كان الموقف أكبر من الدهشة من سيدة، وأكبر من الألم من بمبة؛ فلف المرأتين صمت امتزج فيه العجب الآخذ بالألم المرير، والتقت فيه دموع بدموع؛ دموع من أعماق الإنسانية الخالصة. وفهمت كل من المرأتين سر دموع الأخرى، وتمالكت الحاجة بمبة أمر نفسها سريعا وقالت: قلت له لن أذهب، ثم أدركت أنه سيتزوج، فقلت أزوجه أنا من امرأة أعرفها، خيرا من أن يحضر لي ضرة لا أعرفها، وتحاول أن تجعل من نفسها سيدة علي، فهي - في الغالب - ستكون أم العيال. أنا أعرف صالحة، إنها بنت حلال ...
وقاطعتها سيدة: خدامتك يا ستي الحاجة. - وهي أيضا قد تزوجت من قبل وخلفت وسنها معقول. هيه، ماذا قلت؟ - أمرك يا ستي الحاجة. - ستكون كابنتي تماما يا سيدة. - عارفة يا ستي الحاجة، عارفة. لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا حول ولا قوة إلا بالله.
الفصل الثاني
كان الحاج والي جالسا في دوار زين العابدين بك ينتظر نزوله من الطابق الأعلى. ولم يكن أحد يشارك الحاج والي في جلسته في الدوار، فهو وحيد. ولم تكن السعادة بادية على محياه، فهو متجهم، شارد الذهن، مفكر تفكيرا لا تلوح عليه بوادر هناءة أو رضا؛ فوجهه الأسمر مقطب، وشاربه الذي تعود أن يعتني به كل يوم عند الحلاق مهمل أشعث غاضب كصاحبه، حتى العمامة التي لا يلبسها الحاج والي إلا وهي ملفوفة مسبوكة مهندمة، ألقى عليها الحاج والي ظلا من تجهمه، فهي منداحة على رأسه، تكاد تتهدل أطرافها على وجهه. وفي عينيه السوداوين ظل من أسف وأسى، وفي جبهته العريضة غضون من الألم لا من الزمن، وفي فمه كلمة حبيسة لا يدريها ولا يعرف ما هي، ولكنه يعرف أسبابها ودوافعها. كيف يقول ما بنفسه؟ كيف يعبر عنه؟ لم يكن يدري. وأنفه الكبير بعض الشيء يجتذب أنفاسا عميقة، ولكنها لا تريحه، فما يلبث من حين لآخر أن يفتح فمه الصغير؛ فيلتقط من الهواء شهيقا عميقا يزفره في نفخة حانقة ضيقة ملول، فما يجدي الشهيق ولا الزفير ولا الأنفاس اللاهثة التي يجتذبها له أنفه.
ويأتي متولي الخادم إلى الحاج والي، فما يرفع عينيه إلى متولي، ولم يكن متولي ليرضى هذا منه؛ فقد تعود من الحاج والي مداعبته، أو كلمة تحية إن كان جالسا إلى البك، أما أن يلاقيه بهذا الصمت، بل بهذا الإهمال، فأمر لا يمكنه السكوت عليه؛ فإن الحاج والي لا يفعل هذا إلا إن كان في حال من الضيق شديد. وقبل أن ينطق متولي يكون الحاج والي قد شهق من الهواء شهقة طويلة زفرها، وقد ضم شفتيه بعض الشيء فخرج الهواء كصفير فاشل حانق. وقال متولي: أعوذ بالله! لماذا هذا يا حاج والي؟! هون عليك يا شيخ، تبيت نارا تصبح رمادا. ما الذي يضايقك؟
وكأنما لم يكن الحاج والي يتوقع أن يتبين متولي حقيقة مشاعره، فهو يقول في أسى: الهم كثير والله يا متولي. النهاية الحمد لله على كل شيء. - ماذا، ماذا بك؟ عريس جديد؟ والمال - والحمد لله - موفور وشباب وصحة، وكل ما تشتهيه تجده. - اسكت يا متولي، اسكت. لا يعرف النفوس إلا خالقها. اسكت لا أراك الله ما أنا فيه. - يا رجل توكل على الله. هل أحضر الشربات؟ - بل القهوة يا متولي، ولتكن بغير سكر. - يا رجل أعوذ بالله! أهو حسد ما أصابك؟ ماذا بك قل لي؟ إنك منذ فترة طويلة مهموم، وقد حسبت أنك حين تتزوج سيزول عنك الهم، فإذا أنت تصبح تعسا. أين الضحكة الخالية من التفكير؟ أين النكتة الرائعة من كل كدر؟ أين أنت يا حاج والي؟ - لا عليك يا متولي، لا عليك. هكذا أمر الله. - يا رجل أنت متزوج من قريب، أهذه حال رجل تزوج من قريب؟ - أمر الله يا متولي. - لا حول ولا قوة إلا بالله! ولكني رغم هذا سأحضر لك الشربات. لن أتأخر. شربات، شربات، مهما تكن مهموما، شربات.
