فهمست : أبي.
فقال ببساطة: أبي ميت.
لم أدر ماذا أقول له. وأغلقت البوابة مرسلة صريرا مؤثرا. أجهش البعض بالبكاء، دق الجرس، جاءت سيدة يتبعها نفر من الرجال، أخذ الرجال يرتبوننا صفوفا، انتظمنا شكلا دقيقا في فناء واسع محاط بين ثلاث جهات بأبنية مرتفعة مكونة من طوابق، وبكل طابق شرفة طويلة مسقوفة بالخشب تطل علينا. وقالت المرأة: هذا بيتكم الجديد، هنا أيضا آباء وأمهات، هنا كل شيء يسر أو يفيد من اللعب إلى العلم إلى الدين، جففوا الدموع واستقبلوا الحياة بالأفراح.
استسلمنا للواقع، وسلمنا الاستسلام إلى نوع من الرضا .. وانجذبت أنفس إلى أنفس. ومنذ الدقائق الأولى صادق قلبي من الأولاد من صادق، وعشق من البنات من عشق، حتى خيل إلي أن هواجسي لم تقم على أساس. لم أتصور قط أن المدرسة تموج بهذا الثراء كله. ولعبنا شتى الألعاب من أرجوحة وحصان وكرة. وفي غرفة الموسيقى ترنمنا بأول الأناشيد. وتم أول تعارف بيننا وبين اللغة. وشاهدنا الكرة الأرضية وهي تدور عارضة القارات والبلدان. وطرقنا باب العلم بادئين بالأرقام. وتليت علينا قصة خالق الأكوان بدنياه وآخرته، ومثال من كلامه. وتناولنا طعاما لذيذا، وغفونا قليلا، وصحونا لنواصل الصداقة والحب واللعب والتعلم. وأسفر الطريق عن وجهه كله، فلم نجده صافيا كامل الصفاء والعذوبة كما توهمنا. ربما تدهمه رياح صغيرة وحوادث غير متوقعة فهو يقتضي أن نكون على تمام اليقظة والاستعداد مع التحلي بالصبر. المسألة ليست لهوا ولعبا. ثمة منافسة قد تورث ألما وكراهية، أو تحدث ملاحاة وعراكا. والسيدة كما تبتسم أحيانا تقطب كثيرا وتزجر. ويعترضنا أكثر من تهديد بالأذى والتأديب. بالإضافة إلى ذلك فإن زمان التراجع قد مضى وانقضى، ولا عودة إلى جنة المأوى أبدا. وليس أمامنا إلا الاجتهاد والكفاح والصبر، وليقتنص من يقتنص ما يتاح له وسط الغيوم من فرص الفوز والسرور. ودق الجرس معلنا انقضاء النهار وانتهاء العمل. وتدفقت الجموع نحو البوابة التي فتحت من جديد. ودعت الأصدقاء والأحبة وعبرت عتبة البوابة. نظرت نظرة باحثة شاملة، فلم أجد أثرا لأبي كما وعد. انتحيت جانبا أنتظر. طال الانتظار بلا جدوى فقررت العودة إلى بيتي بمفردي .. وبعد خطوات مر بي كهل أدركت من أول نظرة أنني أعرفه. هو أيضا أقبل نحوي باسما، فصافحني قائلا: زمن طويل مضى منذ تقابلنا آخر مرة، كيف حالك؟
فوافقته بانحناءة من رأسي وسألته بدوري: وكيف حالك أنت؟ - كما ترى، الحال من بعضه، سبحان مالك الملك!
وصافحني مرة أخرى وذهب. تقدمت خطوات ثم توقفت ذاهلا. رباه .. أين شارع بين الجناين؟ أين اختفى؟ .. ماذا حصل له؟ متى هجمت عليه جميع هذه المركبات؟ ومتى تلاطمت فوق أديمه هذه الجموع من البشر؟ وكيف غطت جوانبه هذه التلال من القمامة؟ وأين الحقول على الجانبين؟ قامت مكانها مدن من العمائر العالية، واكتظت طرقاتها بالأطفال والصبيان، وارتج جوها بالأصوات المزعجة. وفي أماكن متفرقة وقف الحواة يعرضون ألعابهم، ويبرزون من سلالهم الحيات والثعابين. وهذه فرقة موسيقية تمضي معلنة عن افتتاح سيرك يتقدمها المهرجون وحاملو الأثقال. وطابور من سيارات جنود الأمن المركزي يمر في جلال وعلى مهل، وعربة مطافئ تصرخ بسرينتها لا تدري كيف تشق طريقها لإطفاء حريق مندلع، ومعركة تدور بين سائق تاكسي وزبون، على حين راحت زوجة الزبون تستغيث ولا مغيث. رباه، ذهلت، دار رأسي، كدت أجن، كيف أمكن أن يحدث هذا كله في نصف يوم، ما بين الصباح الباكر والمغيب؟ سأجد الجواب في بيتي عند والدي. ولكن أين بيتي؟ لا أرى إلا عمائر وجموعا. وحثثت خطاي حتى تقاطع شارعي بين الجناين وأبو خودة. كان علي أن أعبر أبو خودة؛ لأصل إلى موقع بيتي، غير أن تيار السيارات لا يريد أن ينقطع. وظلت سارينا المطافئ تصرخ بأقصى قوتها، وهي تتحرك كالسلحفاة فقلت: لتهنأ النار بما تلتهم. وتساءلت بضيق شديد: متى يمكنني العبور؟ وطال وقوفي حتى اقترب مني صبي كواء، يقوم دكانه على الناصية، فمد إلي ذراعه قائلا بشهامة: يا حاج .. دعني أوصلك.
