استطراد
أنا والتعليم
المدرسة
أبي وأمي
أنا والكتابة
الكتب
شخصيات
استطراد
أنا والتعليم
المدرسة
अज्ञात पृष्ठ
أبي وأمي
أنا والكتابة
الكتب
شخصيات
ذكريات لا مذكرات
ذكريات لا مذكرات
تأليف
ثروت أباظة
استطراد
لست أدري أية خاطرة قذفها القدر على ذهني فجعلتني أفكر في كتابة هذا الكلام الذي أكتبه الآن، والذي لا أستطيع أن أعرف له عنوانا يصفه، فمن المؤكد أنه ليس مذكرات؛ فإنني عن معرفة بنفسي وليس عن تواضع لا أرى أنني من هؤلاء الذين يجدر بهم أن يكتبوا مذكرات. وهو أيضا ليس حكايات مؤلفة، ولا هو رواية مما ألف الناس أن يقرءوا لي.
अज्ञात पृष्ठ
هو أقرب ما يكون إلى ذكريات كما اخترت العنوان، وأرجو ألا أكون قد اعتسفته اعتسافا، فإن جنحت هذه الذكريات إلى القصة، فهي قصص من صنع السماء ليس لي عليها إلا عمل الناقل لا الخالق. وإن جنحت إلى رسم شخصيات مما تعودت أن أكتب أحيانا، فهي الشخصيات أتحرى في رسمها الصدق لا الفن، فهي إذن صور فوتوغرافية، وليست صورا قلمية أضفي عليها من خيالي ما أشاء لأجعلها تبدو كما أريدها أن تبدو.
فالشخصية المرسومة قد تكون عدة أفراد جمعتها أنا في فرد واحد، ولكن هذا الذي ستشاهده في هذه الصفحات هي شخصيات عرفتها، وستدرك حقيقتها حين تجد اسمها الحقيقي الذي يعرفه من عرفها يعلن عن أنها بنت الحياة، وليست من بنات الخيال، ولا هي من شخوص لروايات.
أحسب أنني اليوم وأنا أقارب الخطو إلى ستينيات عمري لا يفصلني إلا سنوات قلائل نظرت إلى أيامي الماضية فوجدتني قد مررت بأقوام كثيرين، وبعهود شتى ربما لا تكون فيها غرابة، ولكن خيل لي أن فيها طرافة. فقد نشأت في بيت أبي المغفور له إبراهيم دسوقي أباظة باشا، وهو رجل من رجال السياسة في عصره، ورجال السياسة في مصر يختلطون بكل الناس من شتى النحل والمهن، وأكثر صلتهم بناخبيهم الذين ينتخبونهم ليكونوا نوابهم في المجالس النيابية. وقد كان أبي عضوا في مجلس النواب منذ تكون إلى أن انتهت الحياة النيابية في مصر عام 52، فليس غريبا إذن أن أكون أنا على معرفة تامة بالحياة منذ وعيت الحياة. وهل الحياة إلا الناس وقد ولدت في زحامهم، وعشت بين أمواجهم، وشببت عن الطوق وأنا أتنفس الهواء الذي يتنفسون، وربما عرفت من أفواههم خفايا حياتهم التي يضنون بها على خاصتهم الأقربين؛ فقد طالما قصدوا إلي لأكون شفيعهم إلى أبي، والحديث إلى الابن الصغير أكثر يسرا من الحديث إلى الأب الذي يحيط به جلال شخصيته ووظيفته نائبا أو وكيلا لمجلس النواب أو وزيرا.
وقد عرفت الحياة وأبي واحد من هؤلاء الثلاثة؛ فقد ولدت عام سبعة وعشرين وتسعمائة وألف، وكان هو عضوا بمجلس النواب، وسمعت فيما بعد أنه كان مديرا لمكتب رئيس الوزراء محمد باشا محمود عام 28، ثم مديرا لمكتب عدلي يكن عام 29، ثم عاد بعد ذلك إلى مجلس النواب نائبا، ثم صار وكيلا للمجلس مرتين؛ مرة في عام 30، وأخرى عام 38.
وما دمت قد عرضت لما سمعته عن أبي فقد يحلو لي أن أروي ما سمعته عن نفسي، وإن كان قد خطر لي أن أروي مواقف أبي في ثورة 19، إلا أنني عدلت عن ذلك لأسباب تواثبت تباعا إلى ذهني؛ الأول: أنني لو دلفت من هذا الباب لاحتاج الأمر إلى كتاب بأكمله، والثاني: أن هذه المواقف مكتوبة في كل الكتب التي تناولت ثورة 19، والثالث: هو أنني أستطيع أن أروي بقلمي قصة صغيرة سمعتها، ولا تحتاج روايتها إلى مشاهدة وحضور. أما إذا رويت عن أبي في ثورة 19 فلا بد لي أن أكون معايشا لهذه الفترة معايشة تسمح لي أن أكتب عنها، وهذا ما لم يحدث، وما كان يمكن أن يحدث، وقد تزوج أبي من والدتي في عام 24.
