إن الأمور لها ورد وإصدار
قال: أنا أحق ببيتيه منه، وأنا الذي وصف لا هو. وكانت ما تزال به بقية من بداوة، وميل إلى البساطة؛ بلغه أن عبد الله بن مصعب بن الزبير قد اصطبح مع جارية تغنيه بشعر له فيه غزل، وفيه استهتار، فقال المنصور: لكن الذي يعجبني أن يحدو بي الحادي الليلة بشعر طريف العنبري؛ فهو آلف وأحرى أن يختاره أهل العقل. فدعا حاديا يحدو له، وألقى عليه شعرا في الفخر بمكارم الأخلاق، فحداه به فقال المنصور: هذا والله أحث على المروءة، وأشبه بأهل الأدب. ثم عاد الربيع، وقال: أعطه درهما. فقال: يا أمير المؤمنين حدوت بهشام بن عبد الملك فأمر لي بعشرين ألف درهم، وتأمر لي أنت بدرهم! فقال: إنا لله، ذكرت ما لم نحب أن تذكره؛ وصفت رجلا ظالما أخذ مال الله من غير حله، وأنفقه في غير حقه، يا ربيع اشدد يديك به حتى يرد المال. فما زال الحادي يبكي ويتشفع حتى كف عنه.
9
وهو كذلك لا يحب الشراب، ولا يشرب على مائدته شراب، ولما قدم بختيشوع الطبيب عليه أمر المنصور بطعام يتغذى به، فلما وضعت المائدة بين يديه طلب شرابا؛ فقيل له: لا يشرب على مائدة أمير المؤمنين. فقال: لا آكل طعاما ليس معه شراب. فأخبر المنصور بذلك فقال: دعوه.
10
ثم هو لا يسرف في عطاء لحاد ولا لشاعر ولا لمادح، ويؤنب أولاده إذا أسرفوا في العطاء، ولا يتعالى في ثوب يلبسه، ولا مائدة تمد إليه، إنما هو مقتصد في كل ضروب الحياة، مقتصد حتى فيما أحل الله، وربما غلا في الا قتصاد غلو من بعده في الإسراف. لقد زعموا: أن أمه المغربية لما حملت به رأت أنها وضعت أسدا سجدت له الأسد، والحق أنه لولا أن له همة أسد يعاف الصغائر، ولا يشغله لهو عن تدبير، ما استطاع أن يؤسس هذه المملكة، ويخلفها لمن أتى بعده مضبوطة محكمة، لا تحتاج منه إلا أن يحفظ ما ورث.
أسلم المنصور البلاد، وهي وحدة لم يشذ عنها إلا الأندلس، وهي هادئة مطمئنة لا تؤذن بفتن ذات بال، والخزائن مملوءة بالمال، والعرب من سكان المملكة آخذون في الانكماش، قد ضعف سلطانهم ونفوذهم، والموالي يطاردونهم ليحصروهم في جزيرة العرب، بدوا كما كانوا في الجاهلية، ويحلون محل العادات العربية عادات فارسية، ومحل البساطة في العيش العربي التعقد في العيش الحضري. وعلى الجملة فقد طرأ دور آخر يجد فيه الخليفة والناس على أثره وقتا للفراغ والجدة، ومصدرا خصبا للترف والنعيم.
أخذ الناس يشعرون بعد موت المنصور بشيء من الراحة، وقد أجهدوا أنفسهم في عهده بما يتطلبه تأسيس دولة من مشقة، وتذليل صعوبات جمة، وملوا الإفراط في الجد والاقتصاد اللذين اتصف بهما المنصور، وتطلعوا لحياة فيها سعة في المال، وطرف من النعيم؛ فوجدوا ذلك في الخليفة «المهدي». وفي الحق إن السنوات العشر التي حكمها كانت جسرا بين حياة الجد والجفاف، والعمل في عصر المنصور، وحياة الترف والنعيم في عصر الرشيد ومن بعده.
كان المهدي سخيا كريما؛ فتنفس الناس من شح المنصور. لقد خلف المنصور أربعة عشر مليون دينار، وستمائة مليون درهم،
11
अज्ञात पृष्ठ