وإن تبدلت بنا غيرنا
فحسبنا الله ونعم الوكيل
كان طه حسين من أكرم الناس الذين عرفتهم، طالما شهدته يعطي الفقراء، وكان كثيرون من مكفوفي البصر يقصدون إليه، ولا أنسى أول مرة زاره أحدهم في وجودي ومد كل منهما يده للآخر، ولكن اليدين لم يعرفا طريقهما في الظلام الدامس الذي يعانيه صاحب كل منهما، وبسرعة تقدم فريد شحاتة وهدى اليدين إلى الطريق وتصافحا. وتأثرت أنا وطفرت الدموع إلى عيني، وحمدت الله أن الرجلين لم يريا دموعي التي حاولت أن أخفيها عن فريد أيضا.
ذهبت يوما لزيارة الدكتور أنا والصديق أمين يوسف غراب، وسأل الباشا أمين: «ماذا تكتب الآن يا أمين؟»
وكان أمين في الطريق روى لي موضوع قصة يكتبها، وقلت له إن الفكرة تتعارض مع الشريعة، فسارعت أنا بإجابة الدكتور طه: «يكتب قصة تتعارض مع الشريعة.»
ورويت المسألة الشرعية فقال: «أظنك على حق، يا فريد هات المصحف.»
وأحضر فريد المصحف، وقال الدكتور: «افتح على سورة النساء، اقرأ الآية التي أولها كذا . أقرأ بعدها بآيتين.» فإذا هي الآية التي تحمل القاعدة الشرعية موضع النقاش. وتلك ذاكرة لا تتأتى إلا لطه حسين. وقد كان رحمه الله لا يسمع في الإذاعة إلا المصحف المرتل، ولكن المشايخ القراء إذا سألتهم فإنهم يقرءون السورة كلها ليصلوا إلى الشاهد الذي تريد.
أجريت عملية جراحية للدكتور طه تدهورت صحته بعدها، فأصبح يمشي بصعوبة بالغة، ولكن الرجل الذي صارع إظلام البصر فصرعه استطاع أن يصارع قيود المسير فيصرعها. فهو حريص دائما أن يرأس جلسات مجمع اللغة العربية الذي كان يسميه الأكاديمي أو الأكاديمية، كما كان يحرص على إعطاء المحاضرات. وظل كذلك إلى قبيل وفاته بسنتين. وفي هذه السنة تدهورت صحته بصورة مفاجئة، ولكنه كان يصر أن يرافق السيدة زوجته إلى فرنسا كل عام.
وطلبته يوما في التليفون، وكان فريد قد تركه. ورد على سكرتيره قائلا: «الباشا سيسافر الآن إلى الإسكندرية، ويريد أن يراك فورا.» وبعد دقائق كنت عنده، وصعدت إليه في حجرته، وكان مستلقيا في فراشه، وجلست إلى جانبه، وحاول أن يخرج يده ليصافحني، فلاحظت أنه يبذل جهدا كبيرا ليحركها، فأدخلت يدي تحت الغطاء، وأبقيت يده حيث هي، حتى لا أجهده، وانتظرت أن يقول لي شيئا يبرر قول السكرتير لي أنه يريدني، ولكنه لم يقل إلا: «أنا متعب جدا يا ثروت، أنا متعب جدا.»
وعجبت أنه مع هذا التعب سيسافر من فوره إلى الإسكندرية في طريقه إلى فرنسا.
अज्ञात पृष्ठ