وعاد الحاج والي إلى أريكته وحسين إلى مكانه القصي، وعادت المسبحة إلى أصابع الحاج، والدمعة إلى عين حسين.
ولكن آلام صالحة لا تنقطع، تتنفسها في آهات ينشق عنها كيانها كله، والغرفة ذات الباب المقفل صماء لا تفلت أحدا من داخلها ليخبر الحاج والي ماذا يحدث في الداخل، وأخيرا انشق الباب عن القابلة وهي تقول: لا بد من طبيب يا حاج، أنا لا أستطيع أن أقوم بولادتها وحدي ...
وقال الحاج والي: طبيب؟! تقولين طبيب؟!
وخرجت الحاجة بمبة وهي تصيح: نعم يا حاج! طبيب! أم نترك البنية تموت؟! - ومن أين آتي بالطبيب الآن، كيف لي به؟! - اطلبه من تليفون العمدة. اطلبه يحضر بأية وسيلة.
وقام الحاج والي يريد أن يخرج، وحينئذ تقدم حسين وهو يقول في صوت واهن حازم: أنا قادم معك يابا الحاج.
ويقول الحاج في صوت طيب، ولكنه حازم أيضا: لا، ابق أنت هنا يا حسين.
ويخرج الحاج إلى الطريق، يشق سبيله في الرياح العاصفة يكاد لا يبصر ما أمامه من شدة الرياح وانسياب الماء حتى يصل آخر الأمر إلى بيت زين العابدين، ولا يعرج إلى البيت، وإنما يقصد إلى دار سائق العربة محمود أبو عبد الهادي، فيطلب إليه أن يجهز العربة ليذهب إلى المركز، ويوشك محمود أن يقول إن الخيل لا تستطيع المشي في هذه الأنواء العاصفة، ولكنه يرى لهفة الرجل ويقدر أيضا ما سيناله من عطاء فيطيع، ويركب الحاج العربة وتأخذ سبيلها إلى المركز ولكنها - على رغم قوة الخيل - تمشي بطيئة متمايلة تغرس عجلاتها في الطين كلما سارت. وحين عادت العربة بالطبيب كان الفجر قد أوشك يرسل نوره، وكانت السماء قد أقلعت عن المطر، وكانت الريح تبدو وكأنما مسها الكبر، ولكنها مع ذلك تأبى أن تعترف بالوهن؛ فهي تجر الأشياء التي كانت تحملها في صدر النهار بخفة واستهزاء، ولكن البرد كان ما يزال شديدا قارسا.
ودخل الحاج والي والطبيب إلى البيت، ونادى الحاج والي: يا حاجة بمبة.
وخرجت إليهما الحاجة، وما لبثت أن قالت: الحقنا يا دكتور. تفضل.
ودخل الطبيب ودخل معه الحاج والي، وكانت صالحة تلقف أنفاسها في ضعف وإصرار، وكأنما هي تنتزع الهواء من الحياة انتزاعا. ومرت بذهن الحاجة بمبة خاطرة عجبت لها في هذا الموقف الضنك؛ لقد رفضت أن يراها طبيب رجل، وخطبت لزوجها هذه الفتاة لتلد له، ولكن الله أراد - لحكمة لا يعلمها إلا هو - ألا يأتي الولد - إن هو جاء - إلا على يد طبيب رجل. وصحت الحاجة من خاطرتها على صوت الطبيب: اتركونا أرجوكم. لا أريد إلا القابلة. أيصح يا حاجة زينب أن تعملي التبن؟! كم مرة أنهاك عن هذه القذارة! أرأيت نتيجة عملك؟ اتركونا أرجوكم.
अज्ञात पृष्ठ