Objective
مما يدلنا دلالة واضحة على أن الفرق بين «العرف» وبين أشياء الطبع، أو بالأحرى «الطبيعة»، كان من الأشياء المدركة إدراكا كافيا في ذلك العصر، وأن العرف هو ما نمثل له بالعادات والتقاليد والشرائع، وبالأحرى الأشياء التي تواضع عليها الناس اتفاقا، وهي أشياء تختلف باختلاف الجماعات، وتتغير بتغير البيئات، كانت قد اتخذت عنوانا على التغير والحدوث، مقيسة على ما في الطبيعة من ثبات وقدم، لهذا اتخذ العرف مثالا للتغير وعدم الثبات، وعنوانا على الخضوع للاختيار وحكم الحوادث، كيفما وقعت وعلى أية صورة كانت.
من هنا أخذ ديمقريطس يقيس العرف على إدراك الحواس، فرأى أن هنالك كثيرا من الحقائق دلته على أن إدراك الحواس إنما يرجع إلى خواص كائنة في تكوين الأفراد وإلى التغيرات المختلفة التي تلحق حالات الفرد الواحد وفي النهاية على الصور المختلفة التي تتشكل فيها «ذرات المادة»، فالمصاب باليرقان يحس العسل مرا، وأن درجة البرودة أو الحرارة - أفي الماء كانت أم في الهواء - يتوقف مقدار الإحساس بها على حالات الجسم، ومقدار ما فيه من برودة أو حرارة في وقت ما، إلى غير ذلك من الأمثال التي أفاض في تعدادها إفاضة فيلسوف ملم بحقائق الأشياء.
ولو أن فلاسفة الأقدمين كانوا قد أوتوا من قوة التعبير ما أوتي المحدثون، وطاوعتهم اللغة على أن يضعوا مصطلحات محدودة المعاني يستعان بها على تعيين المراد تماما؛ إذن لاستطاع ديمقريطس في عصره أن يكون أدق تعبيرا عما أراد، ذلك بأن تطور معاني المفردات اللغوية يكسب الفلسفة، كما يكسب العلم، صفات جديدة أهمها صفة تحديد المعنى الذي يحمله كل لفظ من الألفاظ الاصطلاحية.
فإننا قد نعرف الآن الفرق الظاهر بين الصفات المطلقة والصفات النسبية، وبين الحقائق الذاتية والحقائق الموضوعية، أما في عصر ديمقريطس، فلم تكن هنالك ألفاظ يكفي مجرد ذكرها استيراد كل هذه المعاني في ذهن الباحث، ولو أن شيئا من ذلك كان قد عرف في عصر ديمقريطس؛ إذن لاستطاع أن ينزل إلى أعماق من الفكر، مثل تلك الأعماق التي ننزل إليها الآن، بأن عرفنا من تحديد المصطلحات مثلا أن هناك عنصرا ذاتيا
Subjective
يتغلغل في صميم الحقائق الموضوعية، وإننا لا نشك الآن مثلا في أن تلك الصور غير المتناهية من الآثار الذاتية، ليست عبارة عن خيالات تشوبها الفوضى، وإنما هي خاضعة لسلسلة منظومة من قوانين السببية.
ولو أننا كنا نتكلم هنا في ديمقريطس بالذات؛ إذن لاستطردنا إلى الكلام في العلاقة الفكرية التي تربط بين فلسفة ديمقريطس من هذه الناحية، وبين فلسفة خليفتيه توماس هبز وجون لوك المحدثين، ولكنا قد سردنا حتى الآن من مبادئ ديمقريطس في الذرات وإدراك الحس، ما يكفينا لمتابعة الكلام في نظرية المعرفة عند القورينيين.
لما أراد الأستاذ جومبرتز الألماني - وهو من ثقات المؤلفين في تاريخ الفكر اليوناني - أن يلم بشيء من تاريخ التطور الذي لحق نظرية المعرفة عند القورينيين، لم يتبع طريق التسلسل التاريخي في ظهور الفكرات والمذاهب متعاقبة بحسب ترتيبها الزماني، وإنما عمد إلى طريقة تبويبها من حيث المكانة والشأن والأثر في تطور الفكر، فجاء تعقيبه رجعيا؛ إذ بدأ بالفيلسوف «سقسطوس
Sextus »
अज्ञात पृष्ठ