أعجبتني القصة؛ لا لأن إنسانا وجد في نفسه الشجاعة على أن ينهال على جهاز تليفزيون، مصري أو عربي، تحطيما وتكسيرا رغم فداحة ثمنه، ولا لأن غيرة ما قد شبت بين أب حقيقي تزوج وخلف وأنجب أولادا وبنات لا ليعيشوا في التبات والنبات ويستمتع بهم وبصحبتهم، وإنما ليتسلمهم أب آخر خلقته التكنولوجيا، ليتولى قيادتهم وتربيتهم ويمتص كل أوقاتهم التي كان مفروضا أن يقضوها مع آبائهم وأمهاتهم.
أعجبتني القصة لسبب قد لا يخطر على البال؛ لأنها في حقيقة أمرها قصة مواجهة صريحة وواضحة وعنيفة بين العصر الذي نحيا فيه والعصر الذي تربى عليه آباء هذه الأيام وأمهات هذا العصر.
منذ فجر البشرية كان الأب هو أول مدرسة يدخلها طفله ليتعلم منه القيم والسلوك والأخلاق، وربما الحرفة والثقافة والمعرفة والإدراك.
وكان لكل قبيلة من القبائل تراثها الشفوي المرئي الذي تحكيه الجدة لأبنائها وأحفادها، ليحكوه بدورهم لأولادهم وأحفادهم.
ثم بظهور المسرح ثم الكتاب ثم الجريدة، بدأت آباء أخرى تشارك الأب الحقيقي في صياغة شخصية وسلوك ومدارك ابنه، وحين جاءت السينما بعد هذا عمقت تلك المشاركة إلى حد كبير، ولكنها كانت مشاركة أقرب إلى التعليم التخيلي منها إلى الأب أو المدرس أو المربي الحقيقي؛ ولهذا سميناها نحن العرب «الخيالة»، أما الكارثة الكبرى الحقيقية، أما الانقلاب العظيم الداهم، فقد جاء مع عصر التليفزيون؛ ذلك أنه لم يأت ليكون بعيدا عن متناول الأسرة أو محيطها، وإنما جاء ليحتل صميم المركز في قلب الأسرة، وهو مركز ثابت غير متحرك، وغير صامت، مركز دائم التحدث والجذب، دائم الوجود، عميق التأثير إلى أبعد حد، حتى إن أطفالنا أصبحوا يحفظون كلمات الإعلانات وأغانيها أكثر بكثير مما يحفظون آيات من القرآن الكريم، أو ملخص قصة من قصص الأطفال المتداولة.
جاء ساحقا ماحقا فاصلا تماما بين عصرين؛ عصر ما قبل التليفزيون وعصر ما بعد التليفزيون، عصر أطفال ما قبل التليفزيون، وعصر الجيل الذي رباه التليفزيون.
وجاء دكتاتوريا طاغيا أيضا ، انكمش بجواره الأب الحقيقي في ركن لا يملك حتى أن يتكلم أو يقاطع ما يدور فيه، فما أسرع ما ترتفع ألسنة أطفاله وأزواجه طالبة منه أن يسكت؛ لأن التليفزيون يتكلم! أو حتى يقطع عليهم ما يتابعونه ولو بخبر خطير يهم الأسرة جميعا وقد يغير مصير العائلة كلها.
جاء ليكون المتحدث الأول والكل له مصغون، والنموذج الأول للتصرف وللكلام وللفعل، والكل له مقلدون، وحتى النموذج الأول للتسريحات والتجملات، وطريقة النطق، والكل لا يفعلون سوى تقليده.
وتليفزيون من، ذلك الذي جاء؟
ليس تليفزيونا عربيا، لا صناعة، ولا اسما، ولا حتى محتوى؛ إذ جاء أحدث ما تفتق عنه العقل الغربي من علم الإلكترونيات و«الترانزيستورات» «علم تحويل الصوت والصورة إلى كهرباء وبالعكس»، وجاء مزودا بمساعد لا يقل عنه خطورة وبأسا؛ هو «الفيديو كاسيت»، يجمع كل ما افتقدته العائلة من إرسال التليفزيون العادي، ويضيف إليه أفلاما وقصصا وألعابا، وكل ما قد يخطر ولا يخطر على البال.
अज्ञात पृष्ठ