا بالموسيقى في الحضارة الغربية ترجع إلى كتابات الفلاسفة اليونانيين. ورأينا أيضا كتابات أفلاطون، على وجه أخص، هي التي تتضمن مركبا يجمع بين النظريات الموسيقية للشرق والغرب؛ ففي هذه الكتابات تشرح القيم الأخلاقية والنفسية للموسيقى من خلال الميتافيزيقا، فينظر إلى العنصر الإيقاعي في الموسيقى على أنه مطابق للإيقاع الكوني، ويقال إن الإيقاع المتخبط ونشاز الأصوات المتنافرة يؤدي إلى الشقاق بين البشرية وبين النظام المثالي للأشياء. وهكذا بدأ أفلاطون يشيد مذهبه الجمالي في الموسيقى بإضفاء طابع أخلاقي على الأساليب أو المقامات اليونانية. وكان ينظر إلى الموسيقى على أنها أرفع من الفنون الأخرى، على أساس أن الإيقاع والتوافق يؤثران في النفس الباطنة والحياة الانفعالية للإنسان على نحو يفوق العمارة والتصوير والنحت. وعلى ذلك فمن الواجب الانتفاع من الموسيقى في تقويم السلوك، وتشكيل الشخصية، وإعداد العقل للدراسة الرفيعة، وهي دراسة الفلسفة. أما البدع اللحنية، أو الفصل بين الشعر والنغم، فهي في مذهب أفلاطون مظاهر للاضطراب تهدد القيم التقليدية، وتعرض الأوضاع السائدة للخطر.
وقد احتفظ أرسطو بالنظريات الأفلاطونية في الموسيقى، كما رددها أفلوطين مبديا إعجابه العميق بها. كذلك بدأ أوغسطين كتابه في الموسيقى بطريقة أفلاطونية خالصة، وذلك بالكلام عن الموسيقى من حيث هي مبحث يمهد للدراسة الفلسفية، كما أن الطابع الأفلاطوني كان واضحا في التعاليم الموسيقية لبويتيوس - شأنها شأن تعاليم أوغسطين - وذلك على الأقل فيما كتبه في المرحلة الأولى من حياته الأدبية. وقد احتفظ ديكارت أيضا بالفكرة الأفلاطونية القائلة إن الموسيقى رياضية في أساسها، وينبغي أن تستخدم مبحثا يمهد لدراسة الفلسفة. وقد تحدث ديكارت مثل أفلاطون وأرسطو عن المشاعر الموسيقية، وعزا إلى الإيقاعات قيما أخلاقية؛ إذ إن لها تأثيرا مباشرا في النفس البشرية؛ لذلك أعرب عن إيثاره للإيقاعات التي لا تهيج الانفعالات أو تثيرها إلى حد مفرط. وأكد ضرورة استخدام النسب البسيطة للمسافات النغمية، وردد شكوى سبق أن أعرب عنها أفلاطون؛ إذ ندد بعدم تآلف النظم النغمية التي كان الموسيقيون في أيامه يستخدمونها في أساليب الكتاب الكنترابنطية. كذلك وصف لبينتس الموسيقى بأنها مظهر للإيقاع الكوني تنحصر ماهيته ذاتها في كونه عددا ونسبة، ورأى أنه مهما كان من سحر الموسيقى لنا «فإن جمالها لا يكون إلا في انسجام الأعداد»؛ فالموسيقى عد لا شعوري، أو هي علاقة شعورية بين الأعداد التي تنظم في مسافات ونماذج نغمية تبعث السرور في النفس. وكان روسو يعتقد أنه لما كان الفن محاكاة للطبيعة، فالنتيجة المنطقية لذلك هي أن الموسيقى صورة مطابقة للإيقاع الذي يسود الكون بأسره. وعلى ذلك ففي وسع الإنسان لو دأب على الاستماع إلى الإيقاعات الموسيقية السليمة، أن يتعلم كيف يعيش وفقا للقانون الطبيعي ويتحد بالطبيعة.
كذلك اتفق «كانت» مع أفلاطون في رأيه القائل إننا نستطيع بالموسيقى «أن نصل إلى الجسم من خلال النفس، ونستخدم النفس في مداواة علل الجسم». وقد أظهر في آرائه الجمالية ازدراء للموسيقى الخالية من الكلمات؛ فليس لموسيقى الآلات الخالصة في نظره قيمة كبيرة؛ إذ إنها جامحة خيالية لا تعبر عن تصور محدد. ويرى كانت في فلسفته الجمالية أن الشعر أكثر الفنون إهابة بالعقل؛ إذ إن الكلمات هي الوسيلة الطبيعية للتعبير عن المفاهيم والأفكار. وقد توسع هيجل في هذا الرأي، فقال: إن وظيفة الشعر تصبح عندئذ فرض الكلمات على الأصوات، والأفكار على المشاعر، والمفاهيم على التأثرات النفسية، بحيث إن ما هو غامض غير محدد المعالم في الموسيقى يصبح في لغة الشعر أكثر تحددا ووضوحا. غير أن شوبنهور ونيتشه قد اعترضا على هذا التفكير الديالكتيكي، مؤكدين أن للحن الحق في أن يوجد بذاته مستقلا عن الكلمة المنطوقة. وقد اتفق نيتشه مع شوبنهور في مسألة أخرى هي أن الموسيقى تتيح لنا مهربا، ولحظة قصيرة من السعادة والاطمئنان، ولكن على حين أن الموسيقى كانت عند شوبنهور تساعد على الانتقال من الإرادة إلى التبصر والتطلع، ومن الرغبة إلى التأمل، فإنها في تفكير نيتشه الجمالي تتيح لنا أن نعلو على عالمنا المضطرب المختلط، وندخل عالما من صنعنا نحن، نعبر فيه عن رغباتنا وآمالنا. أما تولستوي فقد خالف فكرة اتخاذ الفن مهربا، ووضع مذهبا جماليا اقترب كل القرب من الأخلاقية المسيحية.
أما في القرن الحالي فلم يكتب أي شيء عن الموسيقى إلا قلة من الفلاسفة، ولم يكن ما كتبوه إلا مجرد اعتراف عفوي بوجود الموسيقى، أما مكانتها في المجتمع ودورها فيه، فهما أمران لم يظهر هؤلاء الفلاسفة اهتماما كبيرا بهما، بل إنهم لم يبحثوا في الموسيقى من حيث هي صورة موحية من صور الاتصال بين إنسان وآخر. ليس معنى ذلك أنهم ينفضون أيديهم عن موضوع الموسيقى، وإنما هو يعني أن الفلاسفة الحاليين يرتابون في المشاعر أكثر مما يعملون على حماية العقل؛ ففلاسفة القرن العشرين يحسدون رجل العلم أكثر مما يحسدون الفنان. وهم يبدون تقديرا للنظرية الجمالية؛ لأنهم لا يصلون إلى نتائج مرضية عندما يطبقون المناهج الوضعية عند تقدير عمل المؤلف الموسيقي.
ومن الفلاسفة الذين كتبوا عن الموسيقى في القرن العشرين، الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون
Henri Bergson (1859-1941م) الذي أدرج الموسيقى ضمن أفراد الأسرة الفنية التي تعطي الإنسان رؤية للواقع أقرب إلى الطابع المباشر؛ فالموسيقى في مذهب برجسون الجمالي ليس لها من هدف سوى أن تطرح جانبا تلك الرموز النغمية، وتلك التعميمات الاصطلاحية المتعارف عليها في المجتمع؛ أي بالاختصار، كل ما يخفي عنا وجه الواقع، لكي تضعنا في مواجهة ذلك الواقع ذاته مباشرة،
1
وفي كتاب «الزمان والإرادة الحرة
Time and Free Will » يقول برجسون فقرة خفية المعنى: «إذا كانت الأصوات الموسيقية تؤثر فينا على نحو أقوى من تأثير أصوات الطبيعة؛ فذلك لأن الطبيعة تقتصر على التعبير عن المشاعر، بينما الموسيقى توحي بها إلينا.»
2
3
وقد ربط مفكر إنجليزي معاصر لبرجسون، هو جلبرت تشسترتون
Gilbert K. Chesterton (1874-1936م) بين فن الموسيقى وبين مراحل الصراع التاريخي، وتطور الإنسان والمجتمع؛ فهو لم يشارك برجسون فكرته الصوفية القائلة إن الموسيقى تزيد الإنسان قربا من الواقع الحقيقي، وإنما رأى في الموسيقى تعبيرا ذاتيا عن المشاعر والأحوال الانفعالية.
4
أما المفكر الألماني أوزفالد شبنجلر فكان يرى في الموسيقى وجها من أوجه الحضارة الغربية التي رأى أنها تسير في عصرنا الراهن إلى تدهور مقدر لها، بعد أن بلغت من الكبر عتيا؛ فقد كتب يقول: «لقد انتهت فنون الغرب إلى غير رجعة، وأما ذلك الذي يمارس اليوم على أنه فن فليس إلا عجزا وخداعا؛ فالموسيقى زائفة، مليئة بالضجة المصطنعة لآلات ضخمة متكدسة.» وقد تنبأ متشائما بأن من المحال أن تظهر بعد اليوم موسيقى عظيمة في العالم الغربي؛ وذلك لأننا «نلعب اليوم لعبة مملة مع قوالب ميتة لكي نوهم أنفسنا بأن الفن ما زال حيا.»
ولقد كان الفيلسوف الأمريكي ديفد رايت برال
David Wright Prall (1886-1940م) خليقا بأن يوافق (مع شبنجلر) على أنه «لو لم تكن للمؤلف الموسيقي انفعالات يعبر عنها ولا مشاعر حيوية يضفي عليها بالصوت صبغة خارجية لكان أقصى ما يستطيع عمله هو أن يكرر نماذج مألوفة أو عميقة ...»
5
ولكنه ما كان ليتفق مع شبنجلر على أن موسيقى العالم الغربي في القرن العشرين هي فن سائر في طريقة التدهور الذي لا خلاص منه؛ فقد رأى «برال» أن موسيقى القرن الحالي فن قادر على السمو بالمتع الحسية للإنسان، وتعميق حياته العقلية؛ إذ إن الموسيقى، من بين سائر الفنون، هي كما كتب برال «ربما كانت فيما يتعلق بالقدرة التعبيرية الانفعالية، أعمقها وأغناها، وأوسعها نطاقا وأعظمها قوة، فضلا عن كونها أكثر مرونة ...»
6
ومن بقية الفلاسفة الأمريكيين، يشكو سانتيانا
Santayana (1863-1952م) بسخرية من أن «الموسيقى عقيمة في أساسها، شأنها شأن الحياة ذاتها ...» ويقول: «إن ما يستمتع به معظم الناس ليس الموسيقى، وإنما هو حلم يقظة خامل تخفف منه سورات عصبية.»
7
أما جون ديوي (1859-1952م) فقد كان خلق عالما عقليا بلا حقائق ثابتة أو معتقدات راسخة عن الجمال والخير، ورأى أن أفضل نظرة إلى المثل العليا الموسيقية هو أنها كلها فروض تظل التجربة الفردية تختبرها على الدوام.
ولكي نقدر الدور الذي قام به الفلاسفة في التأثير على مجرى التاريخ الموسيقي على نحو مباشر أو غير مباشر، يكفينا أن نذكر أن ما بدا مجرد نظرية جمالية في كتابات أفلاطون قد أصبح واقعا فنيا في العهود الأولى للمسيحية؛ فقد ميز آباء الكنيسة بين الألحان الدينية والألحان الدنيوية، وبين الأنغام المسيحية والأنغام الوثنية، وكانوا يرون أن المسيحي الأمي يمكن أن يعلم الكتاب المقدس بالموسيقى، حتى لو اقتضى ذلك إقامة رابطة فنية بين وثنية مغوية وبين فقرة من فقرات الكتاب المقدس. وقد عمل آباء الكنيسة على كبت الاتجاهات الموسيقية الجديدة وقمعها، خشية أن تؤدي المؤثرات الرومانية أو العبرانية إلى إفساد البساطة الروحية للحياة والعقيدة المسيحية، وردد قادة حركة الإصلاح الديني هذه الاتجاهات الموسيقية لحماية عقيدتهم، بدلا من أن يستغلوا نقاط الضعف الجمالية في آراء الكنيسة الأم (الكاثوليكية).