ومما روي لي أن الكاتب الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد كان من أشد أنصار سعد باشا زغلول، وكان العقاد صاحب قلم عنيف شديد الوطأة على من يخاصمهم في الرأي. وحدث أن كتب عدة مقالات يهاجم فيها محمد محمود باشا، وكان الهجوم فيه سباب كثيف، حتى لقد وصف محمد محمود بالشقي محمد محمود، ثم كتب مقالا آخر بعنوان الشقي رقم كذا، وكأنما محمد محمود أصبح من نزلاء السجون الذين يعرفون بأرقامهم. وضاق محمد محمود بهذا الهجوم، وفي نوبة من نوبات الضيق الشديد منه أقبل عليه أبي، فقال له محمد باشا: «أيرضيك ما يكتبه العقاد؟»
وقال أبي: «لا، لا يرضيني، وأنا قادر على الرد بما يسكته، ولكن بشرط واحد.»
وقال محمد باشا: «ما هو؟»
قال أبي: «تنزل مقالاتي إلى مطبعة السياسة مباشرة، ولا يقرؤها الدكتور هيكل رئيس التحرير؛ فهو لا يرضى مني العنف في المقالات، وسيحاول أن يخفف من قسوتها.»
فقال محمد باشا: «لك هذا.»
अज्ञात पृष्ठ
وكتب أبي مقاله الأول، وكان أبي يوقع مقالاته عادة بتوقيع الغزالي أباظة، ولكنه في هذه المرة اختار أن تكون مقالاته ضد العقاد بعنوان «ثروت»، وكان عمري في ذلك الحين سنة واحدة؛ فقد كانت هذه المساجلة في عام 1928م، وظهرت المقالة الأولى، ثم الثانية، فإذا بالعقاد يتوقف عن مهاجمة محمد محمود، ويلجأ إلى المحكمة رافعا الدعوى على الدكتور هيكل رئيس تحرير السياسة التي نشرت المقالتين، وعلى «ثروت» صاحب التوقيع، وضحك الدكتور هيكل من فكرة تقديمي إلى المحكمة، وقال لأبي مازحا: «عليك أن تحمل ثروت على كتفك، وتأتي به إلى المحكمة.»
وكتب أبي بعد رفع الدعوى مقالة ثالثة ينهي بها هجومه على العقاد، وأذكر أنني ذهبت إلى لقاء أستاذنا العملاق عباس العقاد، وأنا في مطالع الشباب حوالي عام 45، وقدمني إليه تلميذه العوضي الوكيل، فما إن سمع اسمي، وعرف من أنا حتى ضحك ضحكته العريضة النقية، وقال وهو يرحب بي: «بيني وبينك ثأر قديم يا عم ثروت.»
ثم قامت بيني وبينه بعد ذلك تلك العلاقة التي نعم بها كل تلامذته، وإن كان صغر سني لم يتح لي أكثر من الذهاب إليه في ندوة الجمعة، ولكنه في كل مرة كان يلقاني فيها كان يرحب بي ترحيبا شديدا، وقد صار بعد ذلك من أحب الناس إلى أبي، كما أصبح أبي من أحب الناس إليه، حتى لقد نظم في مدح أبي عدة قصائد يقول في إحداها:
نكرمه نكرمه
وما نرويه نعلمه
ولم ننشئ له فضلا
ولكنا نترجمه
فتى ترضى سجاياه
ويصدق قلبه فمه
وللفنان في ناديه
अज्ञात पृष्ठ
مغناه ومغنمه
وحب الخير في دمه
فكيف يخونه دمه
وقال في رثائه قصيدة تعتبر من عيون الشعر العربي كافة يقول فيها:
أقيموا الوزن أو ميلوا
فما إبراهيم مجهول
فتى ميزانه بالقسط
عند الله مكفول
له في كل تاريخ
من المجد أكاليل
अज्ञात पृष्ठ
سلوا الأوطان ينبئكم
بما يعلمه النيل
يحيي ناصر المصر
ي والمصري مخذول
وأول رافع صوتا
وسيف الحرب مسلول
وللمحتل في مصر
على كل فم غول
له في برها جيش
كجيش النمل موصول
अज्ञात पृष्ठ
وفي البحر أساطيل
وفي الجو أبابيل
إذا لم ينعه الأحي
اء والدنيا أباطيل
نعاه في العزيزية
مدفون ومجدول
وجيل في حمى التا
ريخ لا يشبهه جيل •••
سلوا الآداب ينبئكم
به الصداحة القول
अज्ञात पृष्ठ
يردد ذكره في الشع
ر تسبيح وترتيل
ويهتف باسمه في القو
ل مطبوع ومنقول
ويحمد فضله في العر
ب منسوب ومدخول
فلا الماضي بمنسي
ولا الحاضر معزول
وراعي الشعر لا ينسا
ه مرعى منه مطلول
अज्ञात पृष्ठ
سلوا الإحسان والإحسا
ن طبع فيه مجبول
وأقرب شأوه في الجو
د مشروب ومأكول
وكم أعطى ولم يسأل
وبعض السؤل ممطول •••
سلوا الأحساب لا عز
يدانيها ولا طول
وللآساد والأشبا
ل في أعلامها غيل
अज्ञात पृष्ठ
ذووه من بني مصر
هم الغر البهاليل
ومن أحسابه كسب
