وعاد الأب ينظر إلى ابنه وفكر، وما كان بحاجة إلى التفكير؛ كان قد أعد له المستقبل جميعا لم يغفل منه شيئا، لا، هو لا يريد أن يشق ضمير الغيب عن مستقبل ولده، فهو يعلم هذا المستقبل ويعده في أناة وثقة واطمئنان.
وقد ترك الابن لأبيه زمام مستقبله، يخط فيه ما شاء أن يخط ليس له من اعتراض عليه، بل إنه حتى لا يفكر أن يكون ذا رأي في مستقبله. - كبرت يا محمد. - أطال الله عمرك يابا. البركة فيك. - إذا نجحت هذا العام ... - سأنجح يابا. - ستذهب إلى مصر. - إن شاء الله. - لقد اتفقنا على الكلية. - الطب. - ولكن هناك أشياء لم نتفق عليها. - أنا تحت أمرك. - امتحانك بعد أسبوع؟ - نعم. - عندما تنتهي من الامتحان نتكلم.
وقام الحاج والي عن السجادة ودلف إلى حجرة نومه فوجد الحاجة بمبة مستلقية على الفراش غير نائمة: هل أنت نائمة يا حاجة؟ - لا أبدا.
وجلس الحاج والي على الأريكة، وثنى رجلا إلى جسمه، وأخرى إلى الهواء وقال: آن لك أن تفرحي بمحمد. - ماذا؟ - ابنك يا حاجة بمبة، وهل له أم غيرك؟ - وكيف أفرح به؟ - أريد أن أزوجه قبل أن يذهب إلى مصر. - تزوجه وهو تلميذ؟ - تلميذ في الطب. - أليس صغيرا؟ - سيكون وحده في القاهرة. - بل سيكون أخوه معه.
وصمت الشيخ قليلا ثم قال: تقصدين حسين؟ - أليس أخاه؟ - حسين مشغول يا حاجة. - مشغول؟! - مشغول يا حاجة.
وصمت وانتظرت الحاجة أن يتكلم. وأحس الضباب يتصاعد أمام عينيه، وقال: عرف أني مريض فلم يهتم، حتى أن يرسل خطابا، وعرف أنك مريضة ولم يسأل. وأنا أزوره لا أنقطع عن زيارته كلما ذهبت إلى القاهرة. - كيف عرف؟ - من حمدي.
وصمت ثم عاد يقول: لقد رفض حتى أن يأتي في الإجازة، ومع ذلك ... إيه، إنما الأعمال بالنيات. - إنه ابنك يا حاج. - لا يا حاجة. لقد أردت أن يكون ابني، ولكنه هو لا يريد. النهاية ... النهاية ... - هل قطعت عنه ما ترسله إليه كل شهر؟ - وهل تعتقدين أنني أفعل مثل هذا يا حاجة؟ - لا. - المهم، أريد أن أزوج محمدا. ستكون له زوجة تعصمه من الزلل، وتخدمه، فيتفرغ للمذاكرة. - أتريدني أن أختار العروس؟ - لقد اخترتها؛ هنية بنت عبد الحميد الهراس. - كبيرة يا حاج! - وما البأس؟ حتى تعرف كيف تعامله، وأبوها رجل طيب. - أمرك يا حاج. أأكلم أمها؟ - على بركة الله.
الفصل العشرون
انتهى اليوم الدراسي في مدرسة البنات، وزاط الفصل بأحاديث كثيرة احتبست مدة خمس وأربعين دقيقة، وانفجرت تريد أن تخرج جميعا طفرة واحدة، فهي أخلاط من الكلمات ومزق من الجمل. وفي وسط الفصل وقفت فتاتان في بواكير الأنوثة الصاخبة؛ فأما إحداهما فتلقي على ظهرها سبيكة من شعر أصفر صقيل ينتظم من الخلف، ولكنك إن نظرت إليه من أمام وجدته ثائرا في عربدة حبيبة كموج البحر إن كان البحر من ذهب، يموج حتى ينتهي إلى هذه الضفيرة، فكأنه بحر يصب في نهر، وقد انسدلت منه خصلات على جبهة الفتاة؛ فتذكر ساحل البحر الذي لا تدري إن كان مخضلا بالماء أو هو جاف. خصلات كخيال من الوهم لا تدري أهي منسدلة أم هي تجري في تيار الشعر الآخر متجهة إلى السبيكة. ترى الخصلة حينا، فإن أنعمت النظر لا تراها، ثم تعود فتراها، وهكذا استطاعت هذه الخصلة أن تجعل وجه آمال متجددا دائما لا تمل العين النظر إليه.
وهو مشرق كالصباح الوليد، ذو عينين فيهما جرأة، وفيهما شباب، وفيهما خضرة حلوة، يمازجها لون بني، حتى لا تكاد تدري ما هو لونها الحقيقي. فأما أنفها فأفطس بعض الشيء، يتبعه فم واسع فيه على سعته حزم وإقدام، وهي ذات قوام حلو، وإن كانت تميل إلى النحافة، أوضح ما في قوامها ثديان يشرئبان في عربدة طاغية وفي أنوثة باكرة.
अज्ञात पृष्ठ