هناك فيلسوف آخر كان له تأثير عميق في تاريخ الموسيقى، هو بويتيوس. ولقد كان ما حاول القيام به بالفعل هو التوفيق بين الاتجاه الأخلاقي عند أفلاطون وبين تفسيره الخاص للاتجاه العلمي عند أرسطو. وإذا كان موته المبكر لم يتح له إتمام عمله، فقد تولى هذه المهمة موسيقيو العصور الوسطى الذين خلقوا أسطورة «بويتيية» عادت إلى الفكرة الفيثاغورية القائلة إنه إذا كانت مهمة الموسيقى هي محاكاة انسجام الأفلاك، فمن الواجب أن تتصف المؤلفات الموسيقية بنفس الدقة التي تتسم بها تلك القوانين التي تسير بمقتضاها حركة الأجرام السماوية. وهكذا أصبحت الأخلاقية في الموسيقى متوقفة على العلم، أدى العلم الموسيقي بمضي الوقت إلى وضع قوالب ثابتة متحجرة.
ولقد كان روسو يزدري المؤلفين الموسيقيين الذين يكتبون موسيقى بلا كلمات، أو يستخدمون بوليفونية معقدة، فحاول أن يقوم هذين المظهرين من مظاهر النقص بالدعوة على إلغاء الدراما الموسيقية الفرنسية، والاستعاضة عنها بمسرحية شعرية غنائية على طريقة الإيطاليين، وهي دعوة يأسف لها كل من تسنى لهم أن يفكروا في التطور التاريخي الذي أعقبه.
وكان تولستوي يتصور أن فن المستقبل سيكون منصبا على المشاعر الكفيلة بتقريب البشرية نحو وحدة مشتركة مبنية على التفاهم والعمل الإيجابي. وكان يأمل ألا يكون معيار الامتياز في موسيقى المستقبل هو «اقتصارها على مشاعر محدودة لا يصل إليها إلا البعض، بل على العكس من ذلك عمومية هذه المشاعر وشمولها». وحسبنا أن نقارن بين هذه الآراء وبين النقد الموسيقي السوفييتي الحديث لندرك مدى التأثير الذي كان لتولستوي دون قصد على الفلسفة الموسيقية للاتحاد السوفييتي.
ولقد كان أرسطوكسينوس، تلميذ أرسطو، هو أول فيلسوف يضع مذهبا جماليا في الموسيقى مبنيا على قيم إنسانية؛ فقد حاول أن يتجنب المسائل الأخلاقية والتفسيرات الرياضية الخالصة للموسيقى، التي تمسك بها أفلاطون وأرسطو معا. وكان يعتقد أن الحس والعقل، والقدرة على الاستماع وعلى التمييز، كفيلة بأن تتيح للمرء أن يحكم بنفسه إن كانت القطعة الموسيقية جميلة أم لا، وقد رفض أن يقبل الرأي القائل إن أية ميتافيزيقا مذهبية رسمت خطوطها مقدما، أو أي مذهب أخلاقي تقليدي، أو أي إرجاع للمقامات الموسيقية إلى الرياضيات، على طريقة الفيثاغوريين، نقول إنه رفض الرأي القائل إن أيا من هذه الأسس يصلح معيارا لتقدير الموسيقى.
وعلى الرغم من ذلك فقد ظل معظم الفلاسفة التالين لأرسطوكسينوس يعرفون الموسيقى في مذاهبهم المختلفة من خلال قيمة ميتافيزيقية أو أخلاقية أو كلتيهما معا، أو بوصفها مبحثا رياضيا خالصا، ولكن الفلاسفة انتهوا بمضي الوقت إلى التخلي عن التشبيه الخيالي لعنصر الإيقاع في الموسيقى بانسجام الأفلاك. كذلك أخذوا ينصرفون عن الرأي القائل إن الموسيقى مجرد تركيب عددي منظم بطريقة رياضية من شأنها أن تحدث سلسلة فريدة من الأنغام؛ فلم يعد الفلاسفة يحاولون تفسير المجموعات النغمية السارة أو المتوافقة على أنها علاقات عددية سليمة، وتنافر الأنغام على أنه علاقات غير سليمة، وإنما أصبحوا يدركون بوضوح أن التوافق والتنافر هما طرفان متقابلان في الأصوات الموسيقية يتسمان بأن لهما قيمة جمالية نسبية تماما. ومع ذلك فإن الأخلاق، وهي العنصر الثالث في ذلك الثالوث القديم المؤلف من الميتافيزيقا والرياضة والأخلاق، ما زالت باقية معنا بكل وضوح.
ففي المجال الديني، ما زالت الكنيسة تفرق بين الموسيقى الجيدة والرديئة بمعنى أخلاقي. وفي المجال الاجتماعي يحدد السوفييت القيمة الموسيقية للمصنف على أساس تمشيها أو عدم تمشيها مع الأيديولوجية السياسية السليمة. والمفروض نظريا على الأقل أن طبيعة النظام الديمقراطي الذي تحكم به دولة كالولايات المتحدة يؤدي إلى استبعاد الطرف الثالث ذاته في هذا الثالوث؛ أعني الأخلاق، بوصفها معيارا سليما للحكم الجماعي؛ ففي وسع المؤلف الموسيقي في أمريكا أن يكون فردي النزعة تماما، كما أشار السوفييت، وأن يعيش في عزلة اجتماعية، ويخلق موسيقى شخصية تماما، لا يكون لها معنى إلا للصفوة القليلة؛ أي إن في وسعه أن يكون غير ديمقراطي على الإطلاق في دولة ديمقراطية، وهي مفارقة غريبة. أما إذا كان يعمل في خدمة كنيسة متسلطة، أو كان منتميا إلى دولة شمولية، فإنه مضطر فلسفيا إلى أن يخلق من أجل تحقيق أعظم قدر من الخير لأكبر عدد من الناس، على النحو الذي يتصور به ذلك الخير في أذهان قادة الكنيسة أو الدولة.
القسم الثاني: معنى الموسيقى وطبيعتها
أصبح مفهوم المعنى الموسيقي مزدوج الدلالة في التفكير الجمالي الحديث؛ فمن جهة نجد أن الموسيقى التي تؤلف في العالم الغربي تقوم ويحكم عليها من خلال قيم شكلية. ومن جهة أخرى فإن الموسيقى التي تؤلف في مناطق العالم التابعة للسيطرة السوفييتية تقوم ويحكم عليها من خلال سلامة اتجاهها الأيديولوجي. ففي الحالة الأولى لا يهدف العمل الموسيقي ضرورة إلى وضوح المعنى، وإنما يقتصر على نقل حالة نفسية معينة. وفي الحالة الثانية يستهدف العمل الموسيقي الوضوح والبساطة، ولا تكون للشكل فعاليته، إلا إذا كان يزيد من تأثير العرض «الواقعي» للمضمون. وعلى ذلك فإن الموسيقى في العالم الغربي محدودة في معناها، ذاتية في تقويمها، نظرا إلى أهمية المعالجة الشكلية التي يقوم بها المؤلف الموسيقي لأفكاره الموسيقية أو للمضمون. أما في بلاد المعسكر الشرقي، فلا بد للموسيقى حتى يكون اتجاهها الأيديولوجي سليما، من أن تكون واضحة المعنى، حتى تكون مفهومة للجميع.
ولقد أطلق الشاعر «لونجفيلو
Longfellow » على الموسيقى اسم اللغة العالمية للبشر، ولكن ما الذي هو عالمي في الموسيقى؟ إن القطعة الموسيقية التي تعتادها جماعة معينة من الوجهة الثقافية تحدث، بمعنى عام، تأثيرات معينة في تلك الجماعة لا يمكن أن تحدثها في جماعة أخرى؛ فالنبض الإيقاعي، والنظام النغمي، هما نماذج وأصوات موسيقية تتكيف معها جماعة من الناس، ولا تتكيف معها جماعة أخرى. ولا يمكن أن تعني القطعة الموسيقية الواحدة شيئا واحدا لجماعتين مختلفتين، ناهيك بشعبين مختلفين. صحيح أننا نستطيع أن نستمتع بموسيقى الشرقين الأدنى والأقصى بالإضافة إلى موسيقانا، ونستمد منها لذة جمالية، ولكن هذا لا يحدث إلا إذا كانت هناك بعض أوجه الشبه بينها وبين موسيقانا؛ إذ يكاد يكون من المستحيل على الموسيقى التي هي غريبة عنا عقليا وثقافيا أن تثير فينا أية استجابة انفعالية؛ فلا بد أن تكون للموسيقى بضعة أنغام أو أساليب مشتركة قريبة الشبه بما لدينا منها، وإلا لما استطاعت أن تجتذب شيئا من تجاربنا الباطنة، أو تطالب بشيء من فهمنا المباشر. وكما قال فولتير، فإن الأسلوب أو النظام النغمي الجديد، حتى في داخل الحضارة الغربية ذاتها، يحتاج إلى انقضاء قرابة جيل كامل قبل أن يصبح مقبولا، ومع ذلك فهذا أمر لا تنفرد به الموسيقى وحدها بين سائر الفنون.
ولقد كتب وولت ويتمان
Walt Whitman
يقول: «إن كل موسيقى هي ما يستيقظ فيك عندما تذكرك الآلات الموسيقية.» وهنا لا تكون الموسيقى لغة عالمية، ولا تكون ميتافيزيقا، ولا فنا ينشأ من قوالب أولية، وإنما نحن الذين نضفي على الموسيقى وجودها؛ فالموسيقى تظل مجرد إيقاع وصوت، ما لم نكسب نحن هاتين الظاهرتين ثراء نفسيا. ولا يمكن أن يكون للقالب وللإيقاع وللنماذج المقامية أي معنى بالنسبة إلي سوى ما أفهمه فيها؛ فليس في وسعي أن أستخلص من أداء لقطعة معينة سوى ما أضيفه عليها عن طريق فهمي لها وانفعالي بها. وقد أتأثر انفعاليا حتى لو لم أكن أستطيع فهم الرموز الموسيقية، غير أن المتعة الجمالية لا تتجاوز في هذه الحالة نطاق المستوى الانفعالي. وقد لا يكون لدي من الثقافة الموسيقية ما يتيح لي، حتى أن أعرف إن كانت الموسيقى تؤدى بطريقة سليمة أم لا. فضلا عن ذلك، فليس هناك معيار تجريبي أستطيع أن أعرف به إن كنت قد توصلت إلى الحالة النفسية الأصلية التي كان المؤلف الموسيقي يهدف إلى بعثها في عندما أستمع إلى موسيقاه. غير أن الأمر المؤكد هو أنني كلما ازددت معرفة بالموسيقى، ازددت تقديرا لمزاياها، وفهما ناقدا لطريقة أدائها، وازداد عمق تأثري بالأداء المثير؛ فالمعرفة الموسيقية لا تقلل من التقدير الجمالي، وفهم القطعة الموسيقية لا ينقص من عمق التجربة الانفعالية التي يمكن أن تتيحها لنا تلك الموسيقى؛ فحين يعرف المرء أن القطعة الموسيقية تؤدى بروح المؤلف، وأن الأجزاء الصعبة تعزف ببراعة كاملة، وأن شيئا من التفاصيل الدقيقة لا يضيع في العزف، حين يعزف ذلك، فلن تؤدي معرفته إلا إلى زيادة استمتاعه وتعميق انفعاله. ومع ذلك فمن الممكن أن تؤدي المعرفة الموسيقية إلى نتائج عكسية؛ ذلك لأن الثقافة الواسعة الأفق ليست ضمانا لاستمرار حالة السعادة، سواء في أمور الموسيقى أم في شئون الحياة بوجه عام.