بمسعاه وتحصيل
برأي زانه في القص
د إجمال وتفصيل
وصبر راض دنياه
وأضنته العراقيل
سلوا سيرته الحفلى
وللسيرة تسجيل
अज्ञात पृष्ठ
سلوا الشلال والمجرى
من القطرين مفصول
لتم القرب لولا قا
عد بالشرق مشلول •••
خصال كلها نبل
وإفضال وتفضيل
وذكرى كلها حمد
وتشريف وتبجيل
فقدناه ونادي الرأ
ي في القطرين مأمول
अज्ञात पृष्ठ
فلا يبعد به المثوى
ومثوى الخير مأهول
له من بره أنس
وشمل ثم مشمول
ومن سيرته الفيحا
ء ترويح وتظليل
له في منزل الرضوا
ن تسليم وتنزيل
وأجر من ثواب الله
عند الله مقبول
अज्ञात पृष्ठ
والعجيب أن أستاذنا العقاد هو أول من نوه بي، وكان ذلك حين جمع الأستاذان أحمد عبد المجيد الغزالي والعوضي الوكيل مقالات أبي وخطبه في كتاب أسمياه وميض الأدب بين غيوم السياسة، وظهر الكتاب في عام 1948م، وكنت في هذا الحين قد بدأت أكتب مقالاتي في مجلتي الرسالة والثقافة، ولكنني طبعا كنت ما أزال صغيرا لا يكاد يعرفني إلا الأدباء المتخصصون. وقد اتجه الشاعران الأستاذان الغزالي والعوضي إلى أستاذهما وأستاذنا العقاد، وطلبا إليه أن يكتب مقدمة للكتاب الذي جمعاه من أعمال أبي الأدبية، وقبل رحمه الله ذلك، ولكن المفاجأة الكبرى بالنسبة لي هي قوله في المقدمة حين تكلم عن صلة الأباظية بالأدب.
وناهيك بما نقرؤه لفكري وعزيز وثروت من رصين الشعر وطريف المنثور.
وقد اعتبرت ذكر اسمي في هذا المكان، وما زلت أعتبره من أعظم الأوسمة التي نلتها حتى اليوم؛ فقد كنت في المطامع الأولى من شبابي، وأن يقرن اسمي بالعملاقين الأباظيين عمي فكري باشا، وعمي وحماي فيما بعد عزيز باشا أمر اعتبرته مفخرة كبرى، ولا زلت أعتبره كذلك.
وما دمنا نتكلم عن عملاق الأدب العربي التاريخي أستاذنا العقاد فينبغي أن أذكر واقعة حدثت بيني وبينه في عام 1954م وكانت تلك السنة سنة حاسمة في تاريخ ثورة يوليو؛ فقد سمحت السلطات في مارس من هذا العالم بحرية الصحافة، وأتاحت لكل صاحب رأي أن يكتب رأيه، وطلبت أن يقول ما يشاء لمن يشاء، وكان أهم سؤال طلبت الثورة الإجابة عليه إن كان الأفضل لمصر أن تكون الجمهورية فيها برلمانية أم رئاسية.
وانبرى العقاد بمقال كتبه في الأخبار يطالب بأن تكون الجمهورية برلمانية، ولكن المقال كان غاية في العنف، رافضا كل ألوان الدكتاتورية أو الحكم العسكري.
وفي نفس اليوم الذي ظهر فيه المقال، كان لي عمل في الإذاعة القديمة في شارع الشريفين، وفوجئت وأنا أدلف من الباب الرئيسي للإذاعة بأستاذنا العقاد يهبط السلم وحوله جماعة من محبيه ومريديه، ومن موظفي الإذاعة الذين حرصوا أن يكونوا في توديع العملاق العظيم.
وقال لي أستاذنا: «لقد قرأت مقالاتك.»
وكنت كتبت في هذه الفترة مقالات بنفس العنف والرفض للديكتاتورية فقلت له : «هذا شرف لها ولي.»
فقال: «هل قرأت مقالي اليوم؟»
فقلت: «طبعا مثلما أقرأ كل حرف يخطه قلمك.» - «أرأيت لقد قلت لهم ...»
अज्ञात पृष्ठ
ومضى يذكر أهم العناصر التي ضغط عليها في مقاله، ومضيت أنا أقول: «نعم، نعم.» حتى إذا سكت قلت له: «سعادتك تسمح لي بكلمة على انفراد؟»
فلف ذراعي بذراعه ومضينا ننتحي جانبا بشارع الشريفين، وقلت له: «سعادتك تعرف أن وراءك جواسيس؟»
وكنت قد عرفت ذلك فعلا، فإذا الرجل العملاق يقول: «نعم أعرف، وتليفوني مراقب أيضا.»
فقلت له: «سعادتك الآن لا تحتمل السجن الذي احتملته في عام 30، كما أن السجن الآن نوع آخر غير الذي عرفته. ونحن أبناؤك، دعنا نحن نسجن، وقل لنا ما تريد كتابته وأمله علينا إذا شئت نوقعه بأسمائنا، ولكن من أجلنا نحن أبناءك إن لم يكن من أجل نفسك لا تعرض نفسك لهؤلاء الوحوش.»
فنظر إلي مليا وصمت لحظات، ثم قال: «أترى ذلك؟»
قلت: «ألا ترى أنت ذلك؟»
قال: «لا بأس.»
