أودى، فمن يشناك كان وزيرا
وكان تاريخ الوزراء سلسلة نكبات، ولسنا نستبعد أن كثيرا منها كان سببه ما يشعر به الخلفاء - تحت تأثير الدسائس - من نفوذ الفرس، وقوة سلطانهم، واستبدادهم بالأمور دونهم. يقول ابن خلدون: «وإنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة، واحتجابهم أموال الجباية، حتى كان الرشيد يطلب اليسير من اليسير من المال فلا يصل إليه، فغلبوه على أمره، وشاركوه في سلطانه، ولم يكن معهم تصرف في أمور ملكه، فعظمت آثارهم، وبعد صيتهم، وعمروا مراتب الدولة وخططها بالرؤساء من ولدهم وصنائعهم، واحتازوها عمن سواهم من وزارة وكتابة، وقيادة وحجابة، وسيف وقلم.» ويقول: «إن البرامكة مدحوا بما لم يمدح به خليفتهم! وأسنوا لعفاتهم الجوائز والصلات، واستولوا على القرى والضياع ... حتى آسفوا البطانة، وأحقدوا الخاصة، فكشفت بهم وجوه المنافسة والحسد، ودبت إلى مهادهم الوثير من الدولة عقارب السعاية، حتى لقد كان بنو قحطبة (أخوال جعفر) من أعظم الساعين عليهم!»
77
ويتناقش نعيم بن حازم العربي مع الفضل بن سهل الفارسي بين يدي المأمون، فيحسن الفضل نقل الخلافة إلى العلويين، فيقول نعيم للفضل: إنك إنما تريد أن تزيل الملك عن بني العباس إلى ولد علي، ثم تحتال عليهم ثم تصير الملك كسرويا.
78
وكثير ممن تولى المناصب الكبيرة من الفرس كان ينكل بمن استطاع من العرب؛ كالذي كان بين الأفشين وأبي دلف العجلي، فقد كان الأفشين فارسيا من «أشروسنه» بآسيا الصغرى، وكان قائد جيوش المعتصم، وكان يكره العرب من أعماق نفسه، وكان يقول: «إذا ظفرت بالعرب شدخت رءوس عظمائهم بالدبوس.»
79
وسيأتي له ذكر عند الكلام في الزندقة. وأبو دلف العجلي عربي من نزار، وكان يعيش عيشة عربية، كريما شجاعا ممدحا، وبابه مفتوح للشعراء والأدباء والسؤال، وماله مقسم عليهم، وكان أحد قواد المعتصم أيضا «وكان سيد أهله، ورئيس عشيرته من عجل وغيرها من ربيعة. وكان شاعرا مجيدا شجاعا بطلا مغنيا.
80
فيحدثنا التنوخي في كتابه «الفرج بعد الشدة»: أن الأفشين هم بقتل أبي دلف وصفده بالحديد، وأجلسه على نطع بين يديه يقرعه ويخاطبه بأشد غضب، ويهم بقتله! فيعلم أحمد بن أبي داود (وهو عربي وقاضي المأمون والمعتصم) فيسرع إلى الأفشين ويدخل عليه من غير استئذان خيفة أن يعجل عليه، ويقول له: إن أبا دلف فارس العرب وشريفها؛ فاستبقه وأنعم عليه، فإن لم تره لهذا أهلا فهبه للعرب كلها، وأنت تعلم أن ملوك العجم لم تزل تفضل على ملوك العرب! ومن ذلك ما كان من كسرى إلى النعمان حتى ملكه، وأنت اليوم بقية العجم فأنعم على شريف من العرب بالعفو عنه! فيأبى ذلك الأفشين ثم يشعر ابن أبي داود بمكانته عند المعتصم حتى ليستطيع أن يتكلم على لسانه، فيقول للأفشين: إني رسول أمير المؤمنين إليك، وهو يقول: لا تحدث في القاسم بن عيسى حدثا فإنك إن قتلته قتلت به! وذهب إلى المعتصم فأخبره الخبر فأقره عليه، وبذلك نجا أبو دلف سيد العرب من سيد العجم!
अज्ञात पृष्ठ