يرغب في النوم
غادر التاكسي عند مدخل شارع حسن عيد. الضحى ارتفع والشمس تريق أشعة حامية من سماء باهتة، ودفقات متابعة من الخماسين، تزيد من الحرارة وتثير الغبار، وتنفث الضيق والكدر. تغير كل شيء بقوة تفوق الخيال. الطريق من محطة مصر حتى هنا يكشف قاهرة أخرى. أين ذهبت القاهرة التي عاش فيها منذ نيف وخمسين عاما؟ جنت بالزحام والسيارات والصراخ والدمامة. ليس وجهه وحده الذي عبث به الزمن. وهو متوسط القامة نحيلها، معروق الوجه، أصلع، شائب العذار والشارب. مطوق العينين والفم بالغضون، يتوكأ على عصا، ويتمتع بنشاط يحسد عليه بالقياس إلى سنه. ها هو قد رجع بعد عمر طويل فما الأمل؟ لم يرجعه عقل أو منطق، ولكن نداء خفي ملح متعب مبدد للراحة، قال له: اذهب وانظر وافعل شيئا ما، لعله يجعل نومك أعمق. وشارع حسن عيد يتراءى في تكوين جديد. حتى اسمه امحى من الوجود وحل محله اسم جديد هو الشهيد مصطفى إبراهيم، وعلى الجانبين قامت العمائر العالية، وتراصت في أسفلها الدكاكين، وماج الطريق بالزبائن. إنه سوق ولا أثر للبيوت القديمة والهدوء الشامل والذكريات المتلاشية كحلم. نداء عقيم، ساقه بلا وعي. وسيتمخض عن لا شيء. واتجه نحو العمارة الأخيرة في الجانب الأيمن، هنا قام يوما البيت القديم. كأن الشارع لم يكنس منذ جيل، والخماسين تشتد وتحمى منذرة بالمزيد من الإرهاق. وحن إلى متجره في الريف، والأولاد والبيت الذي اضطر إلى الابتعاد عنه بعد إقامة نصف قرن. بواب العمارة مشغول ببيع الفاكهة في مدخل العمارة معروضة على رف طويل تحت صناديق البريد ما بين برتقال وموز وليمون. وقعت عيناه على عينيه، فانتبه الرجل متوقعا زبونا جديدا فحياه بسرعة وقال: هل تعرف عم محمد الشماع أو أي أحد من أسرته؟
فتر إقبال الرجل، وقال: لا أعرف أحدا بهذا الاسم. - كان يقيم في البيت القديم الذي شيدت هذه العمارة محله؟ - هذه العمارة قائمة منذ أربعين عاما! - لعل أحدا بهذا الاسم في عمارة أخرى؟ - لا أظن، وعليك أن تتأكد بنفسك بسؤال البوابين.
دورة من العناء والضجر واليأس ولا أحد يعرف الشماع أو أسرته. كانوا أسرة كاملة مكونة من أب وأم وأخ وأخت. من رحل يا ترى ومن بقي؟! ونصف قرن - بل أكثر - ليس بالزمن القليل، عمر طويل دالت فيه دول وقامت دول. وهل تنسى أيام التعاسة الأولى، أيام القحط والأزمة؟ وإن يكن جيل مضى ألم يخلف جيلا جديدا؟ ألا توجد همزة وصل تصل ما بينه وبين ذلك الزمن الغابر؟ هل يرجع كما جاء؛ ليجد الذكريات فوق فراشه ترصده بنظراتها الباردة القاسية؟ ورجع إلى الشارع العمومي، فشعر بالعرق ينساب على جسده خطوطا لاذعة تحت جلبابه المخطط، واشتدت الخماسين واكفهرت وأثارت مزيدا من التراب فحجب الأفق عن الرؤية. لا مفر من الانتظار حتى المساء؛ ليعود مع قطار الصعيد. وقت طويل والتسكع لا يحلو في مثل هذا اليوم. ترى أين أصحاب الشباب ومن بقي منهم على قيد الحياة؟ لعل عند أحدهم نبأ عما يبحث عنه، ولكن أين هم؟ وهل ما زالوا يتذكرونه؟ لا. لا .. بحث عقيم عن أناس اقتلعوا تماما من وجدانه، وكأنهم ماتوا وشبعوا موتا. حتى أغاني ذلك الزمان لم تعد تطرب أحدا وتثير السخرية. وخطر له خاطر لا يدري من أين جاء، أن يزور المدفن القديم، ومن توه مضى إلى باب النصر. وجد القرافة عامرة بالسكان كما قرأ في الصحف، أصبحت في موسم دائم. ولكن حوشهم نجا لصغره؛ إذ كان يحوي قبرا واحدا، وخاليا من المرافق والمياه، ولا يكاد يتسع لواقفين أو ثلاثة. وسأل عن التربي الذي نسي اسمه تماما فجاء عجوز يسعى، في سن أبيه لو كان على قيد الحياة، ولعله ظن أنه استدعي لرزق جديد. اطمأن إلى شيخوخة الرجل، وحدس أن يعرف من خلالها أشياء. وبعد تحيته سأله: حوش الشماع؟ - نعم. - إني أسأل عنه، أو عن أي فرد من أسرته.
अज्ञात पृष्ठ