يمكننا أن نستنتج من دراستنا للشعوبية النتائج الآتية: (1)
أن دعاة الشعوبية بدءوا دعوتهم مستندين على تعاليم الإسلام نفسه؛ فهو لا يفضل شعبا على شعب، والعقوبة أو المثوبة عنده إنما وضعت على الأعمال لا على الأجناس، وقد يكون العبد الرقيق والنبطي الذليل عند الله في أعلى عليين، وسيده المكاثر بأهله وولده وماله أسفل سافلين، ثم تدرجوا من ذلك إلى تحقير العرب وشئونهم، وبيان ميزة الأمم الأخرى عليهم، وساعدهم على ذلك ما كان للفرس من نفوذ ظاهر في الدولة العباسية. (2)
أن الشعوبية لم تكن عقيدة محدودة التعاليم، لها شعائر ظاهرة معينة كما نقول في المذاهب الدينية، فإنا نستطيع أن نقول : إن هذا شافعي، وهذا حنفي، فيمكننا أن نحدد وجوه الخلاف، ونبين الفروق في الشعائر، كما نستطيع أن نقول إن هذا من أهل السنة والجماعة، وهذا معتزلي؛ فندرك ذلك، ولكنا لا نستطيع أن نفعل ذلك في الشعوبية؛ لأنها نزعة أكثر منها عقيدة، فهي أشبه بالأرستقراطية، والديمقراطية، بل هي في الحقيقة نوع من الديمقراطية يحارب أرستقراطية العرب؛ لذلك لا نستطيع أن نحصر معتنقيها؛ فهم في كل بلد، وفي كل قطر، ومن كل جنس، كما لا نستطيع اليوم أن نحصي من ينزعون إلى الديموقراطية، أو الاشتراكية. (3)
مما ساعد على هذه النزعة الشعوبية أنها تساند النزعة الوطنية، والعصبية الدينية؛ فالعرب أزالوا استقلال فارس، وحكموا مصر والشام والمغرب وأهلها ليسوا عربا، فاستتبع ذلك أن كثيرا من الفرس كانوا يحنون إلى ملكهم واستقلالهم، وكثير من نصارى الشام ومصر كانوا يكرهون العرب المسلمين الذين أجلوا الروم النصارى عن بلادهم، ويتمنون أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، وإن كان لا بد أن يحكموا فمن أهل دينهم.
نعم، إن من دخل في الإسلام من الفرس وأهل مصر والشام والأندلس كانوا أقل حدة في هذه النزعة الوطنية، ولكن لم يكن كلهم قد دخل الإسلام إلى أعماق نفوسهم، وتملك مشاعرهم إلى حد أن تغلب النزعة الدينية النزعة الوطنية. (4)
يمكن أن نستنتج مما تقدم: أن الشعوبيين كانوا أصنافا مختلفة؛ منهم فرس، ومنهم نبط، ومنهم قبط، ومنهم أندلسيون. وقد صبغت شعوبية كل صنف من هؤلاء صبغة خاصة؛ فالفرس صبغت صبغة وطنية تدعو إلى الاستقلال، واتخذت في بعض الأحيان شكل زندقة وإلحاد، والنبط ظهرت في شكل عصبية للأرض وزراعتها، وتفضيل معيشة الحرث والزرع على الصحراء ومعيشتها، والقبط ثاروا ثورات مختلفة على العرب، وأرادوا طردهم من بلادهم، وكانت آخر ثورة كبيرة في عهد المأمون، فلما هزموا لجئوا إلى الكيد «بأعمال الحيلة، واستعمال المكر، وتمكنوا من النكاية بوضع أيديهم في كتاب الخراج.»
9
وفي الأندلس ظهر ابن غرسية، ووضع رسالته في الشعوبية، ورد عليه كثير من العلماء. (5)
هذه الشعوبية كانت درجات مختلفة تبتدئ معتدلة هادئة، وتنتهي متطرفة عنيفة، فنرى قوما معتدلين مالوا إلى تسوية العرب بغيرهم كما رأيت، وآخرين حقروا من شأنهم، وسلبوهم كل مزية، كما نرى قوما فرقوا بين العرب والإسلام، فهاجموا العرب من حيث هم أمة، ولم يعرضوا للإسلام بمكروه، بل صرحوا بأن الإسلام دين الناس جميعا لا العرب وحدهم، وكثير ممن حكينا قولهم في ذم العرب كانوا من هذا الصنف، بل يصح لنا أن نعد ابن خلدون شعوبيا بهذا المعنى؛ فقد حكينا ملخص رأيه في العرب في الجزء الأول من «فجر الإسلام»،
10
अज्ञात पृष्ठ