वापस शुरुआत पर
عود على بدء
शैलियों
فأقبل بعضنا على بعض يعانقه ويهنئه. والعملاق يهبر ويلقى فى فمه ولا يلقى إلينا عظمة، فالتهبت جوعا وتلوت أمعائى، وذهبت عيناى فى رأسى واسترخيت فانحنى ظهرى، وصر، ورثيت لنفسى، وانهملت دموعى كالخيط المتصل، وأحاط بى إخوتى ينقرون على كتفى، ويسألوننى: «مالك تنتحب»؟ ويهزوننى فرفعت عينى إليهم فإذا أمى حانية على تسألني: «مالك يا سونه»؟
قلت: «جوعان..».
قالت: «الأكل حاضر يا حبيبى. قم».
الفصل الثامن
وكانت المائدة حافلة بما طاب من «الآكال والأشواب» التى كان ابن الرومى يحسد التجار على الفوز بمثلها. وأحسب أن ما أثقلت به إنما كان من أجل هذا العم المحتال. فما يعقل أن تجتزئ هذه الكرش العظيمة باليسير أو الرقيق أو «تلك التى مخبرها ناعم. تلك التى منظرها شاحب». ان لا يفتأ يكظ لى طبقى ويحضنى على الأكل، ويزين لى طيبه وخفته علي المعدة، وحسن ما يفيده من المتعة والصحة، كأنما يجد فى الوصف لذة كلذة الالتهام، أو كأنما هو يأكل بعينه وأذنه فضلا عن فمه - بجوارحه وحواسه جميعا - ولا يزال يبدئ ويعيد فى الثناء على الطباخ. وكان جالسا أمامى - أعنى عمى لا الطباخ - وزوجتى - أعنى أمى - بيننا إلى صدر المائدة فلم يفتنى ما كانا يتبادلان من لحظات مختلسة أو نظرات صريحة، فقلت فى نفسى: «يا خبيث، أو تحسب أنى أجهل أن التودد إلى الابن وسيلة إلى قلب الأم؟ وأن الثناء على حذق طباخها وسيلة أخرى؟ ولكنك تجهل أنى رجل فى زى غلام. وما أظن بك إلا أنك كنت حقيقا أن تجتوى هذا الطعام وترتد شهوتك عنه لو اطلعت على الحقيقة».
ولم تكن بى حاجة إلى ترغيبه وحضه. ولكنى كنت أتقزز عن الطعام، من سوء ما يصنع، فقد كان تلقامة، يعظم اللقمة ويلقى بها فى فمه كأنما يرميها فى كهف. وكان يأخذ اللحم بمقدم أسنانه، ويتمخخ العظم، ويتلمظ، ويتمطق، وتعلقت بشاربيه قطرات من الحساء. وانتشر بعض الفتات على ذقنه وصدره، حتى كرهت أن أنظر إليه، وصرت أتعجب لهذه المرأة ماذا أعجبها منه؟ ولكن النساء لغز، والذى يعرفهن معرفتهن لم يخلق بعد.
وكنت أحدث نفسى كلما وقعت عينى عليه أنه لا ينقصه من العملاق الذى روعنى فى منامى إلا أن تركب له فى عذاريه مخلاة من لحية، ولا ينقصه من الدواب إلا أن تملأ المخلاة شعيرا.
ونهضنا عن المائدة بعد أن انتقل ما كان عليها - أو معظمه - الى جوفه. وآن أن نتفرق لنستريح استعدادا للمساء والحفل الذى سيكون فيه. وكنت أتظاهر قبل ذلك بالفتور وثقل الجفون. فلما أخلى سبيلى ذهبت أثب صعدا إلى غرفته وأخرجت كيس النمل من جيبى، وحللته، وأفرغت معظمه فى ساقى المنامة وكميها، وأطلقت البقية بين المخدات وأغطيتها، وكررت بسرعة إلى غرفتى وقفزت إلى السرير، دون أن أخلع نعلى وتناومت.
ولم يكن هذا ما أبغى، ولكنه كان ما وسعنى. وما حيلتى وقد خذلنى الجناينى، ولم يجئنى، إلا بهذا النمل الذى لا خير فيه ولا غناء له؟ ولقد زعم أن قرصه كى، فعسى أن يصدق. وخامرنى الشك فى إمكان شعوره بدبيب النمل ولكعه جلده، فإنه سميك غليظ. ولكنى تمنيت على الله أن يحرمه النوم والراحة على الأقل، فيسوء خلقه، وترى هذه المسكينة المخدوعة، من شكاسته وجلافته وعسره، ما كان يحرص على ستره بحلاوة اللسان. والله قادر على أن يضع سره فى أضعف خلقه.
وآخذنى النوم وأنا أتعلق بالأمل فى النمل، وأتحول شيئا فشيئا إلى الاعتماد عليه والثقة به. وما أدرى أطال نومى أم قصر. ولكن الذى أدريه أنى استيقظت مذعورا على صرخات مجلجلة ودبدبة شديدة فى الردهة، وأصوات مختلفة ولجب عظيم. فأيقنت أن الله قد أجاب دعوة هذا الطفل الغرير البرىء الطاهر النفس. وترددت، هل آخرج أو أبقى؟ وزهدنى فى الخروج علمى أنى جنيت هذا وخوفى أن يفضحنى وجهى، ورغبنى فيه أن اختبائى شبهة كافية، وقرينة دالة. ولا يعقل أن أظل مستغرقا فى نومى - وإن كنت طفلا - على الرغم من هذه الزعقات الشديدة، والصرخات العالية، والهرج العظيم، والخبط والدب. واشتهيت أن أراه وهو ينط، ويتلوى، ويتعوج، ويتحرق ويشتم. وتصورت منظره وهو يفعل ذلك فضحكت. لم يبق محل للتردد والاحجام.
अज्ञात पृष्ठ