على أن صاحب النظرة الخالصة إلى الموسيقى خليق بأن يسخر من الفكرة القائلة إن الموسيقى لغة عالمية، أو إن الموسيقى هي ما توقظه الآلات فينا. وإنما هو أميل إلى الرأي القائل إن الموسيقى فن يتميز بخصائص كامنة توجد مستقلة عن وعي بها. هذه الخصائص الكامنة في الموسيقى هي التي تجعل منها، في رأيه، عملا فنيا بالنسبة إلى كل الأزمنة والأمكنة. وهو يذهب أيضا إلى أن التعود الثقافي على الموسيقى ليس شرطا ضروريا لفهم موسيقى الحضارات الأخرى، وإنما الشروط الوحيدة الضرورية لتذوق الموسيقى في حضارتنا أو أية حضارة أخرى هي التجاوب مع الإيقاع والحساسية للنغم. وهو يرى أيضا أن تذوق الموسيقى والاستمتاع بها ليس نشاطا ديمقراطيا عاما، وإنما يتفق مع شونبرج وسترافنسكي على أن الموسيقى الجادة ليست للجماهير، بل للقلة السعيدة الحظ التي توافر لها من الثقافة والحساسية ما يسمح لها باستخلاص تجربة جمالية من هذه الموسيقى.
ولكن ما هي الموسيقى؟ ربما أمكننا أن نزداد اقترابا من تعريف ما تكونه الموسيقى إذا أمكننا أن نحدد ما لا تكونه الموسيقى؛ فهي أولا ليست محاكاة لانسجام الأفلاك؛ ذلك لأن الفيثاغوريين كانوا يعتقدون أن كل الأجسام المتحركة تحدث أصواتا، وأن هذا لا يصدق على الأجرام السماوية أيضا. وقال المعلمون القدامى إن هذه أصوات لا تدركها الأذن البشرية لأسباب متعددة، ولكن الفيثاغوريين واليهود زعموا أن قادتهم الروحيين كانوا وحدهم قادرين على سماع هذه الموسيقى السماوية. على أن التقدم العلمي في القرن العشرين قد أتاح لنا أن نكون فكرة تقريبية عن أصوات هذا الانسجام المزعوم بين الأفلاك، الذي تحدثه النجوم في حركتها، ولكنه بدلا من أن يكون انسجاما سماويا، يبدو للأذن الحديثة أقرب كثيرا إلى الأصوات المنكرة.
كذلك تقدم الفيثاغوريون برأي آخر أقره أفلاطون، ويقول إن المسافات بين الكواكب وأفلاك النجوم الثوابت تناظر رياضيا المسافات بين أصوات الأوكتاف، ولكن لا يوجد أي دليل تجريبي يؤيد الفكرة القائلة إن المقامات اليونانية أو نظامنا الخاص من السلالم الموسيقية مبني على أساس أن تكون العلاقة بين صوت وآخر مناظرة للعلاقة بين كوكب وآخر. وإذن فستظل نظرية انسجام الأفلاك ونظرية التناسب أسطورة قديمة تعجز عن أن تنبئنا بما تكونه الموسيقى، وإن كانت تحاول أن ترشدنا إلى الصدر الذي تنبعث منه وإلى سبب تركيبها الراهن.
وثانيا: ليست الموسيقى تعبيرا عن الأخلاقية أو اللاأخلاقية؛ فلا يمكن أن تكون الموسيقى خيرا أو شرا بالمعنى الأخلاقي، أكثر مما يمكنها أن تكون مرحة أو حزينة في ذاتها. قد يكون من شأن الموسيقى أن تبعث حالة من المرح أو الحزن عاناها المؤلف الموسيقي. وقد تكون الطريقة التي صيغت بها هذه الحالة، وأنتجت موسيقيا طريقة جيدة أو رديئة، ولكن الجيد والرديء يقالان هنا بمعنى الحكم الجمالي، لا بمعنى الخير والشر الأخلاقيين. ولقد زعم أرسطو أن الشبيه يولد شبيهه، وكان - مثل أفلاطون من قبله - مقتنعا بأن هناك موسيقى خيرة وشريرة بالمعنى الأخلاقي؛ فالموسيقى الخيرة تهذب النفس البشرية مثلما تفسدها الموسيقى الشريرة، ونحن لا ننكر أن هناك أنواعا معينة من الموسيقى لها تأثيرات مختلفة في سامعيها، وفي هذا الصدد يستحيل تفنيد أرسطو، ولكن لا يمكن التماس أي عذر لأرسطو، أو أفلاطون، عندما نسبا خصائص أخلاقية إلى المقامات اليونانية ذاتها بناء على طبيعة تركيبها وتطبيقها. وكذلك لا يوجد مبرر من وجهة نظرنا، لرأي أرسطو القائل إن الشخص الشرير، بالمعنى الأخلاقي، لا يخلق إلا موسيقي شريرة. ولقد كان من الطبيعي ألا يرى أرسطو وأفلاطون أي تناقص في موقفهما؛ إذ إنهما لم يميزا على أي نحو ما هو أخلاقي وما هو جمالي.
إن في وسع المتعة الحسية التي نستمدها من الأنغام الموسيقية والتأثير الفسيولوجي الذي تحدثه فينا الإيقاعات أن تبعث حالات نفسية متنوعة في نفوسنا، غير أن من المشكوك فيه أن يكون بويتيوس بدوره على حق في قوله إن الذي يطرب لسماع «ألحان غير لائقة، وينصت لها كثيرا، سوف تضعف روحه ويفقد النخوة والشهامة في نفسه.» كما أن من المشكوك فيه أن تكون للموسيقى القدرة على أن تجعل الناس أخيارا أو أشرارا كما زعم الشاعر «ملتن» في القرن السابع عشر.
فليس لنا أن ننكر أن كثيرا من المؤلفين الموسيقيين اللاأخلاقيين قد أبدعوا موسيقى رائعة سمت بنفوس أولئك الذين استمعوا إليها. وليس لنا أن ننكر أن فاجنر كان مخلوقا بغيضا، لا يسير إلا على شريعته الخاصة. ولكن من ذا الذي ينكر عبقريته الخلاقة وروائع موسيقاه؟ إن من واجبنا أن نفصل بين الخالق وبين خلقه، سواء شئنا أو أبينا، ومهما كان من صعوبة هذا الفصل في عالمنا الحالي؛ فالموسيقى جيدة ورديئة بمعنى جمالي فقط، لا بمعنى أخلاقي. إنها تعبير عن المشاعر. والشعور ذاته قد يقوم أخلاقيا، ولكنه ما إن يعبر عنه موسيقيا، حتى لا يعود شخصيا، وإنما يصبح لا شخصيا، ولا يعود خيالا ذاتيا، بل يصبح فنا موضوعيا. وعلى حين أن السلوك يحكم عليه أخلاقيا، فإن الفن يحكم عليه جماليا فحسب، وللأسس الجمالية للموسيقى علاقة مباشرة بالحياة؛ فهي لا تتعلق بالمحظورات والنواهي التي يفرضها المجتمع على الإنسان، وإنما تتعلق بالتعبير الحر للإنسان عن نفسه. وهي لا تهتم برضاء المجتمع، أو عدم رضائه عن المشاعر الإنسانية، بل تهتم بالتعبير عن هذه المشاعر فحسب.
وثالثا: لا يمكن أن تكون الموسيقى في ذاتها سياسية أو دينية؛ فما تسمى بالموسيقى الدينية هي موسيقى كتبت للتشجيع على العبادة؛ وبالتالي ينبغي أن تكون ملائمة للغرض الذي خلقت من أجله. وتنطوي هذه الموسيقى على خصائص تصر عليها السلطات الكنسية، كالبساطة والوضوح والقدرة على تجميل النص الديني. وقد ترضى السلطات الدينية أو لا ترضى عما يشعر الموسيقار بأنه ذو طابع ديني؛ فالموسيقى المخصصة للعبادة هي تلك التي تعتقد السلطات الدينية أنها ينبغي أن تكون كذلك. وكما أن رجال الدين يرشدوننا في الشئون المتعلقة بالإيمان، فإنهم يسمحون أيضا بالموسيقى المخصصة للعبادة، أو لا يسمحون بها. وهم يعتقدون أن هناك موسيقى معينة تساعد على تعميق التجربة الدينية وموسيقى أخرى تصرف الذهن عن خدمة الأغراض الدينية.
ونحن عندما نتحدث عن موسيقى دينية وأخرى دنيوية، إنما نفضل نوعا من الموسيقى نراه ملائما للحاجات الدينية، عن كل الأنواع الأخرى من الموسيقى. وهناك مصادر متنوعة يمكن أن ترجع إليها الموسيقى الدينية ، فربما كانت قد كتبت لغرض العبادة خصوصا، أو قد تكون في الأصل ذات طابع دنيوي، ثم استخدمت فيما بعد لأغراض العبادة. والواقع أن هناك بعضا من أقوى القطع الموسيقية تأثيرا من الوجهة الدينية، بنيت على أساس ألحان شعبية لم تكن مرضيا عنها لدى رجال الدين؛ اليهود، أو الكاثوليك، أو البروتستانت. وكم حدث أن أزيلت وصمة اللاأخلاقية والفساد عن موسيقى قديمة عندما عدلت، واستخدمت لأغراض العبادة الدينية. ولم تعد الأجيال اللاحقة تعرف هذه الموسيقى إلا في سياقها الديني؛ بحيث اكتسبت هذه الموسيقى، على مر القرون، معنى تقليديا يرتبط في أذهاننا بالعبادة والأعياد الدينية. على هذا النحو ذاته استمرت معظم الأغاني التي كانت تعد في القرون الغابرة «لا أخلاقية» و«فاسدة»، وإن كان قد قدر لها البقاء.
وبالمثل لا يمكن أن تكون الموسيقى في ذاتها سياسية، كما أكد جوتة، أما كلمة شومان القائلة إن خطط الثورة يمكن أن تكتب بين أسطر سيمفونية دون أن تتنبه إليها الشرطة، فهي كلمة مفرطة في رومانسيتها، كذلك لم يكن شوبان بأقل رومانسية عندما أوضح لقيصر روسيا، الذي غزت جيوشه بولندا، أنه سيجد في «مازوركات
Mazurkas » مواطنها شوبان ألحانا موسيقية تحض الناس على أن يثوروا على الغاصبين. ولقد اعتدنا الآن أن نربط ألحانا موسيقية معينة بالوطنية والعمل السياسي، وقد تكون هذه الموسيقى تقليدية، أو مكتوبة خصوصا من أجل إلهاب الشعور القومي عند المواطنين. ومن الجائز أن لموسيقى شوبان معنى كهذا عند البولنديين، كما أن من المؤكد أن موسيقى فيردي كان لها هذا المعنى عند الثوريين الإيطاليين. غير أن الموسيقى ليست في ذاتها وطنية، وإنما هي تولد وتبعث شعورا بالوطنية فحسب؛ فما نربطه بالموسيقى هو الذي يجعلنا نسمي هذا النوع من الموسيقى سياسيا وذلك دينيا؛ فالأول قد يكون سريعا في إيقاعه، ناريا في روحه، عالي الأبواق والصنوج، والثاني قد يكون خافتا هادئا، أو حزينا متهجدا، ولكن الموسيقى لا يمكنها أن تبعث فينا هذا الشعور أو ذاك، إلا لأن هذه الإيقاعات والأنغام لها دلالة حضارية في نظرنا، تحركنا انفعاليا في هذا الاتجاه أو ذاك.