ولا أعتقد أنه كان سينفذ الوعد، ولكن على كل حال أنقذه من نفسه انتهاء فترة الحرية، ومنع كل الكتابات الحرة مهما تكن هينة الشأن وإغلاق جريدة المصري، والاستيلاء عليها وعلى أموال أصحابها. •••
ويلي، لكم استطردت. وأين أنا مما أريد أن أرويه من ذكريات؟ لقد كان الحديث عن مولدي، فإذا أنا أقفز إلى عام 54، ولكنني أمسكت يد عملاق الأدب العربي على مدى التاريخ، فكيف لا تغريني يده أن أقفز كل هذه السنوات، وكيف أذكره، ولا أستطرد، وهو في ذاته أسطورة كاملة خالدة على الزمان. •••
لأعد إذن إلى تلك الأيام التي بدأت فيها أعي الحياة حولي، هناك أشياء كأحلام بعضها واضح المعالم في ذاكرتي، وبعضها تحول بيني وبينه سحابات أشبه ما تكون بأستار رقيقة.
अज्ञात पृष्ठ
ويختلط أمرها في ذهني، فما أدري أهي أشياء رأيتها رأي العين، أم أن رواية أبوي لي عنها جعلتني أتمثلها كحقيقة رأيتها رأي عين، بينما هي مسموعات التصقت بنفسي وهيأت لي نفسي هذه أنها مرئيات؟
من هذا ما قيل لي إنني مرضت مرضا خطيرا بالدوسنتاريا ؛ لأن أمي صحبتني معها لتحضر العزاء في عمها إسماعيل باشا أباظة، وكان اليوم شديد القيظ، وكانت الرياح الحارة تلفح مصر بسمومها.
وقد تعرضت في هذا المرض لخطر الموت، وأشرف على علاجي صديقان لصيقان لأبي كلاهما أصبح واسع الشهرة، هما الدكتور إبراهيم شوقي الذي أصبح باشا بعد ذلك، والآخر الدكتور حافظ عفيفي باشا، ويقول أبي إن صاحبة الفضل في شفائي هي عمتي التي تحدت الموت والمرض، فأصرت أن تسهر الليل جميعه تنفذ أوامر الأطباء.
ومما رواه لي أبي أنني في سنتي الثانية كنت أدرك أن ستي والدته لا تحتمل السهر، فكنت أرجو بلسان الطفل الأعجمي أن تقوم لترتاح، فإذا أبت وأصرت أن تبقى تناومت وتوقفت عن التأوه، حتى تقوم ستي إلى منامها، فإذا تأكدت أنها قامت عدت مرة أخرى إلى اليقظة والتأوه.
ومن المؤكد أنني أذكر ستي هذه؛ فقد كان لها جناح خاص في الدور الأول من منزلنا ببلدتنا غزالة التي تبعد عن الزقازيق سبعة كيلومترات. وكان هذا الجناح منفصلا عن البيت متصلا به في وقت معا، فقد كان علينا حتى نذهب إليه أن نخترق حجرة كبيرة كنا نعتبرها حجرة الاستقبال التي تلتقي فيها ستي بالزائرات من سيدات البلدة، أو من الأقارب، ثم علينا بعد ذلك أن نقطع بهوا يقسمه قسمة ظالمة دولاب كان أشبه بالكيلار، وفي هذا الدولاب باب يؤدي إلى البهو الواقع أمام حجرة ستي وعمتي، فقد كانتا متلازمتين حتى في النوم. وكان لحجرة نومهما ثلاث نوافذ تطل إحداها وهي التي تتوسط الجدار الأيسر على ما يسمونه الدوار، حيث تربي الدواجن، وتصنع القشدة بأن يترك اللبن الطازج في المتارد، حتى يتكون له سطح سميك هو القشدة الفلاحي المعروفة، وحيث تصنع أيضا الجبنة القريش من اللبن بعد أن تنزع قشدته.
وكانت ستي وعمتي تشرفان من تلك النافذة على أعمال الدوار جميعا من إطعام الدواجن إلى شتى فروع الأعمال المنزلية.
وبجانب باب حجرتهما توجد نافذة عجيبة الشأن؛ لأنها كانت تطل على البهو. ولم أر في حياتي بعد ذلك نافذة تطل على بهو إلا تلك النافذة، وكانت عمتي وستي كما أتذكرهما دائما جالستين على حاشية تحتها بساط على الأرض، لا تتركان مكانهما هذا، حتى إنني كل ما أذكره عن ستي يكاد ينحصر في جلستها هذه تحت هذا الشباك.
أما الحائط الأيمن فقد كانت تتوسطه نافذة تطل على ما كنت أسميه حديقة ستي، ولم تكن حديقة ستي إلا تكعيبة عنب خشبية تحيط بفناء صغير نخلص إليه بسلم من أربع درجات أو خمس، ونستطيع من هذا الفناء أن نخرج من باب خشبي ضخم سميك إلى خارج البيت إلى ما كنا نسميه بالمدحاية، وتحت تكعيبة العنب التي تحيط بالفناء مصطبة متصلة بالحوائط الأربعة التي تصنع ما كنا نسميه بالحديقة.
