إن شئت؛ فانظر في كتاب الأغاني، تجد أن أكثر من نبغ من المغنيات في الحجاز، ثم في العراق؛ في العصر الأول العباسي من «مولدات المدينة»، أو من تلاميذهن. ومولدات المدينة؛ نساء نتجن من آباء عرب، وأمهات من غير العرب، أو شئت فانظر إلى كثير من العلماء، والأدباء، وتحر أجناس آبائهم وأمهاتهم، تجدهم من المولدين. وقد رأيت شهرة مولدي خراسان، ومولدي الأعجام عامة؛ بالشجاعة. وقديما ظهر باليمن عنصر ممتاز سماهم العرب «الأبناء»، «وهم الذين أرسلهم كسرى مع سيف بن ذي يزن لما جاء يستنجده على الحبشة؛ فنصروه، وملكوا اليمن، وتدبروها وتزوجوا في العرب، فقيل لأولادهم الأبناء، وغلب عليهم هذا الاسم ؛ لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم.
30 » ومن مشهوري العلماء من الأبناء: طاووس ابن كيسان، ووهب بن منبه التابعيان، غير أن هؤلاء الأبناء كانوا من أب فارسي وأم عربية يمنية. والمولدون في عصرنا العباسي كان أكثرهم من أب عربي وأم أعجمية. •••
وكما كان هناك «توليد» بين الأجسام، كان هناك توليد عقلي، فعقول الناس من الأمم المختلفة كان يتناوبها اللقاح، فالفارسي يحمل عقلا فارسيا، ثم يعتنق الإسلام، ويتعلم اللغة العربية، فينشأ مزيج من العقلين، تتولد منه أفكار جديدة، ومعان جديدة. واليوناني النصراني أو الرومي النصراني، أو العراقي اليهودي يخالط العربي المسلم، ويتبادلان الرأي والقصص والفكرة، فينشأ من ذلك فكر جديد، وهكذا، ومن ثم كان «الأدب العربي» بمعناه الواسع الذي يشمل كل ثقافة ليس في الحقيقة أدبا عربيا؛ وإنما هو «مزيج» طبع بالطابع العربي الإسلامي؛ فسمي أدبا عربيا. ولنذكر مثلا يوضح هذا: ذلك أننا نرى العرب في جاهليتها، أدبها أدب عربي بالمعنى الصحيح، وهو إن اقتبس شيئا مما حوله؛ فقد كان اقتباسه قليلا خفيفا. أما الروح الغالبة القوية فهي الروح العربية، فهو يمثل الحياة العربية أحسن تمثيل، ويصور حياتهم الاجتماعية أتم تصوير، فيه خيالهم، وفيه طريقة صيدهم، وفيه وصف حروبهم، ولهوهم، وجدهم، وبداوتهم. فإذا نحن طفرنا إلى العصر العباسي وجدنا الناس، وخاصة الفرس الذين دخلوا في الإسلام، وكانت لهم غلبة على مرافق الدولة لم يعودوا يتذوقون بذوقهم الفارسي الشعر العربي الجاهلي، وإنما يتذوقون ما ألفوا من التغني في شعرهم بالحب، والخمر. فظهر العباس بن الأحنف الخراساني البيئة، وأبو نواس الفارسي الأم؛ يشبعان ذوقهما. الأول: في عشقه، والثاني: في خمرياته. قد كان للعربي الجاهلي شعر في الحب، وشعر في الخمر. ولكن شتان بين خمريات طرفة؛ وخمريات أبي نواس، وشتان بين شوق امرئ القيس، وشوق العباس. ويعجبني في ذلك قول الجاحظ: كم بين قول امرئ القيس: «تقول وقد مال الغبيط بنا معا»، وبين قول علي بن الجهم:
سقى الله ليلا ضمنا بعد هجعة
وأدنى فؤادا من فؤاد معذب
فبتنا جميعا لو تراق زجاجة
من الراح فيما بيننا لم تسرب!
31
لم تكن الحضارة وحدها هي التي أنتجت هذا الفرق. ولكن كان من أكبر العوامل فيه: تزاوج الأجناس، وتزاوج الأفكار، كالذي كان في الشعر. فقد أخذ الفرس الوزن العربي، والقافية العربية، والأسلوب العربي، ولكن أخذوا بجانب ذلك الخيال الفارسي، والذوق الفارسي. انظر إلى القصيدة التي يقولها الخريمي: يذكر بغداد ويصف ما انتابها من الفتن أيام الخلاف بين الأمين والمأمون، والتي مطلعها: قالوا ولم يلعب الزمان ببغداد وتعبر به عوابرها!؟
32
अज्ञात पृष्ठ