ورابعا: ليست الموسيقى رياضة فحسب. إنها في أساسها ذات تركيب رياضي، ولكنها أكثر من الرياضة وحدها ؛ فقد يرجع الباحث النظري التجمعات النغمية التي يستخدمها الموسيقي بحدسه إلى الرياضة، غير أن هذا الباحث النظري لا يحاول تفسير السبب الذي اختار من أجله الموسيقي هذه التجمعات بعينها، وحتى لو حاول ذلك فلن يستطيع. أما الموسيقي فيعلم عن وعي أن مجموعات معينة للأنغام أصلح من غيرها للتعبير عن مشاعر معينة، ولكنه لا يستدل بطريقة عقلية على أن هناك علاقات رياضية معينة، ضمن المجموعات النغمية التي يستخدمها، تعطيه التأثير المطلوب. وهو إما أن يستخدم أنماطا نغمية تقليدية، ويذهب في ذلك إلى حد التطرف، كما فعل موسيقيو عصر النهضة وعصر الباروك في تلك النماذج الموسيقية التي استخدموها للتعبير عن المشاعر بطريقة ثابتة موحدة، وإما أن يخلق تجمعات نغمية جديدة يخصصها لهذا الغرض، ويقول بها ما يريد أو ما يتعين عليه أن يقوله. ولو كانت الموسيقى رياضة، ورياضة فحسب، لأصبحت علما دقيقا كالرياضة ذاتها، يعبر فيه الموسيقار عن الأحوال النفسية بطريقة ثابتة موحدة، بدلا من أن تظل فنا يعبر عن الانفعالات بطريقة فريدة. مع ذلك فإن الموسيقيين في الماضي والحاضر، ممن كان لديهم شيء جديد يقولونه بطريقة غير تقليدية، قد اتهموا كلهم تقريبا بأنهم يردون الموسيقى إلى مجرد رياضيات.
وخامسا: ليست الموسيقى محاكاة لنظام كامن من الأصوات الموسيقية في الطبيعة؛ فلقد كان واضعو نظامنا الموسيقي القدامى يعتقدون بوجود نظام أولي من الأصوات كهذا في الطبيعة، ويجوز أنهم تصوروا أنهم مجرد مقلدين لهذه الأصوات الطبيعية في الموسيقى. والواقع أن موسيقانا مبنية على علم للصوت بدأ بالأبحاث التجريبية للفيثاغوريين، وزاده أرسطوكسينوس تقدما، وطوره بعد قرون زار لينوز ورامو وباخ كل هؤلاء كانوا يعتقدون، بدرجات متفاوتة، بأن موسيقاهم تحاكي نظاما طبيعيا للأصوات، موجودا من قبل، وحاولوا أن يفسروا أساليبهم ومذاهبهم وفقا للقانون الطبيعي، ولكن الطبيعة في واقع الأمر لا تنطوي على نظام من الأصوات كهذا. وكما قال هانسليك، فليس في الطبيعة «سابعات مسيطرة
dominant sevenths » أو ثالثات صغيرة (
minor thirds ). ومع ذلك فكثيرا ما يحدث أن توصف الموسيقى الجديدة التي لم تألفها آذاننا، والتي تزعجنا أكثر من غيرها، بأنها غير طبيعية، كأن الموسيقار يكفر بنظام نغمي مقدس في الطبيعة.
فما هي الموسيقى إذن، إن لم تكن ميتافيزيقا ولا رياضة ولا أخلاقا ولا سياسة ولا دينا، ماذا تكون الموسيقى عندئذ؟ إنها كل ذلك وأكثر منه. إنها ما قال الشاعر ويتمان إن الآلات توقظه فيك. إنها تجربة الحياة اليومية، ولكنها تعلو على التجربة. إنها صدى نغمي لأحلامنا وآمالنا، ولصراعنا وألمنا. إنها فن ساحر بإيقاعاته، قادر على التغلغل في الأعماق الباطنية للبدن وللنفس والتحكم فيها، كما أدرك الفلاسفة القدماء بوضوح. إنها أنماط من الأنغام منظمة في قوالب حسب أوزان محددة، نربط بها كل ألوان المشاعر الإنسانية. والحق أن ما نضيفه نحن أنفسنا على الأنغام والإيقاعات، وما توقظه هذه الأنغام والإيقاعات فينا، هو بعينه الذي جعل شاعرا آخر يقول: «إن النغم ... فيك أنت.»
الموسيقى شعور متجسد في رموز إيقاعية ونغمية، ولكن من واجبنا ألا نتصور أبدا أن هذه الرموز هي الموسيقى ذاتها، وإلا كنا نخلط بين الرمز وما يدل عليه؛ فالموسيقى هي ما ينتجه العازف بالأنغام والإيقاعات على آلته. وهي في أساسها لحن وإيقاع يثير انفعالاتنا ويوقظ خيالنا. وقبل هذا كله فالموسيقى هي ما نضيفه نحن أنفسنا على هذه الألحان والإيقاعات من تجربتنا الخاصة، ومن آمالنا وأمانينا. والموسيقى بالنسبة إلى حضارتنا الغربية ظاهرة ثقافية ينقل بها الإنسان انفعالاته إلى الآخرين بطريقة تثير من الانفعالات أكثر مما يثيره أي ضرب آخر من الفنون. وهي لا تستطيع أن تضحك أو تبكي، وليست حزينة ولا سعيدة، بل إن بعض الأنغام والإيقاعات تثير مشاعر قريبة من حالة المرح أو الحزن؛ فلا يمكن أن تكون الموسيقى ما تكونه بالنسبة إلي، أعني مرحة أو حزينة، إلا إذا كان في استطاعتي أن أبعث من داخلي مثل هذه المشاعر؛ فأنا الذي أربط هذه الحالة النفسية، أو تلك بهذا الإيقاع، أو تلك النغمة. وأنا الذي أضفي قيمة بشرية، ومعنى بشريا على الأصوات والحركة الموسيقية.
إن الموسيقى تبدأ بالمؤلف الموسيقي الذي تنقل إلينا أحواله وأفكاره الموسيقية عن طريق العازف أو القائم بالأداء عادة . وهكذا تختلف الموسيقى عن معظم الفنون الأخرى؛ إذ إننا نحن السامعين نبتعد عن مقاصد المؤلف مرتين على الأقل. وقد نشعر بالإعجاب الشديد إزاء القدرات الموسيقية للقائمين بالأداء، ولكنهم مع ذلك ليسوا خالقين، وإنما هم مرددون لما خلق من قبلهم. وهم في مرتبة أقل من حيث الفن؛ إذ إنهم يقتصرون على توصيل أحوال المؤلف وأفكاره لنا. وإذا كان هناك أساس تجريبي معين، في الرسم والنحت، لإصدار حكم على نسخة ترمي إلى محاكاة الأصل، نظرا إلى أن الفنون التصويرية والتشكيلية تقدم معيارا ملموسا للتقويم، فإن المرشد الوحيد في حالة الموسيقى هو شعورنا فحسب.
القسم الثالث: فلسفة للقيم الموسيقية
علم الجمال هو ذلك الفرع من الفلسفة الذي يختص بدراسة القيم الفنية، مثلما أن الأخلاق تبحث في السلوك القويم، والميتافيزيقا في المبادئ الأولى، والإبستمولوجيا في نظريات المعرفة، والمنطق في استخدام الفكر للمعرفة على الوجه الصحيح. ويعد كل من هذه الفروع الخمسة للفلسفة ميدانا متخصصا من ميادين البحث، وكل منها يمثل جانبا لمذهب فكري عام. لقد كان فلاسفة العصور القديمة والوسطى يبحثون في الجميل والقبيح، والهزلي والتراجيدي، والجميل والجليل، ضمن نطاق موقفهم الفلسفي الشامل؛ فنظرة الفيلسوف إلى الجميل هي في هذه الحالة نتاج لتحليله الأساسي لطبيعة الكون ودور الإنسان فيه. ولقد رأينا، في التفسير المثالي الذي قدمه أفلاطون للعالم، أن الموسيقى كانت توصف بأنها محاكاة لمثل تجريدي أعلى، وصدى للانسجام الكوني. وفي فلسفة «سكستوس إمبريكوس
Sextus Empiriccus » نجد تعريفا للموسيقى أقرب إلى العقول، هو أن الموسيقى لا تعدو أن تكون نوعا من أنواع التعبير الإنساني. أما في أيامنا هذه فإن أصحاب الاتجاه المثالي وأصحاب الاتجاه الطبيعي في الفلسفة منقسمون إلى فرق تتفاوت آراؤها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ومهما اختلفت درجات الفروق العقلية داخل هاتين الفئتين، فإن فلاسفة القرن العشرين يندرجون أساسا ضمن إحدى هاتين المدرستين الفلسفيتين؛ فالمثالية أو الطبيعية كانتا أساس آراء الفلاسفة عن الموسيقى في الماضي والحاضر؛ أي منذ أيام أفلاطون حتى ديوي. ولقد كان للآراء التي أبداها الفلاسفة تأثيرها في الحياة العقلية والفنية للإنسان طوال تاريخ الحضارة الغربية.
ومن شأن المفكر الذي يتخذ من المثالية الفلسفية أساسا لقيمه الفنية الموسيقية أن يعلي من قدر الملكات العقلية فوق الملكات الحسية، وقد يبالغ في تأكيد أهمية العقل، ويقلل من أهمية الانفعال في المسائل الجمالية. وترتكز قيمه على المقدمة المثالية القائلة إن العالم ينقسم إلى روح ومادة ونفس وجسم، وإن القوانين الطبيعية التي تتحكم في الجسم المادي لا سلطان لها على النفس الروحية. وهو خليق بأن ينظر إلى المؤلف الموسيقي والمفكر الميتافيزيقي على أنهما شريكان في السعي إلى كشف الحقيقة الحقة للإنسان؛ الأول بالنغم والثاني بالفكر الفلسفي؛ فالميتافيزيقي والمؤلف الموسيقي يقرباننا من المثل الأعلى الشامل، ويرشداننا بالفلسفة إلى العالم الروحي، أو يكشفان لنا بالموسيقى عن لمحة خاطفة من الجمال الكوني الرائع.
ولقد كانت المذاهب الجمالية الموسيقية المبنية على المثالية الفلسفية تعلل أصل الموسيقى، طوال التاريخ الغربي، عن طريق الميتافيزيقا، وتفسر معنى الموسيقى من خلال الغائية، وطبيعة الموسيقى من خلال الأخلاق؛ فالمثاليون ينظرون إلى الموسيقى على أنها تجسيد حسي لفكرة تتخذ مظهر الأنغام والإيقاعات الموسيقية. وليس من المستبعد عليهم، حتى في وقتنا الحالي، أن يؤكدوا أن الموسيقى تستطيع أن ترفع أخلاق الإنسان أو تحط منها، بل إن هناك من المثاليين من يعتقدون أن الموسيقى هبة منحها إله كريم للبشر، حتى يعينهم على تحمل مصيرهم على الأرض.
وللمثالي معيار موضوعي للقيم؛ فهو يذهب إلى أن للموسيقى في ذاتها خصائص معينة تجعلها جيدة أو رديئة. وقد نخطئ في تقديرنا لموسيقى معينة، كما أننا قد نغير رأينا، بحيث تختلف أذواقنا على مر السنين، ولكن التغير في هذه الحالة إنما يطرأ علينا نحن في تفسيرنا لهذه القيم. أما القيم ذاتها فتظل ثابتة، كما يؤكد المثالي؛ إذ إن الجمال في الموسيقى، مع الحق والخير، هو الطرف الثالث في الثالوث الأزلي الذي لا يطرأ عليه أي تغيير.
أما الفيلسوف ذو النزعة الطبيعية، فلا يشارك المثالي ميله إلى التقسيمات الثنائية؛ فليس من المحتمل أن يوافق ذلك الذي يبني قيمه الجمالية على النزعة الطبيعية في الفلسفة على الرأي المثالي القائل إن الموسيقى تكشف «حقائق عليا»، أو تتيح للسامع بصيرة يعبر بها الهوة بين ما هو حقيقي، وما هو غير حقيقي. وإنما يكفيه أن ينظر إلى الموسيقى، على أنها تعبير عن الانفعال البشري، لا تجسيد حسي لفكرة روحية. وهو لا يعتقد أن الموجودات المتناهية يمكنها أن تصل بفضل الموسيقى إلى حالة من النشوة التي توحدها مع اللامتناهي. ومع ذلك فلا شك في أن صاحب النزعة الطبيعية وصاحب النزعة المثالية يشعران بنفس النوع من الانفعالات عندما يستمعان إلى الموسيقى، والفرق بينهما هو أن كلا منهما يشكل استجابته الشخصية للموسيقى وفقا للموقف الأساسي الذي يتخذه في الفلسفة؛ فعلى حين أن المثالي يضفي - بطريقة صوفية - دلالة روحية على التجربة الجمالية، فإن الطبيعي يرد - بطريقة تجريبية - قائلا إن التجربة الجمالية تتيح لنا تحررا مؤقتا من العوامل المحيطة بنا مباشرة، ومهربا من المحن والأزمات التي نواجهها، وتتيح لنا وقتا نستجمع فيه قوانا، أو نستنفدها في تربة جديدة تضيف إلى حياتنا تنوعا، وتضفي على وجودنا معنى جديدا.
