1
حقا إن التقدم ظل سريعا، غير أن معظم العلماء قد قنعوا بأداء عملهم بدلا من الكلام عنه. ومن أسباب ذلك أن التكيفات الفلسفية الأساسية مع النظرة العلمية الجديدة إلى العالم الطبيعي كانت قد تمت في الفترة السابقة. وفضلا عن ذلك فإن نجاح العلوم الطبيعية في تقديم أوصاف منظمة قابلة للتحقيق، قد بدد أية شكوك باقية بشأن صحة مناهج العلم، وذلك في ميدان الظواهر غير العضوية على الأقل، وإذ تم بالتدريج سريان فيزياء نيوتن في مجرى الحياة الثقافية الأوروبية، فإنه لم تظل هناك بعدئذ نقطة أساسية للخلاف بين العلم الفيزيائي والمجالات الرئيسية التقليدية لاهتمام المجتمع، بل إن الكنيسة، التي كانت دائما مفرطة في ترددها، قد بدأت أخيرا توفق بين أركان إيمانها وبين الصورة العلمية للعالم المادي. وظل ما تبقى من الجدل يدور حول تطبيق مناهج العلم الفيزيائي على مجالات الحياة والعقل والتاريخ.
ومع ذلك فإن الاهتمام الفلسفي بالعلوم الفيزيائية ومناهجها قد بعث من جديد قرب نهاية القرن التاسع عشر. وجاء هذا الاهتمام أول الأمر من العلماء أنفسهم، أكثر مما جاء من الفلاسفة المحترفين. وكان ذلك راجعا في المحل الأول إلى بدء ظهور أفكار أساسية جديدة في مجال الفيزياء والرياضيات، اقتضت قيام علماء الفيزياء والرياضيات بالتفكير أساسيا من جديد في طبيعة علومهم وعلاقة تصورات هذه العلوم بالتجربة (وبعالم الواقع). «فكانت» كان ينظر إلى الهندسة الإقليدية، بطريقة شبه يقينية، على أنها علم المكان الوحيد الشامل الضروري. ولكن لم يعد من الممكن، بعد ظهور الهندسات اللاإقليدية الانقلابية على يد ريمان
Riemann
ولوباتشفكي
Labachavski ، أن ينظر إلى الهندسة الخالصة على أنها علم لحقائق تركيبية أولية تتعلق بالظواهر المكانية المعطاة في التجربة، فما هو إذن موضوع الهندسة، وعلى أي شيء تصدق الهندسات اللابعدية الجديدة، إن كانت تصدق على شيء؟ كذلك أدت تطورات مماثلة في تعقدها وتعمقها، طرأت على النظرية الفيزيائية، إلى ظهور مشاكل تفسيرية مماثلة أمام العلماء والفلاسفة الذين ظلوا يتمسكون بالنظرية القائلة إن الفضيلة الكبرى للمنهج العلمي تنحصر قبل كل شيء في رفضه البات أن يعترف بتعبيرات لا تشير إلى موضوعات تجريبية.
ولقد كانت المشاكل معقدة وعسيرة، ولكن كان لا بد من الاهتداء إلى حل لها من أجل الاحتفاظ بمركز الفيزياء بوصفها علما تجريبيا، ومن أجل الإبقاء على مكانة علم الفيزياء بوصفه أنموذجا للمعرفة البشرية. وكانت الحاجة إلى مثل هذه الحلول أشد إلحاحا في ذلك العصر؛ لأن النظريات التجريبية في المعرفة، تلك النظريات التي ظل المنهج العلمي يرتكن إليها طويلا في تبرير إعادته بأنه هو الوسيلة الوحيدة لنقل التصديق العقلي، كانت هي ذاتها تتعرض لهجوم عنيف من مصادر أخرى؛ ذلك لأن الاضطراب المتزايد في صفوف العلماء أنفسهم قد عاد بالفائدة الجزيلة، ولم يعد بأية خسارة، على الفلاسفة المثاليين وحلفائهم في ميداني التاريخ والنظرية الاجتماعية، بل على علماء اللاهوت والثوريين السياسيين. فإذا كان هذا العلم المحبب إلى الروح الوضعية؛ أي الفيزياء ذاتها، لم يعد ينظر إليه على أنه علم تجريبي محض، فأي شيء إذن يستطيع أن يمنع «العلوم» الأخرى، التي تعترف بأنها غير تجريبية، من الادعاء بأنها تأتينا بنوع من المعرفة «عن العالم الحقيقي؟»
