وفي نقوش أخرى نشاهد فرعون محمولا في محفته الملكية على الطريق الصاعد من الوادي إلى هضبة الصحراء ليشرف على بناء هرمه، فيشاهد هناك مقبرة لم يكمل بناؤها بعد لأحد أشراف رجاله المقربين «دبحن» الذي ربما كان يعتمد على سنوح فرصة رضا ملكي مثل هذه تلفت نظره إلى قبره الذي لم يتم بناءه بعد، ويخصص الملك في الحال خمسين عاملا يقومون بالعمل في مقبرة ذلك الشريف، ثم أمر فيما بعد المهندسين الملكيين والحجارين الذين كانوا يعملون في معبد الملك المجاور للمقبرة أن يحضروا «لدبحن» الذي أسعده الحظ «بابين وهميين» وأحجارا لواجهة مقبرته، وكذلك تمثالا ليقام في قبره.
ويقص علينا أحد مشهوري الزعماء
4
في تاريخ حياته الذي كتبه بنفسه في ختام القرن السابع والعشرين قبل الميلاد، كيف أنه كان كذلك صاحب حظوة فيقول: «وبعد ذلك تضرعت ... إلى جلالة الملك ليأمر بجلب تابوت لي من أحجار طرة البيض [وهي محاجر ملكية بالقرب من القاهرة أخذ منها الكثير من الأحجار لأهرام الجيزة]، فأمر الملك خازن مالية الإله [خازن فرعون] أن يعبر النهر ومعه فصيلة من الجنود البحارة تحت إمرته ليحضروا لي هذا التابوت من طرة، وعاد بالحجر في سفينة كبيرة تابعة للبلاط [أي إحدى النقالات الملكية]، وأحضر مع التابوت غطاءه والباب الوهمي ... [وقطعا أخرى عدة ليست أسماؤها المصرية واضحة المعنى] ومائدة قربان واحدة.»
وفي مثل تلك المناسبات التي كانت كثيرة الحدوث كان ينتظر من الملك أن يقوم بتحنيط الشريف المقرب ودفنه من أمواله الخاصة؛ فمن ذلك أن الفرعون بعث طائفة موظفيه الجنازيين من كهنة ومحنطين لاستقبال الشريف «سبني» عند عودته من السودان حاملا جثمان والده.
5
وبمثل ذلك أرسل الملك أحد قواده لإنقاذ جثمان شريف منكود الطالع كان قد ذبح مع كل جنوده عن بكرة أبيهم بيد البدو عند شاطئ البحر الأحمر أثناء بناء سفينة كان يراد الرحلة بها إلى بلاد «بنت»؛ أي ساحل الصومال، ويحتمل أن «بنت» هذه هي أرض «أوفير» الوارد ذكرها في التوراة. ومن الواضح أن الفرعون قد رغب في إنقاذ جثمان ذلك الشريف لكي يجهزه بعناية إلى الدار الآخرة، وإن كان منقذه لم يذكر لنا شيئا عن ذلك في نقوشه القصيرة. ويرجع السبب في اهتمام الملك بذلك كل هذا الاهتمام إلى ما كان بينه وبين أي موظف مقرب من المودة الشخصية، وقد ظهر ذلك واضحا في حادث «وشبتاح» أحد كبار وزراء الأسرة الخامسة حوالي سنة 2700ق.م؛ إذ حدث أن الملك وأسرته وحاشيته كانوا ذات يوم يتفقدون مباني عمارة جديدة لا يزال العمل جاريا فيها تحت إشراف «وشبتاح» الذي كان رئيسا للوزراء ورئيسا لمهندسي العمارة أيضا، فيعجب جميع الحاضرين من المبنى، وعندئذ يلتفت الملك إلى رئيس وزارته الأمين مثنيا عليه، ولكنه يلاحظ أن «وشبتاح» لا يعي كلمات العطف الملكي، فيصيح الملك حتى يزعج صياحه رجال حاشيته، ثم ينقل ذلك الوزير الذي أصيب بالفالج سريعا إلى البلاط، ويطلب الملك على عجل الكهنة وكبار الأطباء لإسعافه، ويحضر الملك صندوقا به قراطيس طبية، غير أن كل ذلك لم يجد شيئا؛ لأن الأطباء أعلنوا أن حالة الوزير موئسة. وعند ذلك ينزل بالملك الحزن ويعتزل في حجرته مصليا «لرع»، ثم يقوم بكل الترتيبات اللازمة لدفن «وشبتاح»، ويأمر له بصنع تابوت من الأبنوس، ويأمر بتضميخ الجثة بالعطور في حضرته شخصيا، ثم أذن ابن ذلك الشريف المتوفى في بناء القبر الذي منحه الملك المتوفى وحبس عليه الأوقاف.
كذلك تمتع بشبه هذا العطف الملكي شريف آخر كان قد أراد أن يدفن ابنه البار معه في نفس المقبرة، فيقول الابن: «لقد التمست من جلالة سيدي الملك «بيبي الثاني» عاش إلى الأبد أن يمن علينا بتابوت وملابس وعطور من عطور الأعياد لأجل «زاو» [والده المتوفى].» فأمر جلالته مدير الأوقاف الملكية بإحضار تابوت من الخشب وعطور من عطور الأعياد، وزيت وملابس بما يقدر بنحو 200 قطعة من نسيج الكتان الجيد، ومن كتان الجنوب الجميل ... على أن تؤخذ كلها من البيت الأبيض [الخزانة الملكية] التابع للبلاط لأجل «زاو» هذا.
وبعد أن يحتفل بدفن المتوفى بتلك الأبهة الملكية، ويجهز بمثل ذلك الأثاث الفاخر، تبقى مسألة: من يعوله بعد ذلك؟ لقد كان الشعور في جميع العصور - ولو نظريا - أن المتوفى ما كان ليجسر على وضع كل تلك المسئولية في يد الأحياء من أسرته؛ إذ كانت الأسرة تئول في النهاية إلى فرع منها تفتر عنايته بالأمر حتما، ثم تأخذ في الزوال حتى تختفي جملة واحدة، ومن أجل ذلك كان الشريف يقوم بعمل وصايا مدونة بعناية، وهبات يوقف دخلها كله لتموين قبره وتقديم القرابين من البخور والدهان والطعام والشراب والملابس بمقادير وفيرة وفي فترات متعددة. ومن الجائز أن يكون هذا الدخل مصدره أملاك الشريف نفسه، وقد يكون من المربوط على وظائفه السابقة ومرتباته الإضافية التي تقتضيها مرتبته في الدولة. وعلى كل حال كان يخصص من كل ذلك الدخل جزء ثابت لصيانة قبر المتوفى وإقامة شعائره اليومية.
وقد شاهدنا في عدة أحوال أن الوثيقة القانونية الضامنة لتلك الأوقاف، قد نقشت على جدار مزار القبر نفسه، ومن ثم حفظت لنا حتى الآن؛ فقد خلف لنا «حبزافي» [حاكم المقاطعة وأميرها] في أسيوط عشر وثائق مدونة بإتقان على الجدار الداخلي لمزار قبره، وكان الغرض منها تخليد بيان الخدمات التي كان يرغب في استمرار إقامتها في قبره أو من أجله بوجه عام.
अज्ञात पृष्ठ