وكانت ستي شديدة الحدب علي حتى أذكر أنها كثيرا ما كانت تعطيني ريالا من الفضة حين أنزل إليها في أول النهار لألقي عليها تحية الصباح. وما كنت أدري ماذا أصنع بهذا الريال، إلا أنني كنت أخرج إلى أترابي من أبناء القرية، وكانوا هم أصحاب الرأي في الطريقة التي ننفق بها هذه الأموال الطائلة.
وكان يوسف الذي عمل كلافا للبهائم بعد ذلك ينال مني دائما قرشا صاغا مقابل أن يصنع لي سيارة من الطين، وكان يضع لها زجاجا، ولعل هذا القرش هو المبلغ الوحيد الذي أذكره بين العشرين قرشا جميعا التي لا أذكر فيم كنا ننفقها.
अज्ञात पृष्ठ
في بهو ستي هذا نلت أول صفعة على وجهي في حياتي، ما دريت يوم نلتها السبب الذي انهالت على وجهي من أجله، ولكنني عرفته فيما بعد مرويا لي، وأشهد أنني كنت مظلوما.
لقد حدث أن سقطت ستي على رجلها، وأذكر أن أبي استدعى الدكتور فرنجلوس من الزقازيق، وأذكر أن اليأس والحسرة والحزن كانوا مرتسمين على وجه أبي بصورة غاية في الألم. وأنا أذكر أنني لم أكن أعرف الموت، ولا ما يحمله من معان، وإذا شئت أن أصور اليوم، وما كان يدور أمامي فما هو بالنسبة إلي إلا شخوص تتحرك أنظر إلى تحركها، ولا أعي معاني الأفعال التي يقومون بها.
وماتت جدتي .
ولا أدري لماذا ذهبت أنا إلى البهو التي كانت جالسة فيه، ولم أحفل مطلقا بالسرادق الضخم المقام بالخارج، ولا بكل ما يحدث في هذا السرادق، ولا بالجموع التي تفد إليه أو تخرج منه، إنما وجدت نفسي واقفا في البهو لا أصنع شيئا، وفجأة قدم إلي عمي الشقيق عبد الله فكري أباظة الذي أصبح فيما بعد يحمل رتبة البكوية، والذي عمل لفترة طويلة وكيلا لوزارة التجارة، وكان هذا الرجل شديد العنف في مظهره شديد الطيبة في حقيقته. وربما كان يرتدي العنف قناعا يخفي به عن الناس مدى حبه للناس ومدى رهافة مشاعره ورقة فؤاده.
في هذا اليوم صفعني عمي عبد الله فكري صفعة شديدة غاية الشدة، وبكيت وذهبت إلى أمي، وأنا أبكي، وأبلغتها بهذه الصفعة، والعجيب أنها قالت في ثبات وفي غير اهتمام: «وماله، وما الغرابة أن يصفعك عمك؟»
ولا أذكر هذه الجملة إلا وأدهش لها، إنها حتى لم تهتم أن تسأل عن سبب الصفعة الذي عرفته هي فيما بعد، وعرفته أنا بعد ذلك بسنوات.
لقد سألني عمي: «أين أبوك؟»
فقلت دون أي تفكير: «في الزينة.»
وكنت في هذه السن أنطق الزاي وكأنها الجيم التي ينطقها الأوروبيون إذا نطقوا اسم جون، فصفعني.
أليس لي الحق أن أرى نفسي مظلوما؟
अज्ञात पृष्ठ
لا أذكر أن عمي عبد الله ضربني بعد ذلك قط إلا مرة واحدة، وكان أبي جالسا. كنا على المائدة في منزله، وكنت أضع الملعقة وتجويفها إلى أعلى، فنبهني عمي عبد الله أن أجعل التجويف إلى أسفل، وسهوت وكررت الخطأ، فنبهني ثانية، ثم سهوت وكررت الخطأ، ووضعت يدي بجانب الملعقة، وكان يجلس أمامي، فإذا هو في حركة مفاجئة يقف ويهوي بمنتهى العنف على يدي، ويأمرني أن أصحح وضع الملعقة.
ربما كنت في الثانية عشرة من عمري في ذلك الحين. فأنا أذكر الواقعة تماما، وأذكر أن أبي امتعض مما صنعه عمي، وظهر الامتعاض على وجهه، ولكنه لم يعلق مطلقا مع أن عمي كان يعامل أبي معاملة الابن لأبيه، حتى لقد كتب له إهداء على إحدى صوره إلى أبي وأخي وأستاذي ومثلي الأعلى.
أنا والتعليم
كانت أغلب إقامتنا بالقرية؛ فأنا أكبر إخوتي، ولم أكن قد انتظمت في المدارس بعد، ولم يكن يربطنا بالقاهرة إلا مجلس النواب حين تكون هناك جلسات، وكان أبي لا يتخلف مطلقا عن المجلس، ولكن لا أدري لماذا أذكر أن إقامتنا بالقرية كانت تتطاول ربما كان المجلس معطلا في هذه الفترات.
وأذكر أنني ذهبت قبل أن أبدأ التعليم مع أبي إلى الإسكندرية مرات، وكان أبي يستأجر بيتا مفروشا هناك.