وفي رأي صاحب النزعة الطبيعية أن العالم دائم التغير؛ فهو لا يقبل الرأي المثالي القائل إن جمال الموسيقى يعني احتواءها على صفات كامنة لها طبيعة مطلقة ومستقلة عن التفسير الذاتي للسامع، وهو لا يفسر الموسيقى من خلال الميتافيزيقا العالية أو الغائية أو الأخلاق، وهو مع إدراكه الواضح لتأثير الموسيقى في السلوك البشري، لا يجد أي ارتباط معقول بين التعبير عن الانفعال البشري في اللحن والإيقاع، وبين الإرادة الإلهية والخير الشامل. وإنما يعتقد أنصار النزعة الطبيعية أن الموسيقى صورة أخرى من صور التعبير، توصل إليها الإنسان خلال تطوره، وبواسطتها ينقل مشاعره وأفكاره؛ وبالتالي فإن الإنسان هو الحكم الوحيد على قيمة الموسيقى التي يخلقها أو يتذوقها، أما إذا كان المرء جاهلا بالطبيعة والتركيب الأساسيين للموسيقى، وإذا ظلت الموسيقى مجرد أنغام وإيقاعات متنوعة لا أثر لها سوى أن تطرب الحواس، فعندئذ يكون مثل هذا الشخص خليقا بأن يتخذ من العارفين بأسرار الموسيقى أصناما زائفة، وينظر إلى كلمات الناقد الموسيقي المحترف على أنها صوت نبوءة دلف؛
8
فالجهل في الموسيقى، شأنه شأن الجهل بمعناه العام، يورث الخوف من المجهول والخرافة وعبادة الأصنام.
ومن الممكن وضع مذهب في القيم الجمالية يجمع بين آراء معينة مستمدة من المثالية والطبيعية معا. والواقع أن أولئك الذين يؤثرون التوفيق بين القيم الموسيقية يحاولون بناء مذهب من تلك النقاط التي تروق لهم في المذهبين المثالي والطبيعي في علم الجمال. هكذا فإن المذهب التوفيقي في القيم الموسيقية قد لا يصبح أكثر من مجرد خليط موسيقي بين عناصر لا اندماج بينها، ولكنه قد يصبح أيضا محاولة إيجابية يحاول فيها السامع أن يطبق أكثر فئات القيم منطقية على الأساليب الموسيقية المتغيرة، ليصل إلى حكم جمالي على قيمة الموسيقى موثوق منه إلى أبعد حد.
وهناك نوع آخر من الناس يؤكد من ينتمي إليه أنه شخص لا فلسفة له في الحياة ولا في الموسيقى. على أن الشخص الذي يكون رد فعله على أداء كامل رائع لقطعة موسيقية ما، هو قوله: «إنني أحب ما أحب، ولا أعبأ بمعرفة السبب.» إنما يعبر عن فلسفة للموسيقى، حتى لو كان يظن أنه يرفض كل فلسفة. مثل هذه الفلسفة قد لا يقبلها معظمنا؛ إذ إن هذا النوع من الاستجابة الشخصية للموسيقى، دون أي تقدير عقلي، هو نوع بدائي إلى أقصى حد، ينطوي على الحط من قدرات الإنسان العقلية على التأمل الباطن والتفكير؛ فالشخص الذي لا يكترث بأي عامل فيما عدا اللذة التي تتيحها الموسيقى له، إنما يكبت قدراته الكاملة من حيث هو كائن بشري.
أما المستمع الأكثر ثقافة وعمقا إلى حد ما، والذي يقول بطريقة رومانسية «إن الإحساس الغامض بالمتعة الذي تتيحه لي الموسيقى، هو إحساس لا تعبر عنه الكلمات.» فهو شخص يخدع ذاته من الوجهة النفسية؛ ذلك لأن الإنسان كائن عاقل إلى جانب كونه حيوانا انفعاليا. وإذا كان مثل هذا السامع يعني أن الانفعال العميق الذي تبعثه التجربة الجمالية لا يمكن أن تنقله الكلمات إلى شخص آخر نقلا أمينا، فإنه يكون عندئذ على حق؛ ذلك لأن التجربة الجمالية تجربة شخصية لا يمكن أن تنقل إلى شخص آخر مع ضمان أنها ستؤدي فيه إلى نفس التأثير الانفعالي. أما إذا كان يعني أن التجربة الجمالية تتعلق بالانفعالات وحدها، وإذا حللت فإنها تفقد تأثيرها، فإنه بذلك إنما يقصر تذوقه الموسيقي على المستوى الحسي وحده.
إن للمستمع إلى الموسيقى الحق في أن يترك الجمال النغمي والنماذج الإيقاعية لحركة اللحن تسحره وتخلب لبه. ومن الواجب خلال وقت الاستماع ألا يكون هناك شيء له قيمة سوى المتعة والنشوة التي تثيرها فيه الموسيقى؛ إذ إن هذه هي طبيعة التجربة الجمالية، ولكن من واجب المستمع أن يحاول بتفكيره أن يفهم السبب في إحساسه هذا، ويعرف كنه تلك العوامل الكامنة في تركيب الموسيقى وأدائها، والتي أمكنها أن تنقله إلى حالة النشوة هذه. وإنه لمن خطل الرأي أن يقال إن تحليل التجربة الجمالية يقضي عليها، ومن الخطأ أن نعتقد أننا كلما حاولنا معرفة سبب استجابتنا للإيقاع واللحن قل تأثيرها فينا؛ ذلك لأن المعرفة لا تحد من الانفعال، وإنما تهذبه.
والواقع أن دور الناقد الموسيقي لا يحتل في بلادنا هذه الأهمية، إلا لأننا شعب أمي من وجهة النظر الموسيقية؛ فالناقد يتبوأ مكانته الرفيعة بين ظهرانينا؛ لأننا نفتقر مع الأسف إلى أوليات المعرفة النظرية الموسيقية؛ فمعظمنا لا يمكنهم فهم ما يقوله المؤلف الموسيقي؛ لأن القليلين جدا منا هم الذين يمكنهم أن يقرءوا أو يكتبوا الموسيقى البسيطة. وعلى الرغم من أن الكثيرين منا عازفون أو مغنون هاوون بمعنى ما، فإنا نفتقر إلى الثقة بالنفس في تكوين رأي شخصي عن طريقة قائد الأوركسترا في أداء مصنف كلاسيكي ما؛ لذلك نحتمي بسلطة الناقد الذي ينبئنا بما يقال، وكيف يقال.
والواقع أن ممارسة الناقد المحترف لمهنته أصبحت في أيامنا هذه واجبا ثقافيا؛ فانتقاداته الحرة التي تكون لاذعة في كثير من الأحيان، ليست رمزا لمجتمع حر وفن غير مقيد فحسب، بل إن موقفه السلبي المعتاد ضروري لتقدم الموسيقى، حتى لو كان أقرب إلى الخطأ منه إلى الصواب في توقع الاتجاهات الفنية وتقويم الموسيقى. وإنه لمن الحمق أن نظن، كما يفعل البعض، أن من الممكن الاستغناء عنه كلية، ولكن من الصحيح أننا كلما نمينا قدرتنا على كشف أسرار الموسيقى التي يقدمها إلينا المؤلف، غدونا أكثر استقلالا في حكمنا، وأقل اعتمادا على آراء الناقد وقراراته؛ أي إن دوره بوصفه حجة وسلطة نحتكم إليها يقل كلما ازددنا استنارة.
ولا شك أن الناقد الموسيقي الذي يحيا في ظل الفاشية الشمولية لا يملك إلا الازدراء لأية فلسفة موسيقية مبنية على القيم المتحررة؛ فهو خليق بأن يعدها مذهبا جماليا ذا صبغة رومانتيكية، لا بد أن يقضي على ذاته من جراء تأكيده للحرية الفردية، وتجاهله للحاجات الجمالية للمواطنين. مثل هذا الناقد لا بد أن يؤكد أن علاقة الفرد بالدولة في الحكومة المتسلطة لا تحتمل الأحكام الشخصية أو نزوات الأقليات المقفلة على ذاتها، التي تضع السياسة الاجتماعية موضع الشك أو تزدري اللجنة المركزية للحزب في المسائل المتعلقة بالنقد.
ولقد كان النظام الشمولي للفاشية يبني قيمه الموسيقية، في ألمانيا النازية على الأقل، على التمييز العنصري؛ فقد قرر هتلر، بكل بساطة، أن موسيقى مندلسون لا بد أن تمنع، وأكد هتلر على نحو قاطع أن مندلسون كان يهوديا،
9
ولا يمكن لليهود أن يكتبوا موسيقى مساوية لما يكتبه الآريون. ولما كان يجزم بأن الآريين جنس أرقي، فلا بد أن تكون موسيقى مندلسون السامية من نوع أحط. ولا شك أن هذا لا يمكن إلا أن يكون منطق دكتاتور مجنون يستخلص من مقدماته الباطلة حكما على القيمة الموسيقية لإنتاج مؤلف موسيقي على أساس تمييز عنصري زائف.
على أن الفلسفة الاجتماعية الأقل عنفا عند ليو تولستوي تهدد أي مذهب إنساني في علم الجمال بخطر لا يقل عن خطر الدولة المتسلطة أو الدكتاتور الطاغية؛ ذلك لأن الرسالة التي أخذها تولستوي على عاتقه بأن يقيم مجتمعا مبنيا على التعاليم المسيحية أدت به إلى أن يقوم كل موسيقى بروح لا تقل في تعصبها عن روح آباء الكنيسة، فكانت النتيجة أنه استبعد كل المؤلفات الكلاسيكية تقريبا من نظامه المثالي، على أساس أنها أعقد من أن يفهمها الجميع؛ وبالتالي تفتقر إلى تلك البساطة الشاملة التي تربط كل الناس سويا. ولا جدال في أن الدهشة والعجب يتملكان المرء عندما يمعن التفكير في ذلك القدر الضئيل من الموسيقى، الذي استبقاه تولستوي ليساعده في نشر دعوته إلى الإخاء، وذلك القدر الكبير الذي رفضه لأنه لا يساعده في أداء رسالته المتعصبة. ومن المؤكد أن الصرامة التي كان يقرر بها أي موسيقى تصلح لإقامة مملكة الله في الأرض قد أحالته من عملاق في الأدب إلى قزم في الموسيقى.
فقد كان تولستوي يعجب ببعض مقطوعات باخ الغنائية، وبعض موسيقى هايدن وموتسارت وشوبرت. وكان ينظر بعين الرضا إلى موسيقى شوبان «... (وذلك عندما لا تكون ألحانه مثقلة بقدر مفرط من التعقيدات والزخارف) ...» كما كان يحب بعض المؤلفات المبكرة لبيتهوفن، ولكنه رفض موسيقى الحقبة المتأخرة من حياة بيتهوفن، بحجة أنها «ارتجالات لا قوام لها»، أما السيمفونية التاسعة والرباعيات الأخيرة التي نشرت بعد وفاة بيتهوفن، والتي ربما كانت أروع موسيقى كتبها الإنسان، وصوناتات البيانو في الفترة المتأخرة، ولا سيما الصوناتا مصنف رقم 101؛ كل هذه يسخر منها تولستوي على أساس أنها غير مفهومة إلا للقلة، وأعقد من أن تفي بحاجات المسيحية. أما موسيقى فاجنر وليست وبرليوز وريشارد شتراوس فإنه يرفضها كلها.
