وهنا وجدنا أنفسنا نحن آباء هذا العصر وأمهاته نواجه عملاقا ولا جن ألف ليلة بكل ما لديه من «شبيك لبيك، أنا بين إيديك، والعالم كله بين يديك، والحب بكله وبكافة أشكاله رهن إشارتك!» والتقاليع تقاليعه، لا ينتهي أبدا لها حال.
مفاجأة كبرى، لم يكن يتوقعها العالم الأول نفسه، فما بالك ونحن حين جاء كنا لا نزال نحيا ربما في العالم الرابع أو الخامس؟!
وأنا أذكر أول مرة رأيت فيها التليفزيون وجها لوجه، وكان في معرض في القاهرة في عام 58، وما زلت أذكر تلك الدهشة المروعة التي أصابتني، حين رأيت صورتي «وقد كانت هناك كاميرا تليفزيونية مسلطة على المشاهدين لجهاز الاستقبال»، رأيت صورتي بالأبيض والأسود مرتسمة على تلك الشاشة الصغيرة الساحرة، يومها أخذت الأمر أخذ مثقف متحضر، وقلت إن التقدم البشري ليس له أبدا من حدود، وإني إنما أشاهد معجزة كبرى لهذا التقدم؛ أي إنني روعت للتقدم التكنولوجي الإلكتروني الذي أنتج هذا الجهاز.
وفي ذلك الوقت لم أفكر أبدا فيما يمكن أن يحتويه هذا الجهاز بعد هذا وينقله من مواد .
وما هي إلا بضعة شهور حتى أصبح هناك إرسال تليفزيوني، لا في مصر فقط، ولكن في معظم البلاد العربية، وحتى تدفق على المشاهد العربي طوفان من إنتاج أوروبي أو إنتاج عربي يحاول أن يقلد ويمشي على خطى الإنتاج الأوروبي بطريقة لا بد للإنسان معها - بطول المشاهدة ومداومتها نظرا لروعتها وخبرتها - أن يحدث له غسيل مخ إجباري؛ بحيث تمحى من عقله مفهومات كثيرة ورثها أو تعلمها، وتحل أشياء جديدة تحمل المكونات النفسية والاجتماعية والسياسية لمجتمعات مختلفة عن مجتمعنا تمام الاختلاف.
حتى كاد الأمر في النهاية ينتهي إلى أن ينمحي تماما من ذاكرتنا كل ما توارثناه من مفهومات وتعاليم وأحاديث أمهات وجدات ونصائح آباء وكبار، ونولي وجوهنا وعقولنا مفتوحة على مصراعيها لتلتهم بلهفة ذلك الطوفان القادم.
وفجأة أيضا، دون أن ندري، نلمح على أبنائنا وبناتنا الأكثر استعدادا للتقبل، والأقل استيعابا للتراث، تصرفات لا تبدو غريبة كثيرا عن التصرفات التي نراها معروضة في تليفزيوناتنا، ولكنها تبدو غريبة، تماما إذا ما قورنت بما درجنا عليه نحن من أخلاق وقيم وتصرفات.
وكان مفروضا حينذاك أن تنشأ معركة بيننا - نحن الآباء - وبين ذلك الوافد المكتسح، وأعتقد أن معارك فردية وعائلية كثيرة قد نشبت متفرقة هنا وهناك، ولكنها كانت دائما معارك خاسرة، كنا نحن الذين نخسرها؛ ذلك أن التليفزيون كان قد ربح المعركة، تماما، وأخذ أولادنا وأجيالنا الجديدة إلى صفه وأصبحنا نحن مجرد قلة «متخلفة» عن الركب، «متحجرة» أمام التحضر والتأمرك والتأورب، تعيش في عصر غير العصر، وتحاول جر أجيال جرارة بأكملها إلى هذا العصر الغابر.
وكان لا بد بالطبع يبلغ اليأس ببعض الآباء - مثل أخينا الذي اندار على الجهاز يدكه دكا - أن يحاول حل المشكلة بتحطيم الآلة، وهو ليس فقط اليأس وأغبى أنواع الحلول، ولكنه يدل تماما على أن هذا النوع من الآباء قد تخلف عن العصر فعلا، وواجب عليه أن يحطم السيارة هي الأخرى والطائرة، وأن يعود القهقرى يركب الناقة وينتقل بالحمار. •••
فما هو الحل يا ترى إذا لم يكن تحطيم كل تلك الأجهزة المتقدمة من تليفزيون وسيارة وكمبيوتر، وفيديو ... إلخ؟!
अज्ञात पृष्ठ