وأذكر أنه كان يصحبني إلى شاطئ سان ستيفانو، وكان عم أحمد بخيت خادمه الخاص يذهب معنا، وكان أبي يجعلني أمسك برجليه ويسبح بي في الماء، وندخل إلى الأعماق، ولهذا أذكر أنني لم أخف حين بدأت تعلم العوم بعد ذلك على يد خالتي، وكان تعليمها ساذجا، وما زال هو زادي من السباحة حتى اليوم، فإذا رأيتني في الماء، ورأيت سباحتي أدركت أنها سباحة من يستطيع أن يبقي أنفه فوق سطح الماء فقط؛ فهي سباحة عاجزة بلا أسلوب ولا إتقان، ولكني سعيد بها غاية السعادة؛ فأنا عن طريقها أستطيع أن أصل من الماء إلى حيث لا تلامس أقدامي الرمال، وأنا ليس لي مأرب في البحر أبعد من هذا.
بدأت تعليمي الدراسي إذن في غزالة، وقد شاء القدر أن يختار أبي من بين جميع المدرسين الإلزاميين مدرسا أعتبره أنا حتى اليوم أعظم مدرس للأطفال يمكن أن تجود به الحياة.
إنه الأستاذ أحمد حسين القرعيش الذي أصبح الحاج أحمد حسين القرعيش، وقد كان لحمله هذا اللقب قصة في غاية الطرافة؛ فقد كانوا ينادونه بأحمد أفندي؛ لأنه كان يلبس الحلة والطربوش وهو في طريقه إلى المدرسة الإلزامية التي كان يدرس بها؛ فقد كان يعمل بمدارس قرى أخرى، وكان يخترق قرى عديدة، فكان لا بد أن يلبس حلته كاملة والطربوش، فلم يكن عجيبا أن ينادوه بأحمد أفندي. وظل هذا لقبه حتى بعد أن نقل إلى مدرسة غزالة؛ فقد ظل أيضا يلبس حلته كاملة في المدارس إطاعة منه لأوامر الوزارة .
ثم حج، وعاد من الأراضي الحجازية، وراح أهل القرية ينادونه بأحمد أفندي على عادتهم، فإذا هو يصيح بهم: يا نهار أسود! أكنت حججت ودفعت مائة جنيه وزيادة لتقولوا أحمد أفندي؟! من لا يقول الحاج أحمد لن أرد عليه.
وكان الحاج أحمد شاعرا رقيقا، وإني أذكر كثيرا من شعره، ولكنني أحب له هذه الأبيات:
अज्ञात पृष्ठ
قالت: أحبك صادق
قلت: الدلائل قاطعات
قالت: وعهدك، قلت: با
ق ما رعت عهدي الحياة
قالت: وحبي؟ قلت: فص
ل مثلته الغانيات
قالت: وعهدي؟ قلت: ذا
ك هو الأماني الكاذبات
ضحكت، وقالت: هكذا
من قبلك العشاق ماتوا
अज्ञात पृष्ठ
وشاء حظي السعيد أن يكون هذا الرجل الشاعر خفيف الظل هو معلمي الأول، عليه تعلمت الخط الأفقي والخط الرأسي وحروف الهجاء الأولى والحساب من جمع وطرح إلى ضرب إلى قسمة، وكان يحمل لي في جيبه أقراص النعناع، فإذا أحسنت الإجابة أعطاني قرصا من النعناع، مع تصفيق شديد، وإظهار للإعجاب، وكأنني أتيت عملا لم يسبق لأحد أن أتى به.
ولم يكن من الممكن أن يستمر الحاج أحمد في إعطائي الدروس؛ إذ سرعان ما انتقلنا إلى القاهرة، وتولى أمري في الدروس الخاصة مدرس آخر من غزالة أيضا، واسمه عليوة أفندي عبد الله، وكانت طريقة عليوة أفندي مختلفة كل الاختلاف عن طريقة الحاج أحمد، ولم يكن الحاج أحمد يحب عليوة أفندي، فأنشأ أبياتا أربعة أو خمسة، وقدمها لأبي يرجوه فيها ألا يتولى عليوة أفندي تدريسي أذكر منها:
أأنشئ روضا في حماك معطرا
ويأتي عدوي يجتني ثمراتي؟
وأعجب أبي بالأبيات، ولكن مع ذلك أبقى عليوة أفندي مدرسا لي.
وقد ظل يدرس لي اللغة العربية والحساب، حتى حصلت على شهادة الابتدائية، كما درس أيضا لإخوتي، ثم درس لابنتي وابني، أطال الله عمره، ووهب له الصحة والعافية.
وقد كان عليوة من أخلص المدرسين الذين عرفتهم، إلا أنه كان لا يبالي مشاعر التلاميذ في سبيل أن يؤدي واجبه، وأذكر أنه كان أحيانا يتخلف يوما عن الدرس؛ فأحمد أنا الله وألعب الكرة، وأقدر أنه لن يأتي إلا في الموعد التالي الذي يكون قد حدده بعد يوم التخلف بيومين أو ثلاثة، فألعب أنا الكرة في اليوم التالي لتخلفه وأنا واثق أنني حر، فاليوم ليس محددا لدرس، وأفاجأ بعليوة أفندي قادما كالقضاء المستعجل في اليوم الذي لا أتوقعه فيه تعويضا عن اليوم الذي أخلفه، ولا أذكر أن غما لقيته في طفولتي مثل ذلك الغم الذي يشملني وأنا أراه قادما في غير موعده، وكم بكيت، وكم حاولت العصيان، ولكن دون فائدة.