ومن المؤكد أن اليقين القاطع الذي كان تولستوي يرفض به مؤلفات هؤلاء الموسيقيين خليق بأن يقدم إلينا سببا قويا للتفكير في الأخطاء الثقافية التي يمكن أن تنشأ عن تطبيق الفلاسفة ورجال السياسة والدين لمعايير مطلقة في النقد الموسيقي؛ فمنذ اللحظة التي يعتقد الفيلسوف أنه قد اهتدى إلى الحل النهائي الشامل لمشكلة طبيعة العالم، ومعنى الحياة، وصحة القيم الإنسانية، لا يعود باحثا سقراطيا عن الحقيقة، وإنما ينغمس في الدفاع المتعصب عن موقف أو الدعاية المتحمسة له. وفي نفس اللحظة التي يضع فيها الناقد الموسيقي صيغة شاملة يتعين عليها أن تنطبق على مبادئ لاهوتية أو سياسية معينة، فإنه يصبح بدوره مدافعا عن إيمان أو داعية إلى قضية.
على أن الرأي الصحيح هو أنه لا توجد حقائق مطلقة، أو أحكام نهائية؛ فالقمم ليست أزلية، وإنما هي تولد من جديد على الدوام، وليس ثمة ناقد عالم بكل شيء، نستطيع أن نتطلع إليه لنجد عنده جوابا نهائيا حاسما في مسائل القيم الموسيقية. وإنه لمما يؤسف له أن الكثير منا ينتظرون كلمة الناقد ليعرفوا كيف يكونون رأيهم عن هذه القطعة الموسيقية أو تلك الطريقة في العزف. والمؤسف في الأمر هو أن هؤلاء الناس يختارون الانقياد بدلا من أن يختاروا الاستنارة والاسترشاد، مع أن بعضا من هؤلاء الناس أنفسهم قد يختلفون مع أعظم نقاد صحيفة كبرى، أو يثورون عليه بشدة حين يكون الأمر متعلقا بكتاب تختلف عليه الآراء، على حين أن هؤلاء القراء المثقفين إلى أبعد حد يقبلون الرأي الذي ينشره المحرر الموسيقي في الجريدة ذاتها دون أي شك أو تحد.
وهناك من بيننا أيضا أناس يقفون في خشوع أمام جماعة المثقفين في الموسيقى، الذين يتخذون من غير المألوف صنما معبودا، ويتحدثون عن «إريك ساتي» بتبجيل وجودي. ومن واجبنا أيضا ألا نقيم وزنا لادعاء أولئك المثقفين الذين يحكمون على الأمور الخاصة، ويؤكدون على نحو قاطع أن «موسيقى الغرفة» هي ما يختاره صاحب النظرة الجمالية الخالصة، على حين أن الأوبرا تسلية شعبية للجماهير؛ ذلك لأن الشخص الذي يؤثر فيه بعمق أداء جيد لخماسية لشوبرت يمكن أيضا أن يؤثر فيه أداء جيد لقطعة غنائية لبوتشيني. ولا يمكن أن يحتقر القوالب الموسيقية الشعبية إلا شخص لا يحس بقيم الآخرين.
كذلك ينبغي أن نسخر من أولئك المتطرفين الذين لا يستمعون إلا إلى «مادريجالات» عصر النهضة أو «كونشرتات» عصر الباروك، ويزدرون أية موسيقى كتبت بعد وفاة باخ؛ ذلك لأنه لا ضرر في أن يبدي المرء إعجابا خاصا بفترة معينة في تاريخ الموسيقى؛ لأن قوالب هذه الفترة والرنين النغمي للآلات فيها يجتذبه اجتذابا شخصيا فريدا. ومع ذلك فمن الممكن أن يؤدي هذا الاهتمام بالماضي الغابر إلى تضليل المرء إذا تحول إلى متخصص في فترة معينة من فترات الموسيقى، وصم أذنيه عن موسيقى الفترات الأخرى. وبالمثل فإن ذلك الذي يعتقد خطأ أن موسيقى الماضي أحط مرتبة من موسيقى الحاضر يحتاج إلى بعض التوجيه؛ إذ إن مقطوعة للفيولينة المفردة من تأليف كوريلي
Corelli
يمكنها أن تبعث فينا من المتعة الجمالية قدر ما يبعثه منظر الموت الختامي في دراما «تربستان وإيزولده»؛ فالجمال البسيط في موسيقى كوريلي يثير فينا تجربة جمالية هادئة وقورا، على حين أن تلك الموسيقى المشبوبة بالعاطفة، التي كتبها فاجنر للمنظر الأخير من هذه الدراما الموسيقية المؤثرة، تبعث فينا شعورا بالوجد الانفعالي. وكلا النوعين من الموسيقى يخدم الغرض المقصود منه؛ فأحدهما يبعث ما يسميه نيتشه بالحالة الأبولونية، والآخر ما يسميه بالنشوة الديونيزية، وكلاهما ضروري لحياة الإنسان.
ولقد كان بعض النقاد الذين ظهروا في الأمس القريب، مثل هانسليك وبوزوني، وكذلك فيلسوف ندر أن نجد من الفلاسفة من قال بمثل آرائه في الموسيقى، هو «هربارت
Herbart »؛ كان هؤلاء يؤمنون بأن الموسيقى ليس لها معنى يتجاوز نطاقها الخاص؛ فهم قد أرادوا أن يقفوا في وجه الرومانسية بالقول إن الموسيقى فن مستقل. ويوجد في صفوفنا اليوم أيضا أمثال هؤلاء من أصحاب النظرة الخالصة، الذين يحرصون على الاحتفاظ بنقاء الموسيقى وترفعها عن المضمونات النفسية والاتجاهات الاجتماعية والمسائل الأخلاقية. وهم يعتقدون أن البحث الجمالي في الموسيقى ينبغي أن يقتصر على تحليل القيم الشكلية للقطعة الموسيقية ولا شيء غير ذلك. والأساس الذي يرتكزون عليه هو أن الموسيقى، كما قال هانسليك، هي تعبير عن الأفكار الموسيقية؛ فالموسيقى التي تثير الانفعالات وحدها وتتجاهل العقل، لا تؤدي إلا جزءا من وظيفتها، وهي اجتذاب الإنسان ككل؛ أي أن هذا الاتجاه الفكري الأفلاطوني الجديد
10
يرى أن الموسيقى التي تهيب بالانفعالات أكثر مما تهيب بالعقل، إنما تجتذب العناصر الأخس والأحط في الإنسان. أما الموسيقى المثلى من وجهة النظر الجمالية، فهي ترتيب وتوزيع للقيم الشكلية على نحو يكفل للموسيقى أداء وظيفتها الكاملة، وهي بعث انفعالات سارة وإرضاء العقل. ولا جدال في أن هذا مثل أعلى جمالي لا يمكن أن ينازع فيه أحد. غير أن الكثيرين منا لا يقبلون ذلك الاهتمام المفرط الذي يبديه أصحاب النظرية الخالصة بالجانب العقلي من التربة الجمالية، في الوقت الذي يقللون فيه من أهمية الجانب الانفعالي منها.
إن التحليل الموسيقي للقيم الشكلية لمدونة سيمفونية ضخمة أو أغنية فنية بسيطة ليس إلا وجها واحدا من أوجه البحث الجمالي؛ ذلك لأن اللحن والإيقاع والهارمونية والقالب أو الشكل؛ كل هذه قيم موسيقية أساسية؛ فالقائم بالأداء وقائد الفرقة الموسيقية، يهتمان اهتماما أساسيا بالخط اللحني وتطوير الموضوعات الرئيسية والتغيرات الإيقاعية، وبناء هيكل القطعة الموسيقية أو قالبها الشكلي. ومن المؤكد أن التجربة الجمالية للمستمع المستنير تزداد عمقا إذا كان لديه القدرة على إدراك العلاقات الشكلية بين هذه القيم بعضها وبعض؛ أعني القدرة على إدراك تكامل هذه القيم في صورة موسيقية مركبة، وعلى معرفة مدى توفيق المؤلف الموسيقي في معالجة هذه القيم والتعبير عنها فنيا. غير أن البحث الجمالي في الموسيقى هو نظام من القيم أشمل من تحليل الموسيقى ذاتها؛ إذ إن عليه أن يتناول أيضا النواحي الإبداعية التأثيرية في الموسيقى؛ لأن الدراسة النفسية للإبداع الفني وتحليل التذوق الموسيقي هما مشكلتان جماليتان على جانب كبير من الأهمية. كذلك ينبغي على المفكر الجمالي أن يتذكر أن الموسيقى لا يمكن أن تفهم وتقدر إلا في سياقها التاريخي؛ فالعوامل الدينية والدنيوية والاتجاهات السياسية للعصر، والمعتقدات الاجتماعية للشعب؛ كل هذه عناصر ضرورية في أية دراسة جمالية للموسيقى.
والواقع أن خلق الموسيقى والاستمتاع بها عمليتان ترجع جذورهما إلى الانفعالات؛ إذ إن الموسيقى وسيلة نغمية وإيقاعية للتعبير، ينقل بواسطتها المؤلف الموسيقي مشاعره إلى الآخرين. وعلى ذلك فإن نظام القيم الذي تتألف منه الفلسفة الجمالية للموسيقى ينبغي أن ترجع جذوره هو الآخر إلى الانفعالات، وإن كان يقتضي من السامع أذنا موسيقية حساسة وعقلا لماحا في الوقت ذاته. والعامل الذي يحدد القيمة الفنية للقطعة الموسيقية هو مقدار أصالة مؤلفها وسعة خياله في التعبير عن ذاته. أما نحن فلا نستطيع أن نستخلص من هذه الموسيقى أكثر مما وضعناه فيها عن طريق حساسيتنا الإدراكية وحكمنا التحليلي؛ فالموسيقى متولدة من الانفعال لكي تهيب بالانفعال. ونحن نتلقاها بحواسنا، ونحكم عليها بعقولنا. ولا يمكن أن تكون لها عندنا قيمة جمالية إلا إذا كان لها معنى بالنسبة إلينا.
إن القيمة الجمالية للقطعة الموسيقية تتوقف على أمرين؛ أولهما مدى قدرة المؤلف على نقل أحواله ومشاعره إلينا؛ إما بطريق مباشر أو بوساطة فنان قائم بالأداء. وثانيهما: قيمة نفس هذه المشاعر والأحوال التي ينقلها إلينا، ولكن تحقيق الأمر الأول يستلزم أن يكون السامع قادرا على أن يعيد خلق ما كان المؤلف يحاول أن يقوله؛ فالاستجابة الجمالية الصحيحة تتوقف على قدرة السامع على التشبع بروح المؤلف في حالته الأصلية. ولن يأتي له ذلك إلا بالسمع وإعمال العقل، كما قال أرسطوكسينوس. وإذن فالموسيقي لا يمكن أن تكون وسيلة للاتصال الانفعالي، إلا إذا كان المرء حساسا بتلك الأحوال والمشاعر التي حاول الموسيقار أن ينقلها إلينا. وبعد أن تثار في نفس السامع هذه التجربة الانفعالية، ينبغي أن يكون قادرا على تكوين حكم سليم على قيمة هذه المشاعر والأحوال في القطعة الموسيقية ذاتها. ولما كان الكثير من المؤلفات الموسيقية الجديدة يتجاوز نطاق قدرتنا على الإدراك والفهم، فلا بد لنا من بذل الجهد والتذرع بالصبر والانتظار ردحا من الزمان حتى نستطيع الوصول إلى حكم صحيح على قيمة المشاعر والأحوال في القطعة الموسيقية، كما تجسدت في أفكار إيقاعية ولحنية مجددة. ومن جهة أخرى فهناك نوع آخر من الموسيقى يجذبنا كثيرا أول ما نسمعه، لكنه سرعان ما يفقد؛ لأنه لا يعود يمدنا بالحافز على تكوين تجربة جمالية.
إن صياغة حكم تقويمي هي عمل ذهني، وهي عملية عقلية تتضمن تقدير أحوال المؤلف ومشاعره كما عبر عنها في صورة موسيقية. وهي تقدير عقلي للطريقة التي أدمجت بها القيم الشكلية اللحنية والإيقاعية الهارمونية في قالب موسيقي مركب؛ فاللحن تعبير عن الشعور، والإيقاع يبعث الحياة في هذا الشعور. وهو بالنسبة إلى الموسيقى بمثابة قانون التغير المحتوم في صوره المتعددة بالنسبة إلى الطبيعة. والهارمونية هي مزج هذه المشاعر والتغييرات الإيقاعية في تعبير موحد كان سيظل لولا هذا المزج، مجرد مشاعر منعزلة وإيقاعات متفرقة. أما المزاج والشعور فهما أحوال انفعالية تحتاج دراستها إلى نشاط عقلي.
