ونحن اليوم إذا أردنا أن نصدق أولئك أو هؤلاء، ونحكم له أو عليه، فليس لنا سوى الرجوع إلى ما كتب أو ما كتب عنه؛ لنتبين الحقيقة من أقواله وأعماله، ويقول بعض مؤرخيه: إنه صنف نحوا من ثلاثمائة كتاب لم يصل إلى أيدينا منها سوى رسائل ثلاث، الواحدة في الأجرام السماوية، والثانية في الطبيعة، والثالثة في سيرة الحياة، مع وصيته الأخيرة ومقتطفات من خطرات أفكاره. ومن الذين كتبوا عنه: سنيك، وبلوتارك، ولكن أهم مؤرخيه: الشاعر لوكرس الذي أفاض في شرح فلسفته، فجاء كتابه من أجمل آثار الأدب اللاتيني، وسيبقى المرجع الوحيد لدراستها. •••
أراد أبيقور الوصول بالإنسان إلى السعادة على الأرض، فلم ير بدا من إزالة الأوهام العالقة به، وخط أدبا جديدا له في الحياة، فجاءت فلسفته مادية بحتة، رأى الشقاء المخيم على البشر وحياتهم الملأى بالأنين والشكوى فعزا ذلك إلى سببين، السبب الأول: الخوف من الآلهة؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن هذه الآلهة تراقبهم من سمائها، وتعد عليهم حركاتهم وخطواتهم، وتحاسبهم على نياتهم وهفواتهم، فشغلوا بها عن العمل لما فيه خيرهم، وتركوا كل شيء إلا التفكير الدائم بالكهان، وما يتنبئون به، وما يأمرون به، وقد يكون الضرر البليغ فيما يأمرون، كما جرى لأغاممنون؛ إذ صدقهم فضحى بابنته أفيجيني.
والسبب الثاني: الخوف من الموت؛ فهو الكأس الدائرة على الورى، وكل واحد يشعر بالموت يدنو منه يوما بعد يوم حتى صار شبحه ملازما للناس يتبعهم في رواحهم وغدوهم وقيامهم وقعودهم، فوجدوا أنفسهم على شفير الهاوية، واستحكم منهم الدوار، وما دام هذان الخوفان مسيطرين على النفوس فالتعاسة لا مناص منها. وهذا ما أراد أبيقور محاربته بتنوير الأذهان بدروس الطبيعة، فأظهر أولا أنه لا داعي للخوف من الآلهة؛ لأنها مشغولة عنا، لا يهمها معاقبة المجرمين أو مكافأة المحسنين، وليست في حاجة لأن نستجلب رضاها أو نثير غضبها، وأن الظواهر الجوية التي تهلع لها قلوبنا، كالصواعق والزلازل والكسوف والخسوف والإنذارات التي تدعي الكهنة أنها تتلقاها فتئولها كما تشاء، لا علاقة لها بالغيب، ويمكن تعليلها بأسباب طبيعية.
وقدم مثلا بسيطا على ذلك؛ وهو أن الصاعقة التي يزعمون أن جوبتر جبار الأولمب يرسلها قصاصا للمجرمين قلما تصيب أحدا من هؤلاء، بل هي لا تقع إلا في القفر، أو على الهياكل والتماثيل ومعابد الآلهة نفسها، أفليس هذا دليلا ناصعا على عدم اهتمام الآلهة بنا؟ وهنا يخوض أبيقور للتعليل عن وجود الكائنات في بحث فلسفي، لا مكان له في هذه الأسطر، راجعا في كل شيء إلى رأي ديمقريطس في الجواهر الفردة، مفسرا تكون العوالم بتصادم هذه الجواهر، تاركا بين هذه العوالم خلاء جعله مقرا للآلهة. ويشرح وجود الإنسان على الأرض بالتولد الذاتي، ثم يبين ارتقاءه من ظلمة الكهوف والعزلة والجهل إلى ذروته الحاضرة ليقول: إن هذه المدنية صنع يديه، فلا شأن للآلهة بها.
نعم، على الإنسان أن يؤمن بالآلهة ويحترمها، ويقتدي بها في حياتها الهادئة السلمية، ولكن من العبث والتضليل أن يصلي ويضحي لها، ويغريها بالهدايا، ويشغل أفكاره بها أبدا كأنها قاعدة له كل مرصد. أما الموت فلا داعي للخوف منه؛ لأن الجسم ينحل به روحا وبدنا، فتذهب التذكارات والهموم والتأسفات، ولا يبقى شيء يهدد به. ولا صحة لما يزعمون من أن الروح موجودة قبل الجسد وباقية بعده؛ فإذا كانت موجودة قبل الجسد فمتى دخلته؟ أقبل الولادة أم قبل التكون في البطن؟ تصوروا إذن هذه الأرواح المزدحمة في الغيب تنتظر كلها ساعة الحب لتهجم على أجسادها وتدخلها، وإذا كانت باقية بعده فأين تذهب؟ إلى إنسان، وما رأينا أحدا يحفظ في حياته تذكار حياة سابقة، أم إلى حيوان، ولا يعقل أن يكون في الخروف روح أسد!
وإذا عرفنا أن الروح فانية مع الجسد بدا لنا الموت كأنه راحة لا عناء، ونسيان لا تذكار؛ فلا سبيل إلى الخوف منه أو القلق بسببه. وهكذا يزيل العلم بالطبيعة الخوف المسيطر على البشر من الآلهة ومن الموت، ومتى تم ذلك وتخلص الإنسان من ربقة هذا الاعتقاد فقد تم نضجه وصار أهلا للحكمة.
ما هي هذه الحكمة؟ هي اجتناب الألم والبحث عن السعادة. تلك هي في نظر أبيقور غاية الإنسان على الأرض، وهو يعتقد أن أكبر عامل في السعادة هو اللذة، لا يعني بذلك الاستسلام بلا حساب إلى الملذات كما يقول الشاعر:
لا تقف في وجه لذاتك مكتوف اليدين
أنت لا تأتي إلى دنياك هذي مرتين
بل اللذة المعتدلة بالحياة المطابقة لمطالب الطبيعة كما يعيش سائر الحيوان والنبات، ويمكن حصرها في قواعد أربع:
अज्ञात पृष्ठ