وكان عليوة أفندي يجيد الشرح، وكنت أفهم ما يلقيه منذ المرة الأولى، ولكنه يسير على طريقة لا يغيرها من تلميذ إلى تلميذ، وكم عانيت من تمسكه بطريقته هذه؛ فقد قرر هو أن يخصص درسا للشرح والدرس الثاني للتطبيق، وليس يعنيه أن يكون التلميذ قد فهم الشرح من المرة الأولى، إنما المهم عنده أن ينفذ منهجه الذي وضعه هو لنفسه، فهو يشرح مرة ثانية وثالثة ورابعة، ولا ينتهي من الشرح حتى ينتهي الدرس. وأكون أنا قد سرحت في غير الدرس من ملاعب الطفولة منذ المرة الثانية للشرح، حتى إذا جاء موعد التطبيق أكون أنا قد احترقت من الغيظ لقوله كلاما عرفته من المرة الأولى، وأكون أيضا قد نسيت كل شيء من القاعدة.
وأذكر أن أبي كان يحب أن يقضي الشتاء في حلوان، فكان عليوة أفندي يجشم نفسه مشقة الحضور إلي أحيانا في حلوان إذا كانت المدرسة في إجازة، فلم يكن ذهابنا إلى حلون يمنعني أن أذهب إلى المدرسة طبعا، وفي يوم كنت ألعب أنا ورفيق طفولتي محمد زكي أباظة وكان عليوة أفندي يدرس له هو الآخر. ولم أكن ولا محمد ننتظر قدوم عليوة أفندي، ورآه محمد قادما من بعيد، ولم يرنا هو، فأسرع محمد قائلا: «يا نهار أسود، عليوة أفندي! تعال ندخل البيت.»
وطاوعته وأنا لا أدري ما سيفعل، أقفل باب البيت، وكان يوما من أيام حلوان الساطعة الشمس حتى كأنه يوم من أيام الصيف، وقف محمد أمام باب الدخول، وأوقفني معه، ودق عليوة أفندي الجرس، وحين جاء الخادم ليفتح طلب محمد طلبا كأنه هو الذي دق الجرس، ووقف عليوة أفندي أمام الباب، والشمس تنصب عليه بكل سخطها، فيضع الجريدة التي لا يتخلى عنها مطلقا على رأسه، ويدق الجرس ثانية، ويأتي الخادم ويصرفه محمد، ويظل الأمر كذلك فترة تجاوزت نصف الساعة، حتى تمردت أنا على محمد، وأنا أرى عليوة أفندي مصرا على البقاء يرفع قدما إلى الهواء ليريحها، ثم يضعها ويرفع الأخرى، وقد أخذ منه التعب والشمس كل مأخذ، ولكنه أبى أن ينصرف، وأعطانا الدرس.
अज्ञात पृष्ठ
ومما أذكر له أنه غضب علي مرة غضبا شديدا، فأمرني أن أفتح يدي، وأهوى بالمسطرة على يدي معتمدا على أن أبي قال له أمامي أنه يستطيع أن يضربني إذا أنا لم أمتثل له، وبالصدفة مرضت أنا في ذلك اليوم، وارتفعت حرارتي ارتفاعا شديدا، وكان أبي شديد العطف علي، وإن كان يحرص أن يخفي هذا العطف بكبرياء العظماء من الرجال، وقد يقول قائل وأي أب لا يشفق على ابنه إلا أن يكون ذلك شذوذا في الطبيعة، ولكنني أعتقد أن مرضي وأنا في الثانية من عمري، ومولدي وأبي في الأربعين من عمره، جعلا إشفاقه علي أكثر من إشفاق الآباء على أبنائهم. وربما كان هذا هو السبب أنني كنت أصحبه في غدواته وروحاته، وأنا في الرابعة من عمري، وكنت أجلس معه في مجالس الكبار منذ لا أذكر متى، وكان عمي عبد الله يقول له: «سيب ثروت يلعب مع الأطفال.» فيقول أبي في حسم: «خليه قاعد.»
وكان يصحبني معه إلى مجلس النواب، وأنا في الخامسة أو السادسة من عمري. حتى لقد رآني يوما المرحوم توفيق رفعت باشا، وأنا جالس في مقاعد الزوار في الطابق الأول، فأشار إلى الساعي الواقف خلف كرسيه على منصة رئيس مجلس النواب وأشار له إلي، وما لبث أن جاءني الساعي يسألني: من أكون؟ فقلت له، فتركني وعاد إلى توفيق باشا الذي أشار لي برأسه، فلم يكن عجيبا أن يغضب أبي لضرب عليوة أفندي لي ضربا صاحبه ارتفاع في الحرارة، وأنا حتى اليوم لا أدري إن كانت هناك صلة بين ارتفاع حرارتي وضرب عليوة أفندي أم هي الصدفة المحض.
وأغلظ أبي القول لعليوة أفندي على غير مشهد مني، ولكن عليوة أفندي روى كل شيء أمامي لعم أحمد خادمنا الذي كنت أوقره بكلمة عم لشخصيته، ولأنه رئيس الخدم بالبيت، وقد كان أبي ووالدتي يوليانه ثقة تامة في كل ما يتصل بشئون البيت.