ولا بد لتقدير الموسيقى من أذن حساسة نفاذة، تكتسب بالمران والتوجيه. وأول استجابة لنا نحو الموسيقى تكون استجابة ذاتية أساسا؛ إذ نضفي عليها ما اكتسبناه من تجارب متنوعة تحكمت في تشكيلها بيئتنا الدينية والثقافية والاقتصادية. على أنه إذا كانت الموسيقى قادرة على إحداث تجربة جمالية تفي بحاجة نفسية أو اجتماعية، فلا بد أن تكون لها قيمة محددة بوصفها وسيلة فنية للعلو بحياتنا اليومية المعتادة، ولا يمكن أن تكون للموسيقى قيمة إلا إذا كان لها معناها عند السامع. ومع ذلك فمن الممكن أن يكون لها معنى عند شخص معين، ولا يكون لها أي معنى عند شخص آخر، وبدليل ما كتبه الموسيقار برليوز حين قال: «إن ما أجده جميلا إنما هو جميل عندي، وقد لا يكون جميلا عند أخلص أصدقائي.» كما كتب المفكر تشترتن يقول: «إن الناس العاديين يبغضون العمل الجديد الرفيع المستوى، لا لأنه جيد أو رديء، بل لأنه ليس بالشيء الذي يطلبون.» فطبيعة المعنى الموسيقي إنما تكون في الانفعالات التي يجسدها المؤلف الموسيقي بخياله الخصب، في نماذج إيقاعية وتراكيب هارمونية. وما اللحن البسيط أو الموضوع الموسيقي الرئيسي في الأصل، إلا انفعال خام أضفي عليه شكل ولون من أجل الوصول إلى فعالية التأثير الفني؛ فالموسيقى هي المزج التام بين الشعور والعقل، وبين المضمون والشكل. وما القطعة الموسيقية إلا وسيلة لنقل مشاعر وانفعالات. وإذا كان الجزء الأكبر من الموسيقى الجديدة، وقدر كبير من تراثنا الموسيقي يبدو مفتقرا إلى المعنى في نظر الجمهور العادي، فإن السبب الأكبر في ذلك هو حالة الأمية الموسيقية المتفشية بيننا؛ ذلك لأن المعاني التي تستطيع الموسيقى نقلها تظل كامنة في الطابع الإيقاعي والتركيبي للمدونة الموسيقية ذاتها، ولا يمكن أن تنتقل إلى حالة الظهور والوضوح إلا إذا توافر لها فنانون يؤدونها، وأذن تستمع إليها، وأذهان تقدر ما يحاول الموسيقار أن يقوله؛ فمن المحال إذن أن يستخلص المرء من الموسيقى أكثر مما يضعه فيها من حساسية الإدراك ونفاذ التفكير.
ولكن ما هي القيم التي ينبغي أن نتطلع إليها، ونحن نستمع إلى الموسيقى؟ ينبغي، قبل كل شيء، أن يكون للموسيقى تأثير انفعالي قد يكون فوريا، وقد لا يأتي إلا بعد مضي وقت؛ إذ إن الاستمتاع بالموسيقى هو قبل كل شيء مسألة انفعال فحسب. ولما كانت الموسيقى تنشأ من ذلك الانفعال الخام الذي يسعى إلى الانطلاق في عالم الواقع القاسي، ولكنه لا يجد مجالا لهذا الانطلاق، فلا بد أن تكون مشتملة على تشكيل جذاب للأحوال النفسية والمشاعر التي تعلو على الواقع المباشر، وحتى في الحالات التي تحاول الموسيقى فيها أن تكون وصفية بطريقة واقعية، فلا بد لها أن تصف الأشياء المألوفة بطريقة غير مألوفة، أو تحاول أن تجعل للعالم العادي للأنغام وقعا غير عادي في الآذان.
إن مكانة المؤلف الموسيقي لا تقاس بمدى قدرته على بعث الأصوات الطبيعية من جديد، وإنما تقاس بمدى تمكنه من تجميل الأصوات الطبيعية؛ بحيث إن الأمور التي تبدو لنا مألوفة ونسلم بها دون مناقشة، تعرض علينا بطريقة مجددة تثير خيالنا، وتؤثر في مشاعرنا؛ فقيمة الموسيقي في نظرنا لا تكون في براعته في محاكاة الأصوات والظواهر المتحركة، بل في قدرته على تحوير هذه الأصوات والظواهر المتحركة تحويرا فكريا مثاليا؛ فأوتورينو رسبيجي
Ottorino Respight (1879-1936م) يقطع التجربة الجمالية لسامعيه عندما يوقف الموسيقى في مدونته؛ لكي يقدم ترديدا طبيعيا لزقزقة عصفور مسجلة على أسطوانة،
11
أما بيتهوفن فيحفظ للسامع تجربته الموسيقية عندما يضفي زخرفا على صوت الطائر، وهو يتردد في أعقاب صوت العاصفة المطيرة التي تتلاشى تدريجيا.
12
وتلك في الواقع مشكلة قديمة قدم أفلاطون الذي كان يعتقد أن على الموسيقي أن يردد الطبيعة بأمانة في موسيقاه، هو الرأي الذي رد عليه أرسطو بقوله إن مهمة الموسيقار ليست الاقتصار على محاكاة الطبيعية كما هي، وإنما هي أن يعيد خلق الطبيعة في موسيقاه بإضفاء طابع فكري مثالي عليها. فليس المهم هو المظهر الخارجي للظواهر أو الأصوات المألوفة في الطبيعة، وإنما هو التعبير عن المشاعر الباطنة التي تثيرها هذه الأصوات في نفس المؤلف الموسيقي، والتي يعبر عنها في مؤلفاته، لا كما هي الطبيعية، بل كما يتصورها هو، وبذلك يخلق عالما من الأصوات أروع من ذلك الذي اتخذه أنموذجا له.
ومن الواجب أن يكون المصنف الموسيقي ملائما لتركيب الآلات أو للمدى المناسب للأصوات البشرية التي كتب لها. على أن بيتهوفن كان يكتب للصوت، وكأن لديه نفس مدى آلة الفيولينة ومرونتها. وكان فاجنر يطلب من المغني، بلا رحمة، أن ينافس بصوته أوركسترا عظيمة الضخامة. ومهما كانت عبقرية بيتهوفن وفاجنر، فإن قيمتهما بوصفهما مؤلفين للصوت البشري أقل من قيمتهما من حيث هما يكتبان للأوركسترا.
وكثيرا ما ينظر إلى موسيقانا المعاصرة على أنها تفتقر إلى القيمة الجمالية؛ لأنها لا تتضمن ألحانا مناسبة للصوت البشري، أو موضوعات لحنية متصلة للآلات الموسيقية؛ فالموسيقي المعاصر يتهم بأنه يخلق موسيقاه بطريقة آلية خالية من اللحن، وإذا خلق ألحانا قليلة، فإن هذه الألحان لا تمتعنا بقدر ما كانت تمتعنا ألحان الماضي. على أن كل عنصر كان فيه من المحافظين وأنصار القديم ممن يجأرون بالشكوى من أن موسيقيي جيلهم يعذبون المغنين بمقطوعات لا تغنى، ويرهقون العازفين بمدونات لا تعزف. ومع ذلك فإن الأوبرات الإيطالية الرومانسية تضم من الفقرات الغنائية المجهدة التي لا تصلح للصوت الغنائي بقدر ما تضم الأوبرات المعاصرة. وعلى أية حال فإن الموسيقى الغنائية التي تطلب من المغني أكثر مما ينبغي، والتي ترهق الصوت في مداه المعتاد، لا تصلح للصوت الآدمي، سواء أكانت تنتمي إلى العصر الرومانسي أم إلى عصرنا الحاضر. وهذا لا يصدق على الآلات مثلما يصدق على الصوت البشري. إن المؤلفين الموسيقيين المعاصرين يكتبون مقطوعات لحنية للصوت والآلات الموسيقية تختلف عن مقطوعات الماضي لأسباب واضحة. وقيمة هذه الألحان، سواء منها الماضية والحاضرة، تتوقف أولا على ملاءمتها لنطاق صوت الإنسان والآلات، وتتوقف ثانيا على مدى إتاحتها للمغني والعازف أن يستخلص منها كل القيمة الموسيقية التي يستطيع الصوت والآلة أن يحققاها، كل حسب طبيعته.
ومن الواجب أن تفي القطعة الموسيقية بالغرض الذي خلقت من أجله، والذي كان مقصودا منها أصلا؛ فاللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي قد حكمت مثلا بأن أوبرا «الصداقة العظيمة» لم تحقق الغرض الذي خلقت من أجله؛ إذ كانت الموسيقى معقدة لا تقدم تصويرا «واقعيا» للحياة الشعبية والموسيقية للإقليم الذي ألفت الأوبرا عنه؛ ففي رأي اللجنة أن مؤلف هذه الأوبرا لم يقدم إلى المواطن السوفييتي ما يدل على فهم «صحيح» لحياة الإقليم الذي يتحدث عنه وثقافته؛ لذلك كانت هذه الأوبرا فاشلة من الوجهتين التعليمية والسياسية. غير أن من المشكوك فيه أن مؤلف الأوبرا كان يشارك اللجنة نفس هذه الآراء في دخيلة نفسه، ولكنه على أية حال كان مضطرا إلى الرضوخ لقرارها القائل إن موسيقاه كانت لها قيمة إيديولوجية سلبية؛ لأنها لا تفي بالحاجات الفنية للجماهير.
وفي المجال الديني نجد الموقف مشابها إلى حد ما؛ فقد كان يوهان سباستيان باخ يعتقد أن الموسيقى التي يخلقها ذات طابع ديني عميق يصلح للشعائر البروتستانتية، غير أن رؤساءه كان لهم رأي مخالف في كثير من الأحيان؛ فقد كان باخ يكتب موسيقى للأرغن يعتقد أنها ملائمة للجو الديني، ومع ذلك فقد كان عقده يتضمن نصا يشترط ألا يعزف في الكنيسة موسيقى تصرف أنظار المستمعين عن العبادة. وكان معنى هذا الشرط أن رؤساءه يعتقدون أن بعض موسيقاه لا يصلح للصلاة؛ فموسيقى باخ، من وجهة نظرهم، لم تكن دائما تحقق الغرض الذي كتبت من أجله.
وتكون الموسيقى محققة لغرض معين في الدين أو السياسة حسب معيار للقيم يتخذ أساسا للحكم عليها. غير أن من الخطأ القول إن الموسيقى المرتبطة بعناصر دينية أو سياسية هي وحدها التي تقوم بمثل هذه الطريقة الموضوعية؛ فالأمريكيون والسوفييت يتفقون على أن الموسيقي حين يكتب «مارشا»، فمن الواجب أن يكون ذا طابع عسكري؛ أعني أن يكون إيقاعه بسيطا، ويكون اللحن قوي التأثير في النفوس. كذلك يتفقون على أن الموسيقي حين يؤلف للباليه، فيجب أن يكون إيقاعه قويا مثيرا، وأن يكون اللحن سهل التداول؛ فهناك شروط موسيقية شكلية ينبغي توافرها إذا شئنا أن تشجع الموسيقى الجنود على المشي على أنغامها، والراقصين على أداء رقصاتهم بألحانها. ولما كان الجنود يمشون بطريقة متشابهة، والراقصون يرقصون أيضا بطريقة متشابهة، فلا بد أن تكون المعايير التي نشترطها لهذه الألوان من الفن الموسيقي متشابهة أيضا.
