حدث أن قرأت له محاضرة يقول فيها: «والنصائح هي أثقل الطيبات على النفوس.» وأعجبتني العبارة واستعملتها في مقالة لي نشرت بجريدة الثقافة وقرأها عمي عزيز، وكأنما عجب أن يقول فتى يافع في عمر ابنته ما قاله هو، وفوجئت به يطلبني في البيت يبدي إعجابه بالمقالة، فقلت له: «إن أهم ما فيها العبارة التي اقتبستها منك.» وتعجب أن أكون قد حصلت على المحاضرة، فقلت له: «إنها طبعت، وجاءني منها نسخة.» وبدأت بيني وبين عمي عزيز علاقة أدبية هي علاقة شاب بأبيه وعلاقة معجب بعملاق. وكان عمي عزيز مديرا لأسيوط ذلك الحين، فكنت أنا أقوم بالإشراف على طبع رواياته في القاهرة كما قمت بتصحيح اللغة العربية للممثلين في مسرحياته ، ومع الأيام كانت العلاقة تتوطد، زادها قوة حب عارم نشأ في قلبي لابنته عفاف .
نوع عجيب من الحب؛ فهو جارف عنيف مندفع متدفق وهو في نفس الوقت بعيد عن اللوعة والأسى والخوف والسهر والوجد، وأحسب أن قليلا من الناس نعموا بهذا الحب. وإني واثق أن الندرة من الناس نعموا بما نعمت به من أعقاب هذا الحب الذي أصبح زواجا، وأصبح الزوجان فيه فردا لا اثنين. كل منا يسعد للآخر أكثر آلاف المرات مما يسعد لنفسه، وكانت ابنتي ونور عيني وإشراقة نفسي ابنتي أمينة، وكان ابني ونور أيامي وشعاع طريقي دسوقي.
وفي يوم سافر عمي عزيز إلى الخارج، وعهد إلي أن أضبط الشكل على قواعد النحو مع المخرج العظيم فتوح نشاطي الذي كان بسبيله إلى إخراج رواية غروب الأندلس. وتوثقت صلتي منذ ذلك اليوم بالأستاذ فتوح نشاطي. وكنت في ذلك الحين قد بدأت أكتب تمثيلياتي الإذاعية بناء على دعوة من الأستاذ علي الراعي؛ فقد لقيته في ترام العباسية، وعرفت منه أنه سيسافر بعد بضعة شهور إلى لندن ليحصل على الدكتوراه، وأبدى الأستاذ الراعي الذي أصبح فيما بعد الدكتور علي الراعي إعجابه بالمقالات التي يقرؤها لي في الثقافة والرسالة وخص بإعجابه لغة الحوار؛ مما حدا به أن يدعوني أن أكتب تمثيليات إذاعية، وأشهد الله أنني لولا هذه الدعوة من الدكتور الراعي ما فكرت مطلقا في كتابة تمثيليات للإذاعة.
وكنت حين اتصلت أسبابي بالأستاذ فتوح قد كتبت عدة تمثيليات مما جعله يعرض علي أن أشترك في كتابة مسرحية عن الصداقة التاريخية بين المعتمد بن عباد الأندلسي ووزيره ابن عمار، وطلب إلي أن أقرأ تاريخ الأندلس للعلامة دوزي، وكان الأستاذ كامل كيلاني قد ترجمه إلى العربية.
وقرأت الكتاب وكتبنا المسرحية معا، ولكنني أنا وضعت عيني على شخصية ابن عمار كنموذج درامي قل أن يتكرر.
أما مصير المسرحية فقضى عليه الأستاذ يوسف وهبي برفضه لها رفضا قاطعا، وأنا الآن وقد بعد العهد بيني وبينها لا أدري هل رفضها لأنها تستحق الرفض أم لأسباب أخرى؟
ولم تمض إلا شهور قليلة، حتى فجعني الدهر بموت أبي، وكانت ضربة قاصمة بالنسبة لي ؛ فلم يكن مجرد أب أو مثل أعلى أو شخصية أسطورية أو حياة كاملة بالنسبة لي، وإنما كان هذا جميعا وأكثر.
وفي نفس الفترة فجعت بوفاة طفلي الأول وهو جنين، وأصبحت حياتي ظلاما قاتما.
وكنت في ذلك الحين أعمل بالمحاماة، ولكنه كان عملا غير منتظم. فالمحاماة في ظل الحكم القاهر الشمولي لا حياة لها.
وكنت أحب أن أبدأ حياتي بوظيفة، وقد حصلت على شهادة الحقوق، وأنا زوج، وطلبت إلى أبي أن يوصي بي صديقه اللصيق د. حافظ عفيفي باشا الذي كان رئيس مجلس إدارة بنك مصر، فقال في حسم: «أتنتظر مني أن أرفع سماعة التليفون، وأطلب من أي شخص أن يعين لي ابني؟»
अज्ञात पृष्ठ