وقال عليوة لعم أحمد إن البك، يعني أبي فلم يكن قد حصل على الباشوية بعد، قال لي: «أصدقت حقا أنك يصح أن تضرب ثروت؟ هل من المعقول أن تضرب طفلا في سنه إلى درجة أن ترتفع حرارته؟ أيرضيك هذا يا عم أحمد؟ بقى مسطرة كالتي ضربتها له ترفع الحرارة؟ طيب امرأتي طالق إن لم يكن قد أكل حلاة وشطة ليرفع حرارته ويوديني أنا في داهية.»
والحقيقة أنني ذهلت وأنا أسمع هذا الحديث، فأنا لم أكن أعرف أن الحلاوة والشطة يرفعان الحرارة، بل إنني حتى الآن لا أتصور أنهما قادران على هذا الصنيع.
ولكن عليوة أفندي كان واثقا من هذا ثقة جعلته يقسم بالطلاق مع حبه الشديد للسيدة زوجته أم محمد التي كثيرا ما كان يفيض في مديحها، وأغلب الظن أن عليوة ما زال حتى اليوم على ثقته هذه أنني أكلت حلاوة بالشطة، وأغلب الظن أيضا أنه من يقرأ هذا الحديث الذي أكتبه لن يكف عن يقينه هذا على الأقل لتظل السيدة زوجته على ذمته.
ألا ترى أنني بترت حديثي عن الحاج أحمد القرعيش، واستطردت في هذا الحديث عن عليوة أفندي؟
كان لا بد من هذا، فقد استمرت رحلتي مع الحاج أحمد إلى أن اختاره الله إلى جواره، ولم يقف الأمر بيننا عند الأستذة منه والتلمذة مني؛ فقد أصبح حين قدر الله لي هواية الأدب هو صديقي الأول في القرية، لا يتركني لحظة منذ قدومي إلى غزالة حتى أتركها. وقد كان لهذه الصلة أثر ضخم في ثقافتي وفي أدبي، وانضم إلينا قريبي الشاعر الأستاذ توفيق عوضي وهو الآخر شخصية لم أر لها مثيلا في حياتي كلها؛ فهو رجل فقير لم يدخل مدرسة، وكان كل ما يملكه فدانا واحدا كان يزرعه بذراعه، ولكنه علم نفسه بنفسه، وكان خطه جميلا، ولكنه بطيء في الكتابة كل البطء لا عن جهل، فهو من أعلم الذين عرفتهم باللغة العربية وآدابها، ولكنه أصيب في مرفق ذراعه اليمنى، فظل حياته كلها لا يحركها في سهولة.
قرأ كل الشعر العربي، وحفظ أغلبه، وكان يستعير الكتب من المكتبة العامة ومن جميع مظانها. أعجب بالمتنبي فنقل ديوانه كله؛ لأنه لا يملك ثمن اقتنائه، وأعجب بالبحتري فنقل ديوانه كله، كذلك فعل مع ديوان عمر بن أبي ربيعة، ولك أن تتصور مقدار الصبر والرجولة والإصرار التي يتحلى بها، وأنت تعلم أنه بطيء في الكتابة. والحق أنه كان في خلقه رجلا، وكان صبورا على الحياة كريما عليها وعلى نفسه، وكان معتزا بكرامته غاية الاعتزاز في ظرف وخفة ظل لا يتأتيان إلا لقلة نادرة من الناس. كتب خطابا إلى عزيز باشا أباظة، وتعثر الخطاب في الطريق، ولم يصل، وكان عمي عزيز في ذلك الحين مديرا لأسيوط، ومع ذلك رأى توفيق أن يشكو إلى عمه جمال الدين بك أباظة المستشار؛ فنحن في الأسرة لا نقيم وزنا للمناصب، وإنما القيمة عندنا بالسن، والمكانة عندنا تتحدد بالعمومة والخئولة. وكان يحفظ الشعر العربي كله من الجاهلية حتى شوقي، وكان يرعاني أنا بالذات رعاية الأب لابنه لما لمسه عندي من حب للأدب، فتوفيق حين اختار جمال بك لم يكن اختياره لمجرد العمومة؛ فقد كان لعزيز باشا أعمام آخرون على قيد الحياة، وإنما هو في ذكاء ولماحية اختار العم الذي يعتبره ظاهرة في زمانه في حب الأدب، وفي الاطلاع على التراث الأدبي من بدايته إلى اليوم الذي يعيش فيه، وكان إلى هذا جميعا نموذجا فريدا في العفة والحياء، حتى إنه لم يتزوج، وأرجح أنه لم يتزوج لأنه خجل أن يخطب. وكان رحمه الله أيضا صورة مجسمة للطيبة، هذا كله إلى تفقه في القانون يندر أن نجد له مثلا. كتب توفيق إليه يشكو عدم إجابة عزيز باشا على خطابه، وربما يجمل بي أن ألفت نظرك إلى بداية الأبيات التي كتبها توفيق، وكأنه يكتب خطابا مما يدل على قدرته ولماحيته واستطاعته أن يقول بالشعر الأصيل كل ما يريد أن يقول، إليك الأبيات:
جمال الدين والدنيا سلاما
अज्ञात पृष्ठ