الركون إلى العدالة والسكون إلى الأمن والراحة؛ من الأمور الطبيعية في الإنسان، وهذه حقيقة أدركها الجنس الإنجليزي الشريف، لهذا تراه يجوب الأقطار ويتقلب في الأمصار حاملا على أحد عاتقيه علم العدالة وعلى العاتق الآخر لواء الأمن والراحة، رجاء أن يملك أهواء العالم أجمعين، وينال الكرامة في جميع أنحاء المسكونة.
إلا أنا نعجب غاية العجب لجفلة الناس من ألوان هذه الأعلام، وفزعهم من الاستظلال بظلها، ومن تفيأه يوما فزع للانتباذ عنه في آخر ولو لفحه لهيب جهنم، هؤلاء الأيرلنديون من جنس الإنجليز وعلى دينهم، وينطقون بلغتهم ولا يوجد بينهم وبين سكان بريطانيا العظمى فرق إلا فيما لا يعد الاختلاف فيه خلافا حقيقيا من عقائد المذهب الكاثوليكي والبروتستنتي، ويصح أن يقال: إنه خلاف في فروع الدين لا في أصوله.
وجزيرة أيرلندا تعد جزءا أصليا من مملكة بريطانيا، وسكانها يعدون عنصرا داخلا في قوام الأمة، وعليهم بسط جناح المرحمة الإنجليزية من أجيال طويلة حتى حسب الجميع أمة واحدة، ومع ذلك ترى آلافا مؤلفة من الأيرلنديين يهجرون أوطانهم ويهاجرون إلى أمريكا ويتخذونها سكنا لهم؛ فرارا من عدالة الإنجليز.
وكل يوم ترى المحترقين بنيران الحمية منهم يخاطرون بأنفسهم في أعمال يقصدون بها هدم السلطة الإنجليزية وإهلاك القائمين بها، وفي كل يوم يخدون الأخاديد ويدفنون المواد الملتهبة (الديناميت) في أماكن مختلفة من مراكز الحكومة وطرق مسير الكافة من الإنجليز، تارة تحت قصر الملكة، وأخرى في مقاعد الوزراء، وطورا تحت دار الندوة، وآخر في جسور السكة الحديدية؛ ليدمروا كل مكان بمن يقله.
وزاد ذلك حتى أفزع الحكومة في هذه الأيام، وما من مدة تمضي إلا وتسمع بمواقع بين عساكر المحافظة الإنجليزية في أيرلندا وبين الأهالي، ومنها ما حدث في ثامن هذا الشهر (يونيو) من معركة بين العساكر والعامة جرح فيها كثير.
هل جلاء الأيرلنديين وتهافتهم على الموت وسآمتهم من الحياة في معاندة السلطة الإنجليزية ناشئ عن نفرتهم من العدل وكراهتهم للراحة والميل إليهما طبيعي في فطرة البشر؟! أظن لو كان عدلا حقيقيا يعرفه بنو الإنسان لما نبت عنه الطباع، ولا آثرت الأنفس الموت على التمتع به، ولا طلب الخلاص منه أقوام يتحدون مع أرباب السلطة في الجنس واللغة والدين، ولا فضلوا عليه مهاجرة الأوطان واحتمال آلام الغربة، ومشاق التطوح في أراض لا يجدون فيها من العيش إلا لماجا (أدنى ما يؤكل).
ولكنه عدل تفرد به الإنجليز من بين الحيوانات الناطقة، من أحكامه أن توضع الجزية على كنائس الكاثوليك تؤديها إلى كنائس البروتستانت عن يد وهي صاغرة، واستمر ذلك إلى عهد قريب، ومن مقتضياته أن يكون الأيرلندي خادما بل عبدا رقا لأمراء البريطانيين لا يتركون له من لوازم الحياة إلا ما يشتغل به لتنمية ثروتهم وتوفير لذتهم.
إن كان هذا العدل لا يوافق أذواق المتفقين معهم في الصفات السابق ذكرها، فكيف ترجى ملاءمته لأذواق الذين لا نسبة بينهم وبينهم، ولا صلة تجمعهم، لا في لغة ولا جنس ولا دين؟ هذا النوع البهيج من العدل ظهرت له آثار في البلاد الهندية: دخلها الإنجليز وهي أغنى أرض في العالم، وأخصب تربة في المسكونة، وسكانها أنعم الناس عيشا، وأوسعهم ثروة، فإذا هي اليوم بسر العدالة كأنها صفاصف وأمرات (أرض لا نبات بها).
أهاليها حفاة عراة أذلاء، رضوا من المعيشة بالشظف، ومن القوت بالعلف، وما يجدون ما به يقنعون، تراهم بعد ما سلبوا أملاكهم، وابتزوا ثروتهم، واستأثر الإنجليز بجميع ما كان لهم، يطلبون التعيش في المهن الدنيئة ولا يصلون إلى ما يطلبون، يكون منهم الكاتب المنشئ البليغ الحاسب يقطع الأرض سعيا من بلد إلى بلد ومن ولاية إلى ولاية ليحصل خدمة ينال من أجرها ثلاثين فرنكا في الشهر، ولا يسعده الحظ بنوالها!
ومن سنتين دخلوا مصر وهي أرض الراحة والسلام، وأهلوها في رغد من العيش، وأمن من الغوائل، فإذا هي اليوم - ببركة العدل الإنجليزي، وحسن الإدارة البريطانية - أرض الفتن، ومجالات الحروب، ومضارب الخلل والفساد، قضت العدالة بحرمان آلاف من الوطنيين وطردهم من وظائفهم في الحكومة، وهم ذوو أهل وعيال لا عيش لهم إلا من رواتب الخدم الوطنية، وحل محلهم في الوظائف أخلاط من الإنجليز.
अज्ञात पृष्ठ