وخرج متولي، وخلت الغرفة بالحاج والي، وثقل عليه الصمت، وثقل عليه التفكير الصاخب، وود لو عاد متولي ولو ليشقشق بهذا الحديث الذي تعود أن يشقشق به، ولكن متولي آثر أن يتركه، ولو كان يعلم أن حديثه الفارغ أهم عنده من الشربات الذي يصر على إحضاره ما تركه. وتأخر متولي، وسمع الحاج والي صوتا واهنا، ينبعث غير بعيد من مجلسه، ونظر فرأى مصيدة فيران فاغرة فاها، في شراهة يقف حيالها فأر يلوب حواليها، مصطنعا الذكاء والحذر، مقدما حينا على اللقمة التي تبدو للنظرة المجردة سائغة سهلة المنال، محجما حينا آخر، وكأنما يريد أن يعرف ماذا ستفعل اللقمة أو المصيدة، إن هو أعرض عنها ولم يقدم. وانشغل الحاج والي بالفأر واللقمة والمصيدة، وأمعن الفأر في مداورته، ثم هاجم اللقمة فجأة، وكأنما أراد أن ينتهز من المصيدة غفلة ويختطف اللقمة، ولكن المصيدة لم تغفل، فما هي إلا أن أصبح الفأر جميعه داخلها، حتى أطبقت عليه فمها الشره. ونظر الفأر إلى باب المصيدة نظرة حسيرة، ثم عاد إلى اللقمة فأكل جزءا منها، ثم ما لبث أن عافها. ونادى الحاج والي: يا متولي، يا متولي.
ولم يجب متولي النداء، وإنما دخل الغرفة زين العابدين بك؛ رجل في أواسط العمر، أبيض الوجه، سمح الملامح، يبدو عليه حرص على أن يأخذ من الحياة أحلى جوانبها، فهو متهيئ دائما لهذا الجانب الحلو من الحياة بابتسامة مشرقة لا تفارق وجهه، وجسم مليء منعم لا يحب أن يمنع نفسه من لذائذ الحياة. وقد كان زين العابدين بك في مثل سن الحاج والي، وإن كان مبسوط الجسم عريضه، وكان الشيب قد بدأ يرود فوديه في تؤدة وهدوء. وقد كان شأنه في إنجاب الذرية شأن الحاج والي، فهو أيضا لم ينجب أطفالا، وقد حاولت زوجته قدر طاقتها أن تنجب له بنين أو بنات؛ ولكنها لم تفلح. ويئس زين العابدين ولم تيأس زوجته. وقد رأى زين العابدين ألا يجعل يأسه يعوق أملها، فهو يترك لها مطلق الحرية أن تفعل ما تشاء من عرض على أطباء، إلى استماع إلى وصفات بلدية، إلى غير ذلك لا يقف دون مطلب من مطالبها، وإن كان هو قد شغل نفسه بغير ذلك، فهو مسرف غاية السرف في إمتاع نفسه، لا يعوقه عما يريد شيء، على استعداد دائما أن يقترض ويبيع ليفعل ما تصبو إليه نفسه؛ فهو كثير الولائم، كثير الذهاب إلى القاهرة، يحب لياليها جميعا والحمراء منها خاصة. ولولا أن الفلاحين قد ثاروا على الإنجليز، فقطعوا الخطوط الحديدية التي تصل القرية بالقاهرة؛ ما استقر زين العابدين في القرية. إلا أن الثورة اندلعت لا يقف في سبيلها شيء، وانقطعت الأسباب بالقاهرة، وكان زين العابدين بالقرية فأرسل فلاحين يشاركون في قطع الخطوط، وجعل أمره إلى الله، وأقام بالبلدة. وحين عسكر الإنجليز على مشارف القرية، أبى أن يتصل بهم، برغم الجهد الجهيد الذي بذله كبيرهم في الاتصال به، ولم يكن ذلك صادرا إلا عن مشاعره الصادقة. وراح الإنجليز يحاولون إصلاح الخطوط المقطوعة؛ فلا يجدون من الفلاحين إلا ازدراء، وقد حاولوا أن يغروا زين العابدين، بأنهم سيسعون له أن ينال رتبة الباشوية؛ فلم يكن هذا الإغراء كافيا، ورفض أن يعاونهم، وإن كان في دخيلة نفسه يتحرق شوقا أن يتم إصلاح الخطوط الحديدية ليجد وسيلة إلى القاهرة. لم تكن زوجته تعلم عن حياته في القاهرة شيئا، بل هي لا تعلم أنه يبيع من أرضه شيئا، كل ما تعرفه من شأنه أن تطلب منه مالا لتذهب إلى الطبيب، أو لتشتري ما يلزم لوصفاتها فلا يبخل عليها.
وقف الحاج والي يسلم على زين العابدين، فعاجله هذا قائلا: مبروك يا رجل.
وقال الحاج والي حسيرا: لا تهنئني يا زين العابدين بك. - لماذا؟! - لو تعرف ما أنا فيه ما هنأتني. - خيرا يا رجل، ماذا بك؟ - لا والله ليس خيرا أبدا. - قل ماذا حدث؟ - لا شيء. تزوجت. - وهل هذا يحزنك؟!
अज्ञात पृष्ठ