وعندما يطلب إلى المؤلف الموسيقي أن يخلق وفقا لشروط محددة مقدما، فعندئذ تكون مشكلة التأكد من تحقيق موسيقاه للغرض الذي كتبت من أجله مشكلة بسيطة؛ فمثل هذه الموسيقى التي لا تخلق بوصفها فنا مستقلا لا يمكن تقديمها إلا على أساس الوظيفة التي تؤديها. أما الموسيقى المستقلة، فكل ما يشترط فيها لكي تكون قد حققت الغرض المقصود منها هو أن تتيح للسامع تجربة جمالية فحسب؛ فالموسيقي يكون قد حقق أغراضه فينا إذا كانت موسيقاه تنطوي على تكامل فعال بين القيم الموسيقية الشكلية التي يمكنها أن تثير في نفس السامع استجابة ذات طبيعة جمالية.
ولقد كتبت مقطوعتا سترافنسكي «متتابعة طائر النار
Fire Bird Suite » و«طقوس الربيع
Rites of Spring » للباليه، وحقق هذان المصنفان الغرض المقصود منهما بنجاح باهر. وعندما يعزفان في قاعة الموسيقى ب (لا رقص)، فإنهما يلقيان نجاحا أعظم بوصفهما روائع موسيقية؛ ففي هذه الموسيقى من القوة والأصالة ما يجعلها تصلح للباليه وقاعة الموسيقى الخالصة، كما هي الحال في موسيقى الأوبرا عند فاجنر وديبوسي. غير أن من المعتاد أن يكون للموسيقى المكتوبة لمصاحبة الرقص في الباليه، أو لمارش عسكري، أو للأوبرا، غرض معين تحققه، وينبغي ألا تقوم إلا على أساس هذا الغرض. أما إذا فصلت هذه الموسيقى عن الغرض الذي تخضع له، وعزفت على أنها موسيقى مستقلة، فعندئذ يتوقف تقديرنا للنجاح الموسيقي على الرأي الشخصي للمستمع.
ولمؤلف موسيقى الجاز بدوره معاييره الخاصة من القيم الشكلية التي تختلف عن معايير مؤلف موسيقي مثل شونبرج. وعلينا عندما نقدم قطعة من موسيقى الجاز ألا نطبق عليها نفس معايير الموسيقى الكلاسيكية؛ إذ إن مقاصد المؤلف الموسيقي مختلفة في كل حالة عنها في الأخرى؛ فهناك موسيقى جادة جيدة وموسيقى جادة رديئة، مثلما أن هناك جازا جيدا وجازا رديئا. والاستمتاع بأحد هذين الأسلوبين لا يحول دون الاستمتاع بالآخر؛ لأننا نأخذ من كل منهما ما يفي بالحاجات التي يمكنهما أن يلبياها من أجل إثراء حياتنا. ولا بد أن يكون متحذلقا ذلك الذي يميز بينهما على أساس أن أحدهما يصلح لعامة الناس والثاني للصفوة المختارة.
وهناك عامل جمالي ينبغي في هذا الصدد أن نأخذه بعين الاعتبار، هو عامل التحوير أو النقل. ولنضرب لهذا العامل مثلا هو سيمفونية بيتهوفن الريفية؛ فهذه السيمفونية كانت مقصودة في الأصل، لتكون تصويرا للطبيعة بصورة سمفونية، وهي تفي بهذا الغرض الوصفي بالفعل، ولكن إذا استخدم هذا المصنف، بحيث يلائم أغراض الباليه، فإنه لا يعود يثير في النفوس الأحوال والمشاعر الأصلية للموسيقى. كذلك فإن مقدمة وفوجة باخ لا تعود نفس العمل الكلاسيكي إذا تحولت للأوركسترا الحديث. ولا بد أن تكون أحكامنا على هذين العملين متعلقة بمقاصد المؤلف الأصلية، لا بالتطبيقات التي يدخلها آخرون على هذه الأعمال بعد وفاة مؤلفها بوقت طويل.
وإذن فلكي تكون للموسيقى قيمة جمالية، فلا بد أن تكون مثيرة للانفعال، ولا بد أن تلائم الصوت البشري والآلة التي كتبت من أجلها، وأن تفي بالغرض المقصود منها. وأخيرا فينبغي أن تحتوي المدونة الموسيقية ذات المستوى الرفيع على أفكار متنوعة، وأن تتميز في الوقت ذاته بالوحدة والتوازن؛ فالمدونة الموسيقية التي تحتوي على أفكار متنوعة تكون قيمتها الجمالية أعظم من تلك التي تكرر الموضوعات اللحنية الرئيسية بطريقة رتيبة مملة. ومع ذلك فالمدونة الجيدة لا تقتصر على ما تحتويه من الأفكار المثمرة فحسب، بل يجب عرض هذه الأفكار ببراعة وموازنتها في سياق المصنف بأكمله؛ فالأوبرا التي تبالغ في تأكيدها أهمية المقاطع الغنائية (من قبيل الآريا) على حساب تكامل الأوبرا بوصفها كيانا فنيا موحدا لا تكون متوازنة على النحو الصحيح. والسيمفونية التي تحفل بألحان حنون تكررها دون عناية بتنويع الموضوعات اللحنية لها قيمة جمالية أقل من قيمة السيمفونية التي تنمى فيها الألحان، وتطور بطريقة متنوعة زاخرة.
وإذن فلا بد أن يقدم المصنف الموسيقي أفكارا متنوعة في تنميته للمادة اللحنية، ولا بد أن يكون وحدة تتوازن فيها التطويرات والتنويعات المتعددة وتتفاعل.
وكلما ازدادت حرية المؤلف في استخدام الهارمونية والبوليفونية والإيقاع كان أقدر على التعبير عن أحاسيسه ومشاعره. ومع ذلك فمن المحال أن يكون التأليف الموسيقي حرا تماما؛ إذ إنه حيث لا يتوافر قدر من النظام تسود الفوضى. وإنما المقصود من الحرية في الموسيقى هو استخدام الإمكانيات النغمية والإيقاعية للوصول إلى أبلغ تعبير ممكن.
وتتيح بعض أنواع الموسيقى للمؤلف مزيدا من الحرية عن بعضها الآخر؛ فحين يكتب موسيقى خالصة يكون أقل قيودا منه عندما يكتب موسيقى مصحوبة بالكلمات؛ إذ يتعين على المؤلف في الحالة الأخيرة أن يشكل موسيقاه وفقا لإيقاع النص ووزنه وقافيته إلى حد ما. وعندما يتابع الموسيقي المعنى العقلي لنص ديني، فإنه يخضع موسيقاه لهذا النص. أما عندما يكيف مؤلف موسيقي مثل فرجيل طومسون
Virgil Thomson
ألحانه وفقا لأبيات «جرترود ستين
Gertrude Stein » العسيرة الفهم في قطعتيها «أربعة قديسين وثلاثة فصول
Four Saints and Three Acts » ومن بعدها «أمنا جميعا
Mother of us » فإنه عندئذ يذهب إلى الطرف المضاد، فيتجاهل تماما المعنى العقلي للنص.
ولقد كان الفلاسفة السابقون، باستثناء شوبنهور ونيتشه، يؤكدون الحاجة إلى لغة منطوقة من أجل إضفاء معنى ذهني على الانسياب الإيقاعي للانفعال الموسيقي. كذلك كان كبار رجال الدين ينظرون إلى الموسيقى على أنها وسيلة لنشر كلمة الله. وما زال النقد السوفييتي الحديث يذهب إلى أن الموسيقي ينبغي ألا يقتصر على «الميل المتحيز إلى الأشكال المعقدة من موسيقى الآلات والموسيقى السيمفونية، غير المصحوبة بنص كلامي».
إن الشعر والموسيقى هما أكمل صورتين فنيتين يعبر بهما الإنسان عن مشاعره وأفكاره؛ فهما أقدر أنواع الفن على التعبير عن المشاعر، كل في ميدانه الخاص. على أن ما يكون له تأثيره في إحدى هاتين الواسطتين قد يضيع إذا عبرت عنه الواسطة الأخرى. أما عندما يمتزج البيت الشعري أو الفقرة النثرية مع اللحن بنجاح، بحيث لا يفقد أيهما طابعه الفردي، وإنما يزيد كلاهما من فعالية الآخر، فعندئذ يكون الموسيقي قد أدمج على نحو فني نادر بين صورتين رائعتين من صور التعبير البشري.
والوسيلة التي تنقل إلينا أحوال المؤلف الموسيقي النفسية وأفكاره وتعرفنا بها هي مقدرة القائم بالأداء وفهم قائد الأوركسترا؛ فهؤلاء هم الرسل أو الوسائط بين ذلك العدد القليل من البشر المبدعين وبين أولئك الذين يخشعون منا لتلك النفوس الخلاقة التي تثري حياتنا بجمال النغم؛ فالخالق والمتذوق معتمدان معا على القائم بالأداء. والعازف أو المغني البارع يؤدي أعمال موسيقي ما بأمانة أعظم مما يؤديها فنان من الصف الثاني؛ فهو في الحالة الأولى يعيد خلق المدونة الموسيقية بروح مؤلفها وأسلوبه، وتتيح له حساسيته وقدرته على الفهم أن يميط اللثام عن أحوال المؤلف، وينقلها إلينا، وأن يستخلص من المدونة الموسيقية ما وضعه المؤلف فيها. وعليه أن يركز إحساسه في الموسيقى، ويفهم كيف ينقل التفاصيل والفروق الدقيقة بين المشاعر، قبل أن يقوم بأدائها بطريقة فعالة. وفي وسعه أن يبعث الحياة في الرموز الموسيقية، ويجعل ما هو ماض وميت يحيا مرة أخرى من خلال الإيقاع والنغم.
أما إذا كان القائم بالأداء أقل براعة، فلن يستطيع أن يؤكد ويوضح سمات أسلوب المؤلف، أو أن يكون حساسا بما تتطلبه المدونة من شروط دقيقة. ولن يميز بين طريقة مؤلف كبير أو آخر في الغناء أو العزف أو القيادة، بحيث يبدو كل ما يعزفه متشابها على نحو رتيب، وتغيب عنه الفروق الدقيقة بين أساليب مختلف المؤلفين الموسيقيين، لعجزه عن الاندماج في حياة الفنان الذي يحاول أداء أعماله والاندماج في موسيقاه. وقد يعين التدريب شخصا كهذا على مراعاة الأوجه الآلية للأداء، ولكنه في النهاية لن يستطيع أن يقدم إلى سامعيه إلا ما تمكن هو ذاته من استخلاصه من الموسيقى، وما أضفته عليها حساسيته وفهمه، فإن كانت ملكتاه الأخيرتان غير ناميتين، فسوف يظل صانعا أو حرفيا، ولكن لن يرقى إلى مرتبة الفنان الموسيقي.
وتتألف الرموز الموسيقية التي يعيد القائم بالأداء خلقها لنا في صورة موسيقى نغمية من قيم شكلية. هذه القيم تنطوي على أنماط إيقاعية وتراكيب هارمونية هي تجسيد لمشاعر المؤلف الموسيقي وأفكاره. ومهمة القائم بالأداء هي أن يحكي لنا تلك الأحوال الموسيقية بإخلاص. وعندئذ تكون لهذه الموسيقى قيمة في نظرنا إذا كانت تثير شعورا ذا طبيعة جمالية يفي بحاجاتنا النفسية والاجتماعية، ويعمل على إعلاء حياتنا الدارجة، فيتيح لنا عندئذ تحررا مؤقتا من مشاغلنا المباشرة، ويجتذبنا إلى عالم خيالي نحلق فيه ثم نعود إلى المجرى الرئيسي لحياتنا وسلوكنا، وقد انتعشنا وتجددت قوانا. وليس معنى ذلك أن من الواجب أن نقتصر في استخدامنا للموسيقى على اتخاذها مخدرا يغرقنا في الأوهام؛ فالقيمة الجمالية للموسيقى إنما تكون في مقدرتها على أن تجعلنا ندخل مع الموسيقي الذي يصور لنا العالم كما يراه ويسمعه في تجربة أو سلسلة من التجارب المشتركة. وبفضل الفن الموسيقي يمكن أن تصبح حياتنا أكثر ثراء، ووجودنا أكثر امتلاء.
अज्ञात पृष्ठ