وكسدت أسواق التجارة، وغلت أيدي الزارعين عن العمل في الفلاحة بفقد الأمن وعموم الاضطراب، وامتنعت الأرض عن الإنبات بإهمال الأعمال العامة، واستولى الفقر على الفلاحين حتى عجزوا عن وفاء ديونهم وقصرت أيديهم عن أداء ما عليهم من الضرائب لحكومتهم.
ومع كل هذا ترى الإنجليز لا تأخذهم ريبة في أنهم عادلون قوامون بالقسط، وأن حلولهم في أي قطر وسلطتهم على أي شعب مقرونة بالسعادة والرفاهة والأمن والراحة، ويعجبون كل العجب من انحراف المصريين عنهم ونفرة قلوبهم منهم، ويقولون: يا سبحان الله! كيف يوجد بين جمعيات سرية أو جهرية تتخالف على بعضهم وتجتمع الألفة من العبودية لهم؟! وكيف يختلج في خاطر مصري أن ينقم على الإنجليز؟!
ولما أحسوا بحركة الخواطر واشتعال الحمية في نفوس بعض المصريين وتوجسوا الخيفة من إقدامهم على كلمة الحق، وهي بلادنا لنا، ونحن أعلم بمصلحتنا من غيرنا، ولا نريد أن نكون طعمة للإنجليز؛ أرادوا أن يقيموا برهانا على عدلهم ويوطنوا النفوس على الرضا بحكمهم ويمحوا كل ضغينة من قلوب المصريين، بالقوة العسكرية، كأنهم بإطلاق النيران وسل السيوف يودعون في القلوب محبة، وفي النفوس رضاية، وهي طريقة جديدة في إزالة التنافر وإيجاد التآلف، وربما كانت سنة قديمة عند الإنجليز.
وجاء في برقية من مراسل التايمس في القاهرة أن العساكر الإنجليزية انتشرت في شوارع القاهرة شاكية السلاح لتعزيز قوة حفظ الأمن، والحامل على ذلك ما تأكد عند حفاظ الأمن من الإنجليز أن في تلك المدينة جمعيات جهرية أو سرية، أو أن فيها أشخاصا مصريين يحبون بلادهم ولا يودون أن يكون السلطان في حكومتها لأجنبي عنهم، خصوصا إن كان ظالما فيهم.
أو أن في تلك المدينة من يخطر بباله أن يقول كما يقول أدنى رجل من الإنجليز: إن مصلحة وطننا مقدمة على كل مصلحة، أو أن فيها من يحدث نفسه بأن الإنجليز لا خير في ولايتهم، ويرى شقاء بلاده في سوء إدارتهم.
فهاج غيظ مأموري الإنجليز وبعثهم على الشدة في طلب الوقوف على مكامن أولئك الذين لا يميلون إليهم ليؤاخذوا كل ذي سريرة بما اختلج في صدره من الانتقاد على أعمالهم، ومن عزمهم أن يستعملوا من أجهزة الإضاءة ما يشرق به النور ليلا في كل شوارع المدينة وأزقتها، من القلعة إلى أضيق حارة فيها، ليحققوا ما ظنوه ويكشفوا ما توقعوه (وهم في عملهم هذا يراعون مصلحة المصريين ويأسفون على حالهم، حيث كفروا نعمة النظام ولم يعترفوا للإنجليز بهذا الإحسان الذي تفضلوا به عليهم من مدة سنين ويأسفون)، ويرون من العدل أن تشرب قلوب المصريين مودتهم بقوة السلاح حتى تكون سيئاتهم حسنات، وربما لا يتم لهم من ذلك ما يقصدون.
الفصل الحادي والسبعون
إنجلترا وفرنسا
أصغت آذان الراغبين في الوقوف على نهاية الحوادث المصرية لاستماع ما يتحدث به بين الحكومات الأوروبية من يوم دعت إنجلترا جميع الدول العظام للاجتماع في مؤتمر ينظر في بعض المسائل المصرية، إلا أنها منعت دون حجاب الكتمان، وإنما كانت تصل إليها دندنة أو جلبة أو غمغمة أو جمجمة، وكل حس يصلها يثير رواكد الأوهام فتهيج فيها غرائب الصور والأشكال.
والمذاعون من أرباب الجرائد في أوروبا - وهم أشبه بالداعين إلى الألاعيب والكموديات - كانوا يذهبون من الكلام وجوها مختلفة ويتنافسون في التمثيل والتصوير للتغرير والتهويل، حتى أبرزوا الأرض في صورة السماء والسماء في صورة الأرض، خصوصا فيما يتعلق بالمفاوضات التي كانت جارية بين وزارتي فرنسا وإنجلترا، فكان يخيل لمتصفح جرائدهم أن البحار غاصة بالمراكب، والمدرعات يصادم بعضها بعضا، وأن فضاء البر أعضل بالجيوش المتلاحمة لا يجد السالك من بينها سبيلا.
अज्ञात पृष्ठ