تقرأ كتاب الأغاني فتخرج منه في كثير من الأحيان على صورة للرشيد يخيل إليك معها أنه عاكف على اللهو والطرب، لا عمل له إلا أن يسمع الغناء، ويخالط الندماء، ويثيب الشعراء، وله العذر في ذلك؛ لأنه لم يؤلف كتابه تاريخا يصف فيه أعمال الخلفاء المختلفة ، ويقومهم بما أتوا من حسنات وسيئات، إنما ألف كتابه في الغناء، فمن الطبيعي أن يقصر قوله على هذا الضرب وما إليه، كما تقصر كتب طبقات النحاة واللغويين كلامها على العلماء من الناحية النحوية واللغوية، وإذا كان هناك خطأ فمن ناحية من يفهم أن الغناء وحده يمثل حياة الرجل المختلفة النزعات.
وتقرأ ابن خلدون فيقصر تصويره على الناحية الجدية والدينية، ويذهب إلى أن الرشيد لم يكن يعاقر الخمر لأنه كان يصحب العلماء والأولياء، ويحافظ على الصلوات والعبادات، ويصلي الصبح في وقته، ويغزو عاما ويحج عاما، ويستدل أيضا بأنه كان من العلم والسذاجة بمكان، لقرب عهده من سلفه، ولم يكن بينه وبين جده أبي جعفر بعيد زمن «إنما كان الرشيد يشرب نبيذ التمر على مذهب أهل العراق، وفتاويهم فيها معروفة، وأما الخمر الصرف فلا سبيل إلى اتهامه بها، ولا تقليد الأخبار الواهية فيها، فلم يكن الرجل بحيث يواقع محرما من أكبر الكبائر عند أهل الملة، ولقد كان أولئك القوم كلهم بمنجاة من ارتكاب السرف والترف في ملابسهم وزينتهم، وسائر متناولاتهم؛ لما كانوا عليه من خشونة البداوة، وسذاجة الدين التي لم يفارقوها.»
25
ونحن مع اتفاقنا في الرأي مع ابن خلدون في أن الرشيد لم يشرب الخمر، إنما المعروف عنه أنه شرب النبيذ، فلسنا نتفق معه على ما يستخلص من قوله من أنه كان بمنجاة من السرف والترف، وأنه كان يعيش عيشة ساذجة، وأنه لم يواقع محرما، فهذا أيضا إفراط في التقديس لا تدل عليه سيرة الرشيد، خصوصا وأن أدلته في هذا النوع أدلة خطابية؛ فقرب عهده من المنصور لا يستوجب أن يعيش عيشته، وقد صرح هو مرارا بأن الترف والنعيم في عصر الرشيد كان أكثر منه في عصر المنصور، ولو كان قرب العهد يكفي في الاستدلال لما رأينا الأمين (وهو قريب العهد من الرشيد) يسير سيرته.
والعجب أنه عقد فصولا طويلة يتعرض فيها لوصف الحضارة والنعيم والترف في أيام الرشيد والمأمون، وتفننهم في المطعم والمشرب والملبس، وهو هو الذي وافق «المسعودي» و«الطبري »، على ما حكياه في إعراس المأمون ببوران بنت الحسن، وأن المأمون أعطاها في مهرها ليلة زفافها ألف حصاة من الياقوت، وأوقد شموع العنبر في كل واحدة مائة من
26
وبسط لها فرشا كان الحصير منها منسوجا بالذهب، مكللا بالدر والياقوت ... إلخ.
27
هل هذا ليس سرفا في الترف؟ وهل قرب عهد المأمون من الرشيد كقرب عهد الرشيد من المنصور جعلت الناس يعيشون عيشة السذاجة كما يقول؟
الحق إن ابن خلدون مخطئ في وصفه عصر الرشيد بالسذاجة، وأنه وقومه كانوا بمنجاة من السرف والترف، والحق أيضا أن ابن خلدون صور جانبا صحيحا من جوانب الرشيد في صلاته وتقواه، ولكن لم يكن هذا كل جوانبه، فله جانب هو الذي وصفه الأغاني، وإن عذرنا الأغاني لما بينا فلسنا نعذر ابن خلدون، وهو مؤرخ عليه أن يذكر نواحي الرجل المختلفة!
अज्ञात पृष्ठ