لقد رأى التجريبيون منذ عهد هيوم أن الصفة المميزة للعلم، التي تفرق بينه وبين اللاهوت المتعالي والميتافيزيقا تفرقة قاطعة، هي رفضه لأي تصور لا يمكن تعريفه بعبارات وألفاظ تشير إلى مكونات يمكن إدراكها في التجربة الحسية. ولكنه أصبح من الواضح الآن أن علم الفيزياء، الذي يعد مثلا أعلى للعلوم، يزداد هو ذاته إقبالا على استخدام تصورات لا يبدو أن من الممكن ردها على هذا النحو . ومع ذلك، فأية حجة يمكن أن تقدم في هذه الحالة ضد أولئك الفلاسفة الذين رأوا أن مجرد عدم قابلية أفكار مثل فكرة الله والحرية والخلود للتعريف التجريبي لا تؤلف اعتراضا جديا ضدها؟ وإذا كان علم الفيزياء العظيم يلجأ رغما عنه إلى مفهومات تتجاوز التجربة عندما يحاول تفسير الارتباطات بين ظواهر قابلة للملاحظة فحسب، ألا يكون العلم ذاته قد رضي بطريقة ضمنية عن التصورات اللاهوتية والتفسيرات الميتافيزيقية التي رفضها كونت وأتباعه باسم العلم الوضعي؟ وماذا نقول عن ادعاءات «مل» المتعلقة بفلسفة التجربة، إن كانت الفيزياء ذاتها، لا الرياضيات فحسب، قد أصبحت لا تكترث بمسألة وجود أساس تجريبي لنماذجها التصورية؟
في هذا الجو الحافل بالحيرة والاضطراب، أخذ العالم الفيزيائي والفيلسوف النمسوي «إرنست ماخ» على عاتقه مهمة الدفاع من جديد عن برنامج الوضعية ضد مهاجميها؛ فقد كان ماخ على ثقة من أنه إذا ما أريد الدفاع عن العلم بطريقة متسقة، بوصفه الصورة الوحيدة للتصديق العقلي، فمن الواجب أن يرود العلماء أنفسهم دائما على الامتناع عن استخدام ألفاظ ونظريات لا ترتبط بوقائع التجربة ارتباطا استنباطيا. ولذلك أقترح وصفة غذائية علاجية ثورية كفيلة بإرجاع العلوم الفيزيائية إلى وزنها الذي تستطيع فيه استئناف نشاطها بوصفها علوما تجريبية، وبذلك يزول عن جسم ذلك العلم الرفيع كل ما تراكم عليه من شحم التركيبات النظرية غير القابلة للتحقيق. على أنه لم يقترح ذلك باسم الفلسفة الوضعية، وإنما باسم العلم ذاته؛ فقد تحدث بوصفه عالما فيزيائيا يخاطب علماء فيزيائيين، لا بوصفه مجرد داعية فلسفي.
وفي رأي ماخ أن الهدف الوحيد للعلم هو وصف العلاقات القابلة للملاحظة بين الظواهر والتنبؤ بها. ولكن ما الذي ينبغي علينا أن نقبله بوصفه ظواهر؟ إن إدراكاتنا الحسية اليومية التلقائية تحتوي عناصر غريبة من التفسير الذاتي تتجاوز ما يمكن أن يقال إننا نراه أو نسمعه بالمعنى الدقيق. فمن غير الممكن الاعتماد على ما نسميه عادة ب «الملاحظة» في تقديم تصوير صادق للمعطيات الحسية التي هي أول وآخر كل تعميم وتنبؤ علمي؛ ولذلك كان يتعين على أية نظرية علمية في المعرفة أن تضع نظرية سليمة للظواهر، يحذف منها كل أثر للذاتية. وهكذا اعتقد ماخ؛ إذ لم يعترف ب «عناصر» المعرفة البشرية سوى الإحساسات ذاتها، ولم يتخذ أساسا للإشارة إلا من الألفاظ الدالة على هذه العناصر، إن من الممكن وضع اختبار حاسم للإدراك الصادق وللتمييز المعرفي بين التعبيرات ذات المعنى والتعبيرات غير ذات المعنى. ومع ذلك فقد أدرك أن العلم لا يستطيع المضي في طريقة دون استخدام بعض الألفاظ الأخرى غير الدالة على العناصر الحسية أو مركباتها. مثال ذلك أن العالم لا يستطيع أن يستغني عن «الكلمات الشيئية» أو عن تصورات كالعلة أو العدد. ومن رأي ماخ أن هذه التصورات كلها «تصورات مساعدة»؛ فهي لا تقبل في اللغة العلمية إلا بقدر ما تمكننا من التعبير بدقة واختصار عن تفسيرنا في الظواهر؛ فهذه التصورات أجهزة حاسية، إن جاز هذا التعبير، وليست ألفاظا تنطبق على الظواهر وتشرحها. وإذن فبقدر ما تتيح هذه الألفاظ تنظيم الفروض في إطار منظم، جامع، واضح، للنظرية العلمية، فإن ماخ على استعداد لقبول الأفكار المساعدة في اللغة العلمية، على أن يكون مفهوما بوضوح أن من الواجب ألا يظن أنها تدل على أي شيء ما لم يؤت بتعريفات تبين كيف يمكن ردها دون باق إلى مجموعات من الألفاظ الأخرى التي تشير مباشرة إلى عناصر حسية.
अज्ञात पृष्ठ