لا يعجبنك إكرام من يكرمك لمنزلة أو سلطان، فإن السلطة أوشك أمور الدنيا زوالا، ولا يعجبنك إكرامهم إياك للنسب، فإن الأنساب أقل مناقب الخير غناء عن أهلها في الدين والدنيا، ولكن إذا أكرمت على دين أو مروءة فذلك فليعجبك، فإن المروءة لا تزايلك في الدنيا، والدين لا يزايلك في الآخرة.
اعلم أن الجبن مقتلة، وأن الحرص محرمة، فانظر فيما رأيت أو سمعت: أمن قتل في القتال مقبلا أكثر من قتل مدبرا؟ وانظر أمن يطلب إليك بالإجمال والتكرم أحق أن تسخوا إليه نفسك بطلبته، أمن يطلب إليك بالشره. اعلم أنه ليس كل من كان لك فيه هوى فذكره ذاكر بسوء، وذكرته أنت بخير، ينفعه ذلك أو يضره، فلا يستخفنك ذكر أحد من صديق أو عدو إلا في موطن دفع أو محاماة، فإن صديقك إذا وثق بت في مواطن المحاماة لم يحفل ما تركت مما سوى ذلك، ولم يكن له عليك سبيل لائمة، وإن الأحزم في أمر عدوك ألا تذكره إلا حيث يضره، وألا تعد يسير الضر ضرا. اعلم أن الرجل قد يكون حليما فيحمله الحرص على أن يقال: جليد، والمخافة أن يقال: مهين، على أن يتكلف الجهل، وقد يكون الرجل زميتا، فيحمله الحرص على أن يقال: لسن، والمخافة من أن يقال: عي، على أن يقول في غير موضعه، فيكون هذرا، فاعرف هذا وأشباهه، واحترس منه كله. إذا بدهك أمران، لا تدري أيهما أصوب، فانظر أيهما أقرب إلى هواك فخالفه، فإن أكثر الصواب في خلاف الهوى. ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس والاستغناء عنهم، فيكون إفقارك إليهم في لين كلمتك وحسن بشرك، ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزك. لا تجالس امرأ بغير طريقته، فإنك إن أردت لقاء الجاهل بالعلم والجافي بالفقه والعيي بالبيان، لم تزد على أن تضيع عقلك، وتؤذي جليسك بحملك عليه ثقل ما لا يعرف، وغمك إياه بمثل ما يغتم به الرجل الفصيح من مخاطبة الأعجمي الذي لا يفقه، واعلم أنه ليس من علم تذكره عند غير أهله إلا عادوه ونصبوا له وأنقضوه عليك، وحرصوا على أن يجعلوه جهلا، حتى إن كثيرا من اللهو واللعب الذي هو أخف الأشياء على الناس ليحضره من لا يحضره، فيثقل عليه ويغتم به. ليعلم صاحبك أنك حدب على صاحبه، وإياك إن عاشرك امرؤ ورافقك ألا يرى منك بأحد من أصحابه وأخدانه رأفة؛ فإن ذلك يأخذ من القوب مأخذا، وإن لطفك بصاحب صاحبك أحسن عنده موقعا من لطفك به بنفسه. اتق الفرح عند المحزون، واعلم أنه يحقد على المنطلق ويشكر للمكتئب.
اعلم أنك ستسمع من جلسائك الرأي والحديث تنكره وتستجفيه من محدث عن نفسه أو عن غيره، فلا يكونن منك التكذيب ولا التسخيف لشيء مما يأتي به جليسك، ولا يجرئنك على ذلك أن تقول: إنما حدث عن غيره، فإن كل مردود عليه سيمتعض من الرد، وإن كان في القوم من يكره أن يستقر في قلبه ذلك القول لخطأ تخاف أن يعقد عليه، أو مضرة تخشاها على أحد، فإنك قادر على أن تنقض ذلك في سر، فيكون أيسر للنقض وأبعد للبغضة. واعلم أن البغضة خوف، والمودة أمن، فاستكثر من المودة صامتا، فإن الصمت يدعوها إليك، وناطقا بالحسنى، فإن المنطق الحسن يزيد في ود الصديق ويسهل سخيمة الوغر.
واعلم أن خفض الصوت وسكون الريح ومشي القصد من دواعي المودة، إذا لم يخالط ذلك بأو ولا عجب، أما العجب فهو من دواعي المقت والشنآن. تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام، ومن حسن الاستماع إمهال المتكلم حتى يقضي حديثه، وقلة التلفت إلى الجواب، والإقبال بالوجه، والنظر إلى المتكلم، والوعي لما يقول. واعلم أن المستشار ليس بكفيل، والرأي ليس بمضمون، بل الرأي كله غرر؛ لأن أمور الدنيا ليس شيء منها بثقة، ولأنه ليس شيء من أمرها يدركه الحازم إلا وقد يدركه العاجز، بل ربما أعيى الحزمة ما أمكن العجزة، فإذا أشار عليك صاحبك برأي فلم تجد عاقبته على ما كنت تأمل فلا تجعل ذلك عليه لوما وعذلا، تقول: أنت فعلت هذا بي، وأنت أمرتني، ولولا أنت ولا جرم لأطيعك، فإن هذا كله ضجر ولؤم وخفة. وإن كنت أنت المشير فعمل برأيك أو ترك، فبدا صوابك، فلا تمنن ولا تكثرن ذكره إن كان في نجاح، ولا تلم عليه إن كان استبان في تركه ضرر، تقول: ألم أقل لك؟ ألم أفعل؟ فإن هذا مجانب لأدب الحكماء. اعلم فيما تكلم به صاحبك أن مما يهجن صواب ما تأتي به، ويذهب بهجته، ويزري بقبوله؛ عجلتك في ذلك، قبل أن يقضي إليك بذات نفسه، ومن الأخلاق السيئة على كل حال مغالبة الرجل على كلامه، والاعتراض فيه والقطع فيه، ومن الأخلاق التي أنت جدير بتركها إذا حدث الرجل حديثا تعرفه، ألا تسابقه إليه، وتفتحه عليه، وتشاركه فيه، حتى كأنك تظهر للناس بأنك تريد أن يعلموا أنك تعلم من مثل الذي يعلم، وما عليك أن تهنئه بذلك، وتفرده به، وهذا الباب من أبواب البخل، وأبوابه الغامضة كثيرة. وإذا كنت في قوم ليسوا بلغاء ولا فصحاء، فدع التطاول عليهم في البلاغة أو الفصاحة.
اعلم أن بعض شدة الحذر عون عليك فيما تحذر، وأن شدة الاتقاء يدعو إليك ما تتقي. إن رأيت نفسك تصاغرت الدنيا، أو دعتك إلى الزهادة فيها على حال تعذر منها عليك، فلا يغرنك ذلك من نفسك على تلك الحال، فإنها ليست بزهادة، ولكنها ضجر واستخذاء وتغير نفس، عندما أعجز من الدنيا وغضب منك عليها مما التوى عليك منها، ولو تممت على رفضها وأمسكت عن طلبها أوشكت أن ترى من نفسك من الضجر والجزع أشد من ضجرك الأول بأضعاف، ولكن إذا دعتك نفسك إلى رفض الدنيا وهي مقبلة عليك، فأسرع إجابتها. اعرف عورتك وإياك أن تعرض بأحد فيما شاركها، وإذا ذكرت من أحد خليقته فلا تناضل عنه مناضلة المدافع عن نفسه فتتهم بمثلها، ولا تلح كل الإلحاح، وليكن ما كان منك من غير اختلاط، فإن الاختلاط من محققات الريب، وإذا كنت في جماعة قوم أبدا فلا تعمن جيلا من الناس وأمة بشتم ولا ذم، فإنك لا تدري لعلك تتناول بعض أعراض جلسائك ولا تعلم. ولا تذمن مع ذلك أسماء الرجال والنساء، بأن تقول إن هذا لقبيح من الأسماء؛ فإنك لا تدري لعل ذلك موافق لبعض جلسائك بعض أسماء الأهلين والحرم، ولا تستصغرن من هذا شيئا، فكله يجرح في القلب، وجرح اللسان أشد من جرح اليد. اعلم أن الناس يخدعون أنفسهم بالتعريض والتوقيع بالرجال في التماس مثالبهم ومساويهم ونقيصتهم، وكل ذلك عين عند سامعيه من وضح الصبح فلا تكونن من ذلك في غرور، ولا تملن نفسك من أهله.
إني مخبر لا عن صاحب كان أعظم الناس في عيني، وكان رأس ما أعظمه عندي صغر الدنيا في عينه، كان خارجا من سلطان بطنه، فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد، وكان خارجا من سلطان فرجه، فلا يدعو إليه مؤنة، ولا يستخف له رأيا ولا بدنا، وكان خارجا من سلطان الجهالة، فلا يقدم إلا على ثقة أو منفعة، وكان أكثر دهره صامتا، فإذا قال، بذ القائلين، كان يرى متضاعفا مستضعفا، فإذا جاء الجد فهو الليث عاديا، وكان لا يدخل في دعوى ولا يشرك في مراء ولا يدلي بحجة حتى يجد قاضيا عدلا وشهودا عدولا، وكان لا يلوم أحدا على ما يكون العذر في مثله حتى يعلم ما اعتذاره، وكان لا يشكو وجعا إلا من يرجو عنده البرء، ولا يصحب إلا من يرجو عنده النصيحة لهما جميعا، وكان لا يتبرم ولا يتسخط ولا يتشهى ولا يتشكى، ولا ينتقم من الولي، ولا يغفل عن العدو، ولا يخص نفسه دون إخوانه بشيء من اهتمامه بحيلته وقوته، فعليك بهذه الأخلاق إن طقت، ولن تطيق، ولكن أخذ القليل خير من ترك الجميع. وبالله التوفيق.
عن نسخة وجدت في مكتبة عاشر أفندي المرحوم شيخ الإسلام السابق بدار السعادة العلية.
تم الكتاب «الدرة اليتيمة» بعون الله سبحانه وقوته، والحمد لله رب العالمين، وصلواته على نبيه محمد، وآله وأصحابه أجمعين.
وإتماما للفائدة قد زينا هذه الدرة بكتاب «الوطنية»؛ لأن حب الوطن من الإيمان، والله سبحانه وتعالى هو المستعان.
अज